الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم
أما أموالهم التي يتَّجرون بها في المقام أو يتخذونها للقُنية، فليس عليهم فيها صدقةٌ، فإن الصدقة طُهرةٌ وليسوا من أهلها.
وأما زروعهم وثمارهم التي يستغلُّونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها شيء غير الخراج.
وأما ما استغلُّوه من الأرض العُشْرية فهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، ونحن نذكر مذاهب الناس فيها وأدلة تلك المذاهب.
قال أبو عبيد
(1)
: أما أرض العشر تكون للذمي ففيها أربعة أقوالٍ.
حدثنا محمد عن
(2)
أبي حنيفة قال: إذا اشترى الذمي أرضَ عُشرٍ تحولتْ أرضَ خراجٍ
(3)
.
قال: وقال أبو يوسف: يُضاعَف عليه العشر.
قال أبو عبيد
(4)
: وكذلك كان إسماعيل بن إبراهيم ــ ولم أسمعه منه ــ يحدث به عن خالدٍ الحذّاء وإسماعيل بن مسلم ورجلٍ ثالث ذكره، أنهم
(1)
في "الأموال"(1/ 174).
(2)
في الأصل: "بن" خطأ. ومحمد هو ابن الحسن الشيباني.
(3)
"الأموال"(267). انظر: "الأصل" لمحمد بن الحسن (7/ 466 - 467).
(4)
"الأموال"(1/ 174).
كانوا يأخذون من الذمي بأرض
(1)
البصرة العُشر مضاعفًا.
قال
(2)
: وكان سفيان بن سعيد يقول: عليه العشر على حاله. وبه كان يقول محمد بن الحسن
(3)
.
أما مالك بن أنسٍ فحدثني عنه يحيى بن بُكيرٍ أنه قال: لا شيء عليه فيها؛ لأن الصدقة إنما هي على المسلمين زكاةٌ لأموالهم وطهرةٌ لهم، ولا صدقةَ على المشركين في أرضهم ولا مواشيهم، إنما الجزية على رؤوسهم صَغارًا لهم، وفي أموالهم إذا مروا بها في تجاراتهم.
وروى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عُشرَ عليه ولكن يؤمر ببيعها، لأن في إقراره عليها إبطالًا للصدقة.
وكذلك يروى عن الحسن بن صالحٍ أنه قال: لا عشر عليه ولا خراج إلا إذا اشتراها الذمي من مسلم، وهي أرض عشر، وهذا بمنزلته لو اشترى ماشيته، أولستَ ترى أن الصدقة قد سقطت عنه فيها؟
وقد حُكي عن شَرِيكٍ شيء شبيهٌ بهذا، أنه قال في ذمي استأجر من مسلم أرضَ عُشرٍ، قال: لا شيء على المسلم في أرضه؛ لأن الزرع لغيره، ولا شيء على الذمي [لا] عشرٌ ولا خراجٌ؛ لأن الأرض ليست له. هذا ما حكاه أبو عبيد
(4)
.
(1)
في الأصل: "أرض". والتصويب من "الأموال".
(2)
أي أبو عبيد في المصدر السابق.
(3)
كما في "الأصل"(7/ 466).
(4)
إلى هنا انتهى النقل من "الأموال".
وقال الخلال في "الجامع"
(1)
: باب الذمي يشتري أرض العشر أو أرض الخراج أو يستأجرها. أخبرني محمد بن [أبي] هارون ومحمد بن جعفرٍ قال
(2)
: حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله سئل عن أرض أهل الذمة؟ قال: من الناس من يقول ليس عليهم فيها شيء، ومن الناس من يقول: يُضعَفُ عليهم الخراج، قلت له: فما ترى؟ قال: فيها اختلافٌ.
ثم ذكر من رواية أبي الحارث وصالحٍ ــ واللفظ لصالحٍ ــ أنه قال لأبيه: كم يؤخذ من أهل الذمة مما أخرجت أرضوهم؟ فقال: من الناس من يقول: لا يكون عليهم إلا فيما تجروا، ومن الناس من يقول: يُضاعَف عليهم
(3)
.
أخبرني حربٌ قال: وسألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر؟ قال: لا أعلم عليه شيئًا، إنما الصدقة طهرة
(4)
مال الرجل، وهذا المشرك ليس عليه. وأهل المدينة يقولون في هذا قولًا حسنًا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر. قال: وأهل البصرة يقولون قولا عجبًا، يقولون: يُضاعَف عليهم. قال: ويُعجبني أن يُحال بينه وبين الشراء
(5)
.
(1)
(1/ 154) والزيادة منه. وأقوال أحمد الآتية كلها منه.
(2)
كذا في الأصل و"الجامع".
(3)
المصدر المذكور، برقم (220).
(4)
في "الجامع": "كهيئة" تحريف.
(5)
"الجامع"(221).
أخبرني عِصمة بن عصامٍ قال: حدثنا أبو بكر الصاغاني قال: سمعت أبا عبد الله قال: يُمنع أهل الذمة أن يشتروا من أرض المسلمين. قال أبو عبد الله: وليس في أرض أهل الذمة صدقةٌ، إنما قال الله تعالى:{صَدَقَةٌ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 104]، فأي طُهرةٍ للمشركين!
(1)
.
وقال في رواية محمد بن موسى
(2)
: وأما ما كان للتجارة فمَرُّوا فنصف العشر، وأما أرضوهم فمن الناس من يقول: يُضاعف عليهم العشر، [ومنهم من يقول: على أرضهم الصدقة]، وما أدري ما هو، إنما الصدقة طهرةٌ. قال: وقد روى حماد بن زيدٍ عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه ضاعف عليهم الخراج، وهذا ضعيف
(3)
. وأما أهل الحجاز فحُكي عنهم أنهم كانوا لا يَدَعونهم يشترون أرضهم، ويقولون: في شرائهم ضررٌ على المسلمين.
وقال إبراهيم بن الحارث
(4)
: سئل أبو عبد الله عن أرضٍ يُؤدَّى عنها الخراج أيؤدَّى عنها العشر بعد الخراج؟ قال: نعم، كل مسلم فعليه أن يؤدي العشر بعد الخراج، فأما غير المسلم فلا عشر عليه.
وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه
(5)
[عن أبي عبد الله] وسأله عن
(1)
"الجامع"(222).
(2)
"الجامع"(223). ومنه الزيادة ليستقيم السياق.
(3)
أي: لانقطاعه بين زيدٍ وعمر.
(4)
"الجامع"(224).
(5)
"الجامع"(225). ومنه الزيادة. والنصوص الآتية كلها من هذا المصدر.
الذمي يشتري أرض المسلم، قال: لا أرى
(1)
عليه زكاةً.
قال: وحكوا عن إسماعيل ابن عُلَيَّة أنه ما كان يعرف هذا حتى ولي خالدٌ الحذَّاء، فكان يأخذ من أهل الذمة الخمس، كأنه أضعفَ عليهم.
وحكوا عن سفيان: ليس عليهم شيء.
وحكى لي رجل من أهل المدينة أن أهل المدينة لا يدعون ذميًّا يشتري من أموال المسلمين، يقولون: تذهب الزكاة.
قال أبو عبد الله: لا أرى بأسًا أن يشتري وليس عليه زكاة ماله، ألا ترى أن أموالهم ليس عليها شيء إلا أن يختلفوا بها في بلاد المسلمين، فأما لو كانت في منازلهم لم يكن عليهم فيها شيء؟
وكذلك قال في رواية ابن القاسم
(2)
: إذا اشترى الذمي أرض العشر سقط عنه العشر. قال: وينبغي أن يُمنعوا من شرائها. وقال: أليس يُحكى أن مالكًا يقول: يُمنَعون من ذلك، لأنهم إذا اشتروا ما حولنا ذهبت الزكاة وذهب العشر؟ قال: وهذا في أرض العشر، فأما الخراج فلا.
وقال ابن مُشَيشٍ
(3)
: وسألت أبا عبد الله قلت: المسلم يؤاجر أرض الخراج من الذمي، قال: لا يؤاجر الذمي، وهذا ضررٌ، وأهل المدينة
(1)
في المطبوع: "أرى" بحذف "لا"، فانقلب المعنى.
(2)
"الجامع"(226).
(3)
المصدر نفسه (227).
ــ وذكر مالكًا ــ يقولون: لا نَدَعُ ذميًّا يزرع لأنه يُبطِل العشر، إنما يكون عليه الخراج.
وقال جعفر بن محمد
(1)
: سمعت أبا عبد الله يقول: لا تُكرى أرضُ الخراج من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يؤدُّون الزكاة.
قال أحمد
(2)
: وحدثنا عفَّان قال: حدثني سهيلٌ، ثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال في أهل الذمة إذا اشتروا شيئًا من أرض العشر، قال: فيه الخمس. قال أحمد: أَضعفَه عليهم، وهذا مذهب البصريين.
وقال أحمد
(3)
: ثنا هُشيمٌ، أخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن ميمونٍ، عن أبيه أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مسلمٍ زارعَ ذميًّا، فكتب إليه عمر رحمه الله أن: خُذْ من المسلم ما عليه من الحق في نصيبه، وخُذْ من النصراني ما عليه.
قال الخلال
(4)
: والذي عليه العمل في قول أبي عبد الله أنه ما كان في
(1)
المصدر نفسه (228).
(2)
"الجامع"(230). و"سهيل" هو ابن صَبْرة العجلي، يروي عن الأشعث بن عبد الملك، وروى عنه عفَّان، مستقيم الحديث. "الثقات" لابن حبان (8/ 303). وقع في مطبوعة "الجامع":"سهل بن صُقير"، وهو متأخر، من طبقة عفَّان بل لعله أصغر منه، ولم يُدرك الأشعث، فالظاهر أنه تصحيف.
(3)
"الجامع"(232).
(4)
"الجامع"(1/ 160).
أيديهم من صلحٍ أو خراجٍ فهم على ما صولحوا عليه أو جُعِل على أرضهم من الخراج. وما كان من أرض العشر فيُمنَعون من شرائها؛ لأنهم لا يؤدون العشر، وإنما عليهم الجزية والخراج. وذكر أبو عبد الله في قول أهل المدينة وأهل البصرة: فأما أهل المدينة فيقولون: لا يُترك الذّمي يشتري أرضَ العشر. وأهل البصرة يقولون: يُضاعَف عليهم.
قال
(1)
: ثم رأيت أبا عبد الله بعد ذكره لذلك والاحتجاج لقولهم مال إلى قول أهل البصرة، أنه إذا اشترى الذمي أرضَ العشر يُضاعَف عليه، وهو أحسنَ القولَ أن لا يُمكَّنوا أن يشتروا، فإن اشتروا ضُوعِف عليهم كما تُضاعَف عليهم الزكاة إذا مرُّوا على العاشر، وهي في الأصل ليست عليهم لو لم يمرُّوا
(2)
بها على العاشر واتَّجروا في منازلهم، لم يكن عليهم شيء، فلما مرُّوا جُعِلت عليهم وأُضعِفَ عليهم، وهو بمعنى واحدٍ. وإلَّا فأرض المسلمين هم أحقُّ بها من أهل الذمة. وكذلك ما كان في أيديهم مما صُولحوا عليه فإنما يُضاعَف عليهم العشر؛ لأن في أرضهم العشر، وإنما يُنظر ما يخرج من الأرض، يؤخذ منهم العشر مرتين. هذا معنى ما كان في أيديهم وما اشتروه أيضًا من أرض العشر على هذا النحو مُضاعَفٌ عليهم.
قال
(3)
: وأنا أفسِّر ذلك من قول أبي عبد الله رحمه الله تعالى.
(1)
أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام متصل بما سبق.
(2)
في الأصل: "لم يمرون".
(3)
أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام مستمر.
أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال
(1)
: قال لي أبو عبد الله في أرض أهل الذمة: من الناس من يتأول يأخذ من أرضهم الضعف، قلت: فإذا لم تكن أرضَ خراجٍ فكيف نأخذ منهم الضعف؟ قال: ننظر إلى ما يخرج. قلت: فهذا إذن في الحبّ إذا أخرجت ننظر إلى قدر ما أخرجت، فيؤخذ منه العشر، ونُضعف عليهم مرةً أخرى؟ قال: نعم. ثم قال: ويؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتَّجروا فيها، قُوِّمت ثم أخذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم، فمن الناس من يشبِّه الزرعَ بهذا.
قال عبد الملك: والذي لا أشك فيه من قول أبي عبد الله غير مرةٍ= أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراجٌ، إنما يُنظَر ما أخرجت، يؤخذ منهم العشر مرتين.
قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله: فالذي يشتري أرض العشر ما عليه؟ قال لي: الناس كلهم يختلفون في هذا، منهم من لا يرى عليه شيئًا، ويُشبِّهه بماله ليس عليه فيه زكاةٌ إذا كان مقيمًا بين أظهُرِنا وبماشِيته
(2)
، فيقول: هذه أموالٌ وليس عليه فيها صدقةٌ. ومنهم من يقول: هذه حقوقٌ لقومٍ، ولا يكون شراؤه الأرضَ يذهب بحقوق هؤلاء. والحسن يقول: إذا
(3)
اشتراها ضوعف عليه. قلت: فكيف يُضعف عليه؟ قال: لأن عليه العشر،
(1)
"الجامع"(234).
(2)
في المطبوع: "وبما شئت" تحريف. وفي الطبعة الثانية: "بما يثبته" تحريف أيضًا.
(3)
في المطبوع: "من" خلاف الأصل و"الجامع".
فيؤخذ منه الخمس. قلت: تذهب إلى أن يُضعف عليه فيؤخذ منه الخمس؟ فالتفت إليَّ فقال: نعم، يُضعف عليهم. ثم قال لنا: ويدخل
(1)
على الذي قال: لا نرى بأن يؤخذ= لو أن رجلًا موسرًا منهم عَمَدَ إلى أرضٍ من أرض العشر فاشتراها فلم يؤخذ منه شيء أضرَّ هذا بحقوق هؤلاء.
وقال أبو طالب
(2)
: وسألت أبا عبد الله عن الرجل من أهل الذمة يشتري أرض العشر يكون عليه فيها العشر أو الخراج؟ قال: عمر بن عبد العزيز يضاعف عليه، وقال بعض الناس: إنما الخراج على ما كان في أيديهم، وفي المال العشرُ أو نصفُ العشرِ، قلت: ما تقول أنت؟ قال: قول عمر والحسن، يُضعَّف عليهم، فقلت: فهو أحبُّ إليك، قال: نعم.
قال الخلال
(3)
: فقد بيَّن أبو عبد الله هاهنا مذهبَه، وحسَّن مذهبَ من جعل عليهم الضعف.
قال الخلال
(4)
: وأقوى من قول عمر بن عبد العزيز والحسن في الزيادة عليهم ما روي عن عائذ
(5)
بن عمرٍو، وإن كان أبو عبد الله لم يذكره في هذه الأبواب، فإنه قد رواه وهو صحيح، والعمل عليه مع ما تقدم من قول أبي
(1)
أي يُورَد ويُعترض على هذا القائل بالجملة الشرطية الآتية: "لو أن
…
".
(2)
"الجامع"(235).
(3)
المصدر نفسه (1/ 162).
(4)
المصدر نفسه (1/ 162).
(5)
في المطبوع: "عائد" تصحيف.
عبد الله الاختيار له.
أخبرنا عبد الله قال
(1)
: حدثني أبي، حدثنا وهب بن جريرٍ، حدثنا شعبة عن أبي عمران الجَوني، قال: وسألت عائذ بن عمرٍو المُزَني عن الزيادة على أهل فارس، فلم يرَ به بأسًا وقال: إنما هم خَوَلُكم.
قال الخلال
(2)
: وأخبرنا يعقوب بن سفيان أبو يوسف قال: حدثني محمد بن فُضيلٍ، قال: ثنا سُويدٌ الكلبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن شعبة، عن أبي عمران الجَوني عن عائذ بن عمرٍو فيما أُخِذ عنوةً، قال: زِيدوا عليهم فإنهم خَوَلُكم، انتهى
(3)
.
فهذا مذهب أحمد كما تراه: أنه يجب عليهم عُشرانِ، وعليه أكثر نصوصه واحتجاجه. وكثيرٌ من أصحابه يحكي مذهبه أنه لا عُشرَ عليه، ومنهم من يقول: وعنه عليهم عشرانِ، وإذا كانوا إذا اتجروا في غير بلادهم أُخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلمين مع جواز التجارة لهم، وأنهم لا يُسقِطون بها حقًّا لمسلم، فإذا دخلوا في الأرض العشرية بشراءٍ أو كراءٍ وهم ممنوعون من ذلك، فلَأَن يؤخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلم بطريق الأولى، إذ لو لم يُؤخَذ منهم لتعطَّلتْ حقوقُ أربابِ العُشْر وما عليه من المنقطعين من الجند والفقراء وغيرهم، وفي ذلك فسادٌ عظيمٌ، فإنا لو مكَّناهم
(1)
"الجامع"(236)، وإسناده صحيح إلى عائذٍ رضي الله عنه.
(2)
برقم (237).
(3)
أي انتهى النقل من "الجامع" للخلال.
من الدخول في أرض العشر وهم يعلمون أنه لا عُشْرَ عليهم لتهافتوا وتهالكوا عليها، لكثرة المُغَلِّ وقلَّة المؤونة، فتذهب حقوق المسلمين، وهذا باطلٌ.
وقياس الأرض على المواشي والعُروض قياسٌ فاسدٌ، فإن المواشي والعروض لا تُراد للتأبيد، بل تتناقلها الأيدي، وتختلف عليها المُلَّاك. والأرض إذا صارت لواحدٍ منهم ولا عُشرَ عليه فيها ولا خراج= عَضَّ عليها بالنواجذ، وأمسكَها بكلتا يديه، وعطَّل مصلحتها على أهل العشر. ولهذا لما علم أبو حنيفة فساد هذا قال: إذا اشترى أرض العشر تحولت خراجيةً
(1)
.
ومذهب الشافعي في هذا: أنهم لا يُمكَّنون من شراء أرض العشر واكترائها، وأنه لا شيء عليهم في زروعهم وثمارهم، كما لا زكاةَ عليهم في مواشيهم وعروضهم ونقودهم. وهو اختيار أبي عبيد وطائفةٍ من أصحاب أحمد، وهو المشهور عند أصحاب مالك، ومذهبه الذي نصَّ عليه منعُهم من شراء أرض العشر
(2)
.
فإن قيل: فما مصرفُ ما يؤخذ من أرضهم؟
قيل: مصرفه مصرف ما يؤخذ من التغلبي، وفيه روايتان كما تقدم، أصحهما أنه مصرف الفيء، فكذا هذا.
فإن قيل: فلو باعها لمسلم أو أسلم، فقال الأصحاب: يسقط عنه أحدُ
(1)
انظر: "الأصل"(7/ 466)، و"الاختيار لتعليل المختار"(1/ 114).
(2)
انظر: "المغني"(4/ 202، 203)، و"الإنصاف" للمرداوي (3/ 114، 115)، و"الفروع" مع "تصحيح الفروع"(4/ 110، 111).
العشرين، ويبقى الآخر وهو عشر الزكاة، ولم يفصِّلوا. وقياس المذهب التفصيل، وأنه إن باعها أو أسلم قبل اشتداد الحبّ فكذلك، وإن باعها بعد اشتداده ووجوب العشرين لم يسقط أحدهما، وإن أسلم بعد اشتداد الحبّ وصلاح الثمر سقط عنه العشران. أما عُشر الزكاة فلأنه وقتَ الوجوب لم يكن من أهله، وأما العُشر المضاعَف فإنما وجب بسبب الكفر، فإذا أسلم سقط عنه، كما تسقط الجزية بإسلامه.
فإن قيل: فلو اشترى ذمي أرضًا خراجيةً من تغلبي فما حكمها؟
قيل: قد اختلف في ذلك الأصحابُ على ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه لا شيء عليه في نَبْتها كما لو اشتراها من مسلم.
والثاني: عليه فيها عشر واحدٌ.
والثالث: عليها فيها عشران كما كان على التغلبي، وهو الأقيس والأصح
(1)
.
فإن قيل: فما تقولون لو اشترى ذمي أرضًا من مسلم لا عُشْرَ فيها، مثل أن كانت دورًا أو خانًا ونحو ذلك، فزرعَها فهل يجب عليه
(2)
في زرعها شيء؟
قيل: لا يجب عليه شيء في هذه الصورة، ولا يُمنع من شرائها، فإنه لم
(1)
انظر: "الفروع" مع "تصحيحه"(4/ 113).
(2)
"عليه" ساقطة من المطبوع.
يسقط بذلك حق مسلم من الأرض. وكذلك الحكم لو اشترى أرضًا خراجيةً من ذمي فزرعها لم يكن عليه غير الخراج، كما كانت في يد البائع وكما لو ورثها.
وقال أبو عبد الله بن حمدان في "رعايته": وإن اشترى ذميٌّ أرضًا خراجيةً أو أرضَ تغلبيًّ جاز، ولا شيء عليه في نَبْتها. وقيل: بل عُشرانِ، وقيل: بل عشر في نبت الخراجية، لا فيما اشتراه من تغلبي.
قلت: أما شراؤه أرضَ التغلبي فإنه يتوجه أن يجب عليه عشران، كما كان يجب على التغلبي، ولا يسقط بشرائه حق المسلمين الذي كان على أرض التغلبي، بل إذا ضُوعِف عليه العشر بشرائها من مسلم حيث لم يكن واجبًا، فَلَأن يؤخذ منه ما كان واجبًا على التغلبي أولى وأحرى.
وأما شراؤه للأرض الخراجية التي لا عشر عليها فهذا لا يتوجه فيه نزاعٌ، ولا نقبل ما ذكره من الأقوال، ولاسيما إذا اشتراها من ذمي، كما يدخل في عموم كلامه، فهذا لم يقل أحدٌ: إنّ عليه فيها عشرين ولا عشرًا
(1)
.
فإن قيل: يُحمل كلامه على ما إذا اشتراها من مسلم.
قيل: إن كانت عُشريةً ــ مع كونها خراجيةً ــ فقد تقدم حكمها، وإن لم تكن عشريةً بأن كانت دارًا أو خانًا جاز له شراؤها، ولا عُشرَ عليه في زرعها اتفاقًا كما تقدم، بل هذا من سوء التفريع والتصرف، والله أعلم.
(1)
في الأصل: "عشران ولا عشر" مرفوعين.
فإن قيل: فما تقولون في إجارة الأرض العشرية للذمي؟
قيل: قد نصَّ أحمد رحمه الله تعالى على صحة الإجارة مع الكراهة
(1)
. والفرق بينها وبين البيع أن البيع يُراد للدوام بخلاف الإجارة، والحكم في زرعه كالحكم في زرع ما اشتراه. وقيل: لا شيء عليه هاهنا وإن أوجبنا عليه العُشرينِ في صورة الشراء، ويكون كما لو اشترى الزرع وحده. وهذا ليس بصحيح، فإن الموجب لمضاعفة العشر عليه في صورة الشراء هو بعينه موجودٌ في صورة الإجارة.
وأما شراؤه الزرعَ، فإن اشتراه قبل اشتداد حبِّه لم يصح البيع، وإن اشتراه بعد اشتداد حبِّه فزكاته على البائع.
فإن قيل: فلو اشتراه مع الأرض قبل اشتداد الحبّ.
قيل: حكمه حكم ما زرعه بنفسه.
فصل
وأما أموالهم التي يتَّجرون بها من بلدٍ إلى بلدٍ فإنه يؤخذ منهم نصفُ عُشرِها إن كانوا ذمةً، وعُشرها إن كانوا أهلَ هدنةٍ.
وهذه مسألة تلقَّاها الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونحن نذكر أصلها وتفاصيلها
(2)
، وكيف كان ابتداء أمرها، واختلاف الفقهاء في ما
(1)
انظر: "الفروع"(4/ 116، 117).
(2)
"وتفاصيلها" ساقطة من المطبوع.
اختلفوا فيه من أحكامها، بحول الله وقوته وتأييده، بعدَ أن نذكر مقدمةً في المُكوس وتحريمها والتغليظ في أمرها، وتحريمِ الجنة على صاحبها، وأمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وأن قياسها على ما وضعه عمر رضي الله عنه على أهل الذمة من الخراج أو العشر كقياس أهل الشرك الذين قاسوا الربا على البيع، والميتةَ على المذكِّى.
قال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عبد الرحمن بن شِماسة التُّجيبي، عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يدخلُ الجنةَ صاحبُ مَكْسٍ".
وقال أبو عبيد
(2)
: حدثنا يحيى بن بُكَيرٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير
(3)
قال: سمعت رُوَيفع بن ثابتٍ يقول: سمعت رسول
(1)
في "مسنده"(17354) عن يزيد بن هارون به، ولكن سياق إسناده ومتنه يوافق سياق أبي عبيد في "الأموال"(1449)، فإنه رواه عن يزيد أيضًا. والحديث أخرجه أيضًا أبو داود (2937) والدارمي (1708) وابن خزيمة (2333) والحاكم (1/ 403) من طرق عن محمد بن إسحاق به. وإسناده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ولكن يشهد له الحديث الآتي.
(2)
في "الأموال"(1450)، وأخرجه أحمد (17001) والطبراني في "الكبير"(5/ 29) من طريقين آخرين عن ابن لَهِيعة به. وابن لهيعة ضعيف، إلا أن رواية أحمد من طريق قتيبة عنه، وحديث العبادلة وقتيبة عنه أعدل من حديث غيرهم، فهو على أقل تقدير حسن في الشواهد.
(3)
في المطبوع: "أبي الحسين" تحريف.
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ صاحبَ المَكْس في النار". قال: يعني العاشر.
حدثنا الهيثم بن جَميلٍ، عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن طاوسٍ، عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: إن صاحب المكس لا يُسأل عن شيء، يُؤخذ كما هو فيُرمى به في النار
(1)
.
حدثنا حسان بن عبد الله، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن: ضَعْ عن الناس الفديةَ، وضَعْ عن الناس المائدة، وضَعْ عن الناس المكْسَ، وليس بالمكس ولكنه البَخْس الذي قال الله تعالى فيه
(2)
: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84]، فمن جاءك بصدقةٍ فاقبلْها منه، ومن لم يأتِك بها فالله حسيبُه
(3)
.
حدثنا نعيمٌ، عن ضَمْرة، عن كُريز
(4)
بن سليمان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوفٍ
(5)
القاري أن: اركَبْ إلى البيت الذي برَفَحٍ الذي يقال له بيت المَكْس، فاهدِمْه، ثم احمِلْه إلى البحر، فانسِفْه فيه
(1)
"الأموال"(1451)، وإسناده لا بأس به، وهو موقوف.
(2)
"فيه" ساقطة من المطبوع.
(3)
"الأموال"(1453).
(4)
في الأصل: "جرير". والتصويب من "الأموال".
(5)
في الأصل: "عون". والتصويب من "الأموال". وانظر: "التاريخ الكبير"(5/ 156)، و"الجرح والتعديل"(5/ 125).
نَسْفًا
(1)
.
قال أبو عبيد
(2)
: قد رأيته بين مصر والرملة.
حدثنا عثمان بن صالحٍ، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان، حدَّثه عن عبد الرحمن بن حسَّان، عن رجل من جُذامٍ، عن مالك بن عَتاهية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي صاحبَ عُشُورٍ فليضرِبْ عُنقَه"
(3)
.
حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان عن عبد الرحمن بن حسان قال: أخبرني رجل من جُذامٍ [قال] سمع فلانَ بن عَتاهية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا لقيتم عاشرًا فاقتلوه"، يعني بذلك الصدقةَ يأخذها على غير حقِّها
(4)
.
حدثنا حجاجٌ عن ابن جريجٍ
(5)
قال: أخبرني عمرو بن دينارٍ، قال:
(1)
"الأموال"(1454).
(2)
في المصدر السابق.
(3)
"الأموال"(1455)، وأخرجه أيضًا أحمد (18057) والروياني (1457) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(6014، 6015) من طرق عن ابن لهيعة به. وإسناده واهٍ، لضعف ابن لهيعة، وجهالة مخيِّس، وإبهام شيخ شيخه من جُذام. وقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"(1594)، وهو بـ"العلل المتناهية" أشبه.
(4)
"الأموال"(1456).
(5)
في الأصل: "ابن جرير". والتصويب من "الأموال".
أخبرني مسلم بن شَكَرَة أنه سأل ابن عمر: أعَلِمتَ أن عمر أخذ من المسلمين العُشر؟ قال: لا أعلمه
(1)
.
حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الله بن خالدٍ العَبْسي، عن عبد الرحمن بن مَعْقِلٍ
(2)
قال: وسألتُ زياد بن حُدَيرٍ مَن كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا. قلت: فمن
(3)
كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم
(4)
.
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن مسروقٍ أنه قال: والله ما علمتُ عملًا أخوفَ عندي أن يُدخِلني الله النارَ من عملكم هذا، وما تراني
(5)
أن أكون ظلمتُ فيه مسلمًا أو معاهدًا دينارًا ولا درهمًا، ولكني لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يَسُنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر. قالوا: فما حملك على أن دخلتَ فيه؟ قال: لم يَدَعْني زيادٌ ولا شُريحٌ ولا الشيطان
(6)
(1)
"الأموال"(1457)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7248) عن ابن جريج به.
(2)
في الأصل: "مغفل" تصحيف. والتصويب من "الأموال".
(3)
في الأصل: "من".
(4)
"الأموال"(1459)، أخرجه أيضًا يحيى في "الخراج"(640) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وعبد الرزاق (10124) كلاهما عن سفيان به، إلا أن عندهما "عبد الله بن معقل"، والخطب يسير فكلا ابني معقل بن مقرِّن المزني ثقتان.
(5)
كذا في الأصل. وفي "الأموال": "وما بي".
(6)
في الأصل: "السلطان". والتصويب من "الأموال".
حتى دخلتُ فيه
(1)
.
قلت: هو
(2)
سلسلةٌ كان يُعتَرض بها على النهر تَمنع السُّفُنَ من المضي حتى تُؤخَذ منهم الصدقة، وكان مكانها يُسمَّى "السلسلة". وأقام بها مسروقٌ زمانًا يقصر الصلاة، كان عاملًا لزيادٍ، وكان أبو وائلٍ معه، قال: فما رأيتُ أميرًا قطُّ كان أعفَّ منه، ما كان يصيب شيئًا إلا ماء دجلة
(3)
.
وقيل للشعبي: كيف خرج مسروقٌ من عمله؟ قال: ألم تروا إلى الثوب يُبعث به إلى القصَّار فيُجِيد غَسْلَه؟ فكذلك خرج من عمله
(4)
.
قال أبو عبيد
(5)
: وكان المكس له أصلٌ في الجاهلية، يفعله ملوك العرب والعجم جميعًا، فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مرُّوا بها عليهم. يبيِّن ذلك ما في كتب النبي صلى الله عليه وسلم لمن كتب من أهل الأمصار، مثل ثقيفٍ والبحرين ودُومة الجندل وغيرهم ممن أسلم: أنهم لا يُحشَرون ولا
(1)
"الأموال"(1460)، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 204) من طريق أبي عوانة عن الأعمش به. وأخرجه أحمد في "الزهد"(ص 421) من طريق سفيان الثوري يرسله عن شقيق، والظاهر أن بينهما الأعمش. وزياد هو ابن أبيه، عامل معاوية على الكوفة.
(2)
الإشارة بالضمير إلى الحبل المذكور في الأثر.
(3)
أسنده أبو عُبيد في "الأموال"(1462) وأبو القاسم البغوي في "مسند علي بن الجعد"(440). وفي الأصل: "ما دخله". والتصويب من "الأموال".
(4)
أسنده أبو عُبيد في "الأموال"(1461).
(5)
"الأموال"(1/ 201).
يُعْشَرون، فعلمنا بهذا أنه كان من سنة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرةٍ، فأبطل الله تعالى ذلك برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة
(1)
، فمن أخذها منهم على وجهها فليس بعاشرٍ، لأنه لم يأخذ العُشر، إنما أخذ رُبعه. وهو مفسَّرٌ في الحديث الذي يحدِّثونه عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن جدِّه ــ أبي أمية
(2)
ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى"
(3)
.
قلت: وفي "المسند" و"سنن أبي داود"
(4)
عن رجل من بني تغلب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى".
(1)
بعدها في "الأموال": "بربع العشر من كل مئتي درهم خمسة". وليست في الأصل.
(2)
كذا في الأصل، وفي هامشه بعلامة خ:"أبي أبيه". وفي مصادر التخريج اختلاف واضطراب في ذكره. وفي "الأموال": "عن جده أبي أمه".
(3)
أخرجه أحمد (15895 - 15897، 23483) وأبو داود (3046 - 3049) وابن أبي شيبة (10677، 10678) والطحاوي في "معاني الآثار"(2/ 31) والبيهقي (9/ 199) وغيرهم من طرق عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي، عن جده أبي أمِّه، أو عن جده عن أبيه، أو عن خاله، أو عن أبي أمية رجل من بني تغلب
…
إلخ تلك الوجوه التي اضطرب عليها الحديث. قال البخاري كما في "العلل الكبير" للترمذي (ص 103): هذا حديث فيه اضطراب ولا يصحُّ. وانظر: "التاريخ الكبير"(3/ 60)، و"ضعيف سنن أبي داود ــ الأم"(2/ 477).
(4)
"مسند أحمد"(15897) ــ واللفظ له ــ و"سنن أبي داود"(3049).
قال أبو عبيد
(1)
: فالعاشر الذي يأخذ الصدقة بغير حقّها، كما جاء في الحديث مرفوعًا وقد تقدم. وكذلك وجه حديث ابن عمر: أن عمر لم يأخذ العشور، إنما أراد هذا ولم يُرِد الزكاة. وقد كان عمر وغيره من الخلفاء يأخذونها عند الأعطية. وكذلك حديث زياد بن حُدَيرٍ: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا، أراد: أنا كنا نأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر.
قال
(2)
: وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك: أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة، ومن أهل الحرب العشر تامًّا؛ لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم، فكان سبيله في هذين الصنفين بيِّنًا واضحًا.
قال
(3)
: وكان الذي يُشكِل عليَّ وجهُه أخْذَه من أهل الذمة، فجعلتُ أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة، ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا، فلم أدْرِ ما هو، حتى تدبَّرتُ فوجدتُه إنما صالح على ذلك صلحًا سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين.
حدثنا الأنصاري، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي مِجْلَزٍ قال: بعث عُمَرعمَّارًا وابن مسعودٍ وعثمان بن حُنَيفٍ إلى الكوفة، ثم ذكر
(1)
"الأموال"(1/ 201).
(2)
"الأموال"(1/ 202).
( 3) المصدر نفسه (1/ 203). والكلام مستمر.
حديثًا فيه طولٌ قال: فمسح عثمان الأرض، فوضع عليها الخراج، وجعل في أموال أهل الذمة التي يختلفون بها: من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وجعل على رؤوسهم ــ وعطَّل من ذلك النساء والصبيان ــ أربعةً وعشرين، وكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه
(1)
.
قال أبو عبيد
(2)
: فأرى الأخذ من تجّارهم في أصل الصلح، فهو الآن حق المسلمين عليهم. وكذلك كان مالك بن أنسٍ يقول، حدثنيه عنه يحيى بن بُكَيرٍ، قال
(3)
: إنما صولحوا على أن يَقَرُّوا ببلادهم، فإذا مرُّوا بها للتجارات أُخِذ منهم كلما مرُّوا.
حدثنا معاذ بن معاذٍ، عن ابن عونٍ، عن أنس بن سيرين قال: بعث إليَّ أنس بن مالك رضي الله عنه فأبطأتُ عليه، ثم بعث إليَّ فأتيته، فقال: إن كنتُ لأرى أني لو أمرتُك أن تَعَضَّ على حجر كذا وكذا ابتغاءَ مرضاتي لفعلتَ؛ اخترتُ لك عين عملي
(4)
فكرهتَه؟ إني أكتب لك سنة عمر رضي الله عنه. قلت: اكتب لي سنة عمر، فكتب: يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهم،
(1)
"الأموال"(1472)، وقد تقدَّم (ص 150) بلفظ أطول.
(2)
المصدر نفسه (1/ 203).
(3)
انظر: "الموطأ"(1/ 377).
(4)
في الأصل: "غير عملي". والتصويب من "الأموال". وكان أنس بن مالك تولَّى الصدقات والعشور لعمر، ثم لمَّا ولي أنس أعمال أهل البصرة لابن الزبير استعمل أنس بن سيرين على العشور.
ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وممن لا ذمَّة له من كل عشرة دراهم درهمٌ، قلت: ومن لا ذمة له؟ قال: الروم، كانوا يقدمون الشام
(1)
.
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن حُدَيرٍ قال: استعملني عمر على العُشر، وأمرني أن آخذ من تجّار أهل الحرب العشر، ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين ربع العشر
(2)
.
وقال مالك عن ابن شهابٍ عن السائب بن يزيد قال: كنت عاملًا على سوق المدينة في زمن عمر، فكنا نأخذ من النَّبط العُشر
(3)
.
وقال مالك عن ابن شهابٍ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: كان عمر يأخذ من النَّبط من الزيت والحنطة نصف العشر؛ لكي يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القُطْنية العُشرَ
(4)
.
ولهذا ذهب مالك إليه اتباعًا لعمر.
(1)
"الأموال"(1474)، وأخرجه أبو يوسف في "الخراج"(308) وعبد الرزاق (7072، 10112) وابن سعد في "الطبقات"(5/ 334) والطحاوي في "معاني الآثار"(2/ 32) والبيهقي (9/ 210) من طرق عن أنس بن سيرين.
(2)
"الأموال"(1475)، وقد تقدَّم (ص 111، 215) بنحوه.
(3)
"الأموال"(1478) عن إسحاق بن عيسى عن مالك به. وهو في "الموطأ"(764).
(4)
"الأموال"(1479) من طرق عن مالك به. وهو في "الموطأ"(763). والقطنية: ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويُطبخ، مثل العدس.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمصر: من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من أموالهم من كل عشرين دينارًا دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثُلُثَ دينارٍ فلا تأخذ منها شيئًا، واكتبْ لهم بما تأخذ كتابًا إلى مثله من الحول
(1)
.
وقال عبد الله بن محمد بن زياد بن حُدَيرٍ: كنت مع جدي زياد بن حُدَيرٍ على العشور، فمرَّ نصراني بفرسٍ فقوَّموه عشرين ألفًا، فقال: إن شئتَ أعطيتنا أَلْفَين
(2)
وأخذتَ الفرس، وإن شئت أعطيناك ثمانية عشر ألفًا
(3)
.
قال أبو عبيد
(4)
: وإنما فعل عمر في العشر ما فعل لمصالحته إياهم عليه، ولم يكن ذلك بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الذين صالحهم لم يكن شَرَطَ عليهم منه شيئًا، وكذلك دهر أبي بكرٍ، وإنما فُتِحت بلاد العجم في زمن عمر، فلذلك كان الذي كان.
(1)
"الأموال"(1480) من طريق مالك ــ وهو في "الموطأ"(690) ــ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن رُزيق بن حيَّان (عامل عمر على مصر) به. وأخرجه أبو عبيد (1481) وعبد الرزاق (19278) وابن أبي شيبة (9971) من طرق أخرى عن يحيى بن سعيد به.
(2)
في المطبوع: "العين"، تحريف.
(3)
"الأموال"(1482)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (10685) وابن زنجويه (116)، من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن زياد به.
(4)
"الأموال"(1/ 206).
قال الشعبي: أول من وضع العشر في الإسلام عمر رضي الله عنه
(1)
.
قال أبو عبيد
(2)
: وكان ابن شهابٍ يتأوَّل على عمر فيه شيئًا غيرُه أحبُّ إلينا منه.
حدثنا إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنسٍ رحمه الله تعالى قال: سألتُ ابن شهابٍ لِمَ أخذ عمر العشر من أهل الذمة؟ فقال: كان يؤخذ منهم في الجاهلية فأقرَّهم عمر على ذلك
(3)
.
قال أبو عبيد
(4)
: والوجه الأول الذي ذكرناه من الصلح أشبهُ بعمر وأولى به، وبه كان يقول مالك بن أنسٍ نفسه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن هشامٍ عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك على العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عُمَّالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر
(5)
.
(1)
"الأموال"(1483)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (36950).
(2)
"الأموال"(1/ 206).
(3)
"الأموال"(1484)، وهو في "الموطأ"(765).
(4)
"الأموال"(1/ 206).
(5)
"الجامع" للخلال (1/ 150)، وأخرجه البيهقي (9/ 209) من طريق آخر عن سفيان بن عُيينة به. وقد روي نحوه من طرق أخرى عن أنس بن سيرين، وقد سبق بعضها (ص 219).
فصل
إذا عرف هذا فاختلف الأئمة في ذلك: هل يؤخذ من الذمي والحربي أم يختص الأخذ بالحربي؟
فقال الشافعي
(1)
رحمه الله تعالى: لا يؤخذ من الذمي شيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام كلها غير الحجاز، فإن الجزية أثبتتْ له الأمانَ العام على نفسه وأهله وماله في المقام والسفر. فإن دخل إلى أرض الحجاز فيُنظر في حاله: فإن كان دخوله لرسالةٍ أو نقل مِيْرةٍ
(2)
أذن له [الإمام] بغير شيء، وإن كان لتجارةٍ لا حاجةَ بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضًا بحسب ما يراه، والأولى أن يشترط عليه نصف العشر؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة.
وأما الحربي فإن دخل إلينا لتجارةٍ لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوضٍ يشرطه، ومهما شرط جاز، ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر. وإن أذن مطلقًا من غير شرطٍ لم يؤخذ منه شيء، لأنه أمانٌ من غير شرطٍ، فهو كالهدنة.
قال: ويحتمل أن يجب عليه العشر؛ لأن عمر رضي الله عنه أخذه، هذا نصه
(3)
.
(1)
انظر: "المغني"(13/ 229).
(2)
الميرة: الطعام.
(3)
لم أجد هذا النصّ في كتاب "الأم" وغيره. وانظر معناه في "الأم"(5/ 492).
وأما أصحابه فتصرفوا في مذهبه وقالوا
(1)
: أما المعاهد فإذا دخل بلاد الإسلام تاجرًا أخذ منه عشر ماله، وإن دخل بلاد الإسلام من غير تجارةٍ بأن أمَّنه مسلم، فإن دخل غير الحجاز لم يطالب بشيء وإن دخل الحجاز بأمان مسلم فهل يطالب وإن لم يكن تاجرًا فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
قالوا: وهل يفتقر أخذ العشر إلى شرط الأمام أو يكفي فيه شرط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على وجهين.
قالوا: وإذا رأى الإمام أن يحطَّ من العشر في صنفٍ تدعو الحاجة إليه جاز، وإن رأى حط العشر بالكلية لتتسع المكاسب، فهل له ذلك؟ على وجهين: أحدهما: يجوز مراعاةً للمصلحة. والثاني ــ وهو الأصح ــ: لا يجوز، بل لا بد من أخذ شيء وإن قل.
وهل له أن يزيد على العشر إذا رأى فيه المصلحة؟ فيه وجهان.
قالوا: وإذا أخذ منه العشر في مالٍ ثم عاد به في تلك السنة لم يكرر عليه الأخذ؛ لأن ذلك بمثابة الجزية على رقبته، فإن وافى بمالٍ آخر غيره في ذلك العام أخذنا عشره.
قالوا: فإن كان المال المتردد به إلى الحجاز فهل يؤخذ منه كرَّةً ثانيةً في العام؟ فيه وجهان. فهذا تحصيل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
(1)
انظر: "نهاية المطلب"(18/ 66 - 68)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 76، 77)، و"روضة الطالبين"(10/ 319، 320).
وأما مذهب الإمام مالك
(1)
رضي الله عنه فيؤخذ العشر عنده من بضائع تجَّار [أهل] الحرب.
وأما الذمي فإن اتجر في بلده لم يُطالَب بشيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام أُخذ منه العشر كلما دخل ولو مرارًا في السنة، من المال الصامت والرقيق والطعام والفاكهة وغيرها مما يتجر فيه.
ثم اختلف قول ابن القاسم وقول عبد الملك بن حبيبٍ في المأخوذ: هل هو عُشْر ما يدخل به؟ وهو رأي ابن حبيبٍ، أو عشر ما يعوضه؟ وهو رأي ابن القاسم.
قالوا: وسبب الاختلاف: هل المأخوذ منهم لحقِّ الوصول إلى البلد الثاني أو لحقِّ الانتفاع فيه؟
قالوا: ويتخرج على هذا فرعان:
أحدهما: لو دخلوا ببضاعةٍ أو عينٍ ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا ويشتروا، فابن حبيبٍ يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه؛ لأنهم لم ينتفعوا فيه.
الفرع الثاني: لو دخلوا بإماءٍ فابن حبيبٍ يمنعهم من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهن
(2)
، إذ لا يرى الشركة.
(1)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 489 - 491) والزيادة منه.
(2)
"لأنه يرى
…
وبينهن" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل ومصدر المؤلف (عقد الجواهر).
ولو باعوا في بلدٍ ثم اشتروا فيه لم يؤخذ منهم إلا عشر واحدٌ، ولو باعوا في أفقٍ ثم اشتروا بالثمن في أفقٍ آخر أُخِذ منهم عُشرانِ.
قالوا: ويُخفَّف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصةً، فيؤخذ منهم نصف العشر. هذا المشهور عن مالك. وروى ابن نافعٍ عنه أنه يؤخذ منهم العشر كاملًا، كما لو حملوا ذلك إلى غيرهما أو حملوا غيرهما إليهما.
وإذا دخل الحربي بأمانٍ مطلقٍ أُخذ منه العشر، لا يزاد عليه، وتجوز مُشارطتُه على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول.
ولو تَجَر بالخمر والخنزير وما يحرم علينا، فروى ابن نافعٍ عن مالك: يتركونه حتى يبيعوه
(1)
، فيؤخذ منهم عُشر الثمن. فإن خِيفَ من خيانتهم في ذلك جُعل معهم أمينٌ.
قال ابن نافعٍ: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها.
وفي "الواضحة" لعبد الملك بن حبيبٍ: إذا نزل الحربي بخمرٍ أو خنزيرٍ أراق الإمام الخمرَ وقتل الخنزير، ولم يُنزِلهم مع بقائهما.
قال سحنونٌ: وإذا اشترى الذمي فأُخِذ منه العشر، ثم استُحِقَّ ما بيده أو ردّه بعيبٍ= رجع بالعشر.
(1)
في الأصل: "حتى يبيعونه". والمثبت من "عقد الجواهر".
قال أشهب: ولو ثبت أن على الذمي دَينًا لمسلم لم يؤخذ منه عُشر، وإن ادَّعاه لم يُصدَّق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي.
هذا تفصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى.
فصل
وأما تفصيل مذهب أحمد
(1)
، فقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من أين أخذوا [من] أموال أهل الذمة ــ إذا تَجَروا فيها ــ الضِّعفَ؟ على أيِّ سنةٍ هو؟ قال: لا أدري، إلا أنه فِعْل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم قال: تُؤخذ منا زكاتنا ربع العشر، ويُضعَّف عليهم فيُؤخذ منهم نصف العشر.
قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وإن اتَّجروا ــ يعني أهل الذمة ــ بأموالهم بين أظهرنا هل لنا فيها شيء؟ فأملى عليَّ: ليس فيها شيء، وإنما يؤخذ منهم إذا مرُّوا بتجارتهم علينا.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: تجب على اليهودي والنصراني الزكاة في أموالهم؟ قال: لا تجب عليهم، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر فإن كان أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر، من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقصت من العشرين فليس عليه فيها شيء، ولا تؤخذ منهم إلا مرةً واحدةً، ومن المسلم من كل أربعين دينارًا دينارٌ.
قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وما عليهم ــ يعني أهل الذمة ــ
(1)
انظر: "الجامع" للخلال (1/ 134 - 137). والروايات الآتية منه.
في أموالهم التي يتجرون فيها إذا مرُّوا بها علينا؟ فأملى عليَّ: السنة مرةً. كذا يروي إبراهيم النخعي عن عمر: أن لا يأخذ في السنة إلا مرةً.
قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: أهل الذمة إذا تَجَروا من بلدٍ إلى بلدٍ أُخِذ منهم الجزية ونصف العشر، فإذا كانوا في المدينة لم يؤخذ منهم إلا الجزية، وعلى المسلمين ربع العشر، من كل أربعين درهمًا درهمٌ.
وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن النصراني واليهودي إذا مرُّوا على العاشر كم يأخذ منهم
(1)
؟ قال: يؤخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارًا دينارٌ، قلت: فإن كان مع الذمي عشرة دنانير؟ قال: يؤخذ منه نصف دينارٍ، قلت: فإن كان أقلَّ من عشرة دنانير؟ قال: إذا نقصتْ لم يؤخذ منه شيء؟
قال أبو الحارث: وقلت لأبي عبد الله: إذا مرَّ أهل الذمة بالعاشر مرتين يؤخذ منهم العشر كلَّما مرُّوا؟ قال: لا يُؤخذ منهم في السنة إلا مرةً واحدةً وإن مرُّوا بالعاشر مرارًا. قلت: فما أُخذ من أهل الذمة فهي زكاة أموالهم؟ قال: ليس على أهل الذمة زكاةٌ، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر عشَرَهم في السنة مرةً واحدةً.
وقال سندي: قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعاشر: يأخذ منه نصف العشر، فقيل: في كم يؤخذ منه؟ قال: إذا كان معه نصف ما يجب على المسلمين فيه، قال: ولا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، هكذا هو في الحديث.
(1)
في المطبوع: "إذا مرَّا
…
يأخذ منهما" خلاف الأصل و"الجامع" للخلال.
وقال الميموني: قال أبو عبد الله: يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا تَجَروا فيها قُوِّمَتْ عليهم، ثم أُخِذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم لقول عمر رضي الله عنه: أَضْعِفْها عليهم، فمن الناس من شبَّه الزرع بهذا.
وقال إسحاق بن منصورٍ: قلت لأبي عبد الله: قول ابن عباس رضي الله عنهما: في أموال أهل الذمة العفو، فقال: عمر رضي الله عنه جعل عليهم ما بلغك، كأنه لم يَرَ ما قال ابن عباس.
وروى الإمام أحمد
(1)
بإسناده قال: جاء شيخٌ نصراني إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن عاملك عشَرَني في السنة مرتين، قال: ومن أنت؟ قال: هو
(2)
الشيخ النصراني، قال عمر رضي الله عنه: أنا الشيخ الحنيفي
(3)
. ثم كتب إلى عامله: أن لا تعشروا في السنة إلا مرةً. وأن
(4)
الجزية والزكاة إنما تؤخذ في العام مرةً.
(1)
"الجامع"(1/ 148) من طريق صالح بن الإمام أحمد عن أبيه بإسناده عن إبراهيم النخعي مرسلًا، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (10692). وقد وصله أبو يوسف في "الخراج"(303) ويحيى بن آدم (211) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وأبو عُبيد في "الأموال"(1492) من طرق عن زياد بن حُدير ــ وهو العامل المشكو منه ــ عن عمر.
(2)
كذا، ولفظ أحمد وغيره:"أنا"، ولكن لقبح الكلمة حوَّله المؤلف إلى الغيبة. ومثله حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنه لمَّا حضرت أبا طالب الوفاةُ كان آخر ما كلّمهم:"هو على ملّة عبد المطلب". أخرجه البخاري (1360) ومسلم (24).
(3)
كذا في الأصل. وفي "الجامع" وغيره من المصادر: "الحنيف".
(4)
كذا في الأصل. وفي "المغني"(13/ 231): "ولأن"، فهو تعليل آخر، وليس جزءًا من مكتوب عمر.
فصل
(1)
ومتى أُخذ منهم ذلك مرةً كُتِب لهم حجةٌ بأدائهم، لتكون وثيقةً لهم، وحجةً على من يمرُّون به فلا يَعْشِرهم مرةً ثانيةً، وإن مرَّ ثانيةً
(2)
بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة وحدها؛ لأنها لم تُعشر.
ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة شيء، فلو مرَّ بالعاشر منهم منتقلٌ ومعه أموالُه أو سائمةٌ لم يؤخذ منه شيء، نص عليه أحمد
(3)
.
وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها.
واختلفت الرواية
(4)
في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر، فروى عنه صالحٌ: من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقص من العشرين فليس عليه شيء؛ لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاةٌ على المسلم ولا على التغلبي، فلا يجب فيه شيء على الذمي، كما فيما دون العشرة.
وروي عنه: أنَّ في العشرة نصفَ مثقالٍ، وليس فيما دونها شيء كما تقدم لفظه في رواية أبي الحارث؛ لأن العشرة مالٌ يبلغ واجبه نصف دينارٍ، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم، ولأنه مالٌ يُعْشَر فوجب في العشرة منه كمالِ الحربي، هذا مذهبه المنصوص عنه.
(1)
انظر: "المغني"(13/ 231).
(2)
في الأصل: "وان من يأتيه" تحريف. والتصويب من "المغني".
(3)
كما في "المغني"(13/ 231).
(4)
انظر المصدر السابق.
وخالف ابن حامدٍ نصَّه فقال
(1)
: يؤخذ عُشر الحربي ونصف عُشر الذمي مما قلَّ أو كثر. لأنّ عمر قال
(2)
: "خذ من كل عشرين درهمًا درهمًا"، ولأنه حقٌّ عليه، فواجبٌ في قليل المال وكثيره، كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها.
وهذا ضعيفٌ جدًّا، والمراد بقول عمر بيان القدر المأخوذ، لا عموم المأخوذ
(3)
منه في كل قليلٍ وكثيرٍ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "في الرِّقَةِ
(4)
ربعُ العُشْر"
(5)
، وقوله:"فيما سَقَتِ السماء العُشْرُ"
(6)
.
فصل
(7)
واختلفت الرواية عن أحمد في الذمي يمرُّ على العاشر بخمرٍ أو خنزيرٍ، فقال في موضع: قال عمر: وَلُّوهم بيعَها، لا يكون إلا على الآخذ منه. يعني: من ثمنه، وقد ذكرنا نصَّه في الجزية وقول عمر. ووافقه على ذلك مسروقٌ والنخعي ومالك وأبو حنيفة ومحمد في الخمر خاصةً.
(1)
كما في المصدر السابق.
(2)
في الأصل: "قال ابن عمر قال". والتصويب من "المغني".
(3)
"لا عموم المأخوذ" ساقطة من المطبوع.
(4)
الرقة: الفضة.
(5)
قطعة من كتاب أبي بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، أخرجه البخاري (1454).
(6)
أخرجه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7)
انظر: "المغني"(13/ 232).
وذكر القاضي
(1)
أن أحمد نصَّ على أنه لا يؤخذ منها شيء.
وقد ذكرنا ذلك وأن المسألة رواية واحدةٌ، وأن أحمد إنما منع الأخذ من أعيانها لا من أثمانها، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: الخمر لا يعشرها مسلم. وهو الذي أنكره عمر بن الخطاب على عتبة بن فرقد حين بعث إليه بأربعين ألفَ درهم صدقةَ الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقةَ الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، والله لا استعملتُك على شيء بعدها، فنزعَه.
قال أبو عبيد
(2)
: ومعنى قول عمر: "ولُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن" أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعَها، فأنكره عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولِّين بيعَها.
وذكرنا حديث سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إنَّ عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن ولُّوهم بيعَها وخُذوا أنتم من الثمن
(3)
.
قال أصحابنا
(4)
: ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية
(1)
أي أبو يعلى. والكلام في "المغني".
(2)
"الأموال"(1/ 110).
(3)
تقدَّم (ص 92).
(4)
انظر: "المغني"(13/ 233).
رؤوسهم وخراج أرضهم، احتجاجًا بقول عمر هذا؛ ولأنها من أموالهم التي نُقِرُّهم على اقتنائها والتصرُّف فيها، فجاز أخذُ أثمانها منهم كأثمان ثيابهم.
قلت: ولو بذلوها في ثمنِ مَبيعٍ أو إجارةٍ أو قرضٍ أو ضمانٍ أو بدلِ مُتلَفٍ جاز للمسلم أخذها، وطابتْ له.
قالوا
(1)
: وإذا مرَّ الذمي بالعاشر وعليه دينٌ بقدر ما معه أو ينقص
(2)
عن النصاب، فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذَ نصف العُشر منه؛ لأنه حقٌّ يُعتبر
(3)
له مال النصاب والحول، فيمنعه الدين كالزكاة. ولا يُقبل قوله إلا ببينةٍ من المسلمين.
وإن مرَّ بجاريةٍ فادعى أنها ابنته أو أخته ففيه روايتان
(4)
:
إحداهما: يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ملكه فيها.
والثانية: لا يُقبل [إلا ببينةٍ]، لأنها في يده فأشبهتْ بهيمتَه.
قال أبو الحارث
(5)
: كتبتُ إلى أبي عبد الله وسألته، فقلت: نصراني مرَّ
(1)
"المغني"(13/ 233).
(2)
في الأصل: "بنقصه". والمثبت كما في "المغني".
(3)
في الأصل: "يعيد". والمثبت من "المغني".
(4)
كما في "المغني"(13/ 233). ومنه الزيادة.
(5)
"الجامع" للخلال (199).
بعشّارٍ ومعه جاريةٌ، فقال: ابنتي أو أهلي؟ قال: يصدِّقه، ولا يصدِّقه في أن يقول: عليَّ دينٌ.
وقال يعقوب بن بختان
(1)
: قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعشَّار فيقول: عليَّ دينٌ، قال: لا يُقبل منه. قيل: فإن كان معه جاريةٌ فقال: هي أهلي أو أختي؟ قال: هو واحدٌ.
قال الخلال
(2)
: أشبه القولين لأبي عبد الله ما قال أبو الحارث: يصدِّقه في الجارية ولا يصدِّقه في الدين، وعلى هذا العمل من قوله.
قلت: والفرق بينهما أن الأصل عدم الدَّين، والأصل عدم المِلْك في الجارية، وبالله التوفيق.
فصل
فهذا مذهبه في الذمي. وأما الحربي المُعاهَد فإنه يؤخذ منه العشر.
قال حنبلٌ
(3)
: سمعت أبا عبد الله يقول: من كان من أهل الحرب فعليهم العشرُ، ومن كان من [أهل] العهد فعليهم نصف العشر، في السنة مرةً واحدةً. ومراده بأهل العهد أهل الذمة.
(1)
"الجامع"(200).
(2)
المصدر نفسه (1/ 145).
(3)
"الجامع"(201). ومنه الزيادة.
وقال الميموني
(1)
: وسألت أبا عبد الله فأملى عليَّ: على أهل الحرب العشرُ، حديث أنس بن مالك
(2)
.
وقال صالحٌ
(3)
: قال أبي: أهل الحرب إذا مرُّوا بالعشَّار أخذ منهم العُشر، من العشرة واحدًا. وفي موضع آخر قال: قلت لأبي: كم يُؤخذ من أهل الحرب؟ قال: العُشر؛ من كل عشرة دنانير دينارٌ.
قلت
(4)
: حديث عمر: "كم يأخذون منكم إذا قدمتم [عليهم؟ قالوا: العُشر"
(5)
. قال: خذ منهم العُشر على حديث أنس].
حدثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ أن عمر بعثه أميرًا أو مصدِّقًا، وأمره أن يأخذ من المسلمين: من كل أربعين درهمًا درهمًا، ومن أهل الذمة: من كل عشرين درهمًا درهمًا، ومن أهل الحرب: من كل عشرةٍ واحدًا
(6)
.
(1)
المصدر نفسه (202).
(2)
كذا في الأصل و"الجامع". وفي المطبوع: "كما في حديث أنس بن مالك عن عمر".
(3)
"الجامع"(203).
(4)
القائل الخلال في المصدر السابق، ومنه الزيادة.
(5)
تقدَّم (ص 150) وسيأتي مرَّة أخرى قريبًا. وفي إسناده انقطاع، ولعله لذا قال أحمد: إن المعوَّل إنما هو على حديث أنس عن عمر.
(6)
"الجامع"(204)، وقد تقدَّم (ص 219، 222) من رواية أنس بن سيرين عن أنس.
فصل
(1)
ويؤخذ منهم العشر في جميع أموال التجارة.
وقال القاضي
(2)
: إذا دخلوا بمِيْرةٍ بالناس إليها حاجةٌ أُذِن لهم في الدخول بغير عُشرٍ، ليكثر على المسلمين. وهذا مذهب الشافعي، ومنصوصُ أحمد وعمر بخلافه.
وقد روى مالك عن الزهري عن سالمٍ عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النَّبَط من القُطْنِيّة
(3)
العُشرَ، ومن الحِنطة والزيت
(4)
نصف العشر، ليكثر الحملُ إلى المدينة
(5)
.
ولكن إذا رأى الإمام التخفيفَ عنهم لهذه المصلحة أو التركَ بالكلية فله ذلك. وهذا عارضٌ، لا أنه ترك تعشير المِيْرة بالكلية.
فصل
(6)
ويؤخذ العشر من كل تاجرٍ
(7)
صغيرٍ أو كبيرٍ ذكرًا أو أنثى.
(1)
انظر: "المغني"(13/ 235).
(2)
كما في المصدر السابق.
(3)
هي ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويطبخ مثل العدس. وتقدم تفسيرها.
(4)
كذا في الأصل و"الموطأ". وفي "المغني": "والزبيب".
(5)
"الموطأ"(1/ 377، 378). وتقدم.
(6)
انظر: "المغني"(13/ 235).
(7)
في "المغني": "ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر، ونصف العشر من كل ذمي تاجر".
وقال القاضي
(1)
: ليس على المرأة عشر ولا نصفُ عشرٍ
(2)
، سواءٌ كانت حربيةً أو ذمِّيةً، لكن إن دخلتِ الحجازَ عُشِرتْ؛ لأنها ممنوعةٌ من الإقامة به.
وهذا التفصيل لا يوجد في شيء من نصوص أحمد البتةَ، ولا تقتضيه أصوله؛ لأنه يأخذ الصدقة من نساء بني تغلب وصبيانهم.
والأحاديث في هذا الباب عن الصحابة ليس فيها تفريقٌ بين ذكر أو أنثى ولا بين صغيرٍ وكبيرٍ، وليس هذا بجزيةٍ، وإنما هو حقٌّ يختصُّ بمال التجارة، فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة.
فصل
(3)
ولا يُعشَرون في السنة إلا مرةً واحدةً، ولا يؤخذ من أقلَّ من عشرة دنانير، نصَّ عليهما أحمد.
وحُكي عن ابن حامدٍ
(4)
: نأخذ من الحربي كلما دخل إلينا من قليل المال أو كثيره. وهذا قول بعض الشافعية، وهو مخالفٌ لنصِّ عمر ونصِّ أحمد كما تقدم.
(1)
كما في "المغني".
(2)
"ولا نصف عشر" ساقطة من المطبوع.
(3)
انظر: "المغني"(13/ 235).
(4)
كما في "المغني".
فصل
وإن جاء الحربي منتقلًا إلينا بأهله وماله لم نأخذ منه شيئًا إلا من تجارةٍ معه، نص على ذلك أحمد
(1)
.
فصل
ويؤخذ منهم العشر، سواءٌ أخذوه منّا إذا دخلنا إليهم أو لم يأخذوه، في ظاهر المذهب
(2)
.
وعن أحمد رواية أخرى: أنهم إن كانوا يأخذون منّا إذا دخلنا إليهم، وإلا فلا.
فصل
وأما تفصيل مذهب أبي حنيفة وأهل العراق رحمهم الله تعالى، فقال أبو حنيفة
(3)
: لا نأخذ منهم شيئًا إلا أن يكونوا يأخذون منا فنأخذ منهم مثله، فنأخذ منهم ذلك على وجه القصاص.
وحجة هذا القول حديث أبي مِجلَزٍ أنه قال: قيل لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟
(1)
انظر: "الجامع" للخلال (1/ 140)، و"المغني"(13/ 231).
(2)
"المغني"(13/ 233).
(3)
انظر: "المغني"(13/ 233).
قالوا: العشر، قال: فكذلك خذوا منهم
(1)
.
وقال زياد بن حُديرٍ: كنا لا نَعْشِر مسلمًا ولا معاهدًا. قيل: من كنتم تَعْشِرون؟ قال: كفار
(2)
أهل الحرب، نأخذ منهم كما يأخذون منا
(3)
.
ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ مائتي درهمٍ
(4)
.
قالوا: فإن [قال:] عليَّ دَينٌ، أو ليس هذا المال لي، وحلف عليه= صُدِّق على ذلك ولم يؤخذ منه شيء.
قالوا: وإنما يؤخذ من الصامت والمتاع والرقيق، وما أشبهه
(5)
من الأموال التي تبقى في أيدي الناس، فإذا مرَّ بالفواكه وأشباهها التي لا بقاء لها فإنه لا يؤخذ [فيها] منه شيء.
قالوا: ولا يؤخذ من المال الواحد أكثر من مرةٍ واحدةٍ في السنة، وإن مرَّ
(1)
تقدَّم (ص 150)، ورواية أبي مجلز عن عمر مرسلة. وله شاهد عند عبد الرزاق (10121) من رواية ابن أبي نجيح عن عمر، وهو منقطع أيضًا، بل الظاهر أنه مُعضل.
(2)
كذا في الأصل و"المغني". وتقدم (ص 220) بلفظ: "تجّار". وهو أولى.
(3)
"الجامع"(1/ 150) من رواية عبد الرحمن بن معقل عن زياد بن حُدير، وقد تقدَّم من رواية إبراهيم بن مهاجر عن زياد بنحوه (ص 220).
(4)
انظر: "الأموال"(2/ 206). والأقوال الآتية منقولة منه، كما سيصرِّح بذلك المؤلف.
(5)
في الأصل: "وما اسربه". والتصويب من "الأموال".
به مرارًا.
وكان سفيان الثوري يقول: لا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ مائة درهمٍ، فإذا بلغ مائة درهم أُخذ منه نصف العشر فيه، وبمقدار النصاب، وبقدر الواجب.
قال أبو عبيد
(1)
بعد أن حكى بعض هذه الأقوال: وكل هذه الأقوال لها وجوهٌ:
فأما الذين قالوا من أهل العراق: إنه لا يؤخذ من الذمي شيء حتى يبلغ ماله مائتي درهم، فإنهم شبَّهوه بالصدقة، ذهبوا إلى أن عمر رضي الله عنه حين سمَّى ما يجب في أموال الناس التي تُدار للتجارات، إنما قال: يُؤخذ من المسلمين كذا، ومن أهل الذمة كذا، ومن أهل الحرب كذا، ولم يوقِّت في أدنى مبلغ المال وقتًا.
ثم قالوا: رأيناه قد ضمَّ أموالَ أهل الذمة إلى أموال المسلمين في حقٍّ واحدٍ، فحملنا وقتَ أموالهم على الزكاة، إذ كان لأداء الزكاة حدٌّ محدودٌ، وهو المائتان فأخذنا أهل الذمة بها وألقينا
(2)
ما دون ذلك.
وأما مالك وأهل الحجاز فقالوا
(3)
: الذي يؤخذ من أهل الذمة ليس بزكاةٍ فيُنظَر فيه إلى مبلغها وإلى حدِّها، إنما هو بمنزلة الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، ألا ترى أنها تجب على الغني والفقير [على] قدر طاقتهم، من غير
(1)
"الأموال"(2/ 207).
(2)
كذا في الأصل. وفي "الأموال": "وألغينا".
(3)
"الأموال"(2/ 207، 208).
أن يكون لأداء ما يملك أحدهم وقتٌ يُوقَّت، وعلى ذلك صولحوا؟ قالوا: فكذلك ما مرُّوا به من التجارات يؤخذ من قليلها وكثيرها.
وأما سفيان في توقيته بالمائة، فإنه لمَّا رأى أن الموظَّف
(1)
على أهل الذمة هو الضِّعف مما على المسلمين، في كل مائتين عشرةٌ، جعل فرع المال على حسب أصله، فأوجب عليهم في المائة خمسةً كما يجب عليهم في المائتين عشرةٌ، ليوافق الحكم بعضه بعضًا، وأسقط ما دون المائة كما عُفِي للمسلمين عما دون المائتين، فصارت المائة للذمي كالمائتين للمسلمين. فهذا رأيه
(2)
في أهل الذمة. ولستُ أدري ما وقَّت في أهل الحرب، غير أنه ينبغي أن يكون في قوله: إذا مرَّ أحدهم بخمسين درهمًا وجب عليه فيها العُشر.
قال أبو عبيد
(3)
: وقول سفيان هو عندي أعدلُ هذه الأقوال وأشبهها بالذي أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد فسَّر ذلك في كتابه إلى زُريق بن حيَّان
(4)
الذي ذكرناه أنه كتب إليه: "من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من كل عشرين دينارًا دينارًا، فما نقصَ فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت
(1)
في الأصل: "الوطف". والتصويب من المصدر السابق.
(2)
في الأصل: "الأثر". والتصويب من المصدر السابق.
(3)
"الأموال"(2/ 208).
(4)
في الأصل: "رقيق بن حنان" تحريف.
ثلث دينارٍ فلا تأخذْ منه شيئًا".
قال أبو عبيد: فعشرة دنانير إنما هي معدولةٌ بمائة درهم في الزكاة، وهي عندنا تأويل حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تفسير عمر بن عبد العزيز، ولا يوجد في هذا مفسِّرٌ هو أعلم منه، وهو قول سفيان.
قال: فهذا ما جاء في توقيت أداء ما تجب فيه الحقوق من أموال أهل الذمة والحرب.
وأما قولهم في الذمي إذا ادعى أن عليه دَيْنًا، واختيارُ أهل العراق أن يقبل منه، وقول مالك وأهل الحجاز إنه لا يُقبل منه وإن أقام البينة على دعواه= فإن الذي أختار من ذلك قولًا
(1)
بين القولين، فأقول: إن كان له شهودٌ من المسلمين على دَيْنه قُبِل ذلك منه، ولم يكن على ماله سبيلٌ؛ لأن الدَّين حقٌّ قد وجب لربه عليه، وهو أولى به من الجزية؛ لأنها وإن كانت حقًّا للمسلمين في عنقه فإنه ليس يُحصَى
(2)
أهل هذا الحق، فيُقْدَرَ على قَسْم مال الذمي بينهم وبين هذا الغريم بالحِصَص ولا يُعلَم كم يؤخذ منه، وقد عُلِم حقُّ هذا الغريم، فلهذا جعلناه أولى بالدَّين من غيره. وإن لم يُعلَم دَيْنُ هذا الذمي إلا بقوله كان مردودًا غير مقبولٍ منه؛ لأنه حقٌّ قد لزِمه للمسلمين، فهو يريد إبطاله بالدعوى، وليس بمؤتَمنٍ في ذلك كما يؤتَمن المسلمون على زكواتهم في الصامت، إنما هذا فيءٌ، وحكمه غير حكم الصدقة.
(1)
في الأصل و"الأموال": "قولًا" هكذا منصوبًا، والوجه الرفع.
(2)
في الأصل: "يخص". والتصويب من "الأموال".
وأما اختلافهم في ممرِّه على العاشر مرارًا في السنة، وقول أهل العراق وسفيان: إنه لا يؤخذ إلا مرةً واحدةً، وقول مالك وأهل الحجاز: إنه يؤخذ منه في السنة
(1)
كلّما مر= فإن الرواية في هذا للإمامين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فقد كُفِينا النظَرَ فيه.
حدثنا محمد بن كثيرٍ، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ابن زياد بن حُدَيرٍ: أن أباه كان يأخذ من نصراني في كل سنةٍ مرتين، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك يأخذ مني العُشْرَ في السنة مرتين، فقال عمر رضي الله عنه: ليس ذلك له، إنما له في كل سنةٍ مرةً. ثم أتاه فقال: هو الشيخ النصراني، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا الشيخ الحنيف، قد كتبتُ لك في حاجتك
(2)
.
حدثنا يزيد عن جرير بن حازمٍ قال: قرأتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن يأخذ العشور ثم يكتب بما يأخذ منهم البراءةَ، فلا يأخذ منهم من ذلك المال ولا من ربحه زكاة سنةٍ، ويأخذ من غير ذلك المال إن مرَّ به
(3)
.
قال أبو عبيد
(4)
: فحديث عمر هذا هو عدلٌ بين قول أهل الحجاز وقول
(1)
"في السنة" ساقطة من المطبوع.
(2)
"الأموال"(1492)، وقد تقدَّم تخريجه (ص 229).
(3)
"الأموال"(1493)
(4)
المصدر نفسه (2/ 210).
أهل العراق: أنه إن كان المال التالي هو الذي مر به بعينه في المرة الأولى لم يُؤخذ منه تلك السنةَ ولا من ربحه أكثرَ من مرةٍ؛ لأن الحق الذي قد لزِمَه فيه قد قضاه، فلا يُقضى حقٌّ واحدٌ من مالٍ مرتين. وإن مرَّ بمالٍ سواه أُخذ منه وإن جدَّد ذلك في كل عامٍ مرارًا، إذا كان قد عاد إلى بلاده ثم أقبل بمالٍ سوى المال الأول؛ لأن المال الأول لا يُجزئ عن الآخر، ولا يكون في هذا أحسنَ حالًا من المسلم. ألا ترى أنه لو مرَّ بمالٍ لم يُؤدِّ زكاته أُخذت منه الصدقة، ثم إن مرَّ بمالٍ آخر في عامه ذلك لم يكن أخذت منه الزكاة أنها تؤخذ منه من ماله هذا أيضًا؛ لأن الصدقة لا تكون قاضيةً عن المال الآخر؟ فهذا قدرُ ما في أهل الذمة.
فأما أهل الحرب، فكلهم يقول: إذا انصرف إلى بلاده ثم عاد بماله ذلك أو بمالٍ سواه، إنَّ عليه العُشْرَ كلَّما مرَّ به؛ لأنه إذا دخل دار الحرب بطلتْ عنه أحكام المسلمين، فإذا عاد إلى دار الإسلام كان مستأنفًا للحكم كالذي لم يدخلها قطُّ، لا فرقَ بينهما. وكلهم يقول: لا يُصدَّق الحربي في شيء مما يدَّعي من دَينٍ عليه، أو قولِه: إن هذا المال ليس لي، ولكن يؤخذ منه على كل حالٍ. إلا أن أهل العراق يقولون: يُصدَّق الحربي في خصلةٍ واحدةٍ، إذا مرَّ بجوارٍ فقال: هؤلاء أمهاتُ أولادي، قُبِل منه، ولم يؤخذ منه عُشر قيمتهن.
قلت: فقد حكى أبو عبيد الاتفاق على أن الحربي يُعشَر كلما دخل إلينا، وفرَّق بينه وبين الذمي. والذي نصَّ عليه الإمام أحمد والشافعي أنه لا يؤخذ منه في السنة إلا مرةً، وبعض أصحاب أحمد والشافعي قال: يؤخذ كلما دخل
إلينا
(1)
، وقد تقدم
(2)
نص أحمد في رواية حنبلٍ وابنه صالحٍ: أنه لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، واحتجَّ بحديث عمر.
وأعدل الأقوال في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، وهو الذي اختاره أبو عبيد، فإن المال الثاني له حكم نفسه لا يتعلق به حكم المال الأول، كما لو أخذت الزكاة من مسلم لم ينسحبْ حكمُها على ما لم يؤخذ من سائر أمواله، ولا يؤخذ منه في السنة مرارًا، فهكذا مال المعاهد، والله أعلم.
* * * *
(1)
انظر: "المغني"(13/ 235).
(2)
(ص 227، 228). وانظر: "الجامع" للخلال (1/ 146).