المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ يجوز أخذها مما تيسر من أموالهم - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌ يجوز أخذها مما تيسر من أموالهم

إحداها: أنه لا يُزاد فيها ولا يُنقَص على ما وضعه عمر رضي الله عنه.

والثانية: تجوز الزيادة والنقصان على ما يراه الإمام، قال الخلال: وهو الذي عليه العمل من مذهبه

(1)

.

والثالثة: تجوز الزيادة دون النقصان.

والرابعة: أن أهل اليمن خاصةً لا يزاد عليهم ولا ينقص.

فصل

ولا يتعيَّن في الجزية ذهبٌ ولا فضّةٌ، بل‌

‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

من ثيابٍ وسلاحٍ يعملونه، وحديدٍ ونُحاسٍ ومَواشٍ وحبوبٍ وعُروضٍ وغير ذلك.

وقد دلَّ على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه الراشدين، وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد.

ونصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم

(2)

، وقد سأله: يؤخذ في الجزية غيرُ الذهب والفضة؟ قال: نعم، دينارٌ أو قيمته مَعَافر.

والمَعَافر ثيابٌ تكون باليمن.

وذهب في ذلك إلى حديث معاذٍ رضي الله عنه، الذي رواه في "مسنده"

(3)

(1)

"من مذهبه" ساقطة من المطبوع.

(2)

كما في "الجامع" للخلال (1/ 168).

(3)

برقم (22013، 22037)، وأخرجه أيضًا أبو داود (1576، 3038) والترمذي (623) والنسائي (2450) وابن خزيمة (2268) وابن حبان (4886) والحاكم (1/ 398)، كلهم من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق (ولم يُذكر في بعض الطرق، وذكره أصح)، عن معاذ. وهذا إسناد جيِّد كما قال المؤلف. وقد روي عن مسروقٍ وغيره مرسلًا إلا أن وصله صحيح. انظر:"العلل" للدارقطني (985).

ص: 42

بإسناد جيدٍ عن معاذٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافِر. ورواه أهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن.

وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهبًا ولا فضةً، وإنما أخذ منهم الحُلَل والسِّلاح. فروى أبو داود في "سننه"

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ نجران على ألفَي حُلَّةٍ ــ النصف في صفرٍ والنصف في رجبٍ ــ يؤدُّونها إلى المسلمين، وعارية

(2)

ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنفٍ من أصناف السلاح يغزون

(3)

بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كيدٌ أو غَدرةٌ؛ على أن لا تُهدَم لهم بِيعةٌ، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يُفتَنون عن دينهم، ما لم

(1)

برقم (3041) ــ ومن طريقه الضياء في "المختارة"(9/ 508) ــ من حديث السُّدِّي عن ابن عبّاس. وفي سماع السدي من ابن عباس نظر، ولكن له شواهد مرسلة تعضده، كما في التعليق على "زاد المعاد"(3/ 181، 801). ويُزاد عليها شاهد من "مغازي عروة" من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه، أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(519).

(2)

في المطبوع: "وعلى" خلاف ما في الأصل والسنن.

(3)

في المطبوع: "يقرون" تحريف.

ص: 43

يُحدِثوا حَدَثًا أو يأكلوا الربا.

وهو صريحٌ في أن أهل الذمة إذا أحدثوا في الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمةَ لهم، وقد دلَّ على ذلك القرآن والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

(1)

.

قال الزهري: أول من أعطى الجزيةَ أهلُ نجران، وكانوا نصارى

(2)

، وقد أُخذ منهم الحُلَل.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ النَّعَم في الجزية

(3)

.

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ من متاعه؛ من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المسالِّ مَسَالَّ

(4)

، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا فاقتسِموا، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خياره وتركتم

(1)

في الفصل السادس من الشروط العمرية في آخر الكتاب.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

كما في "الأم"(3/ 226) و"الأموال" لأبي عبيد (122) و"السنن الكبير" للبيهقي (7/ 35) من حديث مالك ــ وهو في "الموطأ" برواية محمد (334) ــ عن زيد بن أسلم عن أبيه. وإسناده صحيح.

(4)

كذا في الأصل وموضع من كتاب "الأموال" وسائر المصادر، و"المَسالُّ" جمع المِسلَّة، وهي الإبرة العظيمة الضخمة، ويؤيده العطف على صاحب الإبر. وفي المطبوع وموضع من كتاب "الأموال":"المَسانّ" جمع المِسَنٍّ، وهو آلة السَنِّ أي: آلة تحديد السكين ونحوه.

ص: 44

شراره؟ لَتحمِلُنَّه

(1)

!

فيؤخذ من عُروضه بقدر ما عليه من الجزية، هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه التي لا مَعدلَ عنها. فقد تبيَّن أن الجزية غير مقدَّرةٍ بالشرع تقديرًا لا يقبل الزيادة والنقصان، ولا معيَّنة الجنس.

قال الخلال

(2)

: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، على ما رواه عنه أصحابه

(3)

في عشرة مواضع، فاستقرَّ قوله على ذلك.

وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم.

وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقاتٍ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جعلها على الغني ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعةً وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر

(4)

. وصالحَ بني تغلبَ على مثلَيْ ما على المسلمين من الزكاة

(5)

.

(1)

أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(121 واللفظ له، 939) وابن زنجويه (175) وابن أبي شيبة (33571) بإسناد جيِّد.

(2)

في "الجامع"(1/ 169). والمؤلف صادر عن "المغني"(13/ 210).

(3)

بعدها في المطبوع: "معينة الجنس"، ومكانها الصحيح قبل سطرين.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (10825) وأبو عبيد في "الأموال"(106، 107) وابن زنجويه (157، 158، 258، 261) من طرق.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (10684) وأبو عبيد (72، 74، 1499، 1500).

ص: 45

وهذا يدلُّ على أنها إلى رأي الأمام، ولولا ذلك لكانت على قدرٍ واحدٍ في جميع المواضع، ولم يجُزْ أن تختلف.

وقال البخاري

(1)

: قال ابن عيينة: عن ابن أبي نَجيحٍ قلت لمجاهدٍ: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جُعل ذلك من أجل اليسار.

وقد زادها عمر أيضًا على ثمانيةٍ وأربعين فصيَّرها خمسين درهمًا

(2)

.

واحتجَّ الشافعي

(3)

رحمه الله تعالى بأن الواجب دينارٌ على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّرها بذلك في حديث معاذٍ رضي الله عنه، وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ولم يُفرِّق بين غني وفقيرٍ، ولا

(4)

جعلهم ثلاث طبقاتٍ، وسنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تُتَّبع من اجتهاد عمر.

ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا: لا منافاةَ بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما فعله عمر رضي الله عنه، بل هو من سنته أيضًا. وقد قرنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع

(5)

، فما سنَّه خلفاؤه فهو كسنَّتِه في الاتباع. وهذا

(1)

في "صحيحه"(كتاب الجزية) وقد تقدم.

(2)

أخرجه أبو عبيد (108) ــ وعنه ابن زنجويه (159) ــ وأبو القاسم البغوي في "مسند ابن الجعد"(148) والبيهقي في "الكبير"(9/ 196).

(3)

انظر: "الأم"(5/ 425 وما بعدها)، و"المغني"(13/ 211).

(4)

"لا" ساقطة من المطبوع.

(5)

في حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وغيرهما، وصححه الترمذي وابن حبان (5) والحاكم (1/ 95).

ص: 46

الذي فعله عمر رضي الله عنه اشتهر بين الصحابة، ولم ينكره منكرٌ، ولا خالفه فيه واحدٌ منهم البتةَ، واستقرَّ عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده، فلا يجوز أن يكون خطأً أصلًا.

وقد نصَّ الشافعي على استحباب العمل به فقال

(1)

: الواجب على كل رجل دينارٌ، لا يُجزئ أقلُّ من ذلك. فإن كان الذميّ مُقِلًّا ولم يكن مُوسِرًا ولا متوسطًا عقد له الإمام الذمة على دينارٍ في كل سنةٍ. وإن كان متوسطًا فيستحبُّ أن يقول له الإمام: جزيةُ مثلك ديناران، فلا أعقد لك ذمةً على أقلَّ منهما، ويحمل عليه بالكلام، فإن لم يقبل حملَ عليه بعشيرته وأهله، فإن لم يقبل وأقام على بذل الدينار قَبِل منه وعَقَد له الذمة. وإن كان موسرًا فيستحب أن يقال: جزيةُ مثلك أربعة دنانير لا أقبل منك أقلَّ منها، ويتحامل عليه بالكلام، ويحمل عليه بعشيرته وقومه، فإن لم يفعل وأقام على بذل الدينار قبل منه وعُقِدت له الذمة عليه.

قلت: ولا يخلو حديث معاذٍ من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ:

الأول: أن يكون أمره بذلك؛ لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر. وقد أشار مجاهدٌ إلى ذلك في قوله: إنما جُعِل على أهل الشام ثمانيةٌ وأربعون درهمًا من أجل اليسار.

الوجه الثاني: أنهم كانوا قد أُقرُّوا بالجزية، ولم يتميز الغني منهم من الفقير،

(1)

لم أجد قوله في "الأم" ولا غيره من المصادر التي رجعتُ إليها.

ص: 47

والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن، بل كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو حيٌ بين أظهرهم، فلما لم يتفرَّغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية كلها طبقة واحدةً. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة، ومعرفةِ غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم، فجعلوهم ثلاث طبقاتٍ، وأخذوا من كل طبقةٍ ما لا يَشُقُّ عليهم إعطاؤه.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدِّرها تقديرًا عامًّا لا يقبل التغيير، بل ذلك موكولٌ إلى المصلحة واجتهاد الإمام. فكانت المصلحة في زمانه أخذَها من أهل اليمن على السواء، وكانت المصلحة في زمن خلفائه الراشدين أخذَها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يَسارِهم وأموالهم. وهكذا فعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أخذها من أهل نجران حُلَلًا في قِسطَينِ، قسطٍ في صفرٍ وقسطٍ في رجبٍ.

وقال مالك

(1)

: عن نافعٍ عن أسلم أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيامٍ.

وقال الليث بن سعدٍ: عن كثير بن فَرْقدٍ ومحمد بن عبد الرحمن [عن نافعٍ] عن أسلم، عن عمر رضي الله عنه: أنه ضرب الجزية على أهل الشام ــ أو قال:

(1)

في "الموطأ"(757) ومن طريقه أخرجه أبو عبيد (103). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10090، 10095)

وأبو عبيد (104) وابن زنجويه (155، 156) من طرق عن نافع به مطولًا ــ وسيأتي لفظه ــ ومختصرًا.

ص: 48

على أهل الذهب ــ أربعة دنانير، وأرزاق المسلمين من الحنطة مُدَّين وثلاثة أقساطِ زيتٍ لكل إنسانٍ كلَّ شهرٍ. وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وخمسة عشر صاعًا لكل إنسانٍ. قال: ومن كان من أهل مصر فإرْدَبٌّ

(1)

كلَّ شهرٍ لكل إنسانٍ. قال: ولا أدري كم [ذكر لكل إنسانٍ] من الوَدَكِ

(2)

والعسل

(3)

.

وعلى هذا فلو كان فيهم من لا يقدر إلا على بعض دينارٍ لوجب قبوله منه بحسب قدرته. وهذا قياسُ جميع الواجبات إذا قدَرَ على أداء بعضها وعجَزَ عن جميعها، كمن قدرَ على أداءِ بعض الدَّين، وإخراجِ بعضِ صاع الفطرة، وأداءِ بعض النفقة إذ لا يقدر على تمامها، وغسْلِ بعض أعضائه إذا عجَزَ عن غَسْل جميعها، وقراءةِ بعض الفاتحة في الصلاة إذا عجَزَ عن جميعها، ونظائر ذلك.

قال أبو عبيد

(4)

: والذي اخترناه أن عليهم الزيادة كما يكون لهم النقصان، للزيادة التي زادها عمر رضي الله عنه على وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وللزيادة التي زادها هو نفسُه حين كانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. ولو عجَزَ أحدهم عن دينارٍ لحَطَّه من ذلك، حتى قد رُوِي عنه أنه أجرى على شيخٍ

(1)

الإردبُّ: مكيال يسع أربعة وعشرين صاعًا.

(2)

الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.

(3)

أخرجه أبو عبيد (104) عن يحيى بن بكير، وابنُ زنجويه (156) عن عبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث به. واللفظ لأبي عبيد.

(4)

"الأموال"(1/ 97).

ص: 49

منهم من بيت المال

(1)

، وذلك أنه مرَّ به وهو يسأل على الأبواب، وفعله عمر بن عبد العزيز

(2)

.

قال أبو عبيد: ولو علم عمر أن فيها سنَّةً موقَّتةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدَّاها إلى غيرها.

فصل

ولا يحلُّ تكليفُهم ما لا يقدرون عليه، ولا تعذيبُهم على أدائها، ولا حبسُهم وضربُهم.

قال أبو عبيد

(3)

: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن

(4)

هشام بن حكيم بن حزامٍ أنه مرَّ على قومٍ يُعذَّبون في الجزية بفلسطين، فقال هشامٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا".

وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أنَّ عِياض بن غَنْمٍ رأى نَبَطًا

(5)

(1)

أخرجه أبو يوسف في "الخراج"(277 - نشرة البنَّا) بإسناد ضعيف، فيه عمر بن نافع الثقفي، قال ابن معين: ليس بشيء. ولكن له شاهد من أثر عمر بن عبد العزيز عن عمر بلاغًا، وسيأتي.

(2)

سيأتي الأثر بإسناده (ص 55)، وثَمَّ تخريجه.

(3)

"الأموال" برقم (114). والحديث عند مسلم (2613) من طرق عن هشام به.

(4)

في المطبوع: "وعن" خطأ.

(5)

شعبٌ سامي كانت له دولة في شمال شبه الجزيرة العربية، وعاصمتهم سَلْع، وتُعرف اليوم بالبتراء. وأُطلق اللفظ أخيرًا على أخلاط الناس من غير العرب.

ص: 50

يُشمَّسون

(1)

في الجزية فقال لصاحبهم: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى يُعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا"

(2)

.

وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيمٍ هو الذي قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ

(3)

.

قال

(4)

: [حدثنا] نُعيم بن حمادٍ، عن بقية بن الوليد، عن صفوان بن

(1)

كذا في الأصل، وفي مطبوعة "الأموال" لأبي عبيد:"يُعذَّبون"، والظاهر أنه تصحيف، فقد أخرجه ابن زنجويه من الطريق نفسه بلفظ:"يشمَّسون". ومعناه: يُوقَفون في الشمس يعذَّبون بحرِّها.

(2)

"الأموال"(115) وكذا ابن زنجويه (170)، كلاهما عن عبد الله بن صالح عن الليث، عن يونس، عن الزهري به. وهو في "مسند أحمد"(15334) من طريق آخر عن يونس به. ولفظ هذه الروايات مقلوب، والذي في عامَّة الطرق أن هشام بن حكيم قال ذلك لعياض بن غنم، كما سيأتي.

(3)

"الأموال"(116)، وكذا أحمد (15335) وابن زنجويه (169)، كلهم عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وأخرجه ابن حبان (5612) من طريق الزُّبَيدي عن الزهري به. وأخرجه مسلم (2613/ 119) وأبو داود (3045) والنسائي في "الكبرى"(8718) من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري به، ولكن دون تسمية عياض.

(4)

أبو عبيد في "الأموال"(117). وأخرجه أيضًا أحمد (15333) وابن أبي عاصم في "السنة"(1130) والطبراني في "مسند الشاميين"(977) من طرق عن صفوان بن عمرو به. رجاله ثقات، إلا أن شُريح بن عُبيد يُرسل كثيرًا، وقيل: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة. والظاهر أنه سمع الخبر من جُبير بن نُفير ــ من كبار تابعي أهل الشام ــ، فقد أخرجه ابن أبي عاصم (1131) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(5425) من طريق ضَمْضَم بن زُرعة، عن شُريحٍ بن عبيد قال: قال جُبير بن نُفير

فذكره بنحوه. وإسناده حسن.

ص: 51

عمرٍو، عن شُريح بن عبيد: أن هشام بن حكيمٍ قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عياضٌ لهشامٍ: قد سمعتُ ما سمعتَ ورأيتُ ما رأيتَ. أَوَلم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن ينصحَ لذي سلطانٍ فلا يُبْدِهِ له علانيةً، ولكن لِيأخذْ بيده فيخلُو به، فإن قبلَ منه فذاك، وإلّا فقد أدَّى الذي عليه".

قال

(1)

: وحدثنا نُعيمٌ، نا بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرٍو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفيرٍ عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بمالٍ كثيرٍ ــ أحسبه قال: من الجزية ــ فقال: إني لأظنُّكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عَفْوًا صَفْوًا. قال: بلا سوطٍ ولا نَوْطٍ

(2)

؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني.

قال

(3)

: وحدثنا أبو مُسهر، نا سعيد بن عبد العزيز قال: قدم سعيد بن

(1)

"الأموال"(118)، ولم أجده عند غيره. وإسناده لا بأس به.

(2)

أي بلا ضرب ولا تعليق. انظر: "النهاية"(5/ 128).

(3)

"الأموال"(119)، وهو ظاهر الانقطاع بين سعيد بن عبد العزيز ــ التنوخي، من أئمة أتباع التابعين ــ وبين سعيد بن عامر بن حِذْيَم رضي الله عنه، إلا أن ابن عساكر أخرجه في "التاريخ" (21/ 163) من طريق آخر عن سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني عطية بن قيس ــ الكلابي، تابعي حمصي ــ أن عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم على جُند حمصٍ (بعد وفاة عياض بن غَنْم)، فقدم عليه

إلخ بنحوه.

ص: 52

عامر بن حِذْيَمٍ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما أتاه علاه بالدِّرَّة، فقال سعيد: سبقَ سيلُك مطرَك! إن تُعاقِبْ نصبِرْ، وإن تَعْفُ نشكُرْ، وإن تَستعتِبْ نُعْتِبْ. فقال: ما على المسلم إلا هذا، ما لك تُبطئ بالخراج؟ فقال: أمرتَنا أن لا نزيد الفلَّاحين على أربعة دنانير، فلسنا نزيدهم على ذلك، ولكنّا نؤخّرهم إلى غلَّاتهم. فقال عمر رضي الله عنه: لا عَزلتُك ما حَيِيتُ!

قال أبو عبيد: وإنما وجهُ التأخير للرِّفق بهم، ولم أسمع في الخراج والجزية وقتًا من الزمان يجتبى فيه غيرَ هذا.

قال

(1)

: ونا مروان بن معاوية الفَزاري عن خَلَفٍ مولى آل جَعدة عن رجل من آل أبي المهاجر قال: استعمل علي بن أبي طالب رجلًا على عُكبَراء فقال له على رؤوس الملأ: لا تَدَعَنَّ لهم درهمًا من الخراج. قال: وشدَّدَ عليه القول، ثم قال: الْقَنِي عندَ انتصاف النهار، فأتاه فقال: إني كنتُ

(1)

"الأموال"(120)، والرجل المبهم من آل أبي المهاجر هو إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، فقد أخرجه أبو يوسف في "الخراج"(47)، وابن زنجويه (173) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من ثقيف قال: استعملني علي بن أبي طالب على عكبراء

إلخ بنحوه. وإسماعيل هذا ضعيف، إلا أنه توبع، تابعه جعفر بن زياد الأحمر عند يحيى بن آدم في "الخراج"(234) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير"(9/ 205) ــ بنحوه.

ص: 53

أمرتُك بأمرٍ وإني أتقدَّم إليك الآن

(1)

، فإن عصيتَني نزعتُك: لا تبيعَنَّ لهم في خراجهم حمارًا ولا بقرةً ولا كسوةً، شتاءً ولا صيفًا، وارْفُق بهم، وافعَلْ بهم وافعَلْ بهم.

قال

(2)

: وحدثني الفضل بن دُكَينٍ، عن سعيد بن سِنانٍ، عن عنترة قال: كان عليٌّ يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ، من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المَسَالّ مَسَالّ، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو العُرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خِياره وتركتم عليَّ شِراره؟ لتَحمِلُنَّه!

قال أبو عبيد

(3)

: وإنما توجَّه هذا من علي رضي الله عنه أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رؤوسهم، ولا يحمِلُهم على بيعها ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادةَ الرفقِ بهم والتخفيفِ عليهم.

قال: ومثل هذا حديث معاذٍ رضي الله عنه حين قال باليمن: ائتوني بخميسٍ أو لَبِيسٍ

(4)

آخذه منكم مكانَ الصدقة، فإنه أهونُ عليكم وأنفعُ للمهاجرين

(1)

أي: إن الأمر السابق كان ليُسمِع القومَ الذين ولَّاه عليهم، ولفظه في رواية ابن زنجويه:"إنما قلتُ لك الذي قلتُ لأُسمِعهم".

(2)

"الأموال"(121)، وقد تقدَّم.

(3)

"الأموال"(1/ 102).

(4)

الخميس: الثوب الذي طولُه خمسُ أذرع. قيل: سُمِّي خميسًا لأن أول من عمله ملكٌ باليمن يقال له الخِمْس. واللبيس: الثوب الذي أُكثِر لُبسُه فأَخلقَ. وانظر: "فتح الباري"(3/ 312). وفي المطبوع: "بحميس" بالحاء وشرحه في الهامش بأنه التنور، وهو خطأ.

ص: 54

بالمدينة

(1)

. وكذلك فعل عمر رضي الله عنه حتى كان يأخذ الإبل في الجزية. وإنما يراد بهذا كلِّه الرفقُ بأهل الذمة، وأن لا يباع عليهم من متاعهم شيء، ولكن يؤخذ مما سهُلَ عليهم في القيمة، ألا تسمع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو عِدْله من المَعَافر"؟ فقد بيَّن لك ذِكرُ العِدْل أنه القيمة.

قال

(2)

: وحدثنا محمد بن كثيرٍ، عن أبي رجاءٍ الخراساني، عن أبي جعفر قال: شهدتُ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عَدي بن أَرطاة قرئ علينا بالبصرة: أما بعدُ، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام، واختار الكفر عِتِيًّا

(3)

وخسرانًا مبينًا، فضَعِ الجزيةَ على من أطاقَ

(4)

حمْلَها، وخلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك

(1)

أثر معاذ أخرجه يحيى بن آدم في "الخراج"(526) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير"(4/ 113) وابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 13) ــ وابن أبي شيبة (10540) والدارقطني (1930) من رواية طاوس عن معاذ. قال الدارقطني: هذا مرسل، طاوس لم يدرك معاذًا. وذكره البخاري في "صحيحه" (الزكاة/باب العرض في الزكاة) تعليقًا عن طاوس قال: قال معاذ

إلخ بنحوه إلا أن فيه "خميص" بدل "خميس".

(2)

"الأموال"(123)، وأخرجه البلاذري في "أنساب الأشراف" (8/ 147) من طريق يحى بن آدم (ولم أجده في مطبوعة "الخراج") عن فضيل بن عياض قال: كتب عمر بن عبد العزيز

بنحوه مختصرًا دون ذكر قصة عمر بن الخطاب.

(3)

في المطبوع: "عنتا".

(4)

في هامش الأصل: "أراد" بعلامة خ.

ص: 55

صلاحًا لمعاش

(1)

المسلمين وقوةً على عدوهم. ثم انظُرْ مَن قِبَلَك من أهل الذمة قد كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّتْ عنه المكاسبُ، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلِحُه؛ فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوكٌ كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّت عنه المكاسبُ كان من الحق عليه أن يَقُوتَه

(2)

حتى يفرِّق بينهما موتٌ أو عتقٌ. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنّا أخذنا منك الجزيةَ في شَبيبتِك ثم ضيَّعناك في كِبَرِك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصْلِحه

(3)

.

قال

(4)

: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن محمد بن طلحة، عن داود بن سليمان الجعفي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: سلامٌ عليك، أما بعدُ، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاءٌ وشدَّةٌ وجورٌ في أحكامٍ وسُنَنٍ خبيثةٍ سنَّتها عليهم عُمَّال السوء، وإنّ أقْومَ الدينِ العدلُ والإحسان، فلا يكوننَّ شيء أهمَّ إليك من نفسك أن تُوطِّنَها الطاعةَ لله

(1)

في المطبوع: "لمعاشر" خلاف الأصل.

(2)

أي يُطعِمه ما يمسك الرمَق.

(3)

قصة عمر بن الخطاب التي ذكرها عمر بن عبد العزيز بلاغًا، رويت موصولةً بإسناد آخر ضعيف كما سبق (ص 49 - 50).

(4)

"الأموال"(124). وأخرجه ابن زنجويه (180) وابن أبي شيبة (33389) وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 286، 9/ 49) من طرق عن محمد بن طلحة به. والزيادة بين معكوفتين من "الأموال" وغيره.

ص: 56

عز وجل، فإنه لا قليل من الإثم. وأمرتُك أن تُطرِّز

(1)

عليهم أرضَهم، وأن لا تَحمِلَ خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خرابٍ، ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق، ولا من العامر إلا وظيفةَ الخراج، في رفقٍ وتسكينٍ لأهل الأرض. وأمرتُك أن لا تأخذ في الخراج [إلا وزنَ سبعةٍ

(2)

ليس لها آسٌ

(3)

،

ولا] أجور الضرَّابين

(4)

، ولا إذابة الفضة، ولا هدية النَّيروز والمِهْرَجان

(5)

، ولا

(1)

في الأصل: "تطرق". والتصويب من مصادر التخريج. وتطريز الأرض: إصلاح ما فيها من الارتفاع والانخفاض واندراس الأنهار لتكون قابلة لوصول الماء إليها والزراعة فيها. وفي "كتاب الخراج" لأبي يوسف (ص 214 - تحقيق إحسان عباس): "انظر الأرض". وفي "سراج الملوك" للطرطوشي (ص 549): "فاحرز عليهم أرضهم". وكلاهما تحريف.

(2)

يقولون: عشرة دراهم وزن سبعة، لأنهم جعلوا عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. انظر "العين"(1/ 345)، و"تهذيب اللغة"(2/ 71)، و"الصحاح"(سبع)، و"مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ص 142).

(3)

كذا في "الأموال" و"المصنف". وعند ابن زنجويه: "ليس لها أبين". وفي "الخراج" لأبي يوسف (ص 215): "ليس فيها تِبرٌ". وفي "الرتاج": "ليس فيها تربيص تبرٍ". أي معالجة التبر بالرباص وتصفيته من الغش. ومن معاني "الآس": بقية الرماد وأثر الدار، فكأن المعنى: لا غش فيها ..

(4)

يقال: ضربَ الدرهم ونحوه أي سكَّه وطبَعه.

(5)

النيروز: أول يوم من السنة الشمسية الإيرانية، ويوافق اليوم الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية. وعيد النيروز أكبر الأعياد القومية للفرس. والمهرجان: احتفال الاعتدال الخريفي، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين: مِهْر (أي الشمس) وجان (أي الحياة أو الروح).

ص: 57

ثمن المصحف، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح. ولا خراجَ على من أسلم من أهل الأرض. فاتَّبِعْ في ذلك أمري، فقد ولَّيتُك في ذلك ما ولَّاني الله، ولا تَعْجَلْ دوني بقطْعٍ ولا صَلْبٍ حتى تراجعني فيه، وانظُرْ من أراد من الذُّرية الحج فعَجِّلْ له مائةً يتجهَّز بها. والسلام عليك.

قال عبد الرحمن: قوله: "دراهم النكاح" يريد به بَغايا كان يؤخذ منهن الخراج. وقوله: "الذُّرية" يريد به من كان ليس من أهل الديوان.

فصل

وتجب الجزية في آخر الحَول، ولا يطالَبون بها قبل ذلك، هذا قول الإمام أحمد والشافعي

(1)

. وقال أبو حنيفة: تجب بأول الحول، وتؤخذ منه كل شهرٍ بقسطه

(2)

.

ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلٌ في الجزية، وهي أنها عنده عقوبةٌ محضةٌ يسلك بها مسلكَ العقوبات البدنية، ولهذا يقول: إذا اجتمعت عليه جزية سنين تداخلت كما تتداخل العقوبات، ولو أسلم وعليه جزية سنين سقطت كلها كما تسقط العقوبات، ولو مات بعد الحول وقبل الأخذ سقطت عنه

(3)

.

وفي "الجامع الصغير"

(4)

: ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت

(1)

انظر: "المغني"(13/ 212).

(2)

"الاختيار لتعليل المختار"(4/ 137).

(3)

انظر: "الهداية"(2/ 403)، و"الاختيار"(4/ 138، 139).

(4)

لمحمد بن الحسن (ص 470). وانظر: "الهداية"(2/ 403).

ص: 58

السنة وجاءت السنة الأخرى، لم يؤخذ منه. وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: تؤخذ منه. فإن مات عند تمام السنة لم تؤخذ منه في قولهم جميعًا.

وعلى هذا فلو كانت تجب بآخر الحول لاستقرَّتْ بمضيِّه، ولم تسقط ولم تتداخل كالزكاة والدية. والجزية وجبت بدلًا عن القتل وعصمة الدم في حقّه، وعوضًا عن النصرة لهم في حقنا، وهذا إنما يكون في المستقبل لا في الماضي؛ لأن القتال إنما يُفعل لحِرابٍ قائمٍ في الحال لا لحِرابٍ ماضٍ، وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغُنية عنه

(1)

.

وسرُّ المسألة أن سبب الجزية قائمٌ في الحال، ويُعطيها على المستقبل شيئًا فشيئًا بحسب احتمال المحلِّ، كتعويض الضربات في الحدود. ولهذا قالوا: تؤخذ كل شهرٍ بقسطه، فإنها لو أُخِّرت حتى دخل العام الثاني سقطت، كما قال محمد في "الجامع"

(2)

.

وعلى هذا فلا تستقرُّ عليه جزيةٌ أبدًا، ولا سبيلَ إلى أن تؤخذ سلفًا وتعجيلًا، فأُخِذت مفرَّقةً على شهور العام لقيام مقتضٍ، لا

(3)

لصدقته من الكفر، وفي الأخذ من الذَّبِّ عنه والنصرة.

وقال محمد في "كتاب الزيادات"

(4)

في نصراني مرِضَ السنةَ كلَّها فلم

(1)

المصدر نفسه (2/ 403).

(2)

كما تقدم قريبًا.

(3)

"لا" ساقطة من المطبوع.

(4)

ما زال مخطوطًا. انظر: "تاريخ التراث العربي"(1: 3/ 57).

ص: 59

يقدر يعمل وهو موسرٌ: إنه لا تجب عليه الجزية، لأنها إنما تجب على الصحيح المعتمل. وكذلك إن مرِض نصفَ السنة أو أكثرها، فإن صحَّ ثمانية أشهرٍ أو أكثر فعليه الجزية، ولأن المريض لا يقدر على العمل فهو خالٍ من الغنى. وكذلك إذا مرِض أكثر السنة أن الأكثر يقوم مقام الجميع. وكذلك إذا مرض نصفَ السنة أن الموجب والمُسقِط

(1)

تساويا فيما طريقه العقوبة، وكان الحكم للمسقط كالحدود.

واحتج لهذا القول بأن الله سبحانه أمر بقتالهم حتى يُعطوا الجزية، وبأنها عقوبةٌ وإذلالٌ وصَغارٌ للكفر وأهله، فلا يتأخَّر عن القدرة على أخذها.

قالوا: وهذا على أصلِ من جعلها أجرةَ سكنى الدار أَطردُ، فإن الأجرة تجب عقيبَ العقد، وإنما أُخِذت منهم مُقسَّطةً بتكرر الأعوام رفقًا بهم، وليستمرَّ نفعُ الإسلام بها وقوَّتُه كلَّ عامٍ بخراج الأرضين.

قال الأكثرون: لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزيةَ على أهل الكتاب والمجوس لم يُطالِبْهم بها حتى ضربها عليهم، ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقتَ نزول الآية بل صالحَهم عليها، وكان يبعثُ رسلَه وسُعاتَه فيأتون بالجزية والصدقة عند محلِّهما، واستمرت على ذلك سيرةُ خلفائه من بعده. وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها، فإن الأموال التي تتكرر بتكرر الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله كالزكاة والدية، ولو أن رجلًا أجَّلَ على رجل مالًا كلَّ عامٍ يعطيه كذا وكذا لم يكن له المطالبة بقسط العام الأول عقيبَ العقد.

(1)

في الأصل: "المقسط" خطأ.

ص: 60

وأما قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ} ، فليس المراد به العطاء الأول وحده، بل العطاء المستمر المتكرر، ولو كان المراد به ما ذكرتم لكان الواجب أخذ الجميع عقيبَ العقد، وهذا لا سبيل إليه. على أن المعنى: حتى يلتزموا عطاء الجزية وبذْلَها، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أنهم إذا التزموا له بذْلَ الجزية كفَّ عنهم بمجرد التزامهم، ولهذا يَحرُم قتالهم إذا التزموها قبل إعطائهم إياها اتفاقًا، ولهذا [قال] في حديث بُريدة:"فادْعُهم إلى الجزية، فإن أجابوك فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم". وإنما كان يدعوهم إلى الإقرار بها والتزامها دون الأخذ في الحال.

واختلف أصحاب الشافعي

(1)

، فقال بعضهم: تجب بأول السنة دفعةً واحدةً، ولكن تستقرُّ جزءًا بعد جزءٍ. وقال بعضهم: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساطه على جميع الأوقات، لا أنها تجب دفعةً واحدةً بأول السنة، وبَنَوا على ذلك الأخذ بالقسط إذا أسلم أو مات أو جُنَّ. وقال بعضهم: إنما يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة، وهذا هو المشهور.

فصل

ولا جزية على صبي ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ، هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم. قال ابن المنذر

(2)

: ولا أعلم عن غيرهم خلافهم.

وقال أبو محمد في "المغني"

(3)

: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في هذا.

(1)

انظر: "نهاية المطلب"(18/ 32).

(2)

في "كتاب الإجماع"(ص 62). ونقله في "المغني"(13/ 216).

(3)

(13/ 216).

ص: 61

قال أبو عبيد

(1)

: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أيوب، عن نافعٍ، عن أسلم مولى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن يقاتلوا في سبيل الله، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ولا يقتلوا النساء ولا الصبيان، ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي. [وكتب إلى أمراء الأجناد: أن يضربوا الجزيةَ، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جَرتْ عليه المواسي].

قال أبو عبيد

(2)

: يعني من أَنبتَ. وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية ومن لا تجب عليه، ألا تراه إنما جعلها على الذكور المُدْرِكين

(3)

دون الإناث والأطفال، وأسقطَها عمن لا يستحقُّ القتلَ، وهم الذرية.

وقد جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذٍ باليمن: "خُذْ من كلِّ حالمٍ دينارًا"

(4)

تقويةً لقول عمر رضي الله عنه، ألا تراه صلى الله عليه وسلم خصَّ الحالم دون المرأة والصبي؟ إلا أن في بعض ما ذكرنا مِن كتبه:"الحالم والحالمة"

(5)

، فنرى

(1)

"الأموال"(96) وإسناده صحيح. والزيادة منه وفيها موضع الشاهد. وأخرجه أيضًا يحيى بن آدم في "الخراج"(231) وابن زنجويه (155)، وعبد الرزاق (10096) وابن أبي شيبة (33304) والبيهقي في "الكبير"(9/ 198) من طرق عن نافع به.

(2)

عقب الأثر المذكور.

(3)

في المطبوع: "المذكورين" تحريف.

(4)

تقدَّم تخريجه، والكلام لا يزال لأبي عبيد.

(5)

أخرجه أبو عبيد (67، 68) عن الحكم بن عُتَيبة منقطعًا معضلًا، وعن عروة بن الزبير مرسلًا بإسناد ضعيف فيه ابن لَهِيعة. وقد رواه عبد الرزاق (10099) عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق. وقد خالف معمرًا سفيانُ الثوري وغيرُ واحدٍ، فرووه عن الأعمش ولم يذكروا فيه "حالمة". على أن معمرًا نفسه كان يقول ــ كما عند عبد الرزاق ــ: هذا غلط قوله: "حالمة"، ليس على النساء شيء.

ص: 62

ــ والله أعلم ــ أن المحفوظ المُثبَت من ذلك هو الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون، وبه كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد. فإن يكن الذي فيه ذكر "الحالمة" محفوظًا، فإن وجهه عندي أن يكون ذلك كان في أول الإسلام، إذ كان نساء المشركين وولدانهم يُقتَلون مع رجالهم، وقد كان ذلك ثم نُسِخ.

ثم ذكر

(1)

حديث الصَّعب بن جَثَّامة الذي في "صحيح البخاري"

(2)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريَّةً فأصابتْ من أبناء المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هم من آبائهم".

[قال أبو عبيد:] ثم جاء النهي بعد ذلك. وذكرَ الأحاديث التي فيها النهي عن قتل النساء والذُّرية.

قلت

(3)

: لم يشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والذُّرية في شيء من مغازيه البتةَ. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والذرية في مغازيه قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن، كما في "الصحيحين"

(4)

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدتْ

(1)

"الأموال" برقم (97).

(2)

برقم (3013)، وأخرجه مسلم (1745) أيضًا.

(3)

من هنا تعليق المؤلف على كلام أبي عبيد.

(4)

البخاري (3014، 3015) ومسلم (1744).

ص: 63

امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان.

ورأى الناس في بعض غزواته مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: امرأة قتيل، فقال:"ما كانت هذه لِتقاتلَ"، وكان على المقدّمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال:"قُلْ لخالدٍ لا يقتلنَّ امرأةً ولا عَسِيفًا"

(1)

. وفي لفظ: "لا تقتلوا ذُرّيةً ولا عَسِيفًا"، ذكره أحمد

(2)

.

وفي "سنن أبي داود"

(3)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه أبو داود (2669) ــ واللفظ له ــ والنسائي في "الكبرى"(8571 - 8573) وأبو يعلى (1546) وابن حبان (4789، 4791) والطبراني في "الكبير"(4622) والحاكم (2/ 122) وغيرهم من طرق عن المرقَّع بن صيفي عن جدِّه رَباح بن ربيعٍ رضي الله عنه. وفي بعض الطرق: عن المرقَّع عن حنظلة الكاتب رضي الله عنه، وهو أخو جدِّه رباحٍ، والأول أصح. وإسناده حسن على كلا التقديرين. انظر:"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 314)، و"العلل" لابن أبي حاتم (914)، و"البدر المنير"(9/ 80) و"الصحيحة"(701)، و"أنيس الساري"(3340).

(2)

"مسند أحمد"(15992).

(3)

برقم (2614)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33790) والبيهقي في "الكبير"(9/ 90) و"معرفة السنن"(13/ 253)، كلهم من طريق حسن بن صالح، عن خالد بن الفِزْر، قال: حدثني أنس. وهو حديث حسن، وخالد بن الفِزْر وإن كان ابن معين قال فيه: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: شيخ، إلا أنه لم يأت بما يُنكَر عليه، بل له شواهد تعضده.

ص: 64

قال: "انْطلِقوا باسم الله وعلى ملَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا ولا صغيرًا ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأَصلِحوا وأَحسِنوا، إن الله يُحِبُّ المحسنين".

بل النهي عن قتل النساء وقع يومَ الخندق ويوم خيبر، كما في "المسند"

(1)

من حديث ابن كعب بن مالك عن عمِّه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحُقَيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان.

وفي "المعجم"

(2)

للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأةٍ يومَ الخندق مقتولةٍ، فقال:"من قتلَ هذه؟ "، فقال رجلٌ: أنا يا

(1)

برقم (24009/ 66) من طريق معمر، وأخرجه أحمد أيضًا (24009/ 67) والحميدي (898) وابن أبي شيبة (33787) والبيهقي في "الكبير"(9/ 77، 78) من طريق سفيان بن عُيينة، كلاهما عن الزهري عن ابن كعب بن مالك به، وسُمِّي عند ابن أبي شيبة "عبد الرحمن بن كعب". ورجاله ثقات، إلا أنه قد اختُلف على الزهري في إسناده على ألوان، فأخرجه مالك في "الموطأ"(1290) عن الزهري عن ابنٍ لكعب بن مالك مرسلًا، لم يذكر فيه:"عن عمِّه". وأخرجه الطبراني (19/ 74) من طريق يونس بن يزيد، ومن طريق مالك، كلاهما عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، "عن أبيه". وقد ذكر البخاري في "تاريخه "(5/ 310) الاختلاف عليه ولم يرجِّح شيئًا.

(2)

أي "الكبير"(11/ 388)، وأخرجه عبد الله في زوائد "المسند"(2316) وابن أبي شيبة (38052)، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وحجَّاج فيه لين، وقد روي عند أبي داود في "المراسيل"(333) بإسناد صحيح عن عكرمة مرسلًا، وفيه أن ذلك كان في غزوة الطائف. وغزوة الطائف أيضًا كانت قبل إرسال معاذ إلى اليمن ليأخذ الجزية منهم.

ص: 65

رسول الله، قال:"ولِمَ؟ "، قال نازعَتْنِي سيفي، فسكت.

وهذا كله كان قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن.

فالصواب أن ذكر الحالمة في الحديث غير محفوظٍ، والله أعلم.

فصل

(1)

فإن بذلت المرأة الجزيةَ أُخبِرتْ أنه لا جزية عليها، فإن قالت:"أنا أتبرَّعُ بها" قُبِل منها، ولم تكن جزيةً ولو شرطَتْه على نفسها، ولها الرجوع متى شاءت. وإن بَذلَتْ لتصير إلى دار الإسلام ولا تُسترقَّ مُكِّنَتْ من ذلك بغير شيء، ولكن يُشترط عليها التزامُ أحكام الإسلام، وتُعقَد لها الذمَّة، ولا يؤخذ منها شيء، إلا أن تتبرَّع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها.

وإن أُخِذ منها شيء على غير ذلك رُدَّ إليها، لأنها بذلَتْه معتقدةً أنه عليها وأن دمها لا يُحقَن إلا به، فأشبهَ من أدَّى مالًا إلى من يعتقد أنه له، فتبيَّن أنه ليس له.

ولو حاصر المسلمون حِصنًا ليس فيه إلا نساءٌ فبذلن الجزيةَ لِتُعقَد لهنَّ الذمة عُقِدتْ لهن بغير شيء، وحَرُمَ استرقاقهن. فإن كان معهنَّ في الحصن رجالٌ فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصحَّ، وإن بذلوها عن الجميع جاز، وكان جزيةً على الرجال خاصةً.

(1)

اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "المغني"(13/ 216، 217).

ص: 66

فصل

فإذا بلغ الصبي من أهل الذمة، وأفاق المجنون لم يحتَجْ إلى تجديد عقدٍ وذمةٍ، بل العقد الأول يتناول البالغين ومن سيبلغ من أولادهم أبدًا. وعلى هذا استمرَّتْ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه كلِّهم وعملُ الأئمة

(1)

في جميع الأعصار حتى يومنا هذا، لم يُفرِدوا كلَّ من بلغ بعقد جديدٍ.

وقال الشافعي

(2)

: يخيَّر البالغ والمُفِيق بين التزام العقد وبين أن يُردَّ إلى مأمنِه، فإن اختار الذمةَ عُقِدت له، وإن اختار اللَّحاقَ بمأمنِه أُجيبَ إليه.

وقال القاضي في "الأحكام السلطانية"

(3)

: وقول الجمهور أصحُّ وأولى، فإنه لم يأتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد خلفائه تجديدُ العقد لهؤلاء، ولا يُعرَف أنه عُمِل به في وقتٍ من الأوقات، ولا يُهمِل الأئمة مثلَ هذا الأمر لو كان مشروعًا. ولأنهم دخلوا في العقد تبعًا مع أوليائهم كما كانوا يدخلون في عقد الهدنة تبعًا. ولأنه عقدٌ مع الكفار فلم يحتَجْ إلى استئنافه لهؤلاء كعقد [المؤمنين]

(4)

. وكيف يجوز إلحاقُه بمأمنِه وتسليطُه على محاربتنا بماله ونفسه؟ وأيُّ مصلحةٍ للإسلام في هذا؟ وأيُّ سنةٍ جاءت به؟ وأيُّ إمامٍ عمِلَ به؟

(1)

"وعمل الأئمة" ساقطة من المطبوع.

(2)

انظر: "المغني"(13/ 217).

(3)

لم أجده فيه، فلعله في كتاب آخر له. واعتمد المؤلف على "المغني" في هاتين الفقرتين.

(4)

في الأصل بياض مكان المعكوفتين.

ص: 67

وإذا كان البلوغ والإفاقة في أولِ حَوْلِ قومه أُخِذت منه الجزية في آخره معهم، وإن كان في أثنائه أُخِذ منه في آخره بقِسْطِه، ولم يُترَكْ حتى يَتمَّ حولُه لئلا يُحتاجَ إلى إفراده بحول وضَبْطِ حولِ كلِّ واحدٍ منهم، وذلك يُفضِي إلى أن يصير لكلِّ واحدٍ حولٌ مفردٌ.

وقال أصحاب مالك

(1)

: وإذا بلغ الصبي أُخِذتْ منه عند بلوغه، ولم يُنتظر مرورُ الحول بعد بلوغه.

ووجهُ هذا أن بلوغه بمنزلة حصول العقد مع قومه.

وإذا صُولحوا أُخِذت منهم الجزية في الحال، ثم تُؤخذ منهم بعد ذلك لكل عامٍ، كما فعلَ معاذٌ بأهل اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره حين بعثه إليهم أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ثم استمر ذلك مؤجَّلًا. وهكذا فعل لما صالح أُكيدِرَ دُومةَ، وهكذا فعل خلفاؤه من بعده، كانوا يأخذون الجزية من الكفار حينَ الصلح، ثم يؤجِّلونها كلَّ عامٍ. وهذا الذي أوجب لأبي حنيفة أن قال: تجب بأول الحول

(2)

.

فصل

(3)

ومن كان يُجَنُّ ويُفِيقُ فله ثلاثة أحوالٍ:

أحدها: أن يكون جنونُه غيرَ مضبوطٍ، فهذا يُعتبر أغلبُ أحواله، فيجعل

(1)

"عقد الجواهر الثمينة"(1/ 487).

(2)

كما في "الاختيار لتعليل المختار"(4/ 137).

(3)

انظر: "المغني"(13/ 218).

ص: 68

من أهله.

الثاني: أن يكون ذلك مضبوطًا كيومٍ ويومٍ، وشهرٍ وشهرٍ، ونحوه، ففيه وجهان.

أحدهما: يُعتبر الأغلبُ من حالته، وهذا مذهب أبي حنيفة.

والثاني: تُلفَّق أيَّامُ إفاقتِه، وعلى هذا الوجه ففي مقدار وقت جزيته وجهان.

أحدهما: أنه إذا اجتمع له من أيام إفاقتِه حولٌ أُخِذت منه الجزية.

والثاني: تؤخذ منه في آخر كلِّ حولٍ بقدر إفاقته منه.

وإن كان يُجَنُّ ثلثَ الحول ويُفيق ثُلثَيْه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا. فإن استوتْ إفاقتُه وجنونه ولم يَغلِبْ أحدهما الآخرَ= لُفِّقَتْ إفاقته، [لأنه] تعذَّر

(1)

اعتبارُ الأغلب لعدمه، فتعين التلفيق.

الحال الثالث: أن يُجَنَّ نصفَ حولٍ ثم يُفيق إفاقةً مستمرَّةً، أو يُفيقَ نصفَه ثم يُجَنَّ جنونًا مستمرًّا، فلا جزيةَ عليه في وقت جنونه، وعليه منها بقدر ما أفاق من الحول.

فصل

ولا جزيةَ على فقيرٍ عاجزٍ عن أدائها، هذا قول الجمهور.

(1)

في الأصل: "بقدر"، والتصحيح من "المغني"، ومنه الزيادة.

ص: 69

وللشافعي ثلاثة أقوالٍ

(1)

هذا أحدها.

والثاني: يجب عليه، وعلى هذا فله

(2)

قولان:

أحدهما: أنه يخرج من بلاد الإسلام، أو لا سبيل إلى إقامته في دار الإسلام بغير جزيةٍ.

والثاني: تستقرّ في ذمته، وتُؤخذ منه إذا قدر عليها.

والصحيح أنها لا تجب على عاجزٍ عنها، فإن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعَها، وإنما فرضَها عمر رضي الله عنه على الفقير المعتمل لأنه يتمكَّن من أدائها بالكسب، وقواعد الشريعة كلُّها تقتضي أن لا تجب على عاجزٍ كالزكاة والدية والكفارة والخراج، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، ولا واجبَ مع عَجْزٍ ولا حرامَ مع ضرورةٍ.

فإن قيل: نحن لا نكلِّفه بها في حال إعساره، بل تستقرُّ دينًا في ذمته، فمتى أيسرَ طُولِب بها لما مضى كسائر الديون.

قيل: هذا مفعول

(3)

في ديون الآدميين، وأما حقوق الله تعالى فإنه إنما أوجبها على القادرين دون العاجزين.

فإن قيل: الجزية أجرةٌ عن سكنى الدار، فتستقرُّ في الذمة.

(1)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 300، 313).

(2)

"فله" ساقطة من المطبوع.

(3)

في المطبوع: "معقول" خلاف الأصل.

ص: 70

قيل: انتفاء أحكام الإجارة عنها جميعِها يدلُّ على أنها ليست بأجرةٍ، فلا يُعرَف حكمٌ من أحكام الإجارة في الجزية. وقد تقدَّم أن عمر رضي الله عنه أجرى على السائل الذمي رزْقَه من بيت المال، فكيف يكلَّفُ أداءَ الجزية وهو يُرزَق من بيت مال المسلمين؟!

فصل

(1)

ولا جزيةَ على شيخٍ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى، ولا مريضٍ لا يُرجى بُرؤه بل قد أَيِسَ من صحته، وإن كانوا موسرين. وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه

(2)

؛ لأن هؤلاء لا يُقتَلون ولا يُقاتَلون، فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرِّية.

قال الشافعي في القول الآخر

(3)

: تجب عليهم الجزية بناءً على أنها أجرة السُّكنى، وأنهم رجالٌ بالغون موسرون، فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزيةٍ. وحديثُ معاذٍ يدلُّ عليه بعمومه، وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضًا، فإنه أمر أن تُضْرَب على من جَرتْ عليه المواسي. وإن الجزية إن كانت أجرةً عن سُكنى الدار فظاهرٌ، وإن كانت عقوبةً على الكفر فكذلك أيضًا، فعلى التقديرين: لا يُقَرُّون بغير جزيةٍ.

وأصحاب القول الأول يقولون: لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم

(1)

انظر: "المغني"(13/ 219).

(2)

في المطبوع: "أقواله" خلاف الأصل.

(3)

انظر: "الأم"(5/ 684)، و"الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 226).

ص: 71

يكن عليهم جزيةٌ كالنساء والصبيان، وقد قال أحمد في رواية عنه

(1)

: من أطبق بابَه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه.

فصل

فأما الرُّهبان فإن خالطوا الناسَ في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين، وهم أولى بها من عوامّهم فإنهم رؤوس الكفر، وهم بمنزلة علمائهم وشَمامِسَتِهم

(2)

. وإن انقطعوا في الصوامع والدِّيارات لم يخالطوا الناسَ في معايشهم ومساكنهم، فهل تجب عليهم الجزية؟ فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.

أشهرهما: لا تجب عليه، وهو قول محمد.

والثانية: تجب عليه، وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملًا

(3)

. وقال أحمد

(4)

: تؤخذ من الشمَّاس والراهب وكل من أنبتَ. وهو ظاهر قول الشافعي، وعليه يدلُّ ظاهر عموم القرآن والسنة.

ومن لم يَرَ وجوبها احتجَّ بأنه ليس من أهل القتال. وقد أوصى الصدّيق

(1)

لم أجدها فيما بين يديّ من مصادر.

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى"(28/ 660). والشمامسة جمع شمَّاس: من يقوم بالخدمة الكنسية، ومرتبته دون القسّيس.

(3)

في الأصل: "معتمل". انظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 52)، و"حاشية ابن عابدين"(4/ 199).

(4)

لم أجد هذه الرواية فيما بين يديّ من المصادر.

ص: 72

- رضي الله عنه بأن لا يُتعرَّض لهم، فقال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجَّهه إلى الشام:"لا تَقتُلْ صبيًّا ولا امرأةً ولا هَرِمًا، وستمرُّون على أقوامٍ في الصَّوامع احتبسوا أنفسَهم فيها، فدَعْهم حتى يُميتَهم الله على ضلالتهم، وستجدون أقوامًا فَحَصَوا عن أوساط رؤوسهم فاضرِبْ ما فَحَصوا عنه بالسيف"

(1)

.

فصل

فإن ترهَّب بعد ضرب الجزية عليه وتركَ مخالطة الناس، فهل تسقط الجزية عنه بذلك؟ فلم أر لأصحابنا فيها كلامًا، فيحتمل أن يقال: لا تسقط عنه، وهو الذي ذكره مالك

(2)

؛ لأن ترهُّبه ليس بعذرٍ له في إسقاط ما وجب عليه. قالوا: ولأنه يمكن أن يكون ترهُّبه لتسقط الجزية عنه.

واحتمل أن يقال بسقوطها، فإنه مانعٌ لو قارن العقد منع الجزية، فأشبه العجزَ والجنونَ والصِّغر.

(1)

هذه الوصية رويت مطولة ومختصرةً من طرق عديدة، عامَّتها مراسيل إذ لم يُدرك رواتها أبا بكر، ولكنها تعضد بعضها بعضًا فتجعل أصل الوصية ثابتة. فمن تلك المراسيل: مرسل يحيى بن سعيد الأنصاري عند مالك في "الموطأ"(1292) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير"(9/ 89) ــ وعبد الرزاق (9375) وابن أبي شيبة (33793)، ومرسل الزهري عند عبد الرزاق (9377)، ومرسل صالح بن كيسان عند البيهقي (9/ 90)، ومرسل أبي عمران الجوني عند عبد الرزاق (9378)، ومرسل عبد الله بن عُبيدة الربذي عند سعيد بن منصور (2383).

(2)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 486).

ص: 73

فصل

وأما الفلَّاحون الذين لا يقاتلون والحرَّاثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنهم لم يستثنوهم مع من استُثْنِي، وظاهر كلام أحمد أنه لا جزيةَ عليهم فإنه قال: من أطبقَ بابه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه.

وقال في "المغني"

(1)

: فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يُقتَل، لما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الله في الفلَّاحين الذين لا يَنْصِبون لكم في الحرب

(2)

. وقال الأوزاعي: لا يُقتَل الحرَّاث إذا عُلِم أنه ليس من المقاتلة. وقال الشافعي: يُقتَل إلّا أن يؤدِّي الجزيةَ، لدخوله في عموم المشركين. ولنا

(3)

قول عمر، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد؛ ولأنهم لا يقاتلون فأَشْبَهوا الشيوخَ والرهبان. انتهى كلامه.

وظاهره أنه لا جزيةَ عليهم.

فصل

وأهل خيبر وغيرهم من اليهود في الذمة والجزية سواءٌ، لا يُعلم نزاعٌ بين الفقهاء في ذلك.

(1)

(13/ 180).

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(3: 2/ 239)، والبيهقي (9/ 91).

(3)

في الأصل والمطبوع: "وأما". والتصويب من "المغني".

ص: 74