الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في أحكام نكاحهم ومناكحاتهم
قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} إلى آخر السورة [المسد: 1 - 5] فسماها "امرأته" بعقد النكاح الواقع في الشرك. وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11]، فسماها "امرأته".
والصحابة رضي الله عنهم غالبهم إنما وُلدوا من نكاحٍ كان قبل الإسلام في حال الشرك، وهم يُنسبون إلى آبائهم انتسابًا لا ريبَ فيه عند أحدٍ من أهل الإسلام، وقد أسلم الجمُّ الغفير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر أحدًا منهم أن يجدِّد عقده على امرأته. فلو كانت أنكحة الكفار باطلةً لَأَمَرهم بتجديد أنكحتهم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه لآبائهم، وهذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديين زنيا
(1)
، فلو كانت أنكحتهم فاسدةً لم يرجمهما، لأن النكاح الفاسد لا يحصن الزوج، وسيأتي الكلام في هذه المسألة.
وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم وتحته عشر نسوةٍ أن يختار منهن أربعًا ويفارق البواقي، وأمر من أسلم وتحته أختان أن يمسك إحداهما
(1)
أخرجه مسلم (1699) من حديث ابن عمر.
ويفارق الأخرى
(1)
. ولو كانت أنكحتهم فاسدةً لم يأمر بالإمساك في النكاح الفاسد، ولا رتَّب عليه شيئًا من أحكام النكاح. ولم ينصَّ أحدٌ من أئمة الإسلام على بطلان أنكحة الكفار، ولا يمكن أحدًا أن يقول ذلك.
وإنما اختلف الناس في مسألتين:
إحداهما: في الكافر يطلِّق امرأته ثلاثًا، هل يصح طلاقه أم لا؟
الثانية: في المسلم يطلِّق الذمية ثلاثًا، فتنكح ذميًّا، ثم يفارقها الثاني، فهل تحلُّ للأول؟
فأما المسألة الأولى: وهي وقوع الطلاق، فلا يخلو إما أن يعتقد الكافر نفوذ الطلاق أو لا يعتقده
(2)
، فإن اعتقده نفذَ طلاقُه، ولم يكن الإسلام شرطًا في نفوذه. هذا مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: الإسلام شرطٌ
(3)
في وقوع الطلاق.
واحتج الجمهور بأن أنكحتهم صحيحةٌ كما تقدم، فإذا صح النكاح نفذ فيه الطلاق، فإنه حكمٌ من أحكام النكاح، فترتب عليه كسائر أحكامه، من التوارث والحلّ وثبوت النسب وتحريم المصاهرة وسائر أحكامه، وقد قال تعالى:{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ اَلنِّسَا} [النساء: 22] فسماه نكاحًا وأثبت به تحريم المصاهرة، وكان الظهار يعدُّه أهل الجاهلية طلاقًا،
(1)
سيأتي لفظ الحديثين وتخريجهما (ص 471، 472).
(2)
سيأتي الكلام على ما إذا كان لا يعتقد وقوع الطلاق (ص 434).
(3)
في الأصل: "شرطا".
وقام الإسلام حتى أبطل الله ما كان عليه أهل الجاهلية، وشرع فيه الكفارة.
وكيف يحكم ببطلان نكاحٍ وُلد فيه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وزاده فضلًا وشرفًا لديه؟ وقد صرَّح بأنه صلى الله عليه وسلم وُلِد من نكاحٍ، لا من سِفاحٍ
(1)
.
قال الإمام أحمد في رواية مهنا
(2)
في يهودي أو نصراني طلق امرأته طلقتين، ثم أسلم وطلق أخرى: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وإذا ظاهر من امرأته، ثم أسلم، أخبرناه أن عليه ظهارًا. وإذا تزوج بلا شهودٍ، ثم أسلما، هما على نكاحهما.
وقال في رواية ابن منصورٍ
(3)
في نصراني آلى من امرأته ثم أسلم: يوقف مثل المسلم سواءً.
وقال في رواية حنبلٍ
(4)
في مسلم تحته نصرانيةٌ طلقها ثلاثًا فتزوجت بنصراني: تحلُّ للأول لأنه زوجٌ.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (13273) وابن أبي شيبة (32298) والطبري في "تفسيره"(12/ 97) من حديث جعفر (الصادق) بن محمد (الباقر) عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مرسل صحيح الإسناد. وروي موصولًا عن علي وابن عباس وعائشة وأنس بأسانيد واهية، وقد حسَّنه الألباني بمجموعها. انظر:"تنقيح التحقيق"(2752، 2753) و"التلخيص الحبير"(1537) و"إرواء الغليل"(1914).
(2)
في "الجامع" للخلال (569) القسم الأول. وفيه (579) القسم المتعلق بالظهار. وفيه (442) القسم المتعلق بالتزوج بلا شهود.
(3)
في "الجامع"(578)، وهو في "مسائله"(1/ 483).
(4)
"الجامع"(490).
قال المبطلون لأنكحتهم: هذا قول عبد الرحمن بن عوفٍ، ولا مخالفَ له من الصحابة، وقد أقره عمر على هذا القول، فقال أبو محمد بن حزمٍ
(1)
: روينا من طريق قتادة أن رجلًا طلق امرأته تطليقتين في الجاهلية، وطلقةً في الإسلام، فسأل عمر، فقال: لا آمرك ولا أنهاك، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: لكني آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء
(2)
.
قال: وبهذا كان يفتي قتادة. وصحَّ عن الحسن وربيعة، وهو قول مالك وأبي سليمان
(3)
، وأصحابهما.
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"
(4)
: "أُوصيكم بالنساء خيرًا، فإنكم أَخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فُروجَهن بكلمة الله".
قالوا: ووجه الدليل أن كلمة الله هي قوله: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فأخبر أن الحلّ كان بهذه الكلمة، فكلمة الله هي إباحته للنكاح، أو أراد بكلمة الله الإسلام، وما يقتضيه من شرائط النكاح، فدل على أن الفروج لا تُستباح بغير كلمة الإسلام.
قالوا: وأيضًا فكل آيةٍ أباحت النكاح في كتاب الله سبحانه فالخطاب بها
(1)
"المحلى"(10/ 202).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (12689) عن معمر عن قتادة به. وهو مرسل.
(3)
هو داود الظاهري.
(4)
برقم (1218/ 147) من حديث جابر في خطبة عرفة.
للمؤمنين، فدلَّ على أن المراد بكلمة الله الإسلام.
قالوا: والمسألة إجماعٌ من الصحابة، وذكروا أثر عبد الرحمن المتقدم.
قالوا: وكيف يُحكم بصحة نكاحٍ عَرِي عن ولي ورضًا وشاهدين؟
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ نكحتْ نفسَها بغير [إذن] وليها فنكاحها باطلٌ"
(1)
، وأنتم تصححون أنكحتهم ولو وقعت بغير ولي، فالحديث نصٌّ في بطلان مذهبكم.
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
قالوا: وهم يستبيحون النكاح بالخمر والخنزير، وفي العدة، بغير ولي ولا شهودٍ، وغير ذلك مما لا يستباح به في الإسلام، فوجب الحكم ببطلانه.
قالوا: ولو مات الحربي عن زوجته، أو قُتل ثم سُبِيت فإنها تُستبرأ بحيضةٍ، ولا تعتد، ولو كان نكاحها صحيحًا لوجب أن تعتد، وقد [أخبر] تعالى أنهم لا يُحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يدينون دينَ الحق
(2)
، وهذا يقتضي أنهم لا يدينون دينَ الحق في نكاحٍ ولا غيره، ومن لم يَدِنْ دينَ الحق في نكاحه فهو مردودٌ.
(1)
أخرجه أحمد (24372) وأبو داود (2083) والترمذي (1102) والدارمي (2230) وأبو يعلى (4682، 4837) وابن حبان (4074) والحاكم (2/ 168) من حديث عائشة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. انظر: "البدر المنير"(7/ 553) و"إرواء الغليل"(1840) و"أنيس الساري"(1657).
(2)
في سورة التوبة: 29.
قال المصححون: لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم.
أما أثر عبد الرحمن بن عوفٍ، فإن الإمام أحمد قال في رواية مهنا
(1)
: حديث يُروى أن عبد الرحمن بن عوفٍ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "ليس طلاق أهل الشرك بشيء" ليس له إسناد
(2)
. فهذا جواب أحمد.
وأجاب القاضي بأن هذا محمولٌ على جواز أنكحتهم لذوات المحارم، فإن الطلاق لا يقع فيه. وهذا من أفسد الأجوبة، وكيف يقول له عمر في نكاح أمه وابنته: لا آمرك ولا أنهاك؟ وكيف يقول له عبد الرحمن: لكني آمرك، ليس طلاقك بشيء، ولم يكن في العرب من يستحلُّ نكاحَ ذوات المحارم كالمجوس؟
وعندي جوابٌ آخر، وهو أن الطلاق كان في الجاهلية بغير عددٍ كما قالت عائشة: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلِّقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرةٍ أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته، والله لا أطلِّقك فتبيني منّي، ولا آوِيكِ أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلِّقك، فكلما همَّت عدَّتُك أن تنقضيَ راجعتُكِ. فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخبرتْها، فسكتتْ عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فسكت، حتى نزل القرآن:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 227]، قالت: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلًا، من
(1)
كما في "الجامع" للخلال (569).
(2)
أي: ليس له إسناد متصل، وقد سبق أنه رواه قتادة مرسلًا.
كان طلَّق ومن لم يكن طلَّق. رواه الترمذي
(1)
متصلًا، ثم رواه عن عروة، لم يذكر فيه عائشة، وقال: هذا أصح.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واستحللتم فروجهن بكلمة الله"
(2)
فما أصحَّه من حديث! وما أضعفَ الاستدلالَ به على بطلان أنكحة الكفار! وقد أجاب عنه أصحاب الشافعي وأحمد بأن كلمة الله هي لفظ الإنكاح والتزويج اللذين لا ينعقد النكاح إلا بهما.
وهذا جوابٌ في غاية الوهن، فإن "كلمة الله" هي التي تكلَّم بها، ولهذا أضيفت إليه. وأما الإيجاب والقبول فكلمة المخلوق، فلا تُضاف إلى الله، وإلا كان كل كلامٍ تكلَّم به العبد يضاف إلى الرب، وهذا باطلٌ قطعًا، فإن كلمة الله كسمع الله وبصره وقدرته وحياته وعلمه وإرادته ومشيئته، كل ذلك للصفات القائمة به، لا للمخلوق المنفصل عنه.
والجواب الصحيح أن هذا خطاب للمسلمين، ولا ريبَ أنهم إنما استحلُّوا فروج نسائهم بكلمة الله وإباحته. أما المبتدأ نكاحُها في الإسلام فظاهرٌ، وأما المستدام نكاحُها فإنما استُدِيم بكلمة الله أيضًا، فلا يمس الحديثُ محلَّ النزاع بوجهٍ.
وأما قولكم: كل آيةٍ أباحت النكاح في القرآن فالخطاب بها للمسلمين،
(1)
رقم (1192). وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك"(2/ 279، 280) وصححه، والبيهقي (7/ 333). وفي إسناده يعلى بن شبيب ليّن الحديث.
(2)
جزء من حديث جابر عند مسلم، وقد تقدم قريبًا.
فهذا الاستدلال من أعجب الأشياء، فإن الأمة بعد نزول القرآن مأخوذةٌ بأحكامه وأوامره ونواهيه، وأما قبل ذلك فما أقرَّه القرآن فهو على ما أقرَّه، وما غيَّره وأبطله فهو كما غيَّره وأبطله، فأين أبطل القرآن نكاح الكفار ولم يُقِرَّهم عليه في موضع واحدٍ؟ على أن البيع والرهن والمداينة والقرض وغيرها من العقود إنما خُوطب بها المؤمنون، فهل يقول أحدٌ: إنها باطلةٌ من الكفار؟ وهل النكاح إلا عقدٌ من عقودهم، كبياعاتهم وإجاراتهم ورهونهم وسائر عقودهم؟ وليس النكاح من قبيل العبادات المحضة التي يُشترط في صحتها الإسلام، كالصلاة والصوم والحج، بل هو من عقود المعاوضات التي تصح من المسلم والكافر.
وأما قولهم: المسألة إجماعٌ من الصحابة، فهو ذلك الأثر الذي لا يصحُّ عن عبد الرحمن، ولو صحَّ لم يكن فيه حجةٌ، فأين قول رجل واحدٍ من الصحابة فضلًا عن جميعهم؟
وأما قولكم: كيف يُحكم بصحة نكاحٍ عَرِي عن الولي والشهود وشروط النكاح= فمن أضعف الاستدلال، فإن هذه إنما صارت شروطًا بالإسلام، ولم تكن شروطًا قبله حتى نحكم ببطلان كل نكاحٍ وقع قبلها، وإنما اشترطت في الإسلام في حق من التزم الإسلام، وأما من لم يلتزمه فإن حكم النكاح بدونها كحكم ما يعتقدون صحته من العقود الفاسدة التي لا مساغ لها في الإسلام، فإنها تصح منهم، ولو أسلموا وقد تعاملوا بها وتقايضوا لم تنقضِ وأُمضِيتْ.
فإن قيل: الإسلام صحّحها لهم، وهكذا صحّح النكاح.
قلنا: لكن الإسلام لم يُبطِل ترتُّبَ آثارها عليها قبله، فيجب أن لا يبطل ترتبُ آثار النكاح عليه من الطلاق والظهار والإيلاء.
وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ نكحتْ نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطلٌ" فهذا عجبٌ منكم، فإنها لو زوَّجها الولي كان النكاح فاسدًا عندكم. فإن قلتم: الولي الكافر كلا ولي، قيل: نعم، هذا في نكاح المسلمة، فأما الكافرة فقد قال تعالى:{وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" ففي غاية الصحة، والاستدلال به ضعيفٌ من وجوهٍ:
أحدها: أن هذا في حق المسلمين، وأما الكفار فإنا لا نردُّ عليهم كل ما خرج عن أمره صلى الله عليه وسلم، فإنا نُقِرُّهم على عقودهم التي يعتقدون صحتها، وإن لم تكن على أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن إقرار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم على أحكام هذه الأنكحة هو من أمر الشارع، ولا جَرمَ ما كان منها على غير أمره فهو ردٌّ، كنكاح المحارم وما لا يعتقدون صحته، فأما ما اعتقدوا صحته فإقرارهم عليه من أمره.
الثالث: أن هذا لا يمكن أن يُستدلَّ به على بطلان أنكحتهم، كما لم يُستدل به على بطلان عقود معاوضاتهم التي يعتقدون صحتها وإن وقعت على غير أمره.
وأما استبراء الحربية بحيضةٍ إذا سُبيت، وحكمُنا بزوال النكاح، فليس
ذلك لكون أنكحتهم كانت باطلةً، ولكن لتجديد الملك على زوجته، وكونها صارت أمةً للثاني، واستولى على محلِّ حق الكافر وأزاله، وانتقلت من كونها زوجةً إلى كونها أمةً رقيقةً تُباع وتشترى.
وأما قوله تعالى إنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب، فلم يزيدوا بذلك على كونهم كفارًا. ومن نازع في كفرهم حتى يحتج عليه بذلك؟ وهل وقع النزاع إلا في نكاح من هو كذلك؟ ولا ريبَ أن هذا القدر كما لم يؤثِّر في بطلان عقود معاوضاته من البيع والشراء والإجارة والقرض والسلم والجعالة وغيرها لم يؤثر في بطلان نكاحه.
فصل
وأما إن كان الكافر لا يعتقد وقوعَ الطلاق ولا نفوذَه فطلَّق، فهل يصح طلاقه؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يصح طلاقه، وهذا هو مقتضى أصوله، فإنا نُقِرُّهم على ما يعتقدون صحته من العقود، فإذا لم يعتقد نفوذ الطلاق فهو يعتقد بقاء نكاحه، فيُقَرَّ عليه وإن أسلم.
وأيضًا، فإن وجود هذا الطلاق وعدمه في حقه واحدٌ، فإنه لم يلتزم حكم الطلاق ولا اعتقد نفوذه، فلم يلزمه حكمه.
وهذا التفصيل في طلاقه هو فصل الخطاب.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهي إذا تزوجها الذمي، فإنه يُحِلُّها للأول عند
الجمهور؛ لأنه زوجٌ وهي امرأةٌ له، فيدخل في قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228]، فأطلق النكاح والزوج، ولم يقيده بحرّ ولا عبدٍ، ولا مسلم ولا كافرٍ، وهذه قد نكحت زوجًا غيره، فتحلُّ للأول. ودليل كونه زوجًا: الحقيقةُ والحكمُ.
أما الحقيقة: فلأن الزوج والتزويج حاصلٌ فيه حسًّا، وكفرُه لا يمنع ثبوت حقيقة الزوجية.
وأما الحكم: فثبوت النسب، ووجوب المهر والعدة، والتمكين من الوطء، وتخييره بين الأختين إذا أسلم وفي الأربع، وغير ذلك من أحكام النكاح. وثبوتُ الأحكام يدلُّ على ثبوت الحقيقة.
فصل
إذا ثبتت صحةُ نكاحهم فهاهنا مسائل:
المسألة الأولى
(1)
: إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، فإن كانت المرأة كتابيةً لم يؤثِّر إسلامه في فسخ النكاح، وكان بقاؤه كابتدائه. وإن كانت غير كتابيةٍ وأسلم الزوجان معًا، فهما على النكاح سواءٌ قبل الدخول وبعده، وليس بين أهل العلم في هذا اختلافٌ.
قال ابن عبد البر
(2)
: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معًا في حالةٍ واحدةٍ أن لهما المُقامَ على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسبٌ ولا رضاعٌ.
(1)
ينظر في هذه المسألة "زاد المعاد"(5/ 183 - 194).
(2)
"التمهيد"(12/ 23).
وقد أسلم خلقٌ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم
(1)
نساؤهم، وأُقِرُّوا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح، ولا عن كيفيته، وهذا أمرٌ عُلِم بالتواتر والضرورة، فكان يقينًا
(2)
.
ثم قال كثيرٌ من الفقهاء
(3)
: المعتبر أن يتلفظا بالإسلام تلفظًا واحدًا، يكون ابتداء أحدهما مع ابتداء صاحبه، وانتهاؤه مع انتهائه.
والصواب أن هذا غير معتبرٍ، ولم يدلَّ على ذلك كتابٌ ولا سنةٌ، ولا اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قطُّ، ولا اعتبره في واقعةٍ واحدةٍ مع كثرة من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يقل يومًا واحدًا لرجل أسلم هو وامرأته: تلفظا بالإسلام تلفظًا واحدًا لا يسبق أحدكما الآخر. وهل هذا إلا من التكلف الذي ألغتْه الشريعة ولم تعتبره؟ وليس لهذا نظيرٌ في الشريعة، بل إذا أسلما في المجلس الواحد فقد اجتمعا على الإسلام، ولا يؤثِّر سبقُ أحدهما الآخر بالتلفظ به. وهذا اختيار شيخنا
(4)
.
وإن أسلم أحدهما ثم أسلم الآخر بعده، فاختلف السلف والخلف في ذلك اختلافًا كثيرًا.
(1)
"أسلم" ساقطة من المطبوع.
(2)
هذه الفقرة وما قبلها من "المغني"(10/ 5).
(3)
كالشافعية والحنابلة، انظر:"التهذيب" للبغوي (5/ 391)، و"فتح العزيز"(8/ 86)، و"المغني"(10/ 8)، و"الفروع"(5/ 246).
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(32/ 337، 338).
فقالت طائفةٌ: متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه، سواءٌ كانت كتابيةً أو غير كتابيةٍ، سواءٌ أسلم بعدها بطَرْفة عينٍ أو أكثر، ولا سبيلَ له عليها إلا بأن يسلما معًا في آنٍ واحدٍ، فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها ساعة إسلامه، ولو أسلمت بعده بطرفة عينٍ. هذا قول جماعةٍ من التابعين وجماعةٍ من أهل الظاهر، وحكاه أبو محمد بن حزمٍ
(1)
عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وحماد بن زيدٍ والحكم بن عتيبة
(2)
وسعيد بن جبيرٍ وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعدي بن عدي وقتادة والشعبي.
قلت: وحكاية ذلك عن عمر بن الخطاب غلطٌ عليه، أو يكون رواية عنه، فسنذكر من آثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد وغيره. فهذا قول.
وقال أبو حنيفة
(3)
: أيهما أسلم قبل الآخر، فإن كانا في دار الإسلام عُرِض الإسلام على الذي لم يسلم، فإن أسلما بقيا على نكاحهما، وإن أبى فحينئذٍ تقع الفرقة، ولا تُراعى العدة في ذلك.
ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومحمد: الفسخ هاهنا طلاقٌ، لأن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه، فينوب القاضي منابَه في التسريح
(1)
"المحلى"(7/ 312).
(2)
في المطبوع: "عيينة" تصحيف.
(3)
انظر: "بدائع الصنائع"(2/ 336، 337)، و"الاختيار لتعليل المختار"(3/ 113). والمؤلف نقل الفقرة الأولى من "المحلى"(7/ 312).
بالإحسان، فيكون قوله كقول الزوج.
وقال أبو يوسف: لا يكون طلاقًا، لأنه سببٌ يشترك فيه الزوجان، فلا يكون طلاقًا، كما لو ملكها أو ملكته، فلو كانت الزوجة مجوسيةً كانت الفرقة فسخًا قولًا واحدًا.
قالوا: والفرق أن المجوسية ليست من أهل الطلاق بخلاف الذمية.
وإن كانا في دار الحرب فخرجت المرأة إلينا مسلمةً أو معاهدةً، فساعةَ حصولها في دار الإسلام تقع الفرقة بينهما، لا قبل ذلك. فإن لم تخرج من دار الحرب، بأن حاضت ثلاثَ حِيضٍ قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذٍ، وعليها أن تبتدئ ثلاث حيضٍ أخر عدةً منه. وهل هذه الفرقة فسخٌ أو طلاقٌ؟ فيه عن أبي حنيفة روايتان، وهي فسخٌ عند أبي يوسف. ولو أسلم الآخر قبل مضيِّ ثلاث حيضٍ فهما على نكاحهما. فهذا قول ثانٍ.
وقال مالك
(1)
: إن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة، وإن كان بعده فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه، فإن أسلم هو ولم تسلم هي عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها، سواءٌ كان قبل الدخول أو بعده.
وقال أشهب: إنما تتعجل الفرقة إذا كان قبل الدخول، وتقف على العدة
(1)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(2/ 57، 58)، و"المحلى"(7/ 312).
إن كان بعد الدخول.
ثم قال ابن القاسم: إذا غَفَل عنها حتى مضى لها شهرٌ وما قرب منه فليس بكثيرٍ، وهما على نكاحهما. والفرقة حيث وقعت فسخٌ.
وعن ابن القاسم رواية أخرى: أنها طلقةٌ بائنة
(1)
، فهذا قول ثالث.
وقال ابن شُبرمة
(2)
عكس هذا، وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين، وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته، وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة، فهذا قول رابع.
وقال الأوزاعي والزهري والليث والإمام أحمد والشافعي وإسحاق: إذا سبق أحدهما بالإسلام، فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان بعده فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما، وإن انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح، فهذا قول خامس
(3)
.
وقال حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخَطْمي أن نصرانيًّا أسلمت امرأته، فخيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه
(4)
.
(1)
في الأصل: "ثانية"، والتصويب من "عقد الجواهر".
(2)
انظر: "المغني"(10/ 9) و"المحلى"(7/ 312) و"روضة الطالبين"(7/ 148).
(3)
انظر: "المغني"(10/ 8) و"المحلى"(7/ 312).
(4)
علَّقه ابن حزم (7/ 313) عن حمَّاد بن سلمة به. وأخرجه عبد الرزاق (10083) عن معمر عن أيوب به.
وعبد الله بن يزيد الخَطْمي هذا له صحبةٌ. وليس معناه أنها تقيم تحته وهو نصراني، بل تنتظر وتتربص، فمتى أسلم فهي امرأته، ولو مكثتْ سنين. فهذا قول سادسٌ، وهو أصحُّ المذاهب في هذه المسألة، وعليه تدلُّ السنة كما سيأتي بيانه، وهو اختيار شيخ الإسلام.
وقال حماد بن سلمة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الزوجين الكافرين يُسلِم أحدهما: هو أملك ببُضْعها ما دامت في دار هجرتها
(1)
.
وقال سفيان بن عيينة، عن مطرِّف بن طريفٍ، عن الشعبي، عن علي: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها
(2)
. فهذا قول سابعٌ.
وقال ابن أبي شيبة
(3)
: نا معتمر بن سليمان، عن معمرٍ، عن الزهري: إن
(1)
علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن حمَّاد بن سلمة به. وأخرجه الطحاوي في "معاني الآثار"(3/ 260) من طريق حماد به، ولفظه: "هو أحق بنكاحها
…
".
(2)
علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن ابن عيينة به. وأخرجه عبد الرزاق (10084) عن ابن عيينة به، ولفظه:"ما لم يُخرجها من مصرها". وأخرجه الشافعي في "الأم"(8/ 423) وسعيد بن منصور في "السنن"(1978)، كلاهما عن هُشيم عن مطرف عن الشعبي به، ولفظه:"ما لم يُخرجها من دار الهجرة".
(3)
علَّقه عنه ابن حزم (7/ 314) وهذا لفظه. وهو في "المصنف"(18633) بلفظ: "أيما يهودي أو نصراني أسلم ثم أسلمت امرأته فهما على نكاحهما، إلا أن يكون فرَّق بينهما سلطان". وأخرجه عبد الرزاق (12659) عن معمر عن الزهري في امرأة أسلمت وزوجُها مشرك فلم تَنْقَضِ عدَّتُها حتى أسلم قال: يُقرَّان على نكاحهما إلا أن يكون أمرُهما قد رفع إلى السلطان فيفرق بينهما.
أسلمَتْ ولم يُسلم زوجُها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطانٌ. فهذا قول ثامنٌ.
وقال داود بن علي: إذا أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تقرّ عنده ولكن يمنع من وطئها
(1)
.
وقال شعبة: نا حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي في ذميةٍ أسلمت تحت ذمي، فقال: تقرُّ عنده
(2)
. وبه أفتى حماد بن أبي سليمان.
قلت: ومرادهم أن العصمة باقيةٌ، فتجب لها النفقة والسكنى، ولكن لا سبيلَ له إلى وطئها، كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواءً، فهذا قول تاسعٌ.
ونحن نذكر مآخذ هذه المذاهب، وما في تلك المآخذ من قوي وضعيفٍ، وما هو الأولى بالصواب.
فأما أصحاب القول الأول ــ وهم الذين يُوقِعون الفرقة بمجرد الإسلام ــ فلا نعلم أحدًا من الصحابة قال به البتةَ، وما حكاه أبو محمد بن حزمٍ عن عمر وجابرٍ وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثارٍ رويت عنهم مطلقةً، ونحن
(1)
"المحلى"(7/ 313).
(2)
علقه ابن حزم (7/ 313) عن غُندر عن شعبة به. كما علَّقه عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن معتمر والمغيرة بن مِقْسَم، كلاهما عن إبراهيم النخعي.
نذكرها:
قال شعبة: أخبرني أبو إسحاق الشيباني قال: سمعت يزيد بن علقمة أن جدَّه وجدَّته كانا نصرانيين، فأسلمت جدته ففرَّق عمر بن الخطاب بينهما
(1)
.
وليس في هذا دليل على تعجُّلِ الفرقة مطلقًا بنفس الإسلام، فلعله لم يكن دخل فيها، أو لعله فرق بعد انقضاء العدة، أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه، أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باقٍ حتى يفسخ السلطان.
وقد روي عن عمر في هذا آثارٌ تُظَنُّ متعارضةً، ولا تعارض بينها، بل هي موافقةٌ للسنة، فمنها هذا.
ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خيَّر المرأة: إن شاءت أقامتْ عليه، وإن شاءت فارقتْه.
(1)
علَّقه ابن حزم (7/ 314) عن شعبة به. وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 212) من طريق شعبة به. وأخرجه ابن أبي شيبة (18613) عن عبَّاد بن العوام عن الشيباني به. وخالف شعبةَ وعبَّادًا عليُّ بن مسهرٍ ــ كما عند ابن أبي شيبة (18611) والبخاري ــ فرواه عن الشيباني، عن السفَّاح بن مطر، عن داود بن كردوس قال: كان رجل من بني تغلب يقال له عبادة بن النعمان بن زرعة، وكان نصرانيًّا، فأسلمت امرأته وأبى أن يسلم، ففرق عمر بينهما. قال ابن حزم: والسفاح، وداود بن كردوس، ويزيد بن علقمة كلهم مجاهيل.
ومنها ما رواه ابن أبي شيبة
(1)
، عن عبّاد بن العوّام، عن أبي إسحاق الشيباني، عن يزيد بن علقمة أن عُبادة بن النعمان التغلبي كان ناكحًا امرأةً من بني تميمٍ فأسلمت، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إما أن تُسلِم وإما أن نَنزِعها منك، فأبى، فنزعها عمر رضي الله عنه.
وقد تمسَّك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني، فإن أبى فرِّق بينهما.
وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارضَ بينها، فإن النكاح بالإسلام يصير جائزًا بعد أن كان لازمًا، فيجوز للإمام أن يُعجِّل الفرقة، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة، ويجوز للمرأة التربُّصُ به إلى أن يسلم، ولو مكثت سنين، كل هذا جائزٌ لا محذور فيه.
والنكاح له ثلاثة أحوالٍ:
- حال لزومٍ.
- وحال تحريمٍ وفسخٍ ليس إلا، كمن أسلم وتحته من لا يجوز ابتداء العقد عليها.
- وحال جوازٍ ووقفٍ، وهي مرتبةٌ بين المرتبتين لا يُحكم فيها بلزوم النكاح ولا بانقطاعه بالكلية، وفي هذه الحال تكون الزوجة بائنةً من وجهٍ دون وجهٍ.
ولما قدم أبو العاص بن الربيع المدينةَ في زمن الهُدْنة وهو مشركٌ،
(1)
علَّقه عنه ابن حزم (7/ 313)، وهو في "المصنف"(18613) بنحوه.
سألت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ينزل في دارها؟ فقال: "إنه زوجك، ولكن لا يصل إليك"
(1)
.
فالنكاح في هذه المدة لا يُحكم ببطلانه، ولا بلزومه وبقائه من كل وجهٍ، ولهذا خيَّر أمير المؤمنين المرأة تارةً، وفرَّق تارةً، وعرض الإسلام على الثاني تارةً، فلما أبى فرَّق بينهما. ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأته أسلم أحدهما قبل الآخر أصلًا، ولا في موضع واحدٍ.
قال مالك
(2)
: قال ابن شهابٍ: كان بين إسلام صفوان بن أمية وامرأته بنتِ الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهرٍ، أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حنينًا و الطائف وهو كافرٌ، ثم أسلم، فلم يفرِّق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، واستقرَّت عنده امرأته بذلك النكاح.
قال ابن عبد البر
(3)
: وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.
وقال الزهري: أسلمت أم حكيمٍ يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة حتى
(1)
أخرجه الحاكم (3/ 326 - 327) ــ وعنه البيهقي (7/ 185) ــ من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة. إسناده حسن إن صحَّ أن ابن إسحاق رواه موصولًا، وإلا فقد أخرجه ابن هشام في "السيرة"(1/ 657) والطبري في "التاريخ"(2/ 471) والطبراني في "الكبير"(22/ 430) من طريقين عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان مرسلًا.
(2)
في "الموطأ"(1565 - 1566).
(3)
"التمهيد"(12/ 19). وتمام كلامه: "لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمامها، وشهرة هذا الحديث
…
".
أتى اليمن، فارتحلت حتى قَدِمت عليه اليمنَ، فدعته إلى الإسلام، فأسلم وقَدِمَ فبايع النبي صلى الله عليه وسلم فثبتا على نكاحهما
(1)
.
وقال ابن شبرمة: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما
(2)
.
وأسلم أبو سفيان عام الفتح قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ولم تُسلِم امرأته هند حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فثبتا على نكاحهما
(3)
.
وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن [أبي] أمية فلقيا النبي صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح بالأبواء، فأسلما قبل نسائهما
(4)
.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ زينب ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول بعد ست سنين.
قال أبو داود
(5)
: حدثنا عبد الله بن محمد النُّفيلي، نا محمد بن سلمة،
(1)
أسنده مالك في "الموطأ"(1568)، وعبدُ الرزاق (12646) عن معمر، كلاهما عن الزهري مرسلًا.
(2)
هذه الفقرة والفقرتان التاليتان في "المغني"(10/ 9).
(3)
انظر قصة إسلام أبي سفيان عند البخاري (4280).
(4)
قصة إسلامهما أخرجها الطبراني في "الكبير"(7264). وانظر "الفتح"(9/ 421).
(5)
برقم (2240)، وأخرجه أيضًا أحمد (2366) والترمذي (1143) وابن ماجه (2009) والحاكم (3/ 237) وغيرهم من طرق عن ابن إسحاق به. وقد ورد تصريح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد والترمذي والحاكم. قال الترمذي:"هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قِبَل حفظه". وداود متكلَّم في روايته عن عكرمة، حتى قال ابن المديني وأبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. ولكن هذا الحديث أجود وأصح مما يخالفه كما نصَّ عليه الأئمة (وستأتي أقوالهم قريبًا)، وله شواهد مرسلة عن عددٍ من التابعين تعضده. انظر:"أنيس الساري"(1003).
عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يُحدِث شيئًا. وفي لفظ له: بعد ست سنين. وفي لفظ: بعد سنتين.
قال شيخ الإسلام
(1)
: هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث، والذي روي أنه جدَّد النكاح ضعيفٌ
(2)
.
قال: وكذلك كانت المرأة تُسلِم، ثم يسلم زوجها بعد مدّةٍ
(3)
، والنكاح بحاله، مثل أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب، فإنها أسلمت قبل العباس بمدةٍ. قال عبد الله بن عباس: كنت أنا وأمي ممن عذَرَ الله بقوله: {إِلَّا اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَاَلنِّسَاءِ وَاَلْوِلْدَانِ} [النساء: 97]
(4)
.
(1)
لم أجد نصَّ كلامه الطويل الذي نقله المؤلف هنا. وأشار إليه في "منهاج السنة"(8/ 246). وانظر: "الفروع"(8/ 301)، و"الاختيارات" للبعلي (ص 325).
(2)
سيأتي ذكر الحديث وتخريجه قريبًا.
(3)
في المطبوع: "بعدها" خلاف الأصل.
(4)
أخرجه البخاري (4588).
ولما فُتح مكة أسلم نساء الطلقاء، وتأخَّر إسلامُ جماعةٍ منهم ــ مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهلٍ وغيرهما ــ الشهرين والثلاثة وأكثر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فرقًا بين ما قبل انقضاء العدة وما بعدها. وقد أفتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنها تُردُّ إليه، وإن طال الزمان.
وعكرمة بن أبي جهل قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ بعد رجوعه من حصار الطائف، وقَسْم غنائم حنينٍ
(1)
في ذي القعدة، وكان فتح مكة في رمضان، فهذا نحو ثلاثة أشهرٍ يمكن انقضاء العدة فيها وفيما دونها، فأبقاه على نكاحه، ولم يسأل امرأته هل انقضت عدتك أم لا؟ ولا سأل عن ذلك امرأةً واحدةً، مع أن كثيرًا منهن أسلم بعد مدةٍ يجوز انقضاء العدة فيها.
وصفوان بن أمية شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينًا وهو مشركٌ، وشهد معه الطائف كذلك إلى أن قُسِم غنائم حنينٍ بعد الفتح بقريبٍ من شهرين، فإن مكة فتحت لعشرٍ بقين من رمضان، وغنائم حنينٍ قُسِمت في ذي القعدة، ويجوز انقضاء العدة في مثل هذه المدة.
قال: وبالجملة، فتجديد ردِّ المرأة على زوجها بانقضاء العدة لو كان هو شرعه الذي جاء به لكان هذا مما يجب بيانه للناس من قبل ذلك الوقت، فإنهم أحوجُ ما كانوا إلى بيانه. وهذا كله ــ مع حديث زينب ــ يدلُّ على أن المرأة إذا أسلمت وامتنع زوجها من الإسلام فلها أن تتربَّص وتنتظر إسلامه. فإذا اختارت أن تقيم منتظرةً لإسلامه، فإذا أسلم أقامت معه= فلها ذلك، كما
(1)
في الأصل: "خيبر" تصحيف.
كان النساء يفعلن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كزينب ابنته وغيرها، ولكن لا تُمكِّنه من وطئها، ولا حكمَ له عليها ولا نفقةَ ولا قسْمَ، والأمر في ذلك إليها لا إليه، فليس هو في هذه الحال زوجًا مالكًا لعصمتها من كل وجهٍ، ولا يحتاج إذا أسلم إلى ابتداء عقدٍ يحتاج فيه إلى ولي وشهودٍ ومهرٍ وعقدٍ، بل إسلامه بمنزلة قبوله للنكاح، وانتظارها بمنزلة الإيجاب.
وسرُّ المسألة أن العقد في هذه المدة جائزٌ لا لازمٌ، ولا محذورَ في ذلك، ولا ضررَ على الزوجة فيه، ولا يناقض ذلك شيئًا من قواعد الشرع.
وأما الرجل إذا أسلم، وامتنعت المشركة أن تُسلم، فإمساكه لها يضرُّ بها، ولا مصلحةَ لها فيه، فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالمًا، فلهذا قال تعالى:{وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فنهى الرجال أن يستديموا نكاحَ الكافرة، فإذا أسلم الرجل أُمِرتْ امرأته بالإسلام، فإن لم تُسلِم فرق بينهما.
قال شيخنا: وقد يقال: بل هذا النهي للرجال ثابتٌ في حقّ النساء، ويقال: إن قضية زينب منسوخةٌ، فإنها كانت قبل نزول آية التحريم لنكاح المشركات، وهذا مما قاله طائفةٌ منهم محمد بن الحسن.
قلت: وهذا قاله غير واحدٍ من العلماء. قال أبو محمد بن حزمٍ
(1)
: أما خبر زينب فصحيح، ولا حجة فيه، لأن إسلام أبي العاص كان قبل الحديبية،
(1)
"المحلى"(7/ 315).
ولم يكن نزلَ بعدُ تحريمُ المسلمة على المشرك. وكذلك قال البيهقي
(1)
.
قال شيخنا: لكن يقال: فهذه الآية كانت قبل فتح مكة بعد الحديبية، ثم لما فُتح مكة ردَّ نساءً كثيرًا على أزواجهن بالنكاح الأول، لم يُحدِث نكاحًا، وقد احتبس أزواجهن عليهن
(2)
، ولم يأمر رجلًا واحدًا بتجديد النكاح البتة. ولو وقع ذلك لنُقِل، ولما أهملت الأمة نقْلَه.
قلت: وبهذا يُعلم بطلان ما قاله أبو محمد بن حزمٍ، فإنه قال
(3)
: ولا سبيلَ إلى خبرٍ صحيح بأن إسلام رجل تقدَّم على إسلام امرأته، أو تقدَّم إسلامها عليه، وأقرهما على النكاح الأول، فإذْ لا سبيلَ إلى هذا فلا يجوز أن يطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إطلاق الكذب والقول بغير علمٍ.
قال
(4)
: فإن قيل: قد روي أن أبا سفيان أسلم قبل هند، وامرأة صفوان أسلمت قبل صفوان. قلنا: من أين لكم أنهما بقيَا على نكاحهما فلم يجدِّدا عقدًا؟ وهل جاء ذلك قطُّ بإسناد صحيح متصلٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرف ذلك فأقرَّه؟ حاشَ لله من هذا. انتهى كلامه.
(1)
كذا قال المؤلف، ولكن كلام البيهقي في "السنن الكبير"(7/ 188) و"الخلافيات"(6/ 112) أنه لم يلبث إلا يسيرًا بعد نزول التحريم حتى أُسر فأُتي به إلى المدينة فأظهر إسلامه، "فلم يكن بين توقُّف نكاحِها على انقضاء العدة وبين إسلامه إلا اليسير"، أي: إنه أسلم قبل أن تنقضي عدَّتها بعد نزول التحريم.
(2)
في الأصل: "عليهم" تحريف.
(3)
"المحلى"(7/ 315).
(4)
أي ابن حزم، والكلام متصل بما قبله.
وهذا من أوابده، وإقدامِه على إنكار المعلوم لأهل الحديث والسير بالضرورة. بل من له إلمامٌ بالسنة وأيامِ الإسلام وسيرةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيفيةِ إسلام الصحابة ونسائهم= يعلم علمًا ضروريًّا لا يشكُّ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتبر في بقاء النكاح أن يتلفظ الزوجان بالإسلام تلفظًا واحدًا، لا يتقدم أحدهما على الآخر بحرفٍ ولا يتأخر عنه بحرفٍ، لا قبلَ الفتح ولا بعده إلى أن توفّاه الله عز وجل.
ويَعلم علمًا ضروريًّا أنه لم يفسخْ نكاح أحدٍ سبقَ امرأته بالإسلام أو سبقتْه، ثم أسلم الثاني، لا في العدة ولا بعدها.
وكذلك أيضًا يَعلم أنه لم يُجدِّد نكاحَ أحدٍ سبقتْه امرأته بالإسلام أو سبقها
(1)
، ثم أسلم الثاني، لا في العدة ولا بعدها.
وكذلك أيضًا يَعلم أنه لم يجدِّد نكاح أحدٍ سبقته امرأته أو سبقها بالإسلام، بحيث أحضر الولي والشهود وجدّد العقد والمهر. وتجويز وقوع مثل هذا ــ ولا ينقله بشرٌ على وجه الأرض ــ يفتح بابَ تجويز المحالات، وأنه كان لنا صلاةٌ سادسةٌ ولم ينقلها أحدٌ، وأذانٌ زائدٌ ولم ينقله أحدٌ، ومن هذا النمط، وذلك من أبطل الباطل وأبينِ المحال. فهذه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وأحوال أصحابه بين أظهر الأمة تشهد ببطلان ما ذكره، وأن إضافته إليه محضُ الكذب والقول عليه بلا علمٍ.
فإن قيل: فقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ
(1)
في الأصل: "أو سبقته".
ابنته على أبي العاص بمهرٍ جديدٍ ونكاحٍ جديدٍ. رواه الترمذي
(1)
. فكيف تقولون: إنه لم يجدِّد لأحدٍ ممن تقدَّم إسلام امرأته نكاحًا؟
قيل: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أئمة الحديث. قال الترمذي
(2)
: في إسناده مقال.
وقال الإمام أحمد
(3)
: هذا حديث ضعيف، والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرَّها على النكاح الأول. هذا لفظه.
وقال الدارقطني
(4)
: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّها بالنكاح الأول.
وقال الترمذي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أنه ردَّها بالنكاح الأول،
(1)
برقم (1142)، وأخرجه أيضًا أحمد (6938) وابن ماجه (2010) والدارقطني (3625) والحاكم (3/ 639) ــ ولم يصححه ــ وغيرهم من طرق عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2)
عقب الحديث (1142). وأسند عقب الحديث (1144) عن يزيد بن هارون أنه ذكر حديث الحجاج هذا وقال: "حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا". وبنحوه قول البخاري، وسيأتي.
(3)
عقب الحديث (6938) وفيه زيادةً على ما نقل المؤلف: "لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يسوى حديثه شيئًا".
(4)
في "السنن" عقب الحديث (3625)، وفيه بعد قوله:"هذا حديث لا يثبت": "وحجاج لا يُحتج به".
فكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين، ولم يُحدِث نكاحًا": هذا حديث حسن، ليس بإسناده بأسٌ.
فإن قيل: الكلام مع من صحَّح هذا الحديث، فإنه حديث مضطربٌ. قد روي أنه كان بين إسلامهما سنتان، وروي ستُّ سنين، ولا يصح واحدٌ من الأمرين، فإن زينب لم تزل مسلمةً من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو العاص أسلم في السنة السادسة في زمن الهدنة، فبين إسلامه وإسلامها ثمان عشرة سنةً أو ما يزيد عليها، وكذلك رواية من روى سنتين هي غلطٌ قطعًا، فإن زينب لم تبق مشركةً إلى السنة الرابعة من الهجرة، والحديث من رواية ابن إسحاق، وكلام الأئمة فيه معروفٌ.
فالجواب أن يقال: من أين لكم تقدُّم إسلام زينب من أول المبعث، فإنها كانت تحت أبي العاص بن الربيع وهو مشركٌ، وأصحُّ ما في تقدُّم إسلامها حديث ابن عباس هذا، وهو يقتضي أنها أسلمت حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكذلك قال ابن شهابٍ: أسلمت زينب وهاجرت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي ذكر ذلك.
على أنه إن
(1)
كان إسلامها من حين المبعث كما حكى فيه الإجماع أبو محمد بن حزمٍ، فقال
(2)
: وقد أسلمت زينب في أول مبعث أبيها صلى الله عليه وسلم، لا خلاف في ذلك، ثم هاجرت إلى المدينة وزوجها كافرٌ، فكان بين إسلامها
(1)
"إن" ساقطة من المطبوع.
(2)
"المحلى"(7/ 315).
وإسلامه أزيدُ من ثمان عشرة سنةً، وقد ولدتْ في خلال ذلك عليَّ بن أبي العاص.
وهذا الذي قاله أبو محمد هو الحق، وأنها لم تزل مسلمةً من حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن التوقيت بالسنتين أو بالست كان بين إسلامه وظهور إسلامها وإعلانه بالهجرة، فإن نساء المؤمنات كن يَستخفينَ من أزواجهن بالإسلام في مكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر من هاجر معه منهن إسلامها، وزينب هاجرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وقعة بدرٍ، فكان بين ظهور إسلامها بهجرتها وإسلامِ أبي العاص سنتان. وأما الست سنين فهي بين ظهورِ الإسلام العام بالهجرة وإسلامِ أبي العاص.
على أن عبد الرزاق
(1)
قد ذكر عن ابن جريجٍ، عن رجلٍ، عن ابن شهابٍ قال: أسلمت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع بمكة مشركٌ، ثم شهد أبو العاص بدرًا مشركًا، فأُسِر ففَدى وكان موسرًا، ثم شهد أحدًا مشركًا، ورجع إلى مكة ومكث بها ما شاء الله، ثم خرج إلى الشام تاجرًا فأُسِر بطريق الشام، أسره نفرٌ من الأنصار، فدخلت زينب على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن المسلمين يُجِير عليهم أدناهم، فقال:"وما ذاك يا زينب؟ "، فقالت: أجرتُ أبا العاص،
(1)
برقم (12649)، وسنده ظاهر الانقطاع مع جهالة أحد رواته. وفي بعض متنه نكارة، وهو قوله:"ثم لم يُجِزْ جوارَ امرأةٍ بعدها"، فقد صحَّ أنه صلى الله عليه وسلم أجاز جوار أم هانئ يوم الفتح.
فقال: "قد أجزتُ جِوارَكِ"، ثم لم يُجِزْ جِوارَ امرأةٍ بعدها، ثم أسلما
(1)
، فكانا على نكاحهما. وكان عمر خطبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقالت: أبو العاص يا رسول الله حيثُ علمتَ، وقد كان نِعَم الصهر، فإن رأيتَ أن تنتظره، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
قلت: قوله: "ثم أسلما" أي اجتمعَا على الإسلام، وإلا فزينب أسلمت قبله قطعًا، وهاجرت بعد بدرٍ قطعًا كما في "المسند" و"السنن"
(2)
من حديث عائشة رضي الله عنهما قالت: لما بَعثَ أهل مكة في فداء أسراهم بَعثتْ زينب في فداء أبي العاص بمالٍ، وبَعثتْ فيه بقلادةٍ لها كانت عند خديجة أدخلَتْها بها على أبي العاص. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقَّةً شديدةً، وقال:"إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرَها وتردُّوا عليها الذي لها"، قالوا: نعم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعدَه أن يُخلي سبيلَ زينبَ إليه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال: "كونا ببطن يَأْجَجَ
(3)
حتى تمرَّ
(1)
كذا، وعليه شرح المؤلف الآتي. والظاهر أنه تصحيف في النسخة التي اعتمدها المؤلف، فإن الذي في جميع طبعات "المصنف":"أسلم" بالإفراد، وكذا فيما اطلعت عليه من النسخ الخطية، وكذا نقله ابن عبد البر في "الاستذكار"(16/ 328). وهو مقتضى السياق، ففي أول الحديث: "أسلمت زينب
…
".
(2)
"مسند أحمد"(26362) و"سنن أبي داود"(2692) واللفظ له، وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير"(22/ 427) والحاكم (3/ 23) بإسناد حسن.
(3)
يأجج: وادٍ ينصبُّ من مطلع الشمس إلى مكة، قريب منها. انظر:"معجم ما استعجم"(2/ 1385). وهو على ثمانية أميال من مكة كان ينزله عبد الله بن الزبير.
بكما زينب، فتَصْحَباها حتى تَأتِيا بها".
وأما تعلُّقكم على محمد بن إسحاق
(1)
فتعلُّقٌ ضعيفٌ، وقد صحَّح الأئمة حديثَه هذا، وبيَّنُوا أنه أولى بالصحة من حديث عمرو بن شعيبٍ أنه ردَّها بنكاحٍ جديدٍ، وأن ذلك لا يثبت، كما تقدم حكاية كلامهم. وثناء الأئمة على ابن إسحاق وشهادتهم له بالإمامة والحفظ والصدق أضعافُ أضعافِ القدح فيه.
وقد أجيب عن حديث زينب رضي الله عنها بأجوبةٍ كلها ضعيفةٌ أو فاسدةٌ، ونحن نذكرها.
قال أبو عمر
(2)
: إن صحَّ حديث ابن عباس هذا، فلا يخلو من أحد وجهين: إما أنها لم تَحِضْ ثلاث حِيَضٍ حتى أسلم زوجها، وإما أن الأمر فيها منسوخٌ بقوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، يعني في عدتهن، وهذا ما لا خلافَ فيه بين العلماء: أنه عنى به العدة.
وقال ابن شهابٍ في قصة زينب هذه: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض
(3)
.
(1)
أي: في حديثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول.
(2)
"الاستذكار"(16/ 327، 328).
(3)
أسنده الطحاوي في "معاني الآثار"(3/ 260) من طريق سفيان بن الحسين عن الزهري به. وسفيان بن الحسين ثقة إلا في روايته عن الزهري، فإنه ليس بالقوي فيه.
وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين
(1)
.
وقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته إلى أبي العاص بن الربيع بنكاحٍ جديدٍ. وإذا كان هذا سقطَ القول في قصة زينب.
وكذلك قال الشعبي ــ مع علمه بالمغازي ــ: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردَّ زينب إلى أبي العاص إلا بنكاحٍ جديدٍ
(2)
.
ولا خلاف بين العلماء في الكافرة تُسلم، ويأبى زوجها من
(3)
الإسلام حتى تنقضي عدتها، أنه لا سبيلَ له عليها إلا بنكاحٍ جديدٍ.
وهذا كله يتبين به أن قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ردَّها على النكاح الأول" أنه أراد به على مثل الصداق الأول إن صحَّ، وحديث عمرو بن
(1)
أسنده الطحاوي في "معاني الآثار"(3/ 260).
(2)
أسنده الطحاوي في "معاني الآثار"(3/ 256) من طريق يحيى الحماني عن حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند عنه. وفيه وصف الطحاوي للشعبي بقوله:"مع علمه بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما هنا، فالظاهر أن ابن عبد البر صادر عنه.
وفي صحَّة هذا القول عن الشعبي نظر، وذلك لضعف يحيى الحماني، ولأن سعيد بن منصور روى في "سننه"(2107) عن هشيم عن داود عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "ردَّها عليه بالنكاح الأول". هذا إسناد صحيح على رسم مسلم. وكذلك أخرج عبد الرزاق (12640) من طريق جابر الجعفي، وابن سعد في "الطبقات"(10/ 33) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما (جابر وإسماعيل) عن الشعبي بنحوه.
(3)
"من" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و"الاستذكار".
شعيبٍ عندنا صحيح. انتهى كلامه
(1)
.
قلت
(2)
: أما كونها لم تَحِضْ في تلك السنين الست إلا ثلاثَ حِيَضٍ، فهذا مع أنه في غاية البعد، وخلاف ما طبع الله عليه النساء، فمثله لو وقع لَنُقِل، ولم ينقل ذلك أحدٌ، ولم يحدّ النبي صلى الله عليه وسلم بقاء النكاح بمدة العدة حتى يقال: لعل عدتها تأخرت، فلا التحديدُ بالثلاث حيضٍ ثابتٌ، ولا تأخُّرُها ست سنين معتادٌ.
وأما ادعاء نسخ الحديث فأبعدُ وأبعدُ، فإن شروط النسخ منتفيةٌ، وهي وجود المعارض ومقاومته وتأخُّره، فأين معكم واحدٌ من هذه الثلاثة؟
وأعجب من هذا دعوى أن يكون الناسخ قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 226]، فإن هذا في المطلَّقات الرجعيات بنص القرآن واتفاق الأمة. ولم يقل أحدٌ: إن إسلام المرأة طلقةٌ رجعيةٌ يكون بعلُها أحقَّ بردها في عدتها، والذين يحكمون بالفرقة بعد انقضاء العدة لا يوقعونها من حين الإسلام، بخلاف الطلاق فإنه ينفُذ من حين التطليق، ويكون للزوج الرجعةُ في زمن العدة.
وأما قول الزهري: إن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض، فكأنه أراد أن الحديث منسوخٌ. فيقال: وأين الناسخ له
(3)
من كتاب الله أو سنة رسوله؟ فإن
(1)
أي كلام ابن عبد البر في "الاستذكار".
(2)
من هنا مناقشة المؤلف لكلام ابن عبد البر.
(3)
"له" ساقطة من المطبوع.
قال: الناسخ له قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فيقال: هذه الآية نزلت في قصة صلح الحديبية باتفاق الناس، وردُّ زينب على أبي العاص كان بعد ذلك لما قدم من الشام في زمن الهدنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب:"أَكرِمي مَثْواه، ولكن لا يصلُ إليك"، امتثالًا لقوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . ثم ذهب أبو العاص إلى مكة، فردَّ الودائع والأمانات التي كانت عنده، ثم جاء فأسلم، فردَّها عليه بالنكاح الأول.
وقوله: "إن ذلك كان قبلَ أن تنزل الفرائض" لم يُرِد به فرائض الإسلام، فابن شهابٍ أعلم وأجلُّ من أن يريد ذلك، والظاهر أنه إنما أراد فريضة تحريم نكاح المشرك والمشركة.
وأقصى ما يقال: أن ردَّ زينب على أبي العاص ونزول آية التحريم كانا في زمن الهدنة، فمن أين يُعلم تأخُّر نزول الآية عن قصة الزوجين لتكون ناسخةً لها؟ ولا يمكن دعوى النسخ بالاحتمال.
وأما قول قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين= فلا ريبَ أنه كان قبل نزول براءة، ولكن أين في سورة براءة ما يدل على إبطال ما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين بُعِث إلى أن توفَّاه الله تعالى من عدم التفريق بين الرجل والمرأة، إذا سبق أحدهما بالإسلام؟ والعهود التي نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين هي عهود الصلح التي كانت بينه وبينهم، فهي براءةٌ من العقد والعهد الذي كان بينه وبينهم، ولا تعرُّضَ فيها للنكاح بوجهٍ من الوجوه. وقد أكد الله سبحانه
البراءة بين المسلمين والكفار قبل ذلك في سورة الممتحنة وغيرها، ولكن هذا لا يناقض تربُّصَ المرأة بنكاحها إسلام زوجها، فإن أسلم كانت امرأته وإلا فهي بريئةٌ منه.
وأما قوله: "وقد روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده أنه ردَّها بنكاحٍ جديدٍ"، فلو وصل إلى عمرٍو لكان حجةً، فإنا لا ندفع حديث عمرو بن شعيبٍ، ولكن دون الوصول إليه مفاوزُ مُجدِبةٌ معطشةٌ لا تُسلَك، فلا يُعارَض بحديثه الحديثُ الذي شهد الأئمة بصحته.
وأما قول الشعبي: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردَّها إلا بنكاحٍ جديدٍ"، فهذا إن صح عن الشعبي
(1)
فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه، وإن كان قاله رواية فهو منقطعٌ لا تقوم به حجةٌ، فبينَ الشعبي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفازةٌ لا يُدرى حالها.
وأما قوله: لا خلافَ بين العلماء في الكافرة تُسلم، ويأبى زوجها من
(2)
الإسلام حتى تنقضي عدتها، أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاحٍ جديد
(3)
= فهذا قاله أبو عمر رحمه الله تعالى بحسب ما بلغه، وإلا فقد ذكرنا في المسألة
(4)
مذاهب تسعةً، وذكرنا مذهب عليّ، ولا يُحفَظ اعتبار العدَّة عن صاحبٍ
(1)
وقد بينَّا أنه لا يصح، يل الصحيح عنه خلافه.
(2)
"من" ساقطة من المطبوع.
(3)
"جديد" ساقطة من المطبوع.
(4)
في المطبوع: "المسلمة" تحريف.
واحدٍ البتةَ، وأرفعُ ما فيه قول الزهري الذي رواه مالك عنه في "الموطأ"
(1)
، ولفظه: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشامٍ أسلمت يومَ الفتح بمكة، وهربَ زوجُها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدِمَ اليمن، فارتحلت أم حكيمٍ حتى قدِمتْ على زوجها باليمن، ودَعتْه إلى الإسلام فأسلم، وقدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، فثبَتا على نكاحهما ذلك.
قال ابن شهابٍ: ولم يبلغنا أن امرأةً هاجرت إلى الله وإلى رسوله، وزوجها كافرٌ مقيمٌ بدار الكفر، إلا فرَّقَت هجرتُها بينها وبين زوجها، إلا أن يَقْدَم زوجُها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدَّتُها. وأنه لم يبلغنا أن امرأةً فُرِّق بينها وبين زوجها إذا قَدِم وهي في عدَّتها
(2)
. فلا يُعرف في اعتبار العدة غيرُ هذا الأثر.
وأما قوله: "إنه ردَّها على النكاح الأول، أي: على مثل الصَّداق الأول"، فلا يخفى ضعفه وفساده، وأنه عكس المفهوم من لفظ الحديث، وقولُه:"لم يُحدِثْ شيئًا" يأباه. ونحن نذكر ألفاظ الحديث لنبيِّن أنها لا تحتمل ذلك:
ففي "المسند" و"السنن"
(3)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
(1)
رقم (1568).
(2)
رواه مالك في "الموطأ" برواية يحيى الليثي (1567) دون الجملة الأخيرة، فهي في "الموطأ" برواية ابن بكير (ق 265 - نسخة جامعة اسطنبول). ومن طريق ابن بُكير عن مالك أخرجه البيهقي في "السنن"(7/ 187) و"الخلافيات"(6/ 110). وأسنده عبد الرزاق (12646) عن معمر عن ابن شهاب بنحوه.
(3)
"مسند أحمد"(1876) و"سنن أبو داود"(2240)، وقد سبق تخريجه موسَّعًا.
- صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، لم يُحدِث شيئًا.
وفي لفظ
(1)
: بنكاحها الأول لم يُحدِث صداقًا.
وفي لفظ
(2)
: لم يُحدِث
(3)
شهادةً ولا صداقًا.
وفي لفظ
(4)
: لم يُحدِث نكاحًا.
فهذا كله صريحٌ في أنه بقَّاهما على نفس النكاح الأول، لا يحتمل الحديث غير ذلك.
وأما قوله: فحديث عمرو بن شعيبٍ عندنا صحيح= فنعم إذا وُصِل إليه بسندٍ صحيح، وهذا منتفٍ في هذا الحديث كما تقدَّم.
قال الترمذي في كتاب "العلل"
(5)
: سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: حديث ابن عباس أصحُّ في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيبٍ.
(1)
لأحمد (3290) والحاكم (4/ 46).
(2)
لأحمد (2366).
(3)
"لم يحدث" ساقطة من المطبوع.
(4)
للترمذي (1143).
(5)
"العلل الكبير" بترتيب أبي طالب القاضي (ص 167). والمؤلف صادر عن "الخلافيات" للبيهقي (6/ 113).
وذكر أبو عبيد
(1)
عن يحيى بن سعيد القطّان أن حجاج بن أرطاة ــ وهو راويه عن عمرو بن شعيبٍ ــ لم يسمعه من عمرٍو، وأنه من حديث محمد بن عبيد الله العَرْزمي عن عمرٍو.
قال البيهقي
(2)
: فهذا الحديث لا يَعْبأ به أحدٌ يدري ما الحديث.
قال: والذي ذكره بعض الناس في الجمع بين حديث عبد الله بن عمرٍو وحديث ابن عباس، بأن قال: علم عبد الله بن عمرٍو بتحريم الله سبحانه رجوعَ المؤمنات إلى الكفار، فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاحٍ جديدٍ. وأما ابن عباس فلم يعلم بتحريم الله عز وجل المؤمناتِ على الكفار حتى علِمَ بردِّ زينب على أبي العاص فقال: ردَّها بالنكاح الأول؛ لأنه لم يكن بينهما عنده فسخُ نكاحٍ.
قال البيهقي
(3)
: وليس هذا بجمعٍ صحيح، وما هو إلا سوء ظنٍّ بالصحابة، حيث نسبَهم إلى المجازفة برواية الحديث على ما وقع لهم من غير سماعٍ. وحديث عبد الله بن عمرٍو لم يُثبِته الحفّاظ على ما قدّمنا ذكره، وابن عباس لم يقل:"ردَّها عليه بالنكاح الأول، ولم يُحدِث شيئًا" إلا بعد إحاطة العلم به بنفسه أو عمن يثق به، وكيف يشتبه على مثله نزول الآية في
(1)
كما في "الخلافيات"(6/ 113) و"السنن الكبير"(7/ 188)، ولم أجده في كتب أبي عُبيد المطبوعة.
(2)
في "الخلافيات"(6/ 114).
(3)
في "الخلافيات"(6/ 114 - 115).
الممتحنة قبل ردِّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته على أبي العاص؟ وإن اشتبه ذلك عليه في وقت نزولها لم يشتبه على مثله الخبر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم منازلَ القرآن وتأويله، هذا بعيدٌ لا يجوز الحمل عليه. انتهى كلامه.
قال أصحاب هذا القول: ثم نقول: دعونا من هذا كله، وهَبْ أنه صحَّ لكم جميع ما ذكرتم في قصة زينب، فمن أين لكم أن المُراعى في أمر أبي العاص وأمرِ هندٍ وامرأةِ صفوان وأم حكيمٍ وسائرِ من أسلم إنما هو العدّة؟ ومَن أخبركم بهذا، وليس في شيء من الأحاديث الصحاح ولا الحسان ذكْرُ عدّةٍ في ذلك، ولا دليلَ عليها أصلًا من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الصحابة؟
قالوا: ولا عدَّةَ في دين الله إلا في طلاقٍ أو خلعٍ أو وفاةٍ أو عتقٍ تحت عبدٍ أو حرٍّ، فمن أين جئتمونا بهذه العدة، وجعلتموها حدًّا فاصلًا بين الزوج المالك للعصمة وغيره؟
فصل
قالوا: فهذا حكم الله الذي لا يحلُّ لأحدٍ أن يخرج عنه، وقد حرَّم فيه رجوع المؤمنة إلى الكافر، وصرَّح سبحانه بإباحة نكاحها، ولو كانت في عصمة الزوج حتى يُسلم في العدة أو بعدها لم يجزْ نكاحها، لا سيما والمهاجرة تُستبرأ بحيضةٍ، وهذا صريحٌ في انقطاع العصمة بالهجرة.
وقوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} صريحٌ في أن المسلم مأمورٌ أن لا يُمسِك عصمةَ امرأته إذا لم تُسلم، فصحَّ أن ساعةَ وقوع الإسلام منه تنقطع عصمة الكافرة منه.
وقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، صريحٌ في تحريم أحدهما على الآخر في كل وقتٍ. فهذه أربعة أدلةٍ من الآية، ودَعُونا من تلك المنقطعات والمراسيل والآثار المختلفة، ففي كتاب الله الشفاء والعصمة.
قال الآخرون: مرحبًا وأهلًا وسهلًا بكتاب الله، وسمعًا وطاعةً لقول ربنا، ولكن تأولتم الآية على غير تأويلها، ووضعتموها على غير مواضعها، وليس فيها ما يقتضي تعجيلَ الفرقة إذا سبق أحدهما الآخر بألفٍ أو ها
(1)
، ولا فهم هذا منها أحدٌ قطُّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين، ولا يدلُّ على ما ذهبتم إليه أصلًا.
أما قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ} فإنما يدلُّ على النهي عن ردِّ النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار، فأين في هذا ما يقتضي أنها
(1)
كذا في الأصل، ولعل المقصود:"بالإسلام أو الهجرة". وفي المطبوع: "بإلغائها"، ولا يناسب السياق.
لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم تُرَدُّ إليه؟ ولقد أبعد النجعةَ كلَّ الإبعاد مَن فهم هذا من الآية.
وكذلك قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين والكفار، وأن أحدهما لا يحلُّ للآخر، وليس فيه أن أحدهما لا يتربَّص بصاحبه للإسلام فيحلُّ له إذا أسلما.
وأما قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا خطاب للمسلمين ورفعٌ للحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بِنَّ من أزواجهن وتخلَّين منهم، وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها. ولا ريبَ أن المرأة إذا انقضت عدتها تُخيَّر بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها، فترجع إليه إما بالعقد الأول على ما نصرناه، وإما بعقد جديدٍ على قول من يرى انفساخَ النكاح بمجرد انقضاء العدة.
فلو أنا قلنا: إن المرأة تبقى محبوسةً على الزوج، لا نُمكِّنها أن تتزوج بعد انقضاء العدة، شاءت أم أبت= لكان في الآية حجةٌ علينا، ونحن لم نقل ذلك ولا غيرنا من أهل الإسلام، بل هي أحقُّ بنفسها، إن شاءت تزوَّجتْ وإن شاءت تربَّصتْ.
فأما قوله تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} فإنما تضمَّن النهيَ عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها وهي مقيمةٌ على شركها وكفرها، وليس فيه النهي عن الانتظار بها أن تُسلم ثم يمسك بعصمتها.
فإن قيل: فهو في التربص ممسكٌ بعصمتها، قلنا: ليس كذلك، بل هي
متمكنةٌ بعد انقضاء عدتها من مفارقتِه والتزوُّجِ بغيره، ولو كانت العصمة بيده لما أمكنها ذلك.
وأيضًا فالآية إنما دلَّت على أن الرجل إذا أسلم ولم تسلم المرأة، أنه لا يُمسكها بل يفارقها، فإذا أسلمت بعده فله أن يمسك بعصمتها، وهو إنما أمسك بعصمة مسلمةٍ لا كافرةٍ.
وأيضًا فإن تحريم النساء المشركات على المؤمنين لم يُستفَد بهذه الآية، بل كان ثابتًا قبل ذلك بقوله:{وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، وإنما اقتضت هذه الآية حكمه سبحانه بين المؤمنين والكفار في النساء اللاتي يرتددن إلى الكفار واللاتي يهاجرن إلى المسلمين، فإن الشرط كان قد وقع على أنَّ من شاء أن يدخل في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في دين قريشٍ وعهدهم دخل، فهاجر نسوةٌ اخترن الإسلام، وارتدَّ نسوةٌ اخترن الشرك، فحكَمَ الله أحسنَ حكمٍ بين الفريقين في هذه الآية، ونهى المسلمين فيها أن يمسكوا بعصمة المرأة التي اختارت الكفر والشرك، فإن ذلك منع لها من التزوج بمن شاءت وهي في عصمة المسلم، والعهد اقتضى أن من جاء من المسلمين رجالهم ونسائهم إلى الكفار يقرُّ على ذلك، ومن جاء من الكفار إلى المسلمين يُرَدُّ إليهم، فإذا جاءت امرأةُ كافرٍ
(1)
إلى المسلمين زالت عصمة نكاحها، وأبيح للمسلمين أن يزوِّجوها. فإذا فاتت امرأةٌ من المسلمين إلى الكفار فلو بقيت في عصمته ممسكًا لها لكان في ذلك ضررٌ بها إن لم يُمكِنها أن تزوَّج، وضررٌ به إن أمكنها أن تتزوج وهي في
(1)
في المطبوع: "كافرة"، وهو خطأ.
عصمته، فاقتضى حكمُه العدلُ الذي لا أحسن منه تعجيلَ التفريق بينه وبين المرأة المرتدة أو الكافرة عندهم، لتتمكن من التزويج كما تتمكن المسلمة من التزويج إذا هاجرت. فهذا مقتضى الآية، وهي لا تقتضي أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بمجرد إسلامها بينها وبين زوجها، فلو أسلم بعد ذلك لم يكن له عليها سبيلٌ. فينبغي أن تُعطى النصوصُ حقَّها، والسنةُ حقَّها، فلا تعارض بين هذه الآية وبين ما جاءت به السنة بوجهٍ ما، والكل من مشكاةٍ واحدةٍ يصدِّق بعضها بعضًا.
قال شيخ الإسلام
(1)
: وأما القول بأنه بمجرد إسلام أحد الزوجين المشركين تحصل الفرقة قبل الدخول أو بعده، فهذا قول في غاية الضعف، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من شريعة الإسلام، فإنه قد عُلِم أن المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كان يَسبِق بعضهم بعضًا بالتكلم بالشهادتين، فتارةً يُسلم الرجل وتبقى المرأة مدةً ثم تسلم، كما أسلم كثيرٌ من نساء قريشٍ وغيرهم قبل الرجال. وروي أن أم سليمٍ امرأة أبي طلحة أسلمت قبل أبي طلحة
(2)
. وتارةً يسلم الرجل قبل المرأة، ثم تسلم بعده بمدةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ.
وليس لقائل أن يقول: هذا كان قبل تحريم نكاح المشركين، لوجهين:
(1)
لم أجد كلامه في "مجموع الفتاوى" وغيره.
(2)
نعم أسلمت قبله، ولكنها لم تكن زوجَه حينئذ، بل لم تتزوجه إلا بعد إسلامه، وقد اشترطت عليه ذلك حين خطبها وهو كافر، كما في حديث أنس عند النسائي (3341) وابن حبان (7187) والطبراني في "الكبير"(5/ 91) والضياء في "المختارة"(4/ 427).
أحدهما: أنه لو قدِّر تقدُّم ذلك فدعوى المدَّعي أن هذا منسوخٌ تحتاج إلى دليلٍ.
الوجه الثاني: أن يقال: فقد أسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا بعد نزول تحريم المشركات، ونزول النهي عن التمسك بعِصَم الكوافر، فأسلم الطُّلقاء بمكة وهم خلقٌ كثيرٌ، وأسلم أهل الطائف وهم أهل مدينة، وكان إسلامهم بعد أن حاصرهم ونصب عليهم المنجنيق ولم يفتحها، ثم قسم غنائم حنينٍ بالجِعرانة، واعتمر عمرة الجعرانة، ثم رجع بالمسلمين إلى المدينة، ثم وفدَ وفدُ الطائف فأسلموا، ونساؤهم بالبلد لم يسلمن، ثم رجعوا وأسلم نساؤهم بعد ذلك. فمن قال: إن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيلَ الفرقة قبل الدخول أو بعده، فقوله مقطوعٌ بخطئه.
ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا ممن أسلم: هل دخلتَ بامرأتك أم لا؟ بل كل من أسلم وأسلمت امرأته بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاحٍ. وقد قدِمَ عليه وفود العرب، وكانوا يسلمون ثم يرجعون إلى أهليهم، فيسلم نساؤهم على أيديهم بعد إسلام أزواجهن، وبعث عليًّا ومعاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأسلم على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله من الرجال والنساء، ومعلومٌ قطعًا أن الرجل كان يأتيهم فيسلم قبل امرأته، والمرأة تأتيهم فتسلم قبل الرجل، ولم يقولوا لأحدٍ: ليكن تلفظُك وتلفظُ امرأتك بالإسلام في آنٍ واحدٍ، لئلا ينفسخ النكاح، ولم يفرِّقوا بين من دخل بامرأته وبين من لم يدخل، ولا حدُّوا ذلك بثلاثة قروءٍ، ثم يقع الفسخ بعدها، بل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ــ وقد باشر ذلك بنفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيبته عنه ــ قد قال:
"هو أحقُّ بها ما لم تخرج من مصرها"، وفي رواية عنه:"ما لم تخرج من دار هجرتها"
(1)
، ولم يعجِّل الفرقة، ولا حدَّها بثلاثة قروءٍ. وفي قضية زينب الشفاءُ والعصمة.
وكانت سنته صلى الله عليه وسلم أنه يجمع بين الزوجين إذا أسلم أحدهما قبل الآخر وتراضيا ببقائهما على النكاح، لا يفرِّق بينهما، ولا يُحوِجهما إلى عقد جديدٍ، فإذا أسلمت المرأة أولًا فلها أن تتربص بإسلام زوجها، أيَّ وقتٍ أسلم فهي امرأته، وإذا أسلم الرجل فليس له أن يحبس المرأة على نفسه ويُمسك بعصمتها، فلا يُكرِهها على الإسلام، ولا يحبسها على نفسه، فلا يظلمها في الدين ولا في النكاح، بل إن اختارت هي أن تتربص بإسلامه تربصت، طالت المدة أو قصرت، وإن اختارت أن تتزوج غيره بعد انقضاء عدتها فلها ذلك، والعدة هاهنا لحفظ ماء الزوج الأول. وأيهما أسلم في العدة أو بعدها فالنكاح بحاله، إلا أن يختار الرجل الطلاق فيطلِّق، كما طلَّق عمر رضي الله عنه امرأتين له مشركتين لما أنزل الله تعالى:{وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} ، أو تختار المرأة أن تزوَّج بعد استبرائها فلها ذلك.
وأيضًا فإن في هذا تنفيرًا عن الإسلام، فإن المرأة إذا علمت أو الزوج أنه بمجرد الإسلام يزول النكاح، ويفارق من يحب، ولم يبقَ له عليها سبيلٌ إلا برضاها ورضا وليِّها ومهرٍ جديدٍ= نفَرَ عن الدخول في الإسلام. بخلاف ما إذا علم كلٌّ منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراقَ بينهما إلا أن يختار
(1)
تقدَّم تخريجه وذكر ألفاظه (ص 440).
هو المفارقة= كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبتِه ما هو أدعى إلى الدخول فيه.
وأيضًا فبقاء مجرد العقد جائزًا غيرَ لازمٍ من غير تمكينٍ من الوطء خيرٌ محضٌ ومصلحةٌ بلا مفسدةٍ، فإن المفسدة إما بابتداء استيلاء الكافر على المسلمة، فهذا لا يجوز كابتداء نكاحه للمسلمة، وإن لم يكن فيه وطءٌ، كما لا يجوز استيلاؤه بالاسترقاق. وإما بالوطء بعد إسلامها، وهذا لا يجوز أيضًا، فصار إبقاء النكاح جائزًا فيه مصلحةٌ راجحةٌ للزوجين في الدين والدنيا من غير مفسدةٍ، وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي بتحريمه.
وكذلك الردة أيضًا، القولُ بتعجيل الفرقة فيها خلافُ المعلوم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فقد ارتدَّ على عهدهم خلقٌ كثيرٌ، ومنهم من لم ترتدَّ امرأته، ثم عادوا إلى الإسلام، وعادت إليهم نساؤهم، وما عُرِف أن أحدًا منهم أُمِر أن يجدِّد عقد نكاحه، مع العلم بأن منهم من عاد إلى الإسلام بعد مدةٍ أكثر من مدة العدة، ومع العلم بأن كثيرًا من نسائهم لم ترتدَّ، ولم يستفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل الردة هل عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة أم قبلها؟ بل المرتد إن استمرَّ على ردته قُتِل، وإن عاد إلى الإسلام فامرأته وماله باقٍ عليه بحاله، فماله وامرأته موقوفٌ، وفي تعجيل الفرقة تنفيرٌ لهم عن العود إلى الإسلام، والمقصود تأليف القلوب على الإسلام بكل طريقٍ.
فصل
ومن هذا أمر العقود التي وقعت منهم في الشرك، فإن الذين أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل أحدًا منهم: كيف كان عقدك على امرأتك؟ وهل نكحتَها في عدَّتها أم بعد انقضاء عدَّتها؟ وهل نكحتَ بولي وشهودٍ أم لا؟ ولا سأل من كان تحته أختان: هل جمعتَ بينهما في عقد واحدٍ أم تزوجتَ واحدةً بعد واحدةٍ؟ وقد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق الذين أسلموا، ودخلوا في دين الله أفواجًا، ولم يسأل أحدًا منهم عن صفة نكاحه، بل أقرَّهم على أنكحتهم، إلا أن يكون حين الإسلام أحدهم على نكاحٍ محرمٍ، كنكاح أكثر من أربع أو نكاح أختين، فكان يأمره أن يختار أربعًا منهن وإحدى الأختين، سواءٌ وقع ذلك في عقدٍ أو عقودٍ. وإن كان متزوجًا بذاتِ مَحرمٍ كامرأة أبيه أمره بفراقها، وهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين ومن بعدهم.
وأبو حنيفة ينظر إلى صفة العقد في الكفر: هل له مَساغٌ في الإسلام أم لا؟ فإن كان له مساغٌ صحَّحه، وإلا أبطله، فإن تزوج أكثر من أربع في عقد واحدٍ فسد نكاح الجميع، وإن كان في عقودٍ ثبت نكاح الأربع، وقد فسد نكاحُ من بعدهن من غير تخييرٍ، وكذلك الأختان.
والذي مضت به السنة قول الجمهور، كما في "السنن"
(1)
من حديث
(1)
"سنن أبي داود"(2243)، أخرجه أيضًا أحمد (18040، 18041 واللفظ له) والترمذي (1129، 1130)، وابن ماجه (1951) وابن حبان (4155)، كلهم من طريق أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي به. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصحح إسناده البيهقي في "معرفة السنن" (10/ 138). وأعلَّه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 249) فقال:"في إسناده نظر"، وقال في موضع آخر (4/ 333):"لا يعرف سماع بعضهم من بعض". وضعَّفه ابن القطان في "بيان الوهم"(3/ 494) لجهالة حال أبي وهب والضحاك.
الضحاك بن فَيروزٍ عن أبيه قال: أسلمتُ وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلِّق إحداهما. وفي لفظ للترمذي:"اختَرْ أيتَهما شئتَ".
قال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفرٍ قالا: حدثنا معمرٌ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوةٍ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اختَرْ منهن أربعًا". فلما كان في عهد عمر طلَّق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: إني لأظنُّ الشيطان فيما يسترِقُ من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك أن لا تمكثَ إلا قليلًا، وايمُ اللهِ لتُراجعَنَّ نساءَك ولتَرجعَنَّ في مالك، أو لأُورِثهن ولآمرنَّ بقبرك فيُرجَم كما رُجم قبر أبي رِغالٍ.
(1)
في "المسند"(4631)، وأخرجه أحمد أيضًا (4609) والترمذي (1128) وابن ماجه (1953) وابن حبان (4156، 4157) والحاكم (2/ 192، 193)، من طرق عن معمر به. وقد أعلَّه أحمد (كما سيأتي) والبخاري (كما نقله الترمذي عنه) وأبو زرعة والدارقطني، فقالوا: الصحيح من رواه عن الزهري مرسلًا أنَّه بلغه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1199) وللدارقطني (2997).
قال أحمد
(1)
: حدثنا محمد بن جعفرٍ، ثنا معمرٌ، أخبرنا ابن شهابٍ الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه قال: أسلم غيلان بن سلمة، وتحته عشر نسوةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتّخِذْ
(2)
منهن أربعًا".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة
(3)
: حدثنا عبد السلام، حدثنا إسحاق بن عبد الله، عن أبي وهبٍ الجيشاني، عن أبي خِراشٍ
(4)
الرُّعيني، عن الديلمي قال: قدمتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوَّجتُهما في الجاهلية، فقال:"إذا رجعتَ فطلِّقْ إحداهما".
ورواه الشالَنْجي
(5)
، عن الضحاك بن فيروزٍ، عن أبيه قال: أسلمتُ وعندي امرأتان أختان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اختَرْ إحداهما".
(1)
أسنده الخلال في "الجامع"(1/ 252) عن عبد الملك الميموني عنه.
تنبيه: وقع في طبعتَي "الجامع": "أخبرني عبد الملك قال: حدثنا حنبل
…
". الصواب: "ابن حنبل"، أي: أحمد كما عند المؤلف هنا، وله نظائر في "الجامع" نفسه. ثم إن عبد الملك لا يروي عن حنبل بن إسحاق، ولا أدرك حنبلٌ محمد بن جعفر.
(2)
في الأصل: "خذ". والمثبت من "الجامع".
(3)
أسنده الخلال في "الجامع"(1/ 255) عن المروذي عن ابن أبي شيبة به، وهو في "المصنف"(17466). وهذا الإسناد واهٍ، إسحاق بن عبد الله هو ابن أبي فروة، متروك الحديث، وقد خالفه غيرُه فرواه عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه، كما تقدَّم.
(4)
في المطبوع: "ابن خراش" خطأ.
(5)
لم أجد روايته فيما بين يدي من المصادر.
وفي "المسند"
(1)
من حديث قيس بن الحارث قال: أسلمتُ وتحتي ثمان نسوةٍ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ذلك فقال:"اختَرْ منهن أربعًا".
وحديث غيلان قد رواه الإمام أحمد والشافعي
(2)
ومالك
(3)
، لكنْ مالك أرسله عن الزهري، ومعمر وصله. وحكم الناس لمالك في إرساله، وغلَّطوا معمرًا في وصله، وقالوا: هو غير محفوظٍ
(4)
.
قال الأثرم
(5)
: ذكرت لأبي عبد الله الحديث الذي رواه البصريون [عن معمر] عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوةٍ،
(1)
كذا، وليس فيه ولم أجد من عزاه إليه. وقد أخرجه أبو داود (2241) وابن ماجه (1952) وأبو يعلى (6872) والدارقطني (3690) وغيرهم من طريقين ــ كلاهما ضعيف ــ عن حُميضَة بن الشَّمَرْدَل، عن قيس بن الحارث، وقيل: الحارث بن قيس. وحميضة مجهول، ولكنه توبع، تابعه رجل (وقد اختلف في اسمه) من ولد الحارث بن قيس قال: أسلم جدِّي وعنده ثمان نسوة
…
إلخ، أخرجه البخاري في "التاريخ"(2/ 262) والدارقطني (3692، 3693) والبيهقي في "السنن"(7/ 183، 184) من طريق المغيرة بن مقسم الضبي عنه.
والحديث حسَّنه الألباني في "الإرواء"(1885) بمجموع طرقه وشواهده.
(2)
تقدمت رواية أحمد. وأخرجه الشافعي في "الأم"(5/ 650، 6/ 420) قال: أخبرنا الثقة ــ قال الربيع: أحسبه ابن علية ــ عن معمر موصولًا. ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "السنن"(7/ 181) و"الخلافيات"(6/ 98).
(3)
في "الموطأ"(1717).
(4)
انظر: "المغني"(10/ 15)، و"مجموع الفتاوى"(32/ 318).
(5)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 252). والزيادة منه.
أصحيح هو؟ قال: لا ما هو صحيح.
قال مهنا
(1)
: سألت أحمد عن حديث معمرٍ عن الزهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوةٍ، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه. كان عبد الرزاق يقول
(2)
: عن معمرٍ، عن الزهري مرسلًا.
وقال مسلم بن الحجاج
(3)
: هذا الحديث رواه معمر بالبصرة متصلًا هكذا، فإن رواه عنه ثقةٌ خارج البصريين حكمنا له بالصحة، أو قال: صار الحديث صحيحًا
(4)
، وإلا فالإرسال أولى.
قال البيهقي
(5)
: فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن
(1)
المصدر نفسه (1/ 253).
(2)
كما في "المصنف"(12621). ورواية عبد الرزاق ــ وهو صنعاني ــ عن معمر أصحُّ مِن رواية مَن رواه عنه بالبصرة موصولًا، وذلك ــ كما قال أحمد وغيره ــ أن معمر كان يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن، بخلاف حديثه بالبصرة ففيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه. انظر:"شرح العلل" لابن رجب (2/ 766).
(3)
كما في "المستدرك"(2/ 192) و"الخلافيات"(6/ 98).
(4)
في الأصل: "حديثًا".
(5)
في "الخلافيات"(6/ 98) متابعًا في ذلك كلام شيخه في "المستدرك"(2/ 192)، ثم أسند مرويات هؤلاء الثلاثة من طريق الحاكم. قلتُ: ولا يفيد كونهم كوفيين شيئًا لأنهم سمعوه منه بالعراق، لا باليمن حيث كان يحدِّث من كتبه على الصحة. انظر:"التلخيص الحبير"(3/ 168).
محمد وعيسى بن يونس ــ وثلاثتهم كوفيون ــ حدَّثوا به عن معمر متصلًا.
قال
(1)
: ورواه يحيى بن أبي كثيرٍ وهو يمامي، عن
(2)
الفضل بن موسى وهو خراساني؛ عن معمرٍ، عن الزهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحَّ الحديث بذلك، والله أعلم.
وقد قال النسائي
(3)
: ثنا عمرو بن يزيد
(4)
الجَرْمي، ثنا سيف بن عبيد الله، ثنا سرَّار
(5)
بن مُجَشِّرٍ، عن أيوب، عن نافعٍ وسالمٍ، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوةٍ، فأسلم وأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعًا.
قال البيهقي: قال لنا أبو عبد الله: رواة هذا الحديث كلهم ثقاتٌ تقوم بهم الحجة. وقال أبو علي الحافظ: تفرد به سرَّار بن مجشِّرٍ، وهو بصري ثقةٌ.
(1)
في "الخلافيات"(6/ 100) تبعًا "للمستدرك"(2/ 193).
(2)
كذا في النسخة، وهو خطأ، إذ ليس يرويه يحيى بن أبي كثير عن الفضل بن موسى، بل الرواية عن كليهما عن معمر به. وسياق البيهقي: "وروي عن يحيى
…
وعن الفضل
…
". وقد أخرج الحاكم (2/ 193) الحديث من طريقيهما.
(3)
من طريقه أخرجه البيهقي في "الخلافيات"(6/ 100)، وليس في "سننه". وأخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط"(1701)، والبيهقي (7/ 183) من طريق عمرو به. وأعلَّه الطبراني والدارقطني بأنه غريب من حديث أيوب، تفرَّد به سرَّار بن مجشر عنه، وتفرَّد به سيف بن عبيد الله عن سرَّار. انظر:"أطراف الغرائب والأفراد"(3/ 435).
(4)
في الأصل: "يزيد بن عمرو" وهو خطأ.
(5)
في المطبوع: "سوَّار" تحريف.
وبالجملة، فشهرة القصة تُغني عن إسنادها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خيَّره، ولم يُفرِّق بين الأوائل والأواخر ولم يستفصله، ولو اختلف الحال لتعيَّن الاستفصال، فإن الرجل حديثُ عهدٍ بالإسلام، غير عارفٍ بشرائع الأحكام وتفاصيل الحلال من الحرام، فجعل الاختيار إليه، ولم يَحْجُر في ذلك عليه.
قال المنازعون: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بُريدة ومعاذٍ وغيرهما الأمرُ بدعاء الكفار إلى أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، والمسلم ليس له أن يتزوج أكثرَ من أربع، والأختين في عقد واحدٍ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌ"
(1)
، وهذا نصٌّ في المسألة قاطعٌ للنزاع.
قالوا: ونكاح الخمس في عقد واحدٍ لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع، فكان باطلًا كنكاح ذوات المحارم.
قالوا: ولا يرِدُ علينا النكاح بغير شهودٍ ولا ولي، والنكاح في العدة؛ لأن ذلك يمنع الابتداء دون البقاء.
قالوا: وليس تحريم الخامسة من جهة الجمع، فلم يختلف فيه حال الابتداء والاستدامة، والإسلام والكفر، كعقد المرأة على زوجين.
قالوا: ولو باع ذميٌّ درهمًا بدرهمين، ثم أسلم قبل القبض لم يُخيَّر في أحد الدرهمين، كذلك إذا أسلم وتحته أختان يجب أن لا يخيَّر في إحدى
(1)
أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "من عمل عملًا ليس
…
".
الأختين، وبأن العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تقولوا: إنه صحيح أو فاسدٌ، ولا يجوز أن يقال: إنه صحيح، إذ لو كان كذلك لم يجز نقضُه بعد الإسلام، فثبت أنه فاسدٌ، وإذا كان فاسدًا لم يصحِّحه الإسلام، كنكاح ذوات المحارم.
قالوا: ولأنه عقد على عددٍ محرمٍ، فلا يثبت فيه التخيير، كعقد السلم.
قالوا: وأما الحديث، فنحن أول آخذٍ به، إذ المراد بقوله:"اختَرْ منهن أربعًا" تعقد عليهن عقدًا جديدًا. وكذلك قوله في الأختين: "اختَرْ أيتَهما شئتَ"، إنما هو تخيير ابتداءٍ لا تخيير استدامةٍ، لما ذكرنا من الأدلة. ولو كان تخيير استدامةٍ لاحتملَ أن يكون غيلان عقد عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع، وذلك في أول الإسلام، فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء وهي مدنيةٌ بالاتفاق. سلَّمنا انتفاء ذلك، فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم صورة الحال، وأنه تزوجهن في عقد واحدٍ، فأمره أن يختار منهن أربعًا يبتدئ نكاحهن، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء هذا.
قال المصححون: الآن اشتدَّ اللزام، واحتدَّ الخصام، ووجب التحيُّز إلى فئة الحديث الذين قصْدُهم الانتصار له، أين كان ومع من كان.
قالوا: أما احتجاجكم بقوله صلى الله عليه وسلم: "فأَعْلِمْهم أن لهم ما للمسلمين"
(1)
فما أصحَّه من حديث! وما أضعَفَه من استدلالٍ! وهل نازع في هذا مسلم
(1)
أخرجه النسائي (8627) من حديث بريدة، وأصله في "صحيح مسلم"(1731) بمعناه.
حتى تحتجون
(1)
عليه به؟ وهكذا نقول نحن وكل مسلم: إن الرجل إذا أسلم فحينئذٍ يصير له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وأما قبل ذلك فلم يكن كذلك. فالحديث حجةٌ عليكم، فإنه لم يقل: أخبِرْهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام. والذي على المسلم: أنه لا يُمكَّن من العقد على أختين ابتداءً ولا استدامةً.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم "كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وليس أمره صلى الله عليه وسلم على الجمع بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع، فلذلك كان ردًّا بالإسلام، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن ما كان في الجاهلية مما يخالف أمري ومضى وانقضى فهو ردٌّ، وإنما يُردُّ منه ما قام الإسلام وهو على خلاف أمره، وهكذا فعلَ سواءً، فإنه أبطل نكاح إحدى الأختين وما زاد على الأربع إذ ذلك خلاف أمره، وجعل الخيرةَ في المُمْسَكات إلى الزوج، وهذا نفس أمره، فما خالف هذا وهذا فهو ردٌّ، فالحديث حجةٌ على بطلان قولكم، وبالله التوفيق.
وأما قولكم: إن نكاح الخمس في عقد واحدٍ لا يختلف فيه حكم الابتداء والدوام، فكان باطلًا كنكاح ذوات المحارم، فجوابه من وجوهٍ:
أحدها: أن تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح، والزيادة يمكن إبطالها دون النصاب، فإن المفسدة تختص بها، فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب، فإن في ذلك إضرارًا به وتنفيرًا له عن الإسلام من غير مصلحةٍ، وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على
(1)
كذا في الأصل بإثبات النون.
النصاب، فيبقى النكاح في حق الأربع صحيحًا، فهذا محض القياس، كما أنه مقتضى السنة. وهذا بخلاف نكاح ذوات المحارم، فإن المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان النكاح، لقيام سبب التحريم.
الوجه الثاني: أن تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز، وإلا فكلُّ واحدةٍ منهن لو انفردت صح العقد عليها، بخلاف تحريم ذوات المحارم، فإنه ثابتٌ لذاتها وعينها، فقياس أحد النوعين على الآخر فاسدٌ.
الوجه الثالث: أن تحريم الزائد على الأربع أخفُّ من تحريم ذوات المحارم، ولهذا أبيح لنبينا صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع، ولم تُبَحْ له ذوات المحارم، فلا يصح اعتبار أحد النوعين بالآخر. ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع، بل إلى حاله عند الإسلام، ولهذا قد ساعدتم
(1)
على أنه لو تزوجها بغيرٍ ولي ولا شهودٍ ولا مهرٍ، أو في عدةٍ ثم انقضت، أو بغير تراضٍ= لم يُبطله الإسلام، فكذلك إذا عقد على خمسٍ لم نُبطله بالإسلام، وإنما يبطل الزائد على النصاب.
وأما قولكم: إن تحريم الزائد على الأربع إنما كان من جهة الجمع، فلم يفترق الحال فيه بين الابتداء والاستدامة، كعقد المرأة على زوجين= فما أفسدَه من قياسٍ! فإن هذا مما لم تختلف فيه الشرائع ولا الطبائع، ولا تُسوِّغه أمةٌ من الأمم على اختلاف أديانها وآرائها. وأما الجمع بين الأختين وبين
(1)
كذا في الأصل.
أكثر من أربع فقد كان جائزًا في بعض الشرائع، كما قال تعالى:{وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَينِ إِلَّا مَا قَد سَّلَفَ} [النساء: 23]، والجمع بين أكثر من أربع قد فعله داود وسليمان وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وبالجملة، فعقدُ الرجل على أكثر من امرأةٍ مصلحةٌ راجحةٌ، وعقدُ المرأة على أكثر من رجل مفسدةٌ خالصةٌ أو راجحةٌ، فاعتبار أحدهما بالآخر فاسدٌ عقلًا وطبعًا وشرعًا.
وأما قولكم: لو باع ذميٌّ درهمًا بدرهمين ثم أسلم لم يُخيَّر في أحد الدرهمين، كذلك لا يُخيَّر في الأختين= فما أفسده من قياسٍ! فإن الصرف إذا لم يقبض لم يلزم في العقد إن قبض ثم أسلم أن يفسخ
(1)
العقد، فإنهم إذا تعاقدوا عقود الربا وتقابضوا ثم أسلموا لم نفسخها، وإن لم يتقابضوا لم نُمْضِها. وهكذا النكاح، فإنه إذا اتصل به الدخول، وسبب التحريم قائمٌ= أبطلناه، وإن كان قد انقضى لم نَعرِضْ له. وإنما لم نخيِّره في أحد الدرهمين، وخيَّرناه في إحدى الأختين؛ لأنه لا فائدة له في تخييره في أحد الدرهمين، ولا غرضَ له في ذلك ولا مصلحة، بخلاف تخييره بين إحدى الأختين. على أنه لا يمتنع أن يُخيَّر العقد في درهم بدرهمٍ، ويجعل له الخيار في أيهما شاء، فنفيُ الحكم في ذلك غير معلومٍ بنصٍّ ولا إجماعٍ.
وأما قولكم: العقد على الخمس في حال الشرك إما أن يقع صحيحًا أو فاسدًا
…
إلى آخره، فجوابه من وجهين:
(1)
في الأصل: "لم يفسخ". والمثبت يقتضيه السياق.
أحدهما: أنه صحيح في الجميع، فإذا أسلم فسخ العقد في إحداهن. هذا جواب القاضي أبي يعلى.
قال: وقد نصَّ أحمد على هذا: إذا تزوج الحربي أمًّا وبنتًا، ثم أسلم قبل الدخول، انفسخ نكاح الأم
(1)
.
قال: وهذا يدلُّ على أنه قد صحَّ النكاح في البنت حتى صارت هي من أمهات النساء فحرمت عليه، ولو لم يكن صحيحًا فيهما كان له أن يختار أيهما شاء، لأنها لم تكن من أمهات النساء، والجمع بين الأم والبنت في العقد كالجمع بين خمسةٍ.
قال: وإنما حكمنا بصحة العقد في الجميع؛ لأن له أن يختار الخامسة بعد إسلامه، ويستديم نكاحها على حديث غيلان وغيره، ولا يجوز أن يستديم نكاحًا حكمنا بفساده.
وقولكم
(2)
: إنه لو كان صحيحًا لم يجز تغييره ونقضه بعد الإسلام، كما لو عقد على أربع لا يصح؛ لأن الإسلام لا يغيِّر ما يطابق حكم الإسلام، وما زاد على الأربع يخالف حكمه، فلهذا غيَّره، كما لو تعاقدا
(3)
عقدَ صرفٍ وأسلما قبل التقابض حكمنا بفساده، وإن كان الصرف في الجملة جائزًا.
(1)
انظر: "الروايتين والوجهين"(2/ 238)، و"الإرشاد"(ص 286)، و"الهداية" للكلوذاني (ص 401)، و"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(5/ 153).
(2)
في الأصل: "وقولهم".
(3)
في الأصل: "تعاقدوا".
ولأنه لو أسلم الوثني قبل الدخول انفسخ النكاح بعد الحكم بصحته. ولأن تغييره بعد الإسلام إنما هو إلزامٌ، ولا يمتنع أن يوجب الإسلام إزالة أشياء لم تكن حال الكفر، كالعبادات.
وعندي جوابٌ آخر: وهو أن العقد الذي وقع في حال الكفر ــ على هذا الوجه ــ لا يُحكم له بصحةٍ ولا فسادٍ، بل يُقَرّون عليه كما يقرّون على كفرهم، فإن استمرُّوا على الكفر لم نتعرض لعقودهم، وإن أسلموا حُكِم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانَه من حين الإسلام، لا قبل ذلك، كالحكم في سائر عقودهم من بياعاتهم وغيرها، فما كان قبل الإسلام فهو عفوٌ لا نحكم له بأحكام الإسلام، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ ءَامَنُوا اُتَّقُوا اُللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبَوا} [البقرة: 277]، فأمر بترك ما بقي دون ردِّ ما قبض، ولم يكن صحيحًا بل كان عفوًا، كما قال سبحانه:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 274]، فجعل له ما سلف من الربا وإن لم يكن مباحًا له، وكذلك سائر العقود له ما سلف منها، ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام. وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب جميعه، فإنه تعالى لم يُبطِل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه، وأمر بالتزام شرعه من حين قام الشرع. ومن تأملَ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب أنكحة الكفار إذا أسلموا عليها وجده مشتقًّا من القرآن مطابقًا له.
وأما قولكم: إنه عقد على أكثر من أربع، فلم يصح فيه التخيير كعقد السلم= فهل في القياس أفسدُ من هذا؟ وهل يمكن أحدًا أن يطرد هذا القياس
فيفسخَ كلَّ نكاحٍ وقع في الشرك، وكلَّ بيعٍ وكل إجارةٍ وكل عقدٍ لم يستوفِ شروطه في الإسلام، كالنكاح بلا ولي ولا شهودٍ ولا مهرٍ، وكلَّ عقد فاسدٍ وقع فيه التقابض؟!
وأما قولكم: إنكم أول من أخذ بالحديث= فكلَّا، بل أول من تلطَّف في ردِّه بما لا يُردُّ به، وما تأولتم به الحديث من أن المراد به تخييره في ابتداء العقد على من شاء منهن= باطلٌ لوجوهٍ:
أحدها: قوله في بعض ألفاظه: "أمسِكْ أربعًا وفارِقْ سائرهن"، وهذا يقتضي إمساكهنَّ بالعقد الأول، كما قال تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، وقوله:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 227]، ولا يُعقل الإمساك غير هذا.
فإن قلتم: يعني "أمسِكْ أربعًا منهن": تزوَّجْ أربعًا، خرج اللفظ عن القياس إلى الإلغاز واللبس الذي يتنزَّه عنه كلام المبيِّن عن الله.
الثاني: أنه جعل الإمساك والاختيار [إليه]
(1)
، ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه؛ لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن.
الثالث: أنه أمره بالاختيار، وذلك واجبٌ عليه، ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه. ولهذا لو أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم، فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجبٌ عليه.
(1)
زيادة ليستقيم المعنى.
الرابع: أن هذا التأويل لا يصحُّ عندكم إلا إذا كان قد تزوَّجهن
(1)
في عقد واحدٍ، فأما إذا تزوجهن بعقودٍ متفرقةٍ، فإنه يصح نكاح الأربع الأول ويبطل نكاح من عداهن، وحينئذٍ فيكون المراد من الحديث: إذا كنتَ قد تزوَّجتَهن في عقد واحدٍ فنكاح الجميع باطلٌ، ولك
(2)
أن تتزوج أربعًا منهن. ومعلومٌ أن هذا لا يُفهم أصلًا من قوله: "اختَرْ أربعًا، وفارِقْ سائرهن"، ولا يَفهم المخاطب ولا غيره هذا المعنى من هذا اللفظ البتةَ.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل هذا الحديثَ العهدِ بالإسلام الجاهلَ بالأحكام عن كيفية عقده، ولا استفصلَه.
السادس: ما رواه الشافعي
(3)
عن عوف
(4)
بن الحارث، عن
(5)
نوفل بن معاوية الدِّيلي
(6)
قال: أسلمتُ وعندي خمسُ نسوةٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أمسِكْ أربعًا، وفارق الأخرى" فعمَدتُ إلى أقدمهن صحبةً: عجوزٍ عاقرٍ معي منذ ستين سنةً، ففارقتُها. ففهم المخاطب من هذا اللفظ حقيقته،
(1)
في الأصل: "تزوجها".
(2)
في الأصل: "وذلك". والمثبت يقتضيه السياق.
(3)
في "الأم"(6/ 421)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات"(6/ 105). وفي إسناده لين لإبهام شيخ الشافعي في الإسناد.
(4)
في المطبوع: "عمرو" وهو خطأ. وأبعد المحقق النجعة في التعليق عليه، ولو راجع "الأم" لتبيَّن له الأمر.
(5)
في الأصل: "بن" خطأ.
(6)
في الأصل: "الديلمي"، تحريف.
وعمل بها.
السابع: أنه قال للذي أسلم على أختين: "طلِّقْ أيتَهما شئتَ"، وهذا لا معنى له على قول المنازع، فإنه إن تزوَّج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الثانية باطلٌ، وليست محلًّا للطلاق، وإن تزوَّجهما معًا فنكاحهما عنده باطلٌ، وليست واحدةٌ منهما محلًّا للطلاق.
الثامن: أن في بعض طرق الحديث: "أمسِكْ إحداهما"، وهذا على قولكم لا يتأتى، فإنه إن جمعهما في عقد لم يكن له سبيلٌ على واحدةٍ منهما حتى يمسكهما، وإن سبق عقد إحداهما الأخرى كان الواجب عندكم أن يقال: أَمسِكِ الأولى دون الثانية، وهذا لا يصح أن يعبَّر عنه بقوله:"أمسِكْ إحداهما" و"أيتَهما شئتَ".
وأما قولكم: إن هذا يجوز أن يكون في الوقت الذي كان يجوز فيه العقد على أكثر من أربع، فجوابه من وجوهٍ:
أحدها: أنه لا يُعلم أنه كان العقد على أكثر من أربع جائزًا في وقتٍ من الأوقات في الإسلام، لا قبل الهجرة ولا بعدها، ولو كان ذلك لنُقِل مع ما نُقِل من الناسخ والمنسوخ، ولم ينقل أحدٌ هذا قطُّ.
فإن قيل: نحن لم ندَّعِ أن ذلك أبيح لفظًا ثم نُسِخ، بل كان على أصل الإباحة والعفو حتى حرَّمه القرآن.
قيل: هذا لا يصح، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله،
وعكسُ هذا العقودُ والمطاعم، الأصل فيها الصحة والحلُّ إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه، وهذا تقرر في موضعه.
الثاني: أن هذا لو كان مشروعًا أو مباحًا إباحةَ العفو لكان في المسلمين ولو رجل واحدٌ يفعله في الإسلام قبل التحريم، مع حرصهم على النكاح والاستكثار منه. ألا ترى أنهم فعلوا المتعة لما كانت مباحةً، وشرب الخمر منهم من شربها قبل التحريم.
الثالث
(1)
: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن وقت العقد: هل كان قبل التحريم أو بعده؟ كما لم يسأله عن كيفيته.
الرابع
(2)
: أن هذا لا يصح على أصول المنازع، فإن أبا حنيفة قال: إذا تزوج الحر بأربع نسوةٍ ثم استرقَّ، فإنه يبطل نكاحهن، ومعلومٌ أنه إنما حرم عليه نكاح ما زاد على الثنتين بالاسترقاق، ونكاح الأربع وقع في الوقت الذي كان يجوز له فيه نكاحهن، فكان يجب ــ على ما ذكروا من التأويلات ــ أن يختار منهن اثنتين؛ لأنه عقد على أربع في حالٍ كان ذلك مباحًا له فيها، ثم ورد التحريم. وهذه المسألة ذكرها محمد بن الحسن في "الجامع الكبير"
(3)
.
وأما قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون علم الحال، وأنه تزوجهن في عقد واحدٍ، فخيَّره بين أربع يبتدئ نكاحهن= فهو باطلٌ من الوجوه التي
(1)
في الأصل: "الثاني".
(2)
في الأصل: "الثالث".
(3)
لم أجدها في مطبوعته.
تقدمت.
ونزيد هاهنا وجهًا آخر: وهو أن ذلك يتضمن تعليق الحكم على غير السبب المذكور في الحديث، وإلغاء السبب الذي ذكر فيه، وهذا باطلٌ من الوجهين جميعًا، فإنه إنما علّق الاختيار بكونه أسلم على أكثر من أربع، وعندكم الاختيار إنما علّق على اجتماعهن في عقد واحدٍ لو كان اختيارًا. وبالله التوفيق.
فإن قيل: ما تقولون لو أسلم وتحته أمٌّ وبنتها؟
قيل: إن أسلم قبل دخوله بواحدةٍ منهما فسد نكاح الأم، لأنها صارت من أمهات نسائه، وثبت نكاح البنت لأنها ربيبةٌ غير مدخولٍ بأمها. هذا مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي، اختاره المزني
(1)
.
وقال في القول الآخر: له أن يختار أيتهما شاء؛ لأن عقد الشرك إنما يثبت له حكم الصحة إذا انضم إليه الاختيار، فإذا اختار الأم فكأنه لم يعقد على البنت، فلا تكون من أمهات نسائه.
والمنازعون له ينازعونه في هذه المقدمة ويقولون: أنكحة الكفار صحيحةٌ يثبت لها أحكام الصحة، ولذلك لو انفردت إحداهما بالنكاح كان صحيحًا لازمًا من غير اختيارٍ، ولهذا فُوِّض إليه الاختيار هاهنا، ولا يصحُّ أن يختار من ليس نكاحها صحيحًا.
(1)
انظر: "المغني"(10/ 23). والكلام على هذه المسألة هنا مأخوذ منه.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، وهذه من
(1)
أمهات نسائه، فتكون محرمةً.
قالوا: ولأنها أمُّ
(2)
زوجته فتحرم عليه، كما لو طلَّق ابنتها في حال الشرك. ولأنه لو تزوَّج البنتَ وحدها ثم طلقها حرمتْ عليه أمُّها إذا أسلم، فإذا لم يُطلِّقها وتمسَّك بنكاحها فأولى بالتحريم. وإنما اختصَّت الأمُّ بفساد نكاحها لأنها تحرم بمجرد العقد على البنت، فلم يمكن اختيارها، والبنت لا تَحرُم قبل الدخول بأمها، فيتعيَّن النكاح فيها.
فصل
(3)
وإن كان قد دخلَ [بهما]
(4)
حَرُمَتا على التأبيد: أما الأم فلكونها أم زوجته، وأما البنت فلأنها ربيبته من زوجته التي دخل بها.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من يُحفظ عنه من أهل العلم.
وكذلك إن كان دخل بالأم وحدها؛ لأن البنت ربيبتُه المدخولُ بأمها، والأم حرمت بمجرد العقد على البنت.
وإن دخل بالبنت وحدها ثبت نكاحها وفسد نكاح أمها، كما لو لم
(1)
في الأصل: "هي" بدل "من".
(2)
"أم" ساقطة من المطبوع. وهي مثبتة في الأصل و"المغني"، وبها يستقيم المعنى.
(3)
اعتمد المؤلف فيه على "المغني"(10/ 24).
(4)
زيادة من "المغني".
يدخل بهما.
ولو أسلم وله جاريتان إحداهما أمُّ الأخرى، وقد وطئهما جميعًا حرمتا عليه على التأبيد، وإن كان قد وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد ولم تحرم الموطوءة، وإن كان لم يطأ واحدةً منهما فله وطءُ أيَّتِهما شاء، فإذا وطئها حرمت الأخرى على التأبيد.
فصل
فإن طلَّق إحداهما أو طلَّق ما زاد على الأربع
(1)
ثبت النكاح في غير المطلَّقة، وكانت المطلَّقة هي المفارقة. ذكره شيخنا
(2)
، وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي.
وقال الأصحاب: تكون المطلقة هي المختارة، وينفسخ نكاح البواقي، وهذا الذي قاله أصحاب الشافعي، وأظنه نصه. وقاله أصحاب مالك، ولكنه غير منصوصٍ عنه. وحجتهم أن الطلاق لا يكون إلا في زوجةٍ
(3)
، قالوا: فتطليقه لها اختيارٌ لها، ويقع عليها الطلاق لأنها زوجةٌ، وقد أوقع عليها الطلاق، فتطلَّق، وينفسخ نكاح البواقي باختيار المطلَّقات.
قال القاضي
(4)
: فإذا قال: أمسكتُ هذه، أو أمسكتُ نكاحها، أو
(1)
في الأصل: "الأربعة".
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(32/ 302).
(3)
انظر: "المغني"(10/ 17).
(4)
لم أجد كلامه فيما رجعت إليه من المصادر.
اخترتُها، أو اخترتُ نكاحها= لزم نكاحها وانفسخ نكاح من عداها. وإن قال: فسختُ نكاح هذه أو عقْدَها، أو أخرجتُها من حِبالي، أو تركتها، ونحو ذلك= كان ذلك فراقًا لها. فإن قال: فارقتُها، أو فارقتُ عقدها، أو سرَّحتُها= احتمل أن يكون فسخًا؛ لأنه يحتمله، فتَبِين منه ويبقى نكاح البواقي. واحتمل أن يكون اختيارًا لها، ويقع الطلاق؛ لأنه صريحٌ في الطلاق. وإن قال: طلَّقتُ هذه كان ذلك اختيارًا لنكاحها وطلاقًا؛ لأن الطلاق لا يوقع إلا في زوجةٍ، فتطليقه لها [يكون] اختيارًا وتطليقًا.
فإن وطئ واحدةً فقياس المذهب أنه يكون اختيارًا لها؛ لأنه قد نصّ على أن الوطء يكون رجعةً؛ لأن الوطء يدل على الرضا بها، فحصل بذلك الإمساك. ولهذا قلنا في الأمة إذا أعتقت تحت عبدٍ: لها الخيار، فإن وطئها قبل الخيار بطل خيارها؛ لأن تمكينها يدلُّ على الرضا، وكذلك إذا خيَّرها ثم وطئها كان وطؤها قطعًا لخيارها؛ لأنه يدل على الرغبة فيها والرجوع في طلاقها، خلافًا لأصحاب الشافعي: لا يكون الوطء اختيارًا لأنه لم يوضع لذلك، وكذلك لا تحصل به الرجعة.
والدليل على أن الوطء اختيارٌ: أنه يوجب الاختيار باللفظ ومقصودِه ومآلِه، فهو أقوى من مجرد قوله: اخترتها؛ لأن قوله: "اخترتها" جعل اختيارًا لدلالته على إيثاره لها ورضاه بها، فوطؤها أقوى في الدلالة من مجرد اللفظ. ولهذا كان الوطء رجعةً عند جمهور العلماء، وإنما نازع فيه الشافعي وحده.
إذا عُرِف هذا فالصواب أن تطليق إحداهن لا يكون اختيارًا لها، بل اختيارًا لغير المطلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال للديلمي:"طلِّقْ إحداهما" لم يُرِد
بهذا: أمسِكْها، ولا فَهِم هو إمساكها من هذا اللفظ، ولا فهمه أحدٌ من أهل التخاطب، وإنما فهم من قوله:"طلِّقْ أيتَهما شئتَ" مفارقتَها وإخراجها عنه وإمساك الأخرى، ولو كان قوله:"طلِّق أيتهما شئتَ"
(1)
اختيارًا لها لنفذ الطلاق عليها، وانفسخ نكاح الأخرى بأنه لم يخترها
(2)
، فيكون أمرًا له بإرسال الاثنتين: هذه بالتطليق، والأخرى باختيار غيرها. وقد صرَّح به أصحاب هذا القول فقالوا: لا يكون الطلاق إلا في زوجةٍ، ففي ضمن تطليقه لها اختيارٌ
(3)
منه لها، فينفذ الطلاق وتنقطع العصمة بينه وبين البواقي.
وهذا باطلٌ قطعًا، وكيف يكون الطلاق الذي جُعل لرفع النكاح وإزالته وحلِّ قَيْدِه دالًّا على ضدِّ موضوعه من الإمساك والاختيار؟! وهل هذا إلا قلب الحقائق! وهو بمنزلة جعل الإمساك والاختيار دليلًا على الفراق والطلاق، وأي فرقٍ حقيقةً أو لغةً بين قوله: أرسلتُكِ، وسيَّبتكِ، وأخرجتُكِ من نكاحي، وطلقتُكِ؟!
وقولهم: إن الطلاق لا يكون إلا في زوجةٍ، فجوابه من وجوهٍ:
أحدها: أن الطلاق المضاف إلى زوجةٍ لا يكون إلا في زوجةٍ، وأما الطلاق الذي هو عبارةٌ عن اختيار غير المطلقة، وإخراج المطلقة عن نكاحه فلا يلزم أن يصادف زوجةً.
(1)
"مفارقتها وإخراجها
…
أيتهما شئت" ساقطة من طبعة رمادي.
(2)
في الأصل: "لم يختارها".
(3)
في الأصل: "اختيارًا".
الثاني: أن الطلاق هاهنا كنايةٌ عن التسيُّب والإرسال، فهو بمنزلة قوله رغبتُ عنك وأرسلتُك، فهو طلاقٌ مقيَّدٌ بقيد القرينة، وهي من أقوى القرائن.
الثالث: أنه كيف يمكن أن يقول هذا القول من يقول: إن أنكحة الكفار صحيحةٌ؟ ولهذا قال: ينفذ الطلاق في المطلقة، وإذا كانت صحيحةً فطلق واحدةً صارت كأنها لم يعقد عليها، وصار البواقي هن المعقود عليهن، فكأنه أسلم وتحته أربع أو إحدى الأختين فقط.
فإن قيل: بالإسلام زال صحة نكاح الجميع، فلا يمكن أن يقال: نكاح الخمس صحيح بعد إسلامه، ولا يُحكم ببطلان نكاحهن، فإذا طلق واحدةً علمنا أنها حينئذٍ زوجةٌ، ومن ضرورة كونها زوجةً بطلانُ نكاح من عداها، فإذا كان تحته ثمان فطلق أربعًا علمنا أنهن حين الطلاق زوجاته، فبالضرورة يكون نكاح من عداهن مفسوخًا، إذ لا يمكن أن يكون حالَ الطلاق نكاحُ الثمان صحيحًا.
قيل: هذه الشبهة التي لأجلها قالوا: إن الطلاق يكون اختيارًا. وجواب هذه الشبهة أن النكاح بين الإسلام والاختيار موقوفٌ لم ينفسخ بنفس الإسلام، ولا بقي صحيحًا لازمًا، إذ لو انفسخ بنفس الإسلام لم يختر، وهذا واضحٌ. ولهذا له أن يُمسك من شاء من الثمان إلى تمام النصاب، فما منهن واحدةٌ إلا والنكاح في حقها صحيح إذا اختارها، وباطلٌ إذا أخرجها عن عصمته، فالطلاق صادف هذه الزوجة الموقوفة، ولا يلزم منه اجتماع الثمان في الإسلام في عقد لازمٍ، وليس المحذور سوى ذلك.
فصل
واختلاف الدارين لا يوقع الفرقة، وإنما التأثير لاختلاف الدين.
قال أحمد في رواية ابن القاسم
(1)
: الزوجان على نكاحهما ما دامت في العدة، فإذا أسلمت فهما على نكاحهما لا يُفرَّق بينهما. وكان الشافعي يحتج على أصحاب أبي حنيفة إذا أسلمت وهي في دار الحرب، ثم أسلم هو: أنها امرأته، وكذلك أقول.
وقال أبو حنيفة
(2)
: اختلاف الدارين يوقع الفرقة، فعنده إذا خرجت الحربية إلينا مسلمةً وخلفت زوجها في دار الحرب كافرًا وقد دخل بها
(3)
وقعت الفرقة بينهما في الحال.
وقد تناظر الشافعي هو ومحمد بن الحسن ــ رحمهما الله تعالى ــ في هذه المسألة، وساق الربيع المناظرة
(4)
، فقال الشافعي:[إن] قال قائل: ما دلَّك على ذلك؟ قيل له: أسلم أبو سفيان بن حربٍ بمرِّ الظهران
(5)
، وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة
(1)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 265).
(2)
انظر: "المبسوط"(5/ 51)، و"فتح القدير"(3/ 291).
(3)
في الأصل: "بينهما".
(4)
في "الأم"(6/ 394 - 396). والزيادات بين المعكوفتين منه.
(5)
مرّ الظهران: موضع على مرحلة من مكة، بينهما خمسة أميال. انظر:"معجم البلدان"(5/ 104).
مقيمةٌ على غير الإسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيامٍ كثيرةٍ، وكانت كافرةً مقيمةً بدارٍ ليست بدار الإسلام يومئذٍ، وزوجها مسلم في دار الإسلام، وهي في دار حربٍ. ثم صارت مكة دارَ إسلام، وأبو سفيان بها مسلم، وهند كافرةٌ، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة، فاستقرَّا على النكاح؛ لأن عدتها لم تنقضِ حتى أسلمت.
وكان كذلك حكيم بن حِزامٍ وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، فصارت دارهما دار الإسلام، وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حربٍ [وصفوان يريد اليمن وهي دار حربٍ،] ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام، وشهد حنينًا وهو كافرٌ، ثم أسلم، واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول [ورجع عكرمة وأسلم، فاستقرَّت عنده امرأته بالنكاح الأول،] وذلك أنه لم تنقض عدتها.
فقلت له: ما وصفتُ لك من أمرِ أبي سفيان وحكيمٍ وأزواجهما [وأمرِ صفوان وعكرمة وأزواجهما] أمرٌ معروفٌ عند أهل العلم بالمغازي. وقد حفظ أهل المغازي أن امرأةً من الأنصار كانت عند رجل بمكة، فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، [فقدم زوجها] وهي في العدة، [فأسلم]، فاستقرَّا على النكاح. انتهى كلامه
(1)
.
وقد روى البخاري في "صحيحه"
(2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان
(1)
أي كلام الشافعي.
(2)
برقم (5286) ومنه الزيادة.
المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: [كانوا] مشركي
(1)
أهل حربٍ يقاتلهم ويقاتلونه، [ومشركي أهل عهدٍ لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. وكان إذا] هاجرت
(2)
امرأةٌ من أهل الحرب لم تُخطَب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلَّ [لها] النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه.
فهذا هو الفصل في هذه المسألة، وهو الصواب.
وليس هذا الحيض هو العدة التي قدَّرها كثيرٌ من الفقهاء أجلًا لانقضاء النكاح، بل هو استبراءٌ بحيضةٍ تحلُّ بعدها للأزواج، فإن شاءت نكحت، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلام زوجها، فمتى أسلم فهي امرأته انقضت العدة أو لم تنقضِ. هذا الذي كان عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب بلا ريبٍ.
قالت الحنفية: مَرُّ الظهران لم تكن صارت من بلاد الإسلام لأنها قريبةٌ من مكة، وهي كانت دار حربٍ، فكان حكم ما قرب منها حكمها إلى أن استولى النبي صلى الله عليه وسلم على مكة وقهر أهلَها وغلبهم، فصارت هي وما حولها من دار الإسلام، فثبت بهذا أن أبا سفيان أسلم في دار الحرب، فلم تختلف به وبامرأته الدارُ.
قال الجمهور: أبو سفيان أسلم بمرِّ الظهران عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلها والمسلمون الذين معه وثبتتْ أيديهم عليها، وجرتْ أحكام الإسلام فيهم، وإذا كان كذلك كانت من دار الإسلام، وكانت في ذلك بمنزلة المدينة وسائر
(1)
في الأصل: "مشركوا". والمثبت من البخاري.
(2)
في الأصل: "وإذا كانت إذا هاجرت". والمثبت من البخاري.
مدن الإسلام.
قالت الحنفية: ولا حجة لكم في هروب عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح، وصفوان بن أمية إلى اليمن أو الطائف أو الساحل، حتى وافاهما نساؤهما، وأخذن
(1)
لهما الأمان، فإن مكة لما فُتحت صار ما قرب منها من دار الإسلام، فساحل البحر قريبٌ منها. والطائف وإن كانت دار كفرٍ إذ ذاك، فليس في القصة أنه وصل إليها بل قصدها، ولعله لم يخرج من دار الإسلام، ولم يصل إليها.
وأما اليمن فإنها كانت قد صارت دار إسلام، وأقرَّ أهل الكتاب منهم بالجزية، وأما عبَّاد الأوثان فأسلموا على يد علي ومعاذٍ وأبي موسى، فلم تختلف الدار بين هؤلاء وبين نسائهم.
قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجرِ عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصَقَها، فهذه الطائف قريبةٌ إلى مكة جدًّا، ولم تصر دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل.
وأما اليمن فلا ريبَ أنه كان قد فشا فيهم الإسلام، ولم يستوثق كلّ بلادها بالإسلام إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في زمن خلفائه، ولهذا أتوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أرسالًا، وفتحوا البلاد مع الصحابة. وعكرمة لم يهرب من الإسلام إلى بلد إسلام، وإنما هرب إلى موضع يرى أن أهله على دينه.
(1)
في الأصل: "وأخذا".
نزلنا عن هذا كله، فالذين أسلموا وهاجروا قبل فتح مكة لم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين نسائهم قطعًا مع اختلاف الدار قطعًا، ولو لم تكن الآثار متظافرةً بذلك لكان القياس يقتضي عدم التفريق باختلاف الدار، فإن المسلم لو دخل دار الحرب وأقام بها وامرأته مسلمةٌ، أو أقامت امرأة الحربي في دار الحرب، وخرج هو إلى دار الإسلام بأمانٍ لتجارةٍ أو رسالةٍ= فإن النكاح لا ينفسخ.
فإن قلتم: الدار لم تختلف بهما هاهنا فعلًا وحكمًا، وإنما اختلفت فعلًا؛ لأن حكم المسلمة في دار الحرب حكمها في دار الإسلام، وكذلك حكم المسلم فعلًا.
قيل لكم: إذا استوطنها كان من أهلها، ولهذا إذا قتله جيشُ المسلمين ولم يعلموا حاله لم تجب عليهم الدية؛ لأن الدار دار إباحةٍ، فلم يتعلق بالقتل وجوب الدية، ولو تعمّد قتل مسلم لم يجب عليه القود عندكم، ولكان الحربي إذا دخل إلينا مستأمنًا ثبت له حكم الدار، ولهذا من قتله وجبت عليه ديته، ولم يجز سبْيُه واسترقاقُه وأخذُ ماله.
وأيضًا فالنكاح عقد من العقود، فلم ينفسخ باختلاف الدارين كالبيع وغيره.
وأيضًا فإن المسلم لو دخل دار الحرب وتزوَّج حربيةً صحّ النكاح، ولو كان اختلاف الدارين يوجب فسخ النكاح لوجب أن لا يصح النكاح بينهما؛ لأن المسلم من أهل دار الإسلام وإن كان في دار الحرب، والحربية من أهل
دار الحرب، فالدار مختلفةٌ بينهما في الحقيقة. ولا يجوز أن يقال: إنهما مقيمان في دارٍ واحدةٍ فلم تختلف بهما؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بينه وبين امرأته التي في دار الإسلام؛ لأنه قد اختلفت بهما الدار، ولوجب إذا دخل الحربي دار الإسلام وله زوجةٌ في دار الحرب أن ينفسخ النكاح بينهما لاختلاف الدار، فلما لم ينفسخ عُلِم أن المسلم إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الإسلام، والحربي إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الحرب، ومع هذا النكاحُ لا ينفسخ، كذلك هاهنا.
قالت الحنفية: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية [الممتحنة: 10]، فالدلالة منها من وجوهٍ:
أحدها: قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، وعندكم إذا خرج مسلمًا قبل أن تحيض ثلاث حيضٍ فهي حلٌّ له، وهو حلٌّ لها.
الثاني: قوله: {وَءَاتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا} ، ولو لم تقع الفرقة بينهما باختلاف الدارين لم تؤمر بردِّ المهر عليه.
الثالث: قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ، فأباح نكاحهن على الإطلاق، وعندكم لا يباح نكاحها في الحال إذا كانت مدخولًا بها.
الرابع: قوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} ، وفي المنع من العقد عليها تمسُّكٌ بعصمة الكوافر.
قال الجمهور: لا حجة لكم في شيء من ذلك، فإن قوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} إنما هو في حال الكفر، ولهذا قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّارِ}، ثم قال:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وأما قوله: {وَءَاتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} ، فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفةٌ: هذا منسوخٌ
(1)
، وإنما كان ذلك في الوقت الذي كان يجب فيه ردُّ المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وهذا عندكم أيضًا منسوخٌ.
وأما من لم يره منسوخًا فلم يجب عنده ردُّ المهر لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين ورغبة المرأة عن التربُّص بإسلامه، فإنها إذا حاضت حيضةً ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت، وحينئذٍ تردُّ عليه مهره، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه.
وأما قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ، فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها، ورغبتها عن زوجها وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى:{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 228]، والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها.
وأما قوله: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} ، فهذا لا يدلُّ على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدلُّ على أن المسلم ممنوع من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول: إنه موقوفٌ، فإن أسلمت في عدتها أو بعدها فهي امرأته.
قالت الحنفية: زوجان اختلفت بهما الدار فعلًا وحكمًا، فوجب أن تقع
(1)
انظر: "الدر المنثور"(14/ 424).
الفرقة بينهما، أصله الحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمانٍ، ثم أسلمت قبل الدخول، وإذا سُبِي الزوج وأُخرج إلى دار الإسلام فإن الفرقة تقع، كذلك هاهنا.
قال الجمهور: هذا منتقضٌ بما ذكرنا من انتقال المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام، ودخول الحربي بأمانٍ لتجارةٍ أو رسالةٍ.
وأما الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت فالموجب للفرقة هناك اختلاف الدين دون اختلاف الدارين، ألا ترى أنه لو وجد ذلك في دارٍ واحدةٍ كان الحكم كذلك.
وأما السِّباء فليست العلة في الفرقة فيه اختلاف الدارين، ولا طَريانُ الرق، لأنا نحكم بالفرقة قبل حصول المرأة في دارنا بظهور الإمام عليها، ولأنا لا نحكم بالفرقة بسبب طريان الرقّ عليهما. ولهذا لو سُبي الزوجان معًا فهما على نكاحهما. وإنما نحكم بالفرقة لأن الغالب أن السباء إذا وقع في أحد الزوجين فلا سبيلَ إلى معرفة بقاء الزوج أو هلاكه، فينزل المجهول المشكوك فيه كالمعدوم.
قالوا: ولا يلزمنا هذا
(1)
إذا علمنا وجود الزوج في دار الحرب؛ لأنه نادرٌ، والغالب عدم العلم به.
قالوا: ولهذا المعنى حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سَابِيه؛ لأنه لا سبيلَ
(1)
في الأصل: "على هذا".
إلى معرفة أبويه غالبًا، فجعلناه كالمتحقق، وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضًا لأنه نادرٌ. هذا جواب القاضي وأصحابه، وهو بناءً على أن الزوجين إذا سُبِيا معًا فهما على نكاحهما، وأن الفسخ لم يكن للاستيلاء على بُضْع المرأة ومِلكه، وهذا هو المشهور عن أحمد.
والصحيح أن الفسخ لم يكن لهذه العلة، بل للاستيلاء على جميع ملك الرجل وحقوقه، وبُضْعُ زوجته من أملاكه، وقد استولى عليه وملَكَه السابي كما ملك رقبتَها، فلا معنى لبقاء العصمة في البضع وحده دون سائر أملاكه ودون سائر أجزاء المرأة ومنافعها. وعلى هذا فلا فرقَ بين أن تُسبى وحدها أو مع الزوج، وعلى هذا دلَّ القرآن في قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، نزلت في السبايا، فحرَّم الله نكاح المتزوجات إلا المَسْبيَّات إذا انقضت عدتهن. كذلك قال أبو سعيد
(1)
. ولم يُفرِّق بين أن تُسبى وحدها أو مع زوجها، وبين أن يُعلم هلاك الزوج أو يُعلم بقاؤه أو يُشكّ فيه. ولو كانت العلة إنما هي الجهل ببقاء الزوج، وتنزيل المجهول كالمعدوم= لما انفسخ النكاح مع العلم بوجوده في دار الحرب.
وقولهم: إن هذا نادرٌ، والحكم للغالب= قول
(2)
في غاية الفساد، فإن الحكم إذا ثبت لعلةٍ زال بزوالها، وليس بقاء الزوج في دار الحرب نادرًا، ولو
(1)
أخرج مسلم (1456) عن أبي سعيد الخدري قوله في سبب نزول الآية وتفسيره: أي فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهنّ. وانظر: "زاد المعاد"(6/ 318).
(2)
في الأصل: "فرق". والمثبت يقتضيه السياق.
كان نادرًا وهو معلومٌ كان بمنزلة المفقود في المَهْلَكة إذا عُلم بقاؤه، ومثل هذا لا يقال فيه: نادرٌ، ونكاح الأول قائمٌ، ووجود الزوج مقطوعٌ به، هذا في غاية الفساد.
والصواب الذي دلَّ عليه القرآن وسيرةُ النبي صلى الله عليه وسلم في السبايا والقياسُ: أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقًا، فإنها قد صارت مِلكًا للسابي، وزالت العصمة عن ملك الزوج لها، كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها. وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا
(1)
، وهو مذهب الشافعي.
وأما قولهم: إنا إنما حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سَابِيه؛ لأنه لا سبيلَ إلى معرفة أبويه غالبًا، فجعلناه كالمحقَّق، وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضًا؛ لأنه نادرٌ= فالصحيح خلاف هذا القول، وأنه يُحكم بإسلامه تبعًا لسابيه، ولو كان مع الأبوين أو أحدهما، فهذا أنصُّ
(2)
الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام
(3)
، فإن السابي له أحقُّ به من أبويه، وقد انقطعت تبعيته للأبوين بسباء المسلم له، وهو مولودٌ على الفطرة، وإنما جعلناه على دين أبويه تبعًا لهما، فإذا زالت التبعية صار مالكه أولى به، وصار تابعًا له.
قالت الحنفية: فإن اختلاف الدارين يؤثِّر في قطع العصمة، ألا ترى أن
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(31/ 380)، و"الأوسط" لابن المنذر (11/ 292).
(2)
في الأصل: "أقصى". والمثبت من هامشه.
(3)
انظر: "المغني"(13/ 115). وسيأتي الكلام عليه (2/ 85 وما بعدها).
ذميًّا لو مات في دار الإسلام وخلف مالًا وله ورثةٌ من أهل الحرب في دار الحرب لم يستحقوا من إرثه شيئًا، وجُعل ماله في بيت المال لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحقَّ بتركته من جماعة المسلمين، لأنه لم يختلف به وبهم الدار. وكذلك لو سُبي من أهل الحرب دون أبويه فمات صُلِّي عليه، لأنه اختلف به وبأبويه الدار، فانقطعت العصمة بينه وبينهما، فصار مسلمًا بالدار كاللقيط، ولو سُبي مع أبويه أو أحدهما فمات لم يُصلَّ عليه، لأنه لم يختلف به وبهما أو بأحدهما الدارُ.
قال الآخرون: انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة، ولهذا لو كان ذميًّا في دار [الإسلام]
(1)
فدخل قريبه الحربي مستأمنًا ليقيم مدةً ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدةً.
وكذلك إذا سُبي الصبي دون أبويه ومات فإنه يصلَّى عليه، وإن كان موته في دار الحرب، لأنا نحكم بإسلامه بإسلام سَابِيه. وعلى أنا لا نسلِّم انقطاع التوارث بينهما، فإن يعقوب بن بختان سأل أحمد عن رجل من أهل الذمة دخل بأمانٍ فقتله رجل من المسلمين، فقال: يُبعث بديته إلى أهل بلاده
(2)
. فقد نصَّ على أن ديته يُنفذ بها إلى بلاده، وإنما أراد بذلك إلى
(1)
زيادة ليستقيم السياق.
(2)
لم أجد هذه الرواية، وهي برواية الأثرم في "المغني"(9/ 158). وهو قول مالك أيضًا كما في "الأوسط" لابن المنذر (6/ 311).
ورثته؛ لأنه لو لم يكن له ورثةٌ كانت ديته في بيت المال. وقد نصَّ على ذلك في رواية أبي طالب
(1)
في النصراني إذا مات وليس له وارثٌ، جُعل ماله في بيت مال المسلمين.
والوجه فيه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 91]، وهذا عامٌّ في الذمي والمسلم، وعامٌّ فيه إذا كان أهله في دار الإسلام أو دار الحرب. ولأنهما قد اتفقا في الدين، فجاز أن يتوارثا كما لو كانا في دارٍ واحدةٍ، ولأنهما لو اجتمعا في دارٍ توارثا، فيجب أن يتوارثا وإن اختلفت بهما الدار، دليله المستأمن.
يبيِّن صحة هذا: أن أحكام المستأمن والحربي مختلفةٌ؛ لأن المستأمن يحرم قتلُه، وتُضمَن نفسه، ويُقطع بسرقة ماله، والحربي بخلافه؛ ولأن اختلاف الدارين لا يوجب انقطاع العصمة، بدليل أنه لا يوجب فسخ الأنكحة.
وقولهم: إن الميراث يثبت بالموالاة والنصرة، واختلاف الدارين يمنع من ذلك= لا يصح كما لم يصح إذا اختلفت الداران بالمسلمين، ولأن هذا يبطل باليهود والنصارى، فإنهم لا يتناصرون، ويتوارثون عند المنازع لنا وعندنا على إحدى الروايتين، ولا يتوارثون على الرواية الأخرى، لا لهذه العلة لكن لاختلاف الدين، فإن دينهم مختلفٌ، ولأن الصبي والمجنون والنساء يرثون
(2)
، ولا نصرة فيهم، ولهذا لما كان العقل طريقه النصرة لم
(1)
"الجامع" للخلال (937).
(2)
في الأصل: "يرثن". والضمير لا يرجع إلى النساء خاصة. وسيأتي ضمير الجمع المذكر "فيهم" ليناسب الفعل.