المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حله، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حله، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وأما المقدمة الثالثة، وهو

(1)

أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم يؤثِّر ذلك في الحلّ، فقد تقدَّم تقريرها.

فصل

‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

؟ هذا مما اختُلِف فيه.

قال عبد الله بن أحمد

(2)

: وسألت أبي عن الشحوم، تحرم على اليهود؟ فقال:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، قال: والقرآن يقول: {حَرَّمْنَا} ، وقال في آيةٍ أخرى بعد سورة المائدة:{وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 147]، يعني نزل بعد:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، قلت: فيحلُّ لمسلم أن يطعم يهوديًّا شحمًا؟ قال: لا؛ لأنه محرَّمٌ عليه.

(1)

كذا في الأصل.

(2)

"الجامع" للخلال (2/ 443).

ص: 362

وقال مهنا

(1)

: حدثني أحمد عن الزبيري عن مالك، في اليهودي يذبح الشاة، قال: لا يأكل من شحمها، قال أحمد: هذا مذهب دقيقٌ.

فاختلف أصحابه في ذلك

(2)

: فذهب ابن حامدٍ وأبو الخطاب وجماعةٌ إلى الإباحة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.

وذهب القاضي وأبو الحسن التميمي إلى التحريم، وصنَّف فيه التميمي مصنَّفًا ردَّ فيه على من قال بالإباحة

(3)

، واختاره أبو بكر أيضًا.

وذهب مالك إلى الكراهة، وهي عنده مرتبةٌ بين الحظر والإباحة

(4)

.

قال المبيحون

(5)

: القول بالتحريم خلاف القرآن والسنن والمعقول.

أما القرآن فإن الله تعالى يقول: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]. قالوا: وقد اتفقنا على أن المراد بذلك ما ذبحوه، لا ما أكلوه؛ لأنهم يأكلون الخنزير والميتة والدم.

قالوا: وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخَ كل دينٍ كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه

(1)

المصدر نفسه.

(2)

انظر: "المغني"(13/ 312)، و"الروايتين والوجهين"(3/ 37).

(3)

ذكره أبو يعلى في كتاب "الروايتين والوجهين"(3/ 37).

(4)

"عقد الجواهر الثمينة"(1/ 584). وينظر "الموطأ" رواية ابن زياد (ص 156).

(5)

انظر: "المحلى"(7/ 454).

ص: 363

كافرٌ، وقد أبطل الله كلَّ شريعةٍ كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائعَ الإسلام، فلا حرامَ إلا ما حرَّمه الإسلام، ولا فرضَ إلا ما أوجبه الإسلام.

وأما السنة فحديث عبد الله بن مغفَّلٍ الذي رواه البخاري في "صحيحه"

(1)

أن جِرابًا من شحمٍ يوم خيبر دُلِّي من الحصن، فأخذه عبد الله بن مغفَّلٍ وقال: والله لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه على ذلك.

وثبت في "الصحيح"

(2)

أن يهوديةً أهدَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةً، فأكل منها، ولم يُحرِّم شحم بطنها ولا غيره.

قالوا: وأما المعقول فمن المحال الباطل أن تقع الذكاة على بعض شحم الشاة دون بعضها.

قالوا: وقد قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} ، وهذا محض طعامنا.

قالوا: وقد قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أحلَّ سبحانه لهم الطيبات على لسان رسوله، وهذا من الطيبات.

(1)

برقم (3153، 4214، 5508) وليس فيه: "والله لا أعطي

" إلخ، وإنما هو عند أحمد (16791) ومسلم (1772) وغيرهما بنحوه.

(2)

للبخاري (2617) ومسلم (2190) من حديث أنس.

ص: 364

قال ابن حزمٍ

(1)

: ويُسألون عن الشحم والجمل أحلالٌ هما اليوم لليهود أم هما حرامٌ إلى اليوم؟ فإن قالوا: بل هما حرامٌ عليهم إلى اليوم كفروا بلا مريةٍ، إذ قالوا: إن ذلك لم ينسخه الله تعالى. وإن قالوا: بل هما حلالٌ لهم صدقوا، ولزِمَهم تركُ قولهم الفاسد.

قال: ونسألهم عن يهودي مستخفٍّ بدينه ذبح شاةً يعتقد حلَّ شحمها، هل يحرم علينا الشحم أم لا؟ فإن قلتم: يحرم علينا كان محالًا، فإنه ذكَّى ما يعتقد حلَّه ونحن نعتقد حلَّه، فمن أين جاء التحريم؟ وإن قلتم: لا يحرم علينا كانت ذبيحة هذا المستخفِّ بدينه أحسنَ حالًا من ذبيحة المتمسك بدينه، وهذا محالٌ.

قال: ويلزمهم أن لا يستحلُّوا أكْلَ ما ذبحه يهودي يومَ سبتٍ، ولا أكْلَ حيتانٍ صادها يهودي يوم سبتٍ، وهذا مما تناقضوا فيه.

قال: وقد روينا عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وعائشة أم المؤمنين، وأبي الدرداء، وعبد الله بن يزيد، وابن عباس، والعرباض بن سارية، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وابن عمر رضي الله عنهم

(2)

=

(1)

"المحلى"(7/ 455).

(2)

تقدَّمت الآثار عن عامَّة هؤلاء، إلا أبا أمامة وعبد الله بن يزيد الخطمي، فأما الأول فأشار إليه ابن حزم في "المحلى"(7/ 411) مضعِّفًا إسناده، وأما الآخر فأخرجه الطبري في "تفسيره" (9/ 528) بإسناد صحيح قال:"كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ".

ص: 365

إباحةَ ما ذبحه أهل الكتاب دون اشتراطٍ لما يستحلُّونه. وكذلك عن جمهور التابعين، لم نجد عن أحدٍ هذا القول إلا عن قتادة، ثم عن مالك وعبيد الله بن الحسن، وهذا مما خالفوا فيه طائفةً من الصحابة لا مخالفَ لهم، وخالفوا فيه جمهورَ العلماء.

قال المحرِّمون: إنما أباح الله سبحانه لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، والشحوم المحرمة عليهم ليست من طعامهم، فلا تكون لنا مباحةً، والمقدمتان ظاهرتان غنيتان عن التقرير.

قالوا: ولأنه شحمٌ محرَّمٌ على ذابحه، فكان محرَّمًا على غيره بطريق الأولى، فإن الذكاة إذا لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى المذكِّي لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى غيره، وهذا كذبح المُحرِم الصيد، فإنه لما كان حرامًا عليه، ولم تُفِدِ الذكاةُ الحلَّ بالنسبة إليه، لم تُفِده بالنسبة إلى الحلال.

قالوا: وطردُ هذا تحريم الجمل إذا ذبحه اليهودي.

قالوا: وأيضًا فللقصد تأثيرٌ في حلّ الذكاة كما تقدَّم، فإذا كان الذابح غير قاصدٍ للتذكية لم تحلَّ ذكاتُه، ولا ريبَ أنه غير قاصدٍ لتذكية الشحم، فإنه يعتقد تحريمه وأنه بمنزلة الميتة.

قالوا: ولا محذورَ في تجزُّء الذكاة، فيحلُّ بها بعض المذكَّى دون بعضٍ، فيكون ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد المذكِّي حلَّه وليس ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد تحريمه، فإن ما يأكله يعتقد ذكاته ويقصدها، وما لا يأكله لا يعتقد ذكاته ولا يقصدها فصار كالميتة.

ص: 366

قالوا: والمعتمد في المسألة أن الله سبحانه حرَّم ذلك عليهم، والتحريم باقٍ لم يُنسَخ إلا عمن التزم الشريعة الإسلامية، ويدلُّ على بقاء التحريم وجوهٌ:

أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأنه حرَّمه ولم يُخبِر بأنه نسخَه بعد تحريمه، وإنما يزول التحريم عمن التزم الإسلام.

الثاني: أنه علَّل التحريم بالبغي، وهو لم يزل بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

الثالث: ما في "الصحيح"

(1)

عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهودَ حُرِّمتْ عليهم الشحومُ فجَمَلُوها، فباعوها وأكلوا أثمانَها".

وفي "المسند"

(2)

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحومُ، فباعوها وأكلوا أثمانَها، وإنَّ الله لم يُحرِّم على قومٍ أكلَ شيءٍ إلا حرَّم عليهم ثمنَه".

فلو كان التحريم قد زال عنهم لم يلعنهم على فعل المباح.

قالوا: ولا يمتنع ورود الشرع بإقرارهم على آصارهم وأغلالهم تغليظًا عليهم، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124]، فأخبر أنه جعل عليهم، ولم يخبر بأنه رفعه عنهم، وإنما يرفع عمن التزم أحكام الإسلام.

(1)

للبخاري (2236) ومسلم (1581) بنحوه.

(2)

برقم (2221، 2678)، وإسناده جيِّد.

ص: 367

وفي بقاء تحريمه عليهم قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب أحمد، وعلى أحد القولين نُلزمهم به، ولا نُمكِّنهم من كسره.

وقد نصَّ أحمد على بقاء تحريم الشحوم عليهم

(1)

، فقال في رواية ابنه عبد الله

(2)

: لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُطعِم يهوديًّا شحمًا، لأنه محرَّمٌ عليه.

قال أبو بكر عبد العزيز

(3)

: ويدلُّ على التحريم أن المسلم لما لم تعمل ذكاته فيما حرم عليه، فاليهودي أولى.

قال: فذكاة اليهودي لا تعمل في الشحم، كما لا تعمل ذكاة المسلم في الغُدَّة وأُذنِ القلب

(4)

، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وقد نصَّ أحمد على ذلك، فقال ابن منصورٍ

(5)

: قلت لأحمد: آكل أذن القلب؟ فقال: لا تؤكل. وقال عبد الله

(6)

: قلت لأبي: الغدة؟ فقال: لا تؤكل، النبي صلى الله عليه وسلم كرهها.

وقد روى الدارقطني

(7)

من حديث بقية بن الوليد، عن أبي المنذر، عن

(1)

انظر: "الروايتين والوجهين"(3/ 37)، و"الجامع" للخلال (2/ 443).

(2)

كما في "الجامع"(2/ 443).

(3)

لم أجد كلامه في "زاد المسافر".

(4)

أذن القلب: إحدى الزنمتين في أعلى القلب، فهما أذنا القلب.

(5)

لم أجده في "مسائله" المطبوعة.

(6)

"مسائله"(ص 272).

(7)

لم أجده في "سننه"، ولا في "أطراف الغرائب والأفراد". والإسناد غريب، ولم أعرف أبا المنذر وعبد الله بن زيد.

ص: 368

عبد الله بن زيدٍ، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن أذن القلب، فقالت: ألقيتُها، فقال:"طابت قِدْرُكِ وحلَّ أكلُه".

وقال أبو طالب

(1)

: قلت لأحمد: حدَّثوني عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثيرٍ، فقال: ثقةٌ، ثم قال: من حدَّثك عنه؟ قلت: مسددٌ

(2)

، قال: سمع منه باليمامة، قلت: رواه عن أبيه عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أذن القلب. فقال: نعم هكذا، قلت: ما هذا الحديث؟ قال: نهى عن أكل أذن القلب

(3)

.

قالوا: وقد ثبت أن القصد في الذكاة معتبرٌ، ولهذا اختلفت باختلاف

(1)

أشار إلى هذه الرواية ابن مفلح في "الفروع"(10/ 401)، والمرداوي في "الإنصاف"(10/ 368).

(2)

هو عنده في "مسنده"(المطالب: 2349)، وعنه أخرجه أبو داود في "المراسيل" (467). وظاهر صنيع أبي داود أن "الرجل من الأنصار" تابعي والحديثَ مرسل. ولوكان صحابيًّا كان الإسناد مرسلًا أيضًا ــ أي: منقطعًا بين يحيى والأنصاري ــ إذ رواية يحيى بن أبي كثير عن عامَّة الصحابة مراسيل، فإنه لم يدرك من الصحابة إلا أنس، رآه رؤية ولم يسمع منه. انظر:"المراسيل"(ص 240 - 244) و"بيان الوهم والإيهام"(5/ 172) و"الضعيفة"(6220).

(3)

"فقال نعم

القلب" ساقطة من المطبوع. وفي "المغني" (13/ 252): "ويُكره أكل الغدة وأذن القلب، لما رُوي عن مجاهد

ولأن النفس تعافُهما وتستخبثهما، ولا أظنُّ أحمد كرههما إلّا لذلك، لا للخبر، لأنه قال فيه: هذا حديث منكر".

ص: 369

المذكِّين، وعكسه إزالة النجاسة، لما لم يكن القصد فيها معتبرًا لم يعتبر باختلاف المُزِيلين.

قالوا: وأما حديث عبد الله بن مغفَّلٍ فجوابه من وجوهٍ:

أحدها: أنه لم يقل: "فأخذتُه فأكلتُه"، فلعله أخذه لغير الأكل.

الثاني: أنه لعله كانت رغبته في الظرف لا في المظروف.

الثالث: لعله كان مضطرًّا إلى أكله فلم ينهَه عنه.

الرابع: أنه لعله من ذبيحة مسلم، ولا يتعيَّن أن يكون من ذبيحة كتابي.

وهذا من أفسد الأجوبة، فإنه دُلِّي من الحصن والمسلمون محاصروه.

الخامس ــ وهو أصح الأجوبة ــ: أنه لا يتعيَّن كونه من الشحم المحرَّم عليهم، بل الظاهر أنهم إنما كانوا يأكلون الشحوم المباحة لهم، فيجوز لنا أكلُه كما يجوز لنا أكلُ ذبائحهم وأطعمتهم، والظاهر أنه من شحم الظهر والحوايا وما اختلط بعظمٍ، فإنه هو الشحم الذي كانوا يأكلونه.

وأما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي ذبحتها اليهودية فإنها كانت شاةً مشويَّةً، والشاة إنما تُشوى بعد نزْعِ شحمها، وهو إنما أكل من الذراع وليس بحرامٍ.

وأما قولكم: إنه من المحال أن تقع التذكية على بعض الشاة دون بعضٍ، فهذا ليس بمحالٍ عقلًا ولا شرعًا أن تعمل الذكاة فيما يباح من الشاة دون ما يحرم منها أو يُكره، والشريعة طافحةٌ من تبعُّض الأحكام، وهو محض الفقه.

ص: 370

وقد جعل الله سبحانه البنتَ من الرضاعة بنتًا في الحرمة والمَحْرمة، وأجنبيةً في الميراث والإنفاق. وكذلك بنت الزنا عند جمهور الأمة بنتٌ في تحريم النكاح، وليست بنتًا في الميراث. وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ وليدة زَمْعة

(1)

أخًا لـ [سودة بنت] زَمْعة في الفراش، وأجنبيًّا في النظر لأجل الشَّبه بعتبة

(2)

. فلا يستحيل أن تكون الشاة مذكَّاةً بالنسبة إلى اللحم والشحم المباح، غيرَ مذكَّاةٍ بالنسبة إلى الشحم المحرَّم.

وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]، وأن هذه الشحوم من طعامنا، فلَعمرُ الله إنها من طعامنا إذا ذكّاها المسلم ومن تَحِلُّ له، فأما إذا ذكَّاها من يعتقد تحريمها فليست في هذه الحال من طعامه ولا من طعامنا.

وأما استدلالكم بقول المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وبقوله تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم:{وَيُحِلُّ لَهُمُ اُلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمِ اِلْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فهذا الإحلال إنما هو لمن آمن بالمسيح وبمحمد نعمةً من الله عليه وكرامةً له، لا لمن أصرَّ على كفره وتكذيبه، وإنما هو لمن التزم الشريعةَ التي جاءت بالحلِّ.

(1)

أي ابن جاريته. وما بين المعكوفتين زيادة لازمة.

(2)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري (2053) ومسلم (1457)، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة"، ثم قال لسودة بنت زمعة:"احتجبي منه" لما رأى من شَبَهه بعتبة.

ص: 371

وأما سؤال ابن حزمٍ

(1)

: هل الجمل والشحم اليوم حرامٌ عليهم أم حلالٌ لهم؟ فإن قالوا: حرامٌ عليهم كفروا، وإن قالوا: حلالٌ تركوا قولهم= فكلامُ متهوِّرٍ مُقْدِمٍ على تكفير من لم يكفِّره الله ورسوله، وعلى التكفير بظنّه الفاسد، ولا يستحقُّ هذا الكلام جوابًا لخلوِّه عن الحجة. وهم يَقلِبُون عليه هذا السؤال فيقولون له: نحن نسألك هل أحلَّ الله لهم هذه الشحوم مع إقامتهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأباحها لهم وطيَّبها في هذه الحال، أم بقَّاهم

(2)

على ما هم عليه من الآصار والأغلال؟ فإن قلت: بل أباحها لهم وطيَّبها وأحلَّها مع بقائهم على اليهودية وتكذيبِ رسوله، فهذا كفرٌ وكذبٌ على الله وعلى كتابه. وإن قلت: بقَّاهم على ما هم عليه تركتَ قولك وصرتَ إلى قولنا. فلا بدَّ لك من واحدٍ من هذين الأمرين، وأحسنُ أحوالك أن تتناقض، لِتسلَم بتناقضِك من الكفر.

وأما سؤالك عن ذبيحة المستخفِّ بدينه الذي يعتقد حلَّ الشحوم، فهذا السؤال جوابه فيه، فإنه متى اعتقد حلَّ الشحوم خرج عن اليهودية: إما إلى الإسلام، وإما إلى الزندقة، فإن تحريم الشحوم ثابتٌ بنصِّ التوراة، فإن كذَّب التوراة وأقام على يهوديته فليس بيهودي ولا تحلُّ ذبيحته. وإن آمن بالتوراة واعتقد حلَّ الشحوم؛ لأن شريعة الإسلام أبطلتْ ما سواها من الشرائع، والواجب اتباعها= فهذا الاعتقاد حقٌّ، ولكن لا يُبيح له الشحومَ المحرَّمة إلا

(1)

تقدم نقله (ص 365).

(2)

كذا في الأصل هنا وفيما يأتي، وهو صحيح في اللغة. وغيَّره في المطبوع بـ"أبقاهم".

ص: 372

بالتزام شريعة الإسلام التي رفع الله بها عنهم الآصار والأغلال، فإذا لم يلتزم شريعة الإسلام وأقام على اليهودية لم ينفعه اعتقاده دون انقياده شيئًا. كما لو اعتقد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقَدْ للإسلام ومتابعته.

وأما قوله: ويلزمهم أن لا يأكلوا ما ذبحه يهودي يوم سبتٍ، فهذا لا يمنع أن يلتزموه، فإنهم إن اعتقدوا تحريمَ ما ذبحوه يومَ السبت كان بمنزلة ما ذبحوه من دوابِّ الظُّفُر، وإن لم يعتقدوا تحريمه كان من طعامهم، فكان حلالًا. ولأصحاب هذا القول في بقاء تحريم السبت عليهم قولان.

وأما صيدُهم الحيتانَ يوم السبت فخفي على أبي محمد

(1)

أن غايتها أن تكون ميتةً، وميتة السمك حلالٌ، ولهذا لا يحرم ما صاده منه المجوسي والوثني في أصحِّ قولي العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد في السمك والجراد

(2)

، فلم يتناقضوا فيه كما زعمتَ.

وأما فتاوى من ذكرتَ من الصحابة بحلِّ ذبائح أهل الكتاب فنعم، لعَمْر الله لا يُعرف عنهم فيها خلافٌ، وليس الكلام فيها، والصحابة إنما أفتَوا بحلِّ جنس ذبائحهم، وأنها تخالف ذبائح المجوس، ولم يريدوا بذلك حلَّ ما لا يعتقدونه من ذبائحهم وأطعمتهم، فلا يُحفظ عن الصحابة التصريحُ بهذا ولا هذا، وبالله التوفيق.

المسألة الخامسة: في الطَّرِيفا، وهو ما لصِقَتْ رئتُه بالجَنْب، هل يحرم

(1)

أي ابن حزم.

(2)

انظر: "المغني"(13/ 299، 300).

ص: 373

علينا لكونهم لا يعتقدون حلَّه أم لا؟ فالجمهور لا يحرمونه، وهذا هو الصواب قطعًا؛ لأن تحريم هذا إنما عُلِم من جهتهم لا بنصّ التوراة، فلا يُقبل قولهم فيه، بخلاف تحريم ذي الظُّفر والشحوم المحرمة.

وقد ذكرنا في كتاب "الهداية"

(1)

سبب هذا التحريم، ومن أين نشأ، وأن التوراة لم تُحرِّمه، وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه، وذكرنا نصَّ التوراة وأنهم حملوه على غير محمله.

وذهب أصحاب مالك إلى تحريمه طردًا لهذا الأصل، وأنه ليس من طعامهم

(2)

. وهذا ليس بمنصوصٍ عن مالك ولا هو مقتضى أصوله، والذابح في هذه الصورة اعتقد حلَّ المذبوح وأنه من طعامه، بخلاف ذابحِ ذي الظفر، وتحريم هذا غير ثابتٍ بالنص، بخلاف تحريم ذي الظفر، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر، والله أعلم.

* * * *

(1)

"هداية الحيارى"(ص 307 - 310). وانظر: "إغاثة اللهفان"(2/ 1111 - 1113).

(2)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 584)، و"المدونة"(3/ 67).

ص: 374