الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم
قال أبو طالب
(1)
: سألت أبا عبد الله: يُستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يُستعان بهم في شيء.
وقال أحمد
(2)
: حدثنا وكيعٌ، ثنا مالك بن أنسٍ، عن عبد الله بن زيد
(3)
، عن ابن نِيار
(4)
، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بمشركٍ".
قال عبد الله
(5)
: قال أبي: هذا خطأ، أخطأ فيه وكيع
(6)
؛ إنما هو عن الفُضَيل
(7)
بن أبي عبد الله، عن عبد الله بن نِيارٍ، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدرٍ، فتبعَه رجل من المشركين فلحقه عند الحَرَّة،
(1)
كما في "الجامع"(1/ 195).
(2)
كما في المصدر السابق من طريق ابنه عبد الله عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33834) وابن ماجه (2832) من طريق وكيع به.
(3)
كذا في الأصل. وفي "الجامع": "يزيد". وعند ابن ماجه (2832): قال علي في حديثه: عبد الله بن يزيد أو زيد.
(4)
في الأصل و"الجامع": "بيان" مهملًا، والصواب ما أثبتناه من المصادر.
(5)
كما في "الجامع" عقب الحديث.
(6)
وكذا قال أبو حاتم في "العلل" لابنه (915) والدارقطني في "علله"(3565).
(7)
في الأصل: "الفضل" خطأ.
فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيبَ معك، قال:"تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، قال:"ارجعْ، فلن أستعينَ بمشركٍ". ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له قوةٌ وجَلَدٌ، قال: جئتُ لأتبعك وأُصيبَ معك، قال:"تؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: لا، قال:"ارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ". ثم لحقه حتى ظهر على البيداء، فقال له مثل ذلك، قال:"أتؤمن بالله ورسوله؟ "، قال: نعم، فخرج معه. رواه مسلم في "صحيحه"
(1)
بنحوه.
وفي "مسند الإمام أحمد"
(2)
من حديث خُبيب بن عبد الرحمن، عن أبيه عن جده قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوًا أنا ورجلٌ من قومي ولم نُسلِمْ، فقلنا: إنَّا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، فقال:"أسلمتما؟ "، فقلنا: لا، قال:"فإنا لا نستعينُ بالمشركين على المشركين"، قال: فأسلمنا وشهدنا معه.
وفي "السنن" و"المسند"
(3)
من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن
(1)
برقم (1817)، وأخرجه أيضًا أحمد (24386) والترمذي (1558) والنسائي في "الكبرى"(8708، 11536) وابن حبان (4726) من طرق عن مالك عن الفضيل بن أبي عبد الله به.
(2)
برقم (15763)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33831) والطبراني في "الكبير"(4/ 223) والحاكم (2/ 122)، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن المستلم بن سعيد الثقفي، عن خبيب به. وهذا إسناد حسن في الشواهد.
(3)
"سنن النسائي الكبرى"(9464) و"المجتبى"(5209) و"مسند أحمد"(11954)، وأخرجه أيضًا مسدَّد (إتحاف الخيرة: 4074) والطبري في "تفسيره"(5/ 710) والبيهقي في "السنن"(10/ 127) و"الشعب"(8930)، كلهم من طريق هشيم، عن العوَّام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس. إسناده ضعيف لجهالة أزهر بن راشد البصري، وقد خالفه قتادة فرواه عن أنس عن عمر موقوفًا: لا تنقشوا ولا تكتبوا في خواتمكم بالعربية، أخرجه ابن أبي شيبة (25625) والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 455) في ترجمة أزهر بن راشد مُعلًّا بذلك روايته.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَستضيئوا بنار المشركين، ولا تَنقُشوا على خواتيمكم عربيًّا".
وفُسِّر
(1)
قوله: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، يعني: لا تَستنصحوهم ولا تَستضيئوا برأيهم
(2)
. والصحيح أن معناه: مباعدتهم وعدم مساكنتهم، كما في الحديث الآخر:"أنا بريءٌ من كل مسلمٍ بين ظهرانَيِ المشركين لا تَراءى نارهما"
(3)
.
(1)
نقل ابن النقاش في "المذمة في استعمال أهل الذمة"(ص 269 وما بعدها) كلام المؤلف من هنا. وجلُّ كتابه مأخوذ من "أحكام أهل الذمة" كما يظهر بالمقارنة بينهما.
(2)
بعد رواية الحديث السابق ــ عدا روايتي أحمد والنسائي ــ قال أزهر: فأتوا الحسن فقالوا: إن أنسًا حدثنا اليوم بحديثٍ لا ندري ما هو، قال: وما حدثكم؟ فأخبروه، فقال: نعم، أما قوله:"لا تنقشوا خواتيمكم عربيًّا" فإنه يقول: لا تنقشوا خواتيمكم "محمدًا"، وأما قوله:"لا تستضيئوا بنار المشركين" فإنه يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم، وتصديق ذلك في كتاب الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} .
(3)
أخرجه أبوداود (2645) والترمذي (1604) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله مرفوعًا. وأخرجه الترمذي (1605) والنسائي (4780) وغيرهما عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال الترمذي: "هذا أصح" أي المرسل، ونقل عن البخاري قوله:"الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل". وكذا قال الدارقطني في "العلل"(3355).
وأما النهي عن نقش الخاتم بالعربي فهذا قد جاء مفسَّرًا في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"
(1)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهبٍ، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتمًا من ورِقٍ، ونقش فيه "محمد رسول الله"، وقال:"لا ينقُشْ أحدٌ على نقشِ خاتمي". فإن كان الراوي حفظ اللفظ الآخر فيكون النهي عنه من باب حماية الذريعة، لئلا يتطرَّقَ بنقش العربي إلى نقش "محمد رسول الله"، فتذهبَ فائدة الاختصاص بالنقش المذكور، والله أعلم.
وقال عبد الله بن أحمد
(2)
: حدثنا أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا إسرائيل، عن سِماك بن حربٍ، عن عياضٍ الأشعري، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إنَّ لي كاتبًا نصرانيًّا، قال: ما لَك؟ قاتلك الله! أما سمعتَ الله
(1)
برقم (2091). وفي الباب حديث أنس عنده (2092) وعند البخاري (5877).
(2)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 197) عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1156) والبيهقي في "السنن"(10/ 127) و"الشعب"(8939) من طرق عن سماك بن حرب به. وإسناده جيِّد. والأثر أيضًا في "حسن السلوك" لابن الموصلي (ص 161)، و"المذمة في استعمال أهل الذمة" لابن النقاش (ص 270، 271) وعزاه إلى "مسند أحمد"، وهو وهْم.
تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: 53]، ألا اتخذتَ
(1)
حنيفًا؟ قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين لي كتابتُه وله دِينه، قال: لا أُكرِمهم إذ أهانَهم الله، ولا أُعِزُّهم إذ أَذلَّهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أَقصاهم الله.
وكتب إليه بعض عُمَّاله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: إن المال قد كثر، وليس يُحصيه إلا هم، فاكتبْ إلينا بما ترى. فكتب إليه: لا تُدخِلوهم في دينكم، ولا تُسلِّموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلَّموا [الكتابة] فإنما هي [حلية] الرجال
(2)
.
وكتب إلى عماله: أما بعد، فإنه من كان قِبَلَه كاتبٌ من المشركين فلا يُعاشره ولا يُؤازِره ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم، ولا خليفته من بعده
(3)
.
وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن في عملي كاتبًا نصرانيًّا لا يَتمُّ أمرُ الخراج إلا به، فكرهتُ أن أقلِّده دونَ أمرك، فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأتُ كتابك في أمر النصراني، أما بعد، فإن
(1)
في الأصل: "اتخذ". والمثبت يقتضيه السياق، وهو كذلك في "الجامع".
(2)
انظر: "منهج الصواب"(ص 183، 184)، و"المذمة في استعمال أهل الذمة"(ص 271)، و"الرياض النضرة"(2/ 362).
(3)
انظر: "المذمة"(ص 271، 272).
النصراني قد مات، والسلام
(1)
.
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني فقال له: أسلِمْ حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبى، فأعتقه وقال: اذهَبْ حيث شئتَ
(2)
.
وكتب إلى أبي هريرة
(3)
رضي الله عنه: أما بعدُ، فإن للناس نفرةً عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تُدركني وإياك. أَقِمِ الحدود ولو ساعةً من النهار. وإذا حضرك أمرانِ أحدهما لله والآخر للدنيا فآثِرْ نصيبَك من الله، فإن الدنيا تنفَدُ والآخرة تبقى. عُدْ مرضى المسلمين واشْهَدْ جنائزهم، وافتحْ بابَك وباشِرْهم. وأبعِدْ أهلَ الشرك
(4)
وأنكِرْ أفعالهم، ولا تَستعِنْ في أمرٍ من أمور المسلمين بمشركٍ. وساعِدْ على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملًا لأثقالهم
(5)
.
(1)
الخبر في "المذمة"(ص 272) وبنحوه في "حسن السلوك" لابن الموصلي (ص 162). وفيه "خالد بن الوليد" بدل "معاوية بن أبي سفيان".
(2)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(90)، وسعيد بن منصور في "سننه"(431 - التفسير)، وابن سعد في "الطبقات" (6/ 158) وغيرهم. وانظر:"الدر المنثور"(3/ 199).
(3)
كذا في الأصل، وفي مصدر التخريج:"أبي موسى الأشعري". ولكنه في "المذمة"(ص 272) كما هنا.
(4)
في الأصل: "الشر". والتصويب من "المذمة" لابن النقاش (ص 273) الذي نقل عن هذا الكتاب.
(5)
أخرجه الدِّينَوَري في "المجالسة"(1198)، وفي إسناده الفرات بن السائب وعبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، كلاهما متروك منكر الحديث.
فصل
(1)
ودرجَ على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناءٌ حسن في الأمة، كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر، ونحن نذكر بعض ما جرى.
فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عمَّاله في الآفاق: أما بعد، فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، جعلهم الله حزب الشيطان، وجعلهم الأخسرين أعمالًا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 99]. واعلموا أنه لم يَهلِكْ من هلك من قبلكم إلا بمنْعِه الحقَّ وبسْطِه يدَ الظلم، وقد بلغني عن قومٍ من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدِموا بلدًا أتاهم أهلُ الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خِيَرةَ ولا تدبيرَ فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدةٌ وقد قضاها الله تعالى. فلا أعلَمَنَّ أن أحدًا من العمَّال أبقى في عمله رجلًا متصرفًا على غير دين الإسلام إلا نكَّلتُ به، فإنَّ مَحْوَ أعمالهم كمحو دينهم، وأنزِلوهم منزلتهم التي خصَّهم الله بها من الذلِّ والصَّغار. وآمرُ بمنع اليهود والنصارى من الركوب على
(1)
هذا الفصل وما بعده من الفصول منقول برمته في "المذمة"(ص 274 وما بعدها)، فلا نكرر الإحالة إليه، ونرجع إليه في التصحيح. وانظر مقدمة التحقيق (ص 36 - 37).
السُّروج
(1)
إلا على الأُكُف
(2)
. وليكتبْ كلٌّ منكم بما فعله من عمله
(3)
.
وكتب إلى حيَّان عاملِه على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة، وبطل ما يؤخذ منهم. فأرسل إليه رسولًا وقال له: اضرِبْ حيَّانَ على رأسه ثلاثين سوطًا أدبًا على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام فضَعْ عنه الجزية، فودِدتُ لو أسلموا كلُّهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم داعيًا لا جابيًا
(4)
.
وأمر أن تُهدَم بِيَعُ النصارى المستجدّة. فيقال: إنهم توصَّلوا إلى بعض ملوك الروم وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: أما بعد، يا عمر، فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك لتجري أمورهم على ما وجدتَها عليه، وتُبقِي كنائسهم، وتُمَكِّنهم من عمارة ما خرِبَ منها، فإنهم زعموا أن من تقدَّمك فعلَ في أمر كنائسهم ما منعتَهم منه، فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلُكْ سنتَهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعلْ ما أردتَ.
(1)
جمع سَرْج: رحل الفرس.
(2)
جمع إكاف: ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركَب عليه، كالسَّرْج للفرس.
(3)
انظر: "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم (ص 136)، و"الولاة والقضاة" للكندي (ص 60). وقد أخرج أبو يوسف في "الخراج"(279) كتابًا آخر إلى عاملٍ له، ومما جاء فيه:"ولا يركبنَّ يهودي ولا نصراني على سَرْج، وليركب على إِكَاف".
(4)
أخرج ابن سعد في "الطبقات"(7/ 373) نحوه مختصرًا بإسناد صحيح، وليس فيه أمر الرسول بضربه. وأخرج أبو يوسف في "الخراج"(295) نحوه في كتاب له إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان واليه على الكوفة.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنَّ مَثلي ومَثل من تقدَّمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان:{إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (77) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 77 - 78]
(1)
.
وكتب إلى بعض عُمَّاله: أما بعد، فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًّا يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 59]، فإذا أتاك كتابي هذا فادعُ حسان بن زيدٍ ــ يعني ذلك الكاتبَ ــ إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منّا ونحن منه، وإن أبى فلا تَستعِنْ به، ولا تتخذْ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين. فأسلم حسانُ، وحسن إسلامه
(2)
.
فصل
وأما أبو جعفرٍ المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعةٌ من المسلمين إلى شَبِيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم ولا يمكّن النصارى من ظلمهم وعَسْفهم في ضياعهم، ويمنعهم من انتهاك حرماتهم
(1)
لم أقف عليه إلا في "المذمة" لابن النقاش.
(2)
انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 137)، و"معالم القربة" لابن الأخوة (ص 39)، و"حسن السلوك" للموصلي (ص 168)، و"منهج الصواب" لابن الدريهم (ص 182، 183).
وتحرّيهم لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية. قال شبيبٌ: فطفتُ معه، فشبَّك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكلِّمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه لم يرضَ لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحدًا، فلا ترضَ لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحدٌ. يا أمير المؤمنين، اتّقِ الله، فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدّى، وما دعاني إلى قولي إلا محضُ النصيحة لك، والإشفاق عليك وعلى نعم الله عندك. اخفِضْ جناحَك إذا علا كعبك، وابسُطْ معروفك إذا أغنى الله يدك. يا أمير المؤمنين، إنَّ دون أبوابك نيرانًا تأجَّج من الظلم والجور، لا يُعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم. يا أمير المؤمنين، سلَّطتَ الذمة على المسلمين، ظلموهم وعسفوهم وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم وجاروا عليهم، واتخذوك سُلَّمًا لشهواتهم، وإنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئًا يوم القيامة.
فقال المنصور: خذْ خاتمي فابعثْ به إلى من تعرفه من المسلمين، وقال: يا ربيعُ اكتبْ إلى الأعمال واصرِفْ مَن بها من الذمة، ومن أتاك به شَبِيبٌ فأعلِمْنا بمكانه لنُوقِّع باستخدامه.
فقال شبيبٌ: يا أمير المؤمنين، إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في جُمْلتك
(1)
، إن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغرَوك بهم، ولكن
(1)
في المطبوع: "خدمتك" خلاف الأصل. وفي "المذمة"(ص 279): "حملتك" تصحيف.
تُولِّي في
(1)
اليوم الواحد عدةً، فكلما ولَّيتَ رجلًا عزلْتَ آخر
(2)
.
فصل
وأما المهدي، فإن أهل الذمة في زمانه قويتْ شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يُعرِّفه بذلك وينصحه، وكان له عادةٌ في حضور مجلسه، فاستُدْعِي للحضور عند المهدي فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره، فقصَّ عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلِّمين من ظلم الذمة، ثم أنشده
(3)
:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام
…
أم ضاعت الأذهانُ والأفهام؟
من صدَّ عن دين النبي محمدٍ
…
ألهُ بأمر المسلمين قيام؟
إن لا تكنْ أسيافُهم مشهورةً
…
فينا، فتلك سيوفُهم أقلام
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنك تحمَّلت أمانةَ هذه الأمة وقد عُرِضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها، ثم سلَّمتَ الأمانةَ التي خصَّك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين، أما سمعت تفسير جدِّك لقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 48]، إن الصغيرة التبسم، والكبيرة
(1)
في الأصل: "من".
(2)
أسنده أبو نُعيم في "فضيلة العادلين من الولاة"(46) بنحوه.
(3)
الشعر مع الخبر في "حسن السلوك"(ص 163، 164)، و"المذمة"(ص 280، 281).
القهقهة
(1)
، فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتُك، وهذه النصيحة حجةٌ عليَّ ما لم تصل إليك.
فولَّى عُمارة بن حمزة
(2)
أعمال الأهواز وكُوَرَ دجلة وكُورَ فارس، وقلَّد حمَّادًا أعمالَ السواد، وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحدًا من الذمة يكتب لأحدٍ من العمَّال، وإن علم أن أحدًا من المسلمين استكتب أحدًا من النصارى قطعت يده، فقطعت يد شاهويه
(3)
وجماعةٍ من الكتَّاب
(4)
.
وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتبٌ نصراني بالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلَّم المتظلمون إلى سوَّار بن عبد الله القاضي، فأحضر وكلاء النصراني واستدعي بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدِّي مناهج الحق، ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي سوَّارٍ بالتثبت في أمره، فجاء البصرةَ ومعه الكتاب وجماعةٌ من حمقى النصارى،
(1)
هذا التفسير مروي عن ابن عباس في "ذم الغيبة" لابن أبي الدنيا (153) وتفسير ابن أبي حاتم، كما عزاه إليهما السيوطي في "الدر المنثور"(9/ 564).
(2)
مولى بني هاشم، من ولد عكرمة مولى ابن عباس. كان أحد الكتَّاب البلغاء، ولي ولاياتٍ جليلة للمنصور والمهدي. توفي سنة 199. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" (12/ 280)، و"معجم الأدباء" (5/ 2054).
(3)
في الأصل: "شاهونة"، وفي "المذمة":"ساهونة". وفي "منهج الصواب": "شاهويه الواسطي". وهو أقرب.
(4)
انظر: "منهج الصواب"(ص 200، 201).
وجاؤوا إلى المسجد فوجدوا سوَّارًا جالسًا للحكم بين المسلمين، فدخل المسجد وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده
(1)
، فمنعه الخَدَمُ فلم يعبأ بهم وسبَّهم، ودنا حتى جلس عن يمين سوَّارٍ ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه، ولم يقرأه وقال: ألستَ نصرانيًّا؟ فقال: بلى أصلح الله القاضي، فرفع رأسه وقال: جُرُّوا برجله، فسُحِبَ إلى باب المسجد وأدَّبه تأديبًا بالغًا، وحلفَ أن لا يبرحَ واقفًا إلى أن يوفّي المسلمين حقوقهم، فقال له كاتبه: قد فعلتَ اليوم أمرًا يُخاف أن تكون له عاقبةٌ، فقال: أعِزَّ أمرَ الله يُعِزَّك الله
(2)
.
فصل
وأما هارون الرشيد، فإنه لما قلَّد الفضل بن يحيى أعمال خراسان، وجعفرًا أخاه ديوانَ الخراج، وأمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج
(3)
والسِّقايات
(4)
، وجَعلَ في المكاتب مكاتبًا لليتامى، وصَرفَ الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضًا منهم، وغيَّر زيَّهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام
(5)
.
(1)
في الأصل: "عنه".
(2)
لم أقف عليه إلا في "المذمة"(ص 282، 283).
(3)
جمع صِهْريج: حوض كبير للماء.
(4)
جمع سِقاية: موضع السقي.
(5)
انظر: "تاريخ الطبري"(8/ 324).
فصل
وأما المأمون، فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بمصر، فقال لي: قد كثرتْ سعايات النصارى، وتظلَّم المسلمون منهم، وخانوا السلطان في ماله. ثم قال: يا عمرو، تعرف من أين أصل هؤلاء القبط؟ فقلت: هم بقية الفراعنة الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن استخدامهم، فقال: صِفْ لي كيف كان تناسلُهم في مصر، فقلت: يا أمير المؤمنين، لما أخذت الفرس المُلْكَ من أيدي الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأَنْصِنا
(1)
وغيرها، فتعلَّموا طبًّا وكتابًا، فلما ملكت الروم مُلْكَ الفرس كانوا سببًا في إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا في مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح
(2)
.
وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدةٍ له يمدح بها عمرو بن العاص رضي الله عنه ويحثُّه على قتلهم ويُغرِيه بهم
(3)
:
يا عمرو قد ملكتْ يمينُك مِصْرَنا
…
وبسطتَ فيها العدلَ والإقساطا
(1)
مدينة تاريخية من نواحي الصعيد على شرقي النيل. وكان قد اختطها الرومان، وكانوا يسمونها "أنطينوبولس"، هجرت من ألف عام أو أكثر، وما زالت أطلالها ظاهرة إلى اليوم. وانظر "معجم البلدان"(1/ 265).
(2)
لم أجد الخبر إلا في "المذمة"(ص 285).
(3)
الخبر والأبيات في المصدر السابق (ص 286)، و"غذاء الألباب"(2/ 17). وفي "الردّ على أهل الذمة" لابن الواسطي (ت 712) ستة أبيات ليس منها الرابع.
فاقتلْ بسيفك مَن تعدَّى طَوْرَه
…
واجعلْ فتوحَ سيوفك الأقباطا
فبهم أُقيمَ الجورُ في جَنَباتِها
…
ورأى الأنامُ البغْيَ والإفراطا
عبدوا الصليبَ وثلَّثوا معبودَهم
…
وتوازروا وتعدَّوُا الأشراطا
وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون ووصل إلى قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، قال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟ فأمر المأمون بإحضار الذمة، فكان عدةُ من صُرِف وسُجِن ألفين وثمان مائةٍ، وبقي جماعةٌ من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسختُه: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلانٍ، فليقطَعْ ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى
(1)
.
ودخل بعض الشعراء على المأمون وفي مجلسه يهودي جالسٌ، فأنشده:
يا ابنَ الذي طاعتُه في الورى
…
وحكمه مفترضٌ واجب
إن الذي عُظِّمتَ من أجله
…
يزعم هذا أنه كاذب
فقال له المأمون: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله
(2)
.
(1)
الخبر في "المذمة"(ص 286، 287)، و"غذاء الألباب"(2/ 17).
(2)
ورد الخبر والشعر في كتاب ابن الواسطي (ص 48)، و"غذاء الألباب"(2/ 17). وفي "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 71) دون ذكر اسم الخليفة. وفي "بدائع السلك" لابن الأزرق (2/ 28) أنه الرشيد. وفي عامة المصادر أن الطرطوشي أنشد البيتين عند الأمير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فأقامه الأفضل من موضعه. انظر:"وفيات الأعيان"(4/ 263)، و"تاريخ الإسلام"(11/ 325)، و"سير أعلام النبلاء"(19/ 492) وغيرها.
فصل
وأما المتوكل، فإنه صرفَ أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زِيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه وزادوا على الحد، وغلبوا على المسلمين لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين، فكانت الأعمال الكبار كلها أو عامتها إليهم في جميع النواحي، وكانوا قد أوقعوا في نفس المتوكل من مباشري المسلمين شيئًا وأنهم بين مفرطٍ وخائنٍ، وعملوا عملًا بأسماء المسلمين وأسماء بعض الذمة لينفوا التهمة، وأوجبوا باسم كل واحدٍ منهم مالًا كثيرًا، وعُرِض على المتوكل، فأُغرِي وظنَّ ما أوجبوا من ذلك حقًّا، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه. ودخل سلمة بن سعيد النصراني على المتوكل وكان يأنس به ويحاضره، فقال: يا أمير المؤمنين أنت في الصحاري والصيد، وخلفك معادنُ الذهب والفضة، ومن يشرب في آنية الذهب والفضة، ويملؤها ذهبًا عوضًا عن الفاكهة. فقال له المتوكل: عند مَن؟ فقال: عند الحسين بن مَخلدٍ، وأحمد بن إسرائيل، وموسى بن عبد الملك، وميمون بن هارون، ومحمد بن موسى، وكل واحدٍ من هؤلاء اسمه ثابتٌ في العمل المقدَّمِ ذكرُه المرفوعِ للمتوكل. فقال له المتوكل: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فسكت،
فقال: بحياتي عليك قل لي ما عندك، فقال: قد حلَّفتني بحياتك ولا بدَّ لي من صدقك على كل حالٍ، والله يا أمير المؤمنين لقد صاغ له صوالجة
(1)
وأُكَرًا
(2)
من ثلاثين ألف دينارٍ، فقلت له: أمير المؤمنين يضرب كرةً من جُلودٍ بصولجانٍ من خشبٍ وأنت تضرب كرةً من فضةٍ بصولجانٍ من فضةٍ! فالتفت المتوكل إلى الفتح بن خاقان وقال: ابعثْ فأحضِرْ هؤلاء، وضيِّقْ عليهم، فحضرتْ جماعةُ الكتاب وعلموا ما وقعوا فيه من الكافر.
فاجتمعوا إلى عبيد الله بن يحيى فأنفذ معهم كاتبه إلى سلمة، وعاتبه فيما جرى منه، فحلف أنني لم أفعلْ ما فعلتُه إلا على سُكْرٍ، ولم أقلْ ما قلتُه عن حقيقةٍ، فأخذ خطَّه بذلك، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل وعرَّفه مأثمةَ أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمة، وقال: هذا قصدُه أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكتّاب المسلمين، ويتمكَّن هو ورهطُه منها
(3)
.
وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلِّمين ويُحضِرهم بين يديه على خلوةٍ، فأُحضِر بين يديه شيخٌ كبيرٌ، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عونٍ النصراني غصَبَه دارَه، فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ اشتدَّ غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالحٍ عامله بردِّ داره. قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحيةً لأكتبَ له بما أمرني فأتبعني رسولًا
(1)
جمع صَوْلَجان: عصًا يُعطف طرفها، يُضرب بها الكرة على الدواب.
(2)
كذا في الأصل، وهي جمع أُكْرة: لغة في كُرَة، كما في "القاموس" و"التاج"(أكر، كرو).
(3)
لم أجد الخبر إلا في "المذمة".
يَستحِثُّني، فبادرتُ إليه، فلما وقف على الكتاب زاد فيه بخطه:"نفيتُ عن العباس؛ لئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجِّهن من يجيئني برأسك". ووصل الشيخَ بألف دينارٍ، وبعث معه حاجبًا، وكثر تظلُّم الناس من كتَّاب أهل الذمة وتتابعت الإغاثات
(1)
.
وحجَّ المتوكل
(2)
تلك السنة، فرُئِي رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاؤوا به سريعًا، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين، ما قلتُ ما قلتُه إلا وقد أيقنتُ بالقتل، فاسمعْ كلامي ومُرْ بقتلي، فقال: قل، فقال: سأُطلِق لساني بما يُرضي الله ورسوله ويُغضِبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنفتْ دولتَك كُتَّابٌ من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساؤوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسؤولٌ عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحتَ، فلا تُصلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقةً يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفسادِ آخرته، واذكر ليلةً تتمخَّضُ صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلةٍ يخلو المرء في قبره بعمله. فبكى المتوكل إلى أن غُشِي عليه، وطُلِب الرجل فلم يوجد، فخرج أمره بلُبْسِ النصارى واليهود الثيابَ العسلي
(3)
،
(1)
لم أجد الخبر إلا في "المذمة".
(2)
الخبر في "صبح الأعشى"(13/ 366 وما بعدها)، و"مآثر الإنافة"(3/ 228 وما بعدها)، و"المذمة" لابن النقاش (ص 292 وما بعدها).
(3)
أي ما كان لونه لون العسل من الثياب.
وأن لا يُمكَّنوا من لُبس البياض
(1)
لئلا يتشبهوا بالمسلمين، ولتكنْ رُكُبُهم
(2)
خشبًا، وأن تُهدَم بِيَعُهم المستجدّة، وأن تُطبَّق عليهم الجزية، ولا يُفسَحَ لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن تُفرَد لهم حماماتٌ خَدَمُها ذمةٌ، ولا يَستخدموا مسلمًا في حوائجهم لنفوسهم، وأَفردَ لهم من يحتسب عليهم، وكتب كتابًا نسخته
(3)
:
أما بعد، فإن الله اصطفى الإسلام دينًا، فشرَّفه وكرَّمه وأناره ونصره
(4)
وأظهره وفضَّله وأكملَه، فهو الدين لا يُقبل غيره، قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 84]، بعث به صفيَّه وخِيَرتَه من خلقه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69]، وأنزل كتابًا عزيزًا:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، أسعدَ به أمتَه وجعلَهم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
(1)
في الأصل: "الثياب". والتصويب من "مآثر الإنافة".
(2)
جمع رِكاب: وهو للسَّرج ما توضع فيه الرِّجل، وهما ركابان.
(3)
الكتاب بطوله في "صبح الأعشى"(13/ 367 - 368)، و"مآثر الإنافة"(3/ 229 وما بعدها). وفي "تاريخ الطبري"(9/ 172 - 174) كتاب آخر من المتوكل إلى عمَّاله في الآفاق في هذا الموضوع.
(4)
في "مآثر الإنافة": "ونضره".
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
وأهان الشرك وأهله، ووضَعهم وصغَّرهم، وقمَعَهم وخذلَهم، وتبرأ منهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وقال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وطبعَ
(1)
على قلوبهم وخُبْث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم
(2)
والثقة بهم، لعداوتهم للمسلمين وغِشّهم وبغضائهم، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] . وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53].
(1)
كذا في الأصل ونسخة "مآثر الإنافة"، وغيَّره محقق "المآثر" إلى:"واطلع".
(2)
في الأصل: "انتمائهم" تصحيف.
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسًا لا رأيَ لهم ولا رويَّة، يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةً من دون المسلمين، ويُسلِّطونهم على الرعية فيَعْسِفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغَشْمهم والعدوان عليهم، فأعظَمَ أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبرَه وتبرَّأ إلى الله منه، وأحبَّ التقربَ إلى الله تعالى بحَسْمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عمَّاله على الكُوَر والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراكِ لهم في أماناتهم وما قلَّدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، إذ جعل في المؤمنين الثقةَ في الدين والأمانةَ على إخوانهم المؤمنين، وحسنَ الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حُمِّلوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذِّبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلهًا آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
ورجاء أمير المؤمنين ــ بما ألهمه الله من ذلك وقذَفَ في قلبه ــ جزيلُ الثواب وكريمُ المآب، والله يُعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه.
فلْيُعلَم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يُستعان
(1)
بأحدٍ من المشركين، وإنزال
(2)
أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأَشِعْه فيهم. ولا يعلمنَّ أمير المؤمنين أنك استعنتَ ولا أحدٌ من عمَّالك وأعوانك بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ. والسلام.
(1)
في "مآثر الإنافة": "فلتعلم
…
ولا تستعن".
(2)
في "مآثر الإنافة": "وأنزِلْ".
فصل
وأما المقتدر بالله، فإنه سنة خمسٍ وتسعين ومائتين عَزلَ كُتَّاب النصارى وعمَّالهم، وأمر أن لا يُستعان بأحدٍ من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي ياسرٍ النصراني عامل مؤنسٍ الحاجب. وكتب إلى نُوَّابه بما نسختُه: عوائدُ الله عند أمير المؤمنين تُوفي على عادة
(1)
رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحدٌ يُظهِر عصيانه إلا جعله الله عِظةً للأنام، وبادرَه بعاجل الاصطلام، والله عزيز ذو انتقامٍ. فمن نكث وطغى وبغى، وخالف أمير المؤمنين وخالف محمدًا صلى الله عليه وسلم، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين= عاجله أمير المؤمنين بسَطْوته، وطهَّر من رجسِه دولتَه، والعاقبة للمتقين. وقد أمرَ أمير المؤمنين بترك
(2)
الاستعانة بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ من الأعمال، فليحذرِ العمَّال تجاوزَ [أوامر] أمير المؤمنين ونواهيه
(3)
.
فصل
وكذلك الراضي بالله
(4)
، كثرت الشكايةُ من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه
(1)
كذا في الأصل و"مآثر الإنافة". ولعل الصواب: "غاية"، كما في "صبح الأعشى".
(2)
في الأصل: "ترك". والتصويب من "مآثر الإنافة".
(3)
"مآثر الإنافة"(3/ 233، 234)، و"صبح الأعشى"(13/ 368 - 369).
(4)
كذا في الأصل، ومثله في "نهاية الأرب"(31/ 421). والصواب أنه القائم بالله (391 - 467)، والشاعر مسعود البياضي توفي سنة 468. أما الراضي بالله فقد توفي سنة 329، ولم يدركه الشاعر. ثم ابن فضلان اليهودي كان كاتبًا للست أرسلان زوجة القائم، انظر:"المنتظم"(16/ 30)، و"مرآة الزمان"(19/ 342).
الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي
(1)
:
يا ابنَ الخلائفِ من قريشٍ والأُلى
…
طَهُرتْ أصولُهمُ من الأدناس
قلَّدتَ أمرَ المسلمين عدوَّهم
…
ما هكذا فعلَتْ بنو العباس
حاشاكَ من قولِ الرعية: إنه
…
ناسٍ لقاءَ الله أو مُتناسِ
ما العذرُ إن قالوا غدًا: هذا الذي
…
ولَّى اليهود على رقاب الناس؟
أتقول: كانوا وفَّروا الأموالَ إذ
…
خانوا بكفرِهمُ إلهَ الناس؟
لا تذكرنْ إحصاءَهم ما وفَّروا
…
ظلمًا وتنسى مُحصِيَ الأنفاس
وخَفِ الإلهَ غدًا إذا وُفِّيتَ ما
…
كَسبتْ يداك اليومَ بالقسطاس
في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ
…
أو مُهطِعٌ أو مُقنِعٌ للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود، وسجنُهم
…
نارٌ، وحارِسُهم شديدُ الباس
إن تَمطُلِ اليوم الديونَ مع الغنى
…
فغدًا تُؤدِّيها مع الإفلاس
لا تعتذِرْ عن صَرْفهم بتعذُّرِ الـ
…
متصرفين الحُذَّقِ الأكياس
ما كنتَ تفعلُ بعدهم لو أُهلِكوا
…
فافعلْ، وعُدَّ القومَ في الأرماس
وكتب إليه وقد صرف ابنَ فَضْلان اليهودي بابن مالك النصراني
(2)
:
أبعدَ ابنِ فضلانٍ تُولِّي ابنَ مالك
…
بماذا غدًا تحتجُّ عند سؤالكا؟
خَفِ الله وانظُرْ في صحيفتِك التي
…
حَوَتْ كلَّ ما قدَّمتَه من فعالكا!
(1)
الأبيات له في "نهاية الأرب"(31/ 421). وفيه اسم الشاعر "مسعود بن المحسن". وفي "حسن السلوك"(ص 162، 163) أنها للشريف ابن مسعود البياضي. وفي "المذمة"(ص 299) كما هنا. وهي للبياضي في "مرآة الزمان"(19/ 315، 316).
(2)
الأبيات سوى الأول مع بيت آخر في "المدهش"(ص 289).
وقد خَطَّ فيها الكاتبون فأكثروا
…
ولم يبقَ إلا أن يقولوا: فذلكا
(1)
فواللهِ ما تدري إذا ما لقيتَها
…
أتُوضَع في يُمناك أم في شمالكا
فصل
(2)
وكذلك في أيام الآمر بأمر الله امتدَّتْ أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفنَّنوا في أذى المسلمين وإيصال المضرَّة إليهم، واستُعمل منهم كاتبٌ يُعرف بالراهب، ولُقِّب بالأب القدِّيس الروحاني النفيس أب
(3)
الآباء وسيد الرؤساء، مقدَّمِ دينِ النصرانية وسيد البَتْركية، صفيِّ الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريِّين. فصادَرَ اللعينُ عامةَ من بالديار المصرية من كاتبٍ وحاكمٍ وجندي وعاملٍ وتاجرٍ، وامتدَّتْ يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوَّفه بعضُ مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذَّره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سببًا لهلاكه. وكان جماعةٌ من كتَّاب مصر وقِبْطِها في مجلسه، فقال مخاطبًا له ومُسمِعًا للجماعة: نحن مُلَّاك هذه الديار حربًا وخراجًا، ملَكَها المسلمون منا، وتغلَّبُوا عليها وغَصَبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قُبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبةٌ إلى مَن قُتِل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال
(1)
كان من عادة الكتَّاب إذا فرغوا من جمع حسابهم أن يختموا بعبارة "فذلك"، ومنه "الفذلكة". ومعناه: النتيجة والعاقبة.
(2)
هذا الفصل بتمامه في "صبح الأعشى"(13/ 369 - 377). ومنه قسم في "مآثر الإنافة"(3/ 234، 235).
(3)
كذا في الأصل بدون الياء، وكذا يكتبه النصارى.
المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلٌّ لنا، وبعضُ ما نستحقُّه عليهم، فإذا حملنا لهم مالًا كانت المنة لنا عليهم، وأنشد
(1)
:
بنتُ كرمٍ غَصَبوها أمَّها
…
وأهانوها فدِيْسَتْ بالقَدَمْ
ثم عادوا حكَّموها فيهمُ
…
ولَناهيكَ بخصمٍ يُحتكَمْ
فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضُّوا عليه بالنواجذ، حتى قيل: إن الذي احتاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألفٍ واثنان وسبعون ألفًا ما بين دارٍ وحانوتٍ وأرضٍ بأعمال
(2)
الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل، ومِن الأموال ما لا يحصيه إلا الله.
ثم انتبه الآمِر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضِبَ لله غضَبَ ناصرٍ للدين وثائرٍ
(3)
للمسلمين، وألبس الذمَّةَ الغِيار، وأنزلَهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن يُنزَلوا بها من الذلّ والصَّغار، وأمر أن لا يُوَلَّوا شيئًا من أعمال الإسلام، وأن يُنشِئ في ذلك كتابًا يقف عليه الخاص والعام، فكتب عنه ما نسخته:
(1)
البيتان في "نهاية الأرب"(28/ 169)، و"صبح الأعشى"(13/ 370)، و"غذاء الألباب"(2/ 17، 18). وفي كتاب ابن الواسطي (ص 40) ورد البيتان في قصة عمرو بن العاص بعد الأبيات الطائية التي تقدمت (ص 312، 313).
(2)
في الأصل: "بأعماله". والمثبت من "صبح الأعشى".
(3)
في الأصل: "وباين". وفي المطبوع: "وبار". والمثبت من "صبح الأعشى".
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاءَ من يدعوه بأسمائه، المنفرد بالقدرة القاهرة، المتوحِّد بالقوة الظاهرة، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، هدى العبادَ بالإيمان إلى سبيل الرشاد، ووفَّقهم في الطاعات لما هو أنفع زادٍ في المعاد، وتفرَّد بعلم الغيوب فعلِمَ من كل عبدٍ إضمارَه كما علم تصريحَه:{يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، الذي شرَّف دينَ الإسلام وعظَّمه، وقضى بالسعادة الأبدية لمن انتحاه وتيمَّمه، وفضَّله على كل شرعٍ سبقَه وعلى كل دينٍ تقدمه، فنصره وخذلَها، وأشاد به وأخملَها، ورفعه ووضعَها، ووطَّده وضعضعَها، وأبى أن يقبل دينًا سواه من الأولين والآخرين. فقال تعالى وهو أصدق القائلين:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وشهد به لنفسه وأشهد به ملائكته وأولي
(1)
العلم الذين هم خلاصةُ الأنام، فقال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19][آل عمران: 18 ــ 19].
ولمّا ارتضاه لعباده وأتمَّ عليهم به نعمته= أكمله لهم، وأظهره على الدين كله، وأوضحه إيضاحًا مبينًا، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].
(1)
في الأصل: "وأولوا".
وفَرقَ به بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الهدى والضلال، وأهل البغي والرشاد، فقال تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات، فقال ــ وبقوله يهتدي المؤمنون ــ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وهو وصية إمامِ الحنفاء لبنيه، وإسرائيلَ من بعده كما قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (131) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 ــ 132].
وأشهد عليه الحواريون عبدَ الله ورسولَه وكلمتَه عيسى بن مريم، وهو الشاهد الأمين، قال تعالى:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 51].
وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه، ويشهد من تولَّى منهم بأنه عليه، فقال تعالى ــ وقوله الحق المبين ــ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وصلى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محلِّه المنيف، وبعثه إلى الناس كافةً بالدين القيم الحنيف، وجعله أفضلَ من كان وأفضلَ من يكون، وأرسله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، فكانت نبوته لظهر الكفرِ قاصمةً، وشريعتُه لمن لاذَ بها ولجأ إليها من كل شرٍّ عاصمةً، وحججُه لمن عاند وكفر خاصمةً، حتى أذعنَ المعاندون واعترف الجاحدون وذلَّ المشركون، و {جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48]، وأشرقَ وجهُ الدهر برسالته ضياءً وابتهاجًا، ودخل الناس بدعوته في دين الله أفواجًا، وأشرقت على الوجود شمسُ الإسلام، واتسقَ قمرُ الإيمان، وولَّت على أدبارها مهزومةً عساكر الشيطان.
ورضي الله عن أصحابه وخلفائه الذين اتبعوا سنتَه، وابتغَوا في القيام بها رضوانَه، ووقفوا عند شرعه، فأعزُّوا من أعزَّه وأهانوا من أهانَه.
أما بعد، فإن الله سبحانه ببالغِ حكمته وسابغِ نعمته شرَّفَ دين الإسلام وطهَّره من الأدناس، وجعل أهله خير أمةٍ أخرجت للناس. فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قُدْسِه، فارتضاه واختاره. وجعل خيرَ عباده وخاصَّتَه هم أولياءَه وأنصارَه، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكرون، ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم بآيات ربهم يؤمنون،
وإلى مرضاته يسارعون، ولمن خرج عن دينه يجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته يثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربهم يتوكَّلون، وبالآخرة هم يوقنون، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4].
هذا، وإن أمةً هداها الله إلى دينه القويم، وجعلها ــ دون الأمم الجاحدة ــ على صراطٍ مستقيمٍ، تُوفِي من الأمم سبعين، هم خيرها وأكرمها على رب العالمين= حقيقةٌ بأن لا تُوالي من الأمم سواها، ولا تستعين بمن خان
(1)
الله خالقَه ورازقَه وعبدَ من دونه إلهًا، فكذَّب رسلَه وعصى أمره، واتبع غير سبيله، واتخذ الشيطان وليًّا من دونه.
ومعلومٌ أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشرك به والجحد لوحدانيته، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوه هدايةَ سبيل الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبَهم سبيلَ الذين أبعدهم من رحمته وطردَهم عن جنته، فباؤوا بغضبه ولعنته، من المغضوب عليهم والضالين. فالأمة الغضبية هم اليهود بنصّ القرآن، وأمة الضلال هم النصارى المثلِّثة عُبَّاد الصلبان.
وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
(1)
في الأصل: "خاف". وفي "صبح الأعشى": "حادّ".
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].
وأخبر بأنهم باؤوا بغضبٍ على غضبٍ، وذلك جزاء المفترين، فقال:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90].
وأخبر سبحانه أنه لعنهم، ولا أصدقَ من الله قيلًا، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 46].
وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكمًا ترتضيه العقول، ويتلقاه كلُّ منصفٍ بالإذعان والقبول، فقال:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 62].
وأخبر عمّا أحلَّ بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلًا في العالمين، فقال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 ــ 166].
ثم حكم عليهم حكمًا مستمرًّا عليهم في الذراري والأعقاب، على ممرِّ
السنين والأحقاب، فقال:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167]، فكان هذا العذاب في الدنيا ببعض الاستحقاق، ولعذاب الآخرة أشقُّ، {وَمَا لَهُم مِّنَ اَللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 35].
فهم أنجس الأمم قلوبًا، وأخبثهم طويَّةً، وأردؤهم سجيَّةً، وأولاهم بالعذاب الأليم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 43].
فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 14].
وأخبر عن سوء ما يستمعون ويقبلون، وخُبْث ما يأكلون ويجمعون، فقال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 44].
وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون، فقال:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (80) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (81) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80 - 82].
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولَّاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53].
وأخبر عن حال متولِّيهم بما في قلبه من المرض المؤدِّي إلى فساد العقل والدين، فقال:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 54].
ثم أخبر عن حبوط أعمال متولِّيهم ليكون المؤمن لذلك من الحذِرين، فقال تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 55].
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوءٍ ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:1 - 2].
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوةً حسنةً في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرَّؤوا ممن ليس على دينهم امتثالًا لأمر الله، وإيثارًا لمرضاته وما عنده، فقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفَّار أولياء من دون المؤمنين وحذَّره نفسَه أشدَّ التحذير، فقال:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
فمن ضُروبِ الطاعات: إهانتُهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله تعالى الواجبة: أخذُ جزية رؤوسهم التي يُعطونها عن يدٍ وهم صاغرون. ومن الأحكام الدينية أن تَعُمَّ جميعَ الذمة ــ إلا من لا تجب عليه ــ باستخراجها، وأن يُعتمد في ذلك على سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها، وأن لا يُسامَح بها أحدٌ منهم ولو كان في قومه عظيمًا، وأن لا يُقبل إرسالُه بها ولو كان فيهم زعيمًا، وأن لا يُحِيلَ بها على أحدٍ من المسلمين، ولا يُوكِّل في إخراجها عنه أحدًا من الموحدين، وأن تؤخذ منه على وجه الذلّة والصَّغار، إعزازًا للإسلام وأهله وإذلالًا لطائفة الكفّار، وأن تُستوفى من جميعهم حقَّ الاستيفاء، وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء.
وأما ما ادَّعاه الخيابرة
(1)
من وضع الجزية عنهم بعهدٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك زورٌ وبهتانٌ، وكذبٌ ظاهرٌ يعرفه أهل العلم والإيمان
(2)
، لفَّقه القومُ البُهْتُ وزوَّروه، ووضعوه من تلقاء أنفسهم وتمَّموه، وظنُّوا أن ذلك يخفى على الناقدين، أو يَروجُ على علماء المسلمين، ويأبى الله إلا أن يكشفَ محالَ المبطلين وإفكَ المفترين.
وقد تظاهرت السنن وصحَّ الخبر بأن خيبر فُتِحت عنوةً، وأَوجف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الخيلَ والركاب، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانَهم من أهل الكتاب، فلما ذكروا أنهم أعرفُ بسَقْيِ نخلها ومصالحِ أرضها أقرَّهم فيها كالأُجَراء، وجعل لهم نصفَ الانتفاع
(3)
، وكان ذلك شرطًا مبينًا، وقال:"نُقِرَّكم فيها ما شئنا"
(4)
. فأقرَّ بذلك الخيابرة صاغرين، وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين، ولم يكن للقوم من الذِّمام والحرمة ما يوجب إسقاطَ الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة، كيف وفي الكتاب المشحونِ بالكذب والمَيْن: شهادةُ سعد بن معاذٍ وكان قد توفِّي قبل ذلك بأكثر من سنتين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر سنة ثمان. وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر، ولم يكن على زمانه صلى الله عليه وسلم شيء
(1)
أي أهل خيبر. وفي الأصل و"صبح الأعشى": "الجبابرة" تصحيف.
(2)
تقدم الكلام على ذلك في أول الكتاب.
(3)
في الأصل: "الارتفاع".
(4)
أخرجه البخاري (2338) ومسلم (1551/ 6) من حديث ابن عمر، وقد سبق.
من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسنَ السِّيَر.
ولما اتسعت رقعةُ الإسلام، ودخل فيه الخاص والعام، وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسَقْي النخيل، أجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه اليهودَ من خيبر ممتثلًا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخرجوا اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب"
(1)
، وقال:"لئن بقيتُ لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَعَ فيها إلا مسلمًا"
(2)
.
فصل
وأما الغِيار
(3)
فلم يُلزَموا به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اتُّبِع فيه أمرُ عمر رضي الله عنه.
وكان بدءُ أمره أن خالد بن عُرفُطة أمير الكوفة جاءت إليه امرأةٌ نصرانيةٌ وأسلمت، فذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية، وأقامت على ذلك بينةً، فضربه خالدٌ وحلَّقه، وفرَّق بينه وبينها. فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأشخَصَه وسأله عن ذلك، فقصَّ عليه القصة، فقال: الحكمُ ما حكمتَ به، وكتب إلى الأمصار أن يَجزُّوا نواصيهم، ولا
(1)
أخرجه الدارمي (2540) وغيره من حديث أبي عبادة بنحوه، وقد تقدم.
(2)
أخرجه مسلم (1767) بنحوه.
(3)
المقصود به نوع من الزيّ مغاير لزيّ المسلمين. وذكر الخفاجي في "شفاء الغليل"(ص 196) أن الغيار أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل. وسيأتي تفصيل الغيار عند المؤلف (2/ 363).
يلبَسُوا لِبسةَ المسلمين حتى يُعرَفوا من بينهم
(1)
.
وكيف يجوز أن يُستعان بهم على شيء أو يُؤتَمنوا على أمرٍ من أمور المسلمين، وقد سَمُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الذِّراع؟! ولما حضرته الوفاة قال:"ما زالتْ أُكْلةُ خيبر تُعاوِدني، وهذا أوانُ انقطاعِ أَبْهرِي"
(2)
.
وقد رأى أمير المؤمنين ــ لقيامه بما استُحفِظ من أمور الديانة وحفظ نظامها، ولانتصابِه لمصالح أمةٍ جعله الله رأسَها وإمامَها، ولرعاية ما يتميز به المسلمون على من سواهم، ويجعل الكفّار يُعرفون بسيماهم ــ أن يعتمد كلٌّ من اليهود والنصارى ما يصيرون به مستذلِّين ممتهَنِين؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول:{وَلِلَّهِ اِلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. فلْتُسْتَأْدَ جزيةُ رؤوسهم أجمعَ من غير استثناءٍ من حزب المشركين لأحدٍ، ولْيُتَنَبَّهْ في استخراجها والحوطةِ عليها إلى أبعدِ غايةٍ وأمدٍ. ولْيُفَرَّقْ بين المسلمين وبينهم في الشَّبه والزيّ، ليتميز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والغيّ.
(1)
أسنده البلاذري في "أنساب الأشراف"(10/ 13) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، عن خليفة بن قيس (مولى خالد بن عرفطة) بمثله سواء. وعبد الرحمن وخليفة كلاهما ضعيف.
(2)
ذكره البخاري (4428) معلَّقًا عن يونس عن الزهري عن عُروة عن عائشة. ووصله البزار (115) والحاكم (3/ 58) من طريق عنبسة بن خالد ــ وهو متكلم فيه ــ عن يونس به. وأخرجه عبد الرزاق (19815) وأحمد (23933) وأبو داود (4512 - 4514) والدارمي (68) والحاكم (3/ 219) والبيهقي في "الدلائل"(4/ 264) من وجوه أخرى مرسلة ومسندة، على اختلاف في أسانيدها. وانظر:"تغليق التعليق"(4/ 162).
ولْيُوسَمُوا بالغيار وشَدِّ الزُّنَّار، وإزالةِ ما على المسلمين من تشبُّههم بهم من العار. ولْيؤمروا بأن يُغيِّروا من أسمائهم ما يختصُّ به أهل الإيمان، كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعلي وعثمان، وكذلك الكنى المختصَّة بالمسلمين، كأبي علي وأبي الحسن وأبي عبد الله وأبي الحسين، فلْتُغيَّر هذه الأسماء بما يليق بهم ويصلُح لهم، ولْيُنْسَخْ بالثاني المستجدِّ السالف الأول، ولْيقرَّرْ بالتعويض عنه على ما ليس فيه متأوَّلٌ. ولولا أنهم لم يتقدم إليهم في ذلك بنهيٍ ولا تحذيرٍ، لنالَهم ما لا طاقةَ لهم به من النَّكال والتدمير. فلْيحذروا التعرضَ لهذا العقاب الأليم والعذاب الوبيل.
وليكنِ الغِيارُ وشدُّ الزنَّار مما يؤمرون به بالحضرة وبالأعمال بالديار المصرية والأقاصي، من صَبْغ أبوابِهم وعمائمِهم باللون الأغبر الرصاصي. وليؤخذْ كلٌّ منهم بأن يكون زُنَّاره فوقَ ثيابه، وليحذرْ غايةَ الحذر أن يُرى منصرِفًا إلا به. ولْيُمنَعْ لابسُه أن يَستره بردائه، ولْيحذرِ الراكب منهم أن يُخفِيه بالجلوس عليه لإخفائه. ولا يُمكَّنوا من ركوب شيء من أجناس البغال والخيل، ولا سلوك مدافنِ المسلمين ولا مقابرهم في نهارٍ ولا ليلٍ، ولا يُفْسَحْ لأحدٍ منهم في المراكب المحلَّاة، ولتكنْ توابيتُ موتاهم مشدودةً بحبال اللِّيف مكشوفةً غير مُغشَّاةٍ، ولْيُمنَعوا من تعلية دورهم على دور من جاورهم من المسلمين. وجملةُ الأمر: أن يُنتهَى فيهم إلى قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20].