الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال مالك في "الموطأ"
(1)
: عن ربيعة أن عروة والقاسم كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع فيطلِّق إحداهن [البتة]: إنه يتزوج إذا شاء، ولا ينتظر حتى تمضي عدتها.
وقال سعيد بن المسيب في رجل كانت تحته أربع نسوةٍ [فطلَّق واحدةً منهن]: إن شاء تزوج الخامسة في العدة، وكذلك قال في الأختين
(2)
.
قال البيهقي
(3)
: ورويناه عن الحسن وعطاءٍ وبكر بن عبد الله، وخِلاس بن عمرٍو.
الوجه الثاني: الفرق بين المسألة المذكورة وبين مسألة الطلاق بأن في مسألة الإسلام تبيَّنَّا أن المفارقات لم يكنَّ زوجاتٍ بين الإسلام والاختيار، وما قبل ذلك لا نحكم عليه بشيء، فيجري وطؤهن قبل الإسلام مجرى وطء الشبهة. بخلاف المطلَّقة، فإنها كانت زوجه ظاهرًا وباطنًا، فالعدة في حقها أثرٌ من آثار نكاحٍ صحيح لازمٍ قابلٍ للدوام، فلا يلحق به الوطء في نكاحٍ لا يجيزه الإسلام، ولا نحكم له بالصحة.
فصل
(4)
نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:
(1)
برقم (1577).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن"(7/ 150). ومنه الزيادة.
(3)
في "السنن"(7/ 151).
(4)
انظر: "المغني"(10/ 37).
أحدهما: أن لا يتحاكموا فيها إلينا، فإن تحاكموا فيها إلينا لم نُقِرَّهم على ما لا مساغَ له في الإسلام.
الثاني: أن يعتقدوا إباحة ذلك في دينهم، فإن كانوا يعتقدون تحريمه وبطلانه لم نُقِرَّهم عليه، كما لا نُقِرُّهم على الربا وقَتْلِ بعضهم بعضًا وسرقةِ أموال بعضهم بعضًا، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين لما زنيا، ولم يُقِرَّهم على ذلك.
فإن قيل: فهل تُقِرُّون المجوس على نكاح ذوات محارمهم لاعتقادهم جوازَ ذلك، إذا لم يترافعوا إلينا؟
قيل: هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: أنهم يُقَرُّون على ذلك، نصَّ عليه في رواية مهنا
(1)
، وقد سأله عن المجوسي هل يُحال بينه وبين التزويج بمحرمٍ؟ وذكر له حديث عمر: فرِّقوا بين كل ذاتِ مَحرمٍ من المجوس
(2)
. فقال: قال الحسن ــ يعني البصري ــ بعث النبي صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، فأقرَّهم على ذلك ولم يَهِجْهم
(3)
.
وقال في رواية أبي طالب
(4)
: لا يُفرَّق بين حريمه وبينه، إنما قال: "سُنُّوا
(1)
"الجامع" للخلال (1/ 237).
(2)
أخرجه البخاري (3156)
(3)
قول الحسن أخرجه سعيد بن منصور (2183) والبيهقي في "السنن"(8/ 248).
(4)
"الجامع" للخلال (1/ 238).
بهم سنةَ أهل الكتاب"، وليس هم أهل كتابٍ.
فإن قيل: فهل تُقِرُّونهم على الزنا واللواط والربا، وهو دون نكاح الأم والبنت؟
قيل: لا نُقِرُّهم عليه، نصَّ عليه أحمد في رواية إبراهيم بن أبانٍ
(1)
في مجوسي في زُقاقٍ ليس له منفذٌ، وطريق المسلمين عليه، وهو يزني
(2)
على الطريق، فقال: يُخرَج ولا يُترك؛ لأن المسلمين يزنون معه.
والفرق بين إقراره على نكاح محرمه وإقراره على الزنا والربا واللواط: أن ذلك يتعدَّى ضرره إلى المسلمين، وأما نكاح محرمه فيختص ضرره به دون المسلمين.
وعارض أحمد قولَ
(3)
عمر رضي الله عنه بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس ولم يشترط عليهم تركَ أنكحتهم، ولم يفرِّق بينهم وبين أزواجهم من ذوات المحارم مع علمه بما هم عليه. ومضى على ذلك الصديق رضي الله عنه خلفه. وهم إنما بذلوا الجزية ليقَرُّوا على كفرِهم وشركهم
(1)
المصدر السابق (2/ 471). وفيه: "إبراهيم أن أباه" وهو تحريف، وهو إبراهيم بن أبان الموصلي، له عن الإمام أحمد مسائل. انظر:"طبقات الحنابلة"(1/ 93).
(2)
كذا في الأصل هنا وفيما بعد، والذي في "الجامع":"يُربي" و"يُربون" من الربا. وقد أشار محققه إلى أن في نسخة (ح) منه كما هنا. وعلى مثل هذه النسخة يكون اعتمد ابن القيم.
(3)
في الأصل: "بعد". والمثبت يقتضيه السياق.
الذي هو أعظم من نكاح محارمهم، فإقرارهم كإقرار اليهود على نكاح بنات الإخوة والأخوات، وعلى سائر أنكحتهم الفاسدة.
والثانية: لا يُقَرُّون، فإن أحمد قال في مجوسي تزوج نصرانيةً، قال: يحال بينه وبينها. قيل: من يحول بينهما؟ قال: الإمام
(1)
. ذكره أبو بكرٍ
(2)
ثم قال: لأن علينا ضررًا في ذلك، يعني بتحريم أولاد النصرانية علينا. قال: وهكذا يجيء على قوله في تزويج النصراني المجوسية.
قال في "المغني"
(3)
: ويجيء على هذا القول أن يُحال بينهم وبين نكاح محارمهم
(4)
فإن عمر رضي الله عنه كتب أن فرِّقوا بين كل ذي رحمٍ من المجوس. وقال أحمد في مجوسي ملك أمةً نصرانيةً: يحال بينه وبينها، ويُجبَر على بيعها؛ لأن النصارى لهم دينٌ. فإن ملكَ نصراني مجوسيةً فلا بأسَ أن يطأها، وقال أبو بكرٍ: لا يجوز له وطؤها أيضًا، لما ذكرنا من الضرر.
قلت: لم يمنع أحمد من تزوُّج المجوسي بالنصرانية لما يلحقنا من الضرر بتحريم ابنتها علينا، ولا خطَرَ هذا التعليلُ ببال أحمد! وأيُّ ضررٍ علينا في ترك نكاح نسائهم بالكلية؟ ولو كان التسبُّب إلى تحريم البنت ضررًا علينا لكان في تحريم نكاح نسائهم مطلقًا ضررٌ، ولا ضررَ علينا بحمد الله من ذلك
(1)
"الجامع" للخلال (2/ 475).
(2)
كما في "المغني"(10/ 38).
(3)
(10/ 38).
(4)
في الأصل: "محارمهن". والمثبت من "المغني".
بوجهٍ من الوجوه. وإنما مأخذ أحمد أن دين أهل الكتاب خيرٌ من دين المجوس، فلا يجوز أن يُمكَّن المجوسي والوثني أن يعلو امرأةً دينُها خيرٌ منه، كما لا يُمكَّن الذميُّ من نكاح مسلمةٍ، وعلى هذا فلا يُمنع النصراني من تزويج المجوسية؛ لأنه أعلى دينًا منها، وإن حرم علينا نحن نكاحها، ولا يلزم من تحريمها علينا تحريمُها على أهل الكتاب وأن لا نُقِرَّهم على نكاحها كما نُقِرُّهم على أكل الخنزير وشرب الخمر. وإذا أقررنا المجوس على نكاح ذوات محارمهم فإقرار أهل الكتاب على مناكحتهم أولى وأحرى.
ولا يخرج من هذا النص عدمُ إقرار المجوس على نكاح ذوات محارمهم لما ذكرنا من مأخذه.
وكذلك نصُّه على مجوسي ملك أمةً نصرانيةً يُحال بينهما، إنما ذلك لأن دينها أعلى من دينه، وقد صرَّح بهذا التعليل بعينه، فقال: لأن النصارى لهم دينٌ. فإن كان الأصحاب إنما أخذوا هذه الرواية من هذا النص فليست برواية، والمسألة رواية واحدةٌ. وقد تأملتُ نصوصه في هذا الباب في "الجامع"، فلم أجد عنه نصًّا بأنهم لا يُقَرُّون على نكاح ذوات المحارم.
وأما تفريق عمر رضي الله عنه بينهم وبين ذوات محارمهم فاجتهادٌ منه رضي الله عنه، وقد أقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته. وقد يقال: كانت شوكتهم قوية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
وزمن أبي بكر رضي الله عنه، فلما عزَّ الإسلام وذلَّ المجوس في عهد عمر رضي الله عنه وكانوا أذلَّ ما كانوا= رأى أن يُلزِمهم بترك
(1)
"وخليفته
…
صلى الله عليه وسلم " ساقطة من المطبوع.
نكاح ذوات المحارم وأن يُفرِّق بينهم وبينهن.
وعلى هذا، فإذا قويت شوكة قومٍ من أهل الذمة وتعذَّر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه، فإذا ذلُّوا وضعُفَ أمرهم ألزمناهم بذلك، فهذا له مساغٌ.
إلا أنه قد يقال: فقد صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب عليهم الجزية، ولم يشترط عليهم التفريق بينهم وبين ذوات محارمهم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُقِرُّ على ما لا يَسُوغُ الإقرار عليه.
وقد يُجاب عن ذلك: بأنه أقرَّهم في ابتداء الأمر والملكُ فيهم والشوكةُ لهم، وبلاد فارس وما والاها تحت قهرهم وملكهم، فلما صارت ممالكهم للمسلمين وصاروا أهلَ ذمةٍ منعهم عمر رضي الله عنه من ذلك، وحال بينهم وبينه. وهذا من أحسن اجتهاده رضي الله عنه وأقواه، وأحبِّه إلى الله ورسوله، فإنه
(1)
من أعظم القبائح التي يُبغضها الله ورسوله: نكاح الرجل أمَّه وابنته وعمَّتَه وخالته، ولا ريبَ أن إزالة هذا من الوجود أحبُّ إلى الله ورسوله من الإقرار عليه، ويكفينا في ذلك النقلُ الصحيح عمن ضرب الله الحقَّ على لسانه وقلبه، ومن كانت السكينة تنطق على لسانه، ومن وافق ربَّه في غير حكمٍ، ومن أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم باتباع سنته
(2)
. وهو أحبُّ إلينا من النقل في ذلك
(1)
كذا في الأصل، وفي المطبوع:"فان".
(2)
أشار المؤلف هنا إلى الأحاديث الواردة في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وحديث ضرب الله الحق على لسانه وقلبه أخرجه الترمذي (3683) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي الباب عن غيره. ونطق السكينة على لسان عمر أخرجه أحمد (834) من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيه. وحديث موافقته ربَّه أخرجه البخاري (402) ومسلم (2399) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والأمر باتباع سنته أخرجه أحمد (17145) وأبو داود (4607) وغيرهما من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، بلفظ: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين
…
".
عن أحمد والشافعي ومالك وأمثالهم من الأئمة رضي الله عنهم.
فصل
فإن قيل: فما تقولون في نصراني تزوج يهوديةً أو بالعكس، هل تُقِرُّونهم على ذلك أم لا؟ وإذا فعلوه فما حكم هذا الولد؟
قيل: لا يخلو إما أن يعتقدوا حلَّ ذلك أو تحريمَه، فإن اعتقدوا حلَّه جاز ذلك، ولم يُعرض لهم فيه. وإن اعتقدوا تحريمه لم نُقِرَّهم عليه، فإنا لا نُقِرّهم على نكاحٍ يعتقدون بطلانه وأنه زنًا.
وقد نصَّ أحمد
(1)
أنه إذا تزوَّج المجوسي كتابيةً يُفرَّق بينهما، وأطلق الجواب، وظاهره التفريقُ وإن لم يترافعوا إلينا.
وأما إن تزوَّج الذمي وثنيةً أو مجوسيةً، فهل يُقَرُّ على ذلك؟ فيه وجهان
(2)
:
أحدهما: يُقرّ؛ لأنه أعلى دينًا منها، فيقر على نكاحها كما يُقَرُّ المسلم
(1)
تقدم قريبًا. وانظر: "المغني"(10/ 33).
(2)
انظر: "المغني"(10/ 33).
على نكاح الكتابية.
والثاني: لا يُقرّ، لأنها لا يُقَرُّ المسلم على نكاحها، فلا يُقرُّ الذمي عليه.
وعندي أنه إن اعتقد جواز هذا النكاح أُقِرَّ عليه، وإن اعتقد تحريمه لم يُقَرَّ.
فإن قيل: فإن أسلموا على ذلك فهل يحتاج إلى تجديد النكاح أم يستمرُّون عليه؟
قيل: يحتمل أن يقال: لا بدَّ من تجديد النكاح؛ لأن الأول لم يكن نكاحًا يعتقدون صحته. ويحتمل أن يقال ــ وهو أصح ــ: لا يحتاج إلى تجديد نكاحٍ، والإسلام صحَّح ذلك النكاح كما يصحِّح الأنكحة الفاسدة في حال الكفر إذا لم يكن المفسد قائمًا.
وأما حكم الولد هل يتبع أباه أو أمه، فالولد يتبع خيرَ أبويه دينًا، فإن نكح الكتابي مجوسيةً فالولد كتابي، وإن وطئ مجوسيٌّ كتابيةً بشبهةٍ، فالولد كتابي أيضًا، وإن كان أحدهما يهوديًّا والآخر نصرانيًّا، فالظاهر أن الولد يكون نصرانيًّا، وصرَّح به أصحاب أبي حنيفة، فإن النصارى تؤمن بموسى والمسيح، واليهود تكفُر بالمسيح، فالنصارى أقرب إلى المسلمين، واليهود خيرٌ من منكري النبوات، وكلما كان إيمان الرجل بالنبوات أكثر كان خيرًا ممن ينكر ما صدّق به.
وأيضًا فإن اليهود بعد مبعث عيسى خرجوا عن شريعة موسى وعيسى جميعًا، فإن شريعة موسى موقَّتةٌ بمجيء المسيح، فكان يجب عليهم اتباعه،