الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 84]، ولذلك أبقى الله سبحانه للنصارى مملكةً في العالم، وسلب اليهود مُلْكَهم وعزَّهم بالكلية إلى قيام الساعة
(1)
.
فصولٌ في أحكام مهورهم
قال إسحاق بن منصورٍ
(2)
: قلت لأبي عبد الله: نصراني تزوج نصرانيةً على قُلَّةٍ
(3)
من خمرٍ، ثم أسلما. قال: إن دخل بها فهو جائزٌ، وإن لم يكن دخل بها فلها صداق مثلها.
وقال مهنا
(4)
: سألت أبا عبد الله عن نصراني تزوج نصرانيةً على خنزيرٍ أو على دَنِّ
(5)
خمرٍ، ثم أسلموا
(6)
، فحدثني عن يحيى بن سعيد عن ابن جريجٍ أنه قال لعطاءٍ: أَبلغَك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ أهلَ الجاهلية على ما
(1)
وما نرى اليوم من شوكتهم ودولتهم فهو كما قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. والواقع أكبر شاهدٍ على ذلك.
(2)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 234، 235). وهو في "مسائله"(1/ 428).
(3)
هي الجرَّة الكبيرة من الفخّار وغيره.
(4)
"الجامع"(1/ 234).
(5)
الوعاء الكبير للخمر ونحوها، يكون مدبب القعر لا يثبت على الأرض إلّا أن يُحفر له.
(6)
كذا في الأصل و"الجامع". وغيّره في المطبوع إلى "أسلما".
أسلموا عليه من نكاحٍ أو طلاقٍ؟ فقال: ما بلغنا إلا ذلك
(1)
. فسألته: ما قوله؟ نكاحٌ أو طلاقٌ؟ قال: يُقَرُّون على نكاحهم، وجوّز طلاقهم في الجاهلية.
وقال الخرقي
(2)
: وما سُمِّي لها وهما كافران، فقبضته، ثم أسلما، وإن كانت حرامًا فليس لها غيره. ولو لم تقبضه وهو حرامٌ، فلها عليه مهرُ مثلها أو نصفُه حيث وجب ذلك.
وهذا الذي ذكره هو الذي دلَّ عليه الكتاب وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكفّار في هذا، وفيما هو أعمُّ منه من عقودهم ومعاملاتهم.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 277]، فأمر تعالى بترك ما بقي دون ما قُبِض.
وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 274] ، وقد أسلم الخلق العظيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، فلم يتعرض لأحدٍ منهم في صداقٍ أَصْدَقه في حال الكفر، إلا أن يكون المفسد مقارنًا للإسلام، كنكاح أكثر من أربع ونكاح الأختين، وكذلك ما مضى من بياعاتهم وسائر عقودهم ومواريثهم، وهذا معلومٌ بالاضطرار من دينه وسيرته.
فإن لم يتقابضا ثم أسلما، أو ترافعا إلينا، فإن كان المسمى صحيحًا
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12632) وابن أبي شيبة (19436).
(2)
انظر: "مختصر الخرقي مع شرحه المغني"(10/ 33).
حكمنا لها به أو بنصفه حيث يتنصف، وإن كان حرامًا كالخمر والخنزير بطل تسميته، ولم نحكم به.
ثم اختلف الفقهاء: بماذا نحكم لها به؟
(1)
.
فقال الشافعي وأحمد وأصحابهما: لها مهر المثل أو نصفه؛ لأن التسمية بطلت بالإسلام، فصارت كأن لم تكن، فتعيَّن المصير إلى مهر المثل كالتعويض
(2)
.
وقال أبو حنيفة: إن كان صداقها خمرًا أو خنزيرًا معيَّنينِ فليس لها إلا ذلك، وإن كانا غير معيَّنينِ فلها في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل استحسانًا
(3)
. قالوا: لأن الملك في ذلك ثابتٌ في حال الكفر، ومعنى اليد ــ وهو التصرف ــ ثابتٌ أيضًا، والمتخلف بالإسلام صورة اليد، والمسلم غير ممنوع من إثبات اليد صورةً، والذي يمتنع بالإسلام إثبات الملك على ذلك أو ما هو بمعناه من إثبات اليد المعنوية، ولا يمتنع إثبات اليد الصورية.
وأيضًا فإذا عيَّنَّا خمرًا أو خنزيرًا أُجري تعيينه مُجرى قبضه، لتمكُّنها بالمطالبة متى شاءت، ولإقرارنا لهم على تعيينه والتعاقد عليه.
وسرُّ المسألة: أن لها حقَّ القبض في العين، وأما إذا لم تعيَّن فليس لها حق القبض.
(1)
انظر: "المغني"(10/ 34).
(2)
في الأصل: "كالتفويض" تصحيف.
(3)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 112).
ثم اختلف أبو حنيفة وأصحابه
(1)
، فقال أبو حنيفة: يجب في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل. وقال أبو يوسف: لها مهر المثل فيهما، وقال محمد: لها القيمة فيهما.
ووجه قول محمد: أن التسمية صحت في العقد، وصحة التسمية تمنع المصير إلى مهر المثل، لكن تعذَّر القبض بالإسلام، فصار كما لو تعذَّر بالهلاك، فوجبت القيمة.
وأبو يوسف يقول: لما تعذَّر القبض كان الفساد في حق القبض بمنزلة الفساد في حق العقد، فوجب مهر المثل.
وأبو حنيفة يقول: الأصل صحة التسمية، وهي تمنع المصير إلى مهر المثل، إلا أنا استقبحنا في الخنزير إيجاب قيمته، فأوجبنا مهر المثل؛ لأن القيمة كانت واجبةً قبل الإسلام أصلًا في حق التسليم لا خلفًا، فإن القدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف، ولو جاءها بالقيمة هاهنا أُجْبِرت على القبول مع القدرة على الخنزير، فدلَّ على أنها وجبت أصلًا، فلا يمكن إيجابها بعد الإسلام خلفًا، ولا يمكن الإيجاب على ما كان قبل الإسلام؛ لأنه إنما وجب قبله ضمنًا لوجوب تسليم الخنزير، وقد سقط وجوب التسليم بالإسلام.
(1)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 112)، و"المبسوط" للسرخسي (5/ 42، 43).
ومن أوجب مهر المثل في هذه المقدمات أو في بعضها يقول
(1)
: الخمر لا قيمةَ له في الإسلام، فهو كالخنزير، فصار وجود تسميته كعدمها، فقد خلا النكاح من التسمية المعتبرة شرعًا، فيجب مهر المثل.
قالوا: وليس في شريعة الإسلام للخمر قيمةٌ حتى نعتبرها هاهنا، وإنما يقوِّمه الكفار، ونحن لا نعتبر قيمته عندهم، وليس له عندنا قيمةٌ البتةَ.
ويُقوِّي قولَ محمد أنها قد رضيت بإخراج بُضْعها على هذا المسمى، والزوج إنما دخل على ذلك، فلا يلزمه أكثر منه، ولِمَ يلزَمه ولا ألزمه به الشارع، وكون الخمر والخنزير لا قيمة له عندنا لا يمنع من اعتبار قيمته وقتَ العقد، فإنها رضيت بماليته، وانحصار المالية في هذا الجنس، فإذا فات ما انحصرت فيه المالية بالإسلام صرنا إلى قيمته وقتَ العقد كما لو عُدِم ذلك الجنس، ولا محذورَ في تقويم ذلك لتعيين مقدار الواجب للضرورة، كما يقوّم الحر عبدًا في باب الأَرْش
(2)
لتعيين مقدار الواجب.
يوضحه أن المسمَّى حالَ العقد كان مالًا بالنسبة إليهم، فكان متقومًا بالنسبة إلى هذا العقد والمتعاقدين، وبالإسلام فاتت ماليته، فتعينت قيمتُه حينَ العقد. وهذا القول هو الذي نختاره، والله أعلم.
(1)
في الأصل: "ويقول".
(2)
أي الدية.
فصل
(1)
فإن قبضتْ من المهر بعضَه وبقي بعضه سقط منه بقدر ما قُبِض، ووجب بحصة ما بقي من مهر المثل أو من القيمة على الخلاف، فإن أصدقَها عشرةَ زِقاقِ
(2)
خمرٍ متساويةً، فقبضتْ خمسةً، وجب نصف مهر المثل أو قيمة الخمسة، على ما تقدم.
فإن كان بعضها أكبر من بعضٍ ففيه وجهان للقائلين بمهر المثل:
أحدهما: يعتبر المقبوض، والباقي بالكيل.
والثاني: يعتبر العدد، لأنه لا قيمة لها فاستوى كبرها وصغرها
(3)
.
وهذا فاسدٌ
(4)
، فإنه إذا أصدقَها زِقًّا كبيرًا وآخرَ صغيرًا، فقبضت الكبير، لم يكن الصغير نصف المهر، كما لو أصدقها زقًّا فقبضت أربعةَ أخماسِه وبقي خُمسه.
وكذلك الوجهان
(5)
: فيما لو أصدقَها عشرة خنازير بعضها شرٌّ من بعضٍ، فقبضت ما خَيرُه دونَه وأخسُّ منه.
(1)
انظر: "المغني"(10/ 34).
(2)
جمع زِقّ، وعاء من جلد يُجَزُّ شعره للشراب وغيره.
(3)
في "المغني": "صغيرها وكبيرها".
(4)
هذا تعليق المؤلف على الكلام السابق.
(5)
انظر: "المغني"(10/ 34).
فإن أصدَقها كلبًا وخنزيرين وثلاثةَ زِقاقِ خمرٍ، ففيه ثلاثة أوجهٍ
(1)
لأصحاب أحمد والشافعي:
أحدها: يُقسَّم على قدر قيمتها عندهم.
والثاني: يُقسَّم على عدد الأجناس، فيجعل لكل جنسٍ ثلثُ المهر، فللكلب ثلثه، وللخنزيرين ثلثه
(2)
، وللخمر ثلثه.
والثالث: يُقسَّم على العدد كله، فللكلب سُدس المهر، وللخنزيرين ثلثه، وللخمر نصفه
(3)
.
فصل
(4)
فإن نكحها نكاحًا لا يُقَرُّون عليه إذا أسلموا، كنكاح ذوات المحارم، فأسلما قبل الدخول، وترافعوا
(5)
إلينا= فُرِّق بينهما ولا مهرَ لها. وإن دخل بها فهل يُقضى لها بالمهر؟ فهو على الخلاف فيمن وطئ ذات محرمةٍ بشبهةٍ، وفيه عن أحمد ثلاث رواياتٍ
(6)
:
إحداهن: لها مهر المثل؛ لأنه استوفى منها ما يقابله.
(1)
المصدر نفسه (10/ 34، 35).
(2)
"وللخنزير ثلثه" ساقطة من المطبوع.
(3)
الذي في "المغني": "ولكل واحدٍ من الخنزيرين والزّقاق سدسه". وهو مخالف لما هنا.
(4)
انظر: "المغني"(10/ 35).
(5)
كذا في الأصل و"المغني". وجعله في المطبوع: "وترافعا".
(6)
انظر: "المغني"(9/ 170، 10/ 35).
والثانية: لا مهر لها؛ لأن تحريمها تحريمٌ أصلي لا يزول بحالٍ، فلم يوجب وطؤها مهرًا، كاللواط.
والثالثة: يجب لمن تحلّ ابنتها كالعمة والخالة، ولا يجب لمن تحرم ابنتها كالأم والأخت، لغلظ التحريم في هذه وخفَّته في تلك.
وقد نصَّ أحمد
(1)
في رواية أبي بكر بن صدقة، في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها، فيطلّقها أو يموت عنها، فترتفع
(2)
إلى المسلمين تطلب مهرها: أنه لا مهرَ لها. ولم يفرِّق بين ما قبل الدخول وبعده، بل صرَّح بسقوط المهر في الحالة التي يكمل بها وهي الموت.
وكذلك نصَّ
(3)
في رواية أحمد بن هشامٍ في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها، فيموت أو يطلّقها، فلا صداق لها.
فصل
(4)
فإن تزوج ذميٌّ ذميةً على أن لا صداق لها، أو سكت عن ذكره، فلها المطالبة بعوضه
(5)
إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده فلها مهر المثل كما في نكاح المسلمين. هذا قول الجمهور.
(1)
كما في "الجامع" للخلال (2/ 473). وليس فيه ذكر أبي بكر بن صدقة.
(2)
كذا في الأصل. وفي "الجامع": "فترجع".
(3)
كما في "الجامع"(2/ 473). وليس فيه ذكر أحمد بن هشام.
(4)
انظر: "المغني"(10/ 35).
(5)
كذا في الأصل، وفي "المغني":"بفرضه".