الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَلَمٌ وَعَذَابٌ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ لَهَا حَالَ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ بِكَثِيرٍ، فَهُنَالِكَ الْحَبْسُ وَالْأَلَمُ وَالْعَذَابُ وَالْمَرَضُ وَالْحَسْرَةُ، وَهُنَاكَ اللَّذَّةُ وَالرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ وَالْإِطْلَاقُ.
(ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ) : وَمَا أَشْبَهَ حَالَهَا بِهَذَا الْبَدَنِ بِحَالِ الْبَدَنِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَحَالَهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ بِحَالِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَطْنِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ فَلِهَذِهِ الْأَنْفُسِ أَرْبَعَةُ دُورٍ كُلُّ دَارٍ أَعْظَمُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا:
(الدَّارُ الْأُولَى) بَطْنُ أُمِّهِ وَذَلِكَ الضِّيقُ وَالْحَصْرُ وَالظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ.
(الدَّارُ الثَّانِيَةُ) هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي نَشَأَتْ فِيهَا وَأَلِفَتْهَا وَاكْتَسَبَتِ الْخَيْرَ أَوِ الشَّرَّ وَأَسْبَابَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِيهَا.
(الدَّارُ الثَّالِثَةُ) دَارُ الْبَرْزَخِ وَهِيَ أَوْسَعُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَأَعْظَمُ بَلْ نِسْبَتُهَا إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى الدَّارِ الْأُولَى.
(الدَّارُ الرَّابِعَةُ) دَارُ الْقَرَارِ وَهِيَ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَلَا دَارَ بَعْدَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُ الرُّوحَ فِي هَذِهِ الدُّورِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ حَتَّى يُبَلِّغَهَا الدَّارَ الَّتِي لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا يَلِيقُ بِهَا سِوَاهَا وَهِيَ الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا وَهُيِّئَتْ لِلْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا، وَلَهَا فِي كُلِّ دَارٍ مِنْ هَذِهِ الدُّورِ شَأْنٌ غَيْرُ شَأْنِ الدَّارِ الْأُخْرَى، فَتَبَارَكَ اللَّهُ فَاطِرُهَا وَمُنْشِئُهَا وَمُمِيتُهَا وَمُسْعِدُهَا وَمُشْقِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[هَلْ تَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ وَتَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ أَيْضًا]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرُّوحِ هَلْ تَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ وَتَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ أَيْضًا؟ وَهَذَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ قِسْمَانِ مُعَذَّبَةٌ وَمُنَعَّمَةٌ فَالْمُعَذَّبَةُ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ بِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ عَنِ التَّزَاوُرِ وَالتَّلَاقِي، وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْمُنَعَّمَةُ الْمُرْسَلَةُ غَيْرُ الْمَحْبُوسَةِ فَهَذِهِ تَتَلَاقَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَتَكُونُ كُلُّ رُوحٍ مَعَ رَفِيقِهَا الَّذِي عَلَى مِثْلِ عَمَلِهَا، وَرُوحُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَفِي دَارِ الْجَزَاءِ، وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فِي هَذِهِ الدُّورِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْمَرَائِي بِتَلَاقِي الْأَرْوَاحِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَأَيْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ لَقِيتُ مُحَمَّدًا
وَحِزْبَهُ.
وَقَدْ جَاءَتْ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ بِتَلَاقِي الْأَرْوَاحِ وَتَعَارُفِهَا فَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ «لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّ بِشْرٍ وَجْدًا شَدِيدًا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَهْلَكُ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَهَلْ يَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلُ إِلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا أُمَّ بِشْرٍ إِنَّهُمْ لَيَتَعَارَفُونَ كَمَا تَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ " فَكَانَ لَا يَهْلَكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ فَقَالَتْ يَا فُلَانُ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَيَقُولُ وَعَلَيْكِ فَتَقُولُ اقْرَأْ عَلَى بِشْرٍ السَّلَامَ» .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَهْلُ الْقُبُورِ يَتَوَكَّفُونَ الْأَخْبَارَ فَإِذَا أَتَاهُمُ الْمَيِّتُ قَالُوا مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: صَالِحٌ، مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: صَالِحٌ، مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ أَلَمْ يَأْتِكُمْ؟ أَمَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولُونَ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ سُلِكَ بِهِ غَيْرُ سَبِيلِنَا.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَيْضًا: إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْتَخْبِرُونَهُ كَمَا يَسْتَخْبِرُ الرَّكْبُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَإِذَا قَالَ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَأْتِهِمْ قَالُوا ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ اسْتَقْبَلَهُ وَلَدُهُ كَمَا يُسْتَقْبَلُ الْغَائِبُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ لَوْ أَنِّي آيَسُ مِنْ لِقَاءِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي لَأَلْفَانِي قَدْ مُتُّ كَمَدًا.
وَذَكَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا رُهْمٍ السَّمْعِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " «إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ تَلَقَّاهَا أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا يُتَلَقَّى الْبَشِيرُ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ أَنْظِرُوا أَخَاكُمْ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ، فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ وَمَاذَا فَعَلَتْ فُلَانَةٌ؟ وَهَلْ تَزَوَّجَتْ فُلَانَةٌ؟ فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ قَبْلَهُ قَالَ إِنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلِي، قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ فَبِئْسَتِ الْأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ» ".
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَقَالَ " «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تَرِدُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ فَأَتِمَّ
نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَى بِهِ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْكَ» ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَمُوتُ فَقُلْتُ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي السَّلَامَ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ رُوحَيِ الْمُؤْمِنَيْنِ لَتَلْتَقِيَانِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَمَا رَأَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَطُّ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنِي يَحْيَى بْنُ بِسْطَامٍ ثَنِي مِسْمَعٌ ثَنِي رَجُلٌ مِنْ آلِ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ فِي مَنَامِي بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ فَقُلْتُ أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا وَاللَّهِ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَنَا وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي نَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ وَصَبِيحَتِهَا إِلَى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ فَنَتَلَقَّى أَخْبَارَكُمْ. قَالَ قُلْتُ أَجْسَامُكُمْ أَمْ أَرْوَاحُكُمْ؟ قَالَ هَيْهَاتَ بَلِيَتِ الْأَجْسَامُ وَإِنَّمَا تَتَلَاقَى الْأَرْوَاحُ.
وَالْمَرَائِي وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ بِمُجَرَّدِهَا لِإِثْبَاتِ أَحْكَامٍ فَضْلًا عَنْ إِثْبَاتِ اعْتِقَادٍ لَكِنَّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا وَأَنَّهَا لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَتَوَاطُئِهَا مِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهَا وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا - يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ» ".
فَلَمَّا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَلَاقِي الْأَرْوَاحِ وَتَعَارُفِهَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ وَيَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ، عَلَى أَنَّا لَمْ نُثْبِتْ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا بَلْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ مِنْ تَلَاقِي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَتَلَاقِي أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ لِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى أَيْضًا. ثُمَّ إِنَّ الْحِسَّ وَالْوَاقِعَ مِنْ أَعْدَلِ الشُّهُودِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامِ فَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيُمْسِكُ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى وَيُرْسِلُ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِلَى أَجْسَادِهَا.
وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا فَتَلْتَقِي رُوحُ الْحَيِّ وَرُوحُ الْمَيِّتِ
فَيَتَذَاكَرُونَ وَيَتَعَارَفُونَ قَالَ فَتَرْجِعُ رُوحُ الْحَيِّ إِلَى جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا وَتُرِيدُ رُوحُ الْمَيِّتِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ فَتُحْبَسُ.
وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُمْسَكَةَ مَنْ تُوُفِّيَتْ وَفَاةَ الْأَمْوَاتِ أَوَّلًا وَالْمُرْسَلَةَ مَنْ تُوُفِّيَتْ وَفَاةَ النَّوْمِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَتَوَفَّى نَفْسَ الْمَيِّتِ فَيُمْسِكُهَا وَلَا يُرْسِلُهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَتَوَفَّى نَفْسَ النَّائِمِ ثُمَّ يُرْسِلُهَا إِلَى جَسَدِهَا إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا فَيَتَوَفَّاهَا الْوَفَاةَ الْأُخْرَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُمْسَكَةَ وَالْمُرْسَلَةَ كِلَاهُمَا تُتَوَفَّى وَفَاةَ النَّوْمِ فَمَنِ اسْتَكْمَلَتْ أَجَلَهَا أَمْسَكَهَا عِنْدَهُ فَلَا يَرُدُّهَا إِلَى جَسَدِهَا وَمَنْ لَمْ تَسْتَكْمِلْ أَجَلَهَا رَدَّهَا إِلَى جَسَدِهَا لِتَسْتَكْمِلَهُ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَمَالَ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَفَاتَيْنِ وَفَاةَ نَوْمٍ وَوَفَاةَ مَوْتٍ، وَذَكَرَ إِمْسَاكَ الْمُتَوَفَّاةِ وَإِرْسَالَ الْأُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْسِكُ نَفْسَ كُلِّ مَيِّتٍ سَوَاءٌ مَاتَ فِي النَّوْمِ أَوْ فِي الْيَقَظَةِ وَيُرْسِلُ نَفْسَ مَنْ لَمْ يَمُتْ.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رضي الله عنهما فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنْ مُتَّ قَبْلِي فَالْقَنِي فَأَخْبِرْنِي مَا لَقِيتَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ أَنَا مُتُّ قَبْلَكَ لَقِيتُكَ فَأَخْبَرْتُكَ. فَقَالَ الْآخَرُ وَهَلْ يَلْتَقِي الْأَمْوَاتُ وَالْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرْوَاحُهُمْ فِي الْجَنَّةِ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ. قَالَ فَمَاتَ فُلَانٌ فَلَقِيَهُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ تَوَكَّلْ وَأَبْشِرْ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ التَّوَكُّلِ قَطُّ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه: كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَرَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي الْمَنَامِ فَمَا رَأَيْتُهُ إِلَّا عِنْدَ قَرِيبِ الْحَوْلِ فَرَأَيْتُهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَوَانُ فَرَاغِي إِنْ كَادَ عَرْشِي لَيُهَدُّ لَوْلَا أَنِّي لَقِيتُ رَءُوفًا رَحِيمًا.
وَلَمَّا حَضَرَتْ شُرَيْحَ بْنَ عَائِذٍ الثُّمَالِيَّ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ غُضَيْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحَجَّاجِ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ تَأْتِيَنِي بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُخْبِرَنِي بِمَا تَرَى فَافْعَلْ. قَالَ وَكَانَتْ كَلِمَتُهُ مَقْبُولَةً فِي أَهْلِ الْفِقْهِ فَمَكَثَ زَمَانًا لَا يَرَاهُ ثُمَّ رَآهُ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ فَكَيْفَ حَالُكَ؟ قَالَ تَجَاوَزَ رَبُّنَا عَنِ الذُّنُوبِ فَلَمْ يَهْلَكْ مِنَّا إِلَّا الْأَخْرَاصُ قُلْتُ وَمَا الْأَخْرَاصُ؟ قَالَ الَّذِينَ يُشَارُ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ رَأَيْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقُلْتُ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ:
نَظَرْتُ إِلَى رَبِّي عِيَانًا فَقَالَ لِي
…
هَنِيئًا رِضَايَ عَنْكَ يَا ابْنَ سَعِيدِ
لَقَدْ كُنْتَ قَوَّامًا إِذَا اللَّيْلُ قَدْ دَجَا
…
بِعَبْرَةِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ
فَدُونَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ قَصْرٍ تُرِيدُهُ
…
وَزُرْنِي فَإِنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ
وَهَذَا بَابٌ طَوِيلٌ جِدًّا فَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُكَ بِتَصْدِيقِهِ وَقُلْتَ هَذِهِ مَنَامَاتٌ وَهِيَ غَيْرُ مَعْصُومَةٍ فَتَأَمَّلْ مَنْ رَأَى صَاحِبًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا أَوْ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا صَاحِبُ الرُّؤْيَا، أَوْ أَخْبَرَهُ بِمَالٍ دَفَنَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ حَذَّرَهُ مِنْ أَمْرٍ يَقَعُ، أَوْ بَشَّرَهُ بِأَمْرٍ يُوجَدُ فَوُجِدَ كَمَا قَالَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ هُوَ أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ إِلَى كَذَا وَكَذَا فَيَقَعُ كَمَا أَخْبَرَهُ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِخِصْبٍ أَوْ جَدْبٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ نَازِلَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَهُ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ.
وَالْوَاقِعُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِيهِ وَقَدْ رَأَيْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ، وَبِهِ يُعْلَمُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا عُلُومٌ وَعَقَائِدُ فِي النَّفْسِ تَظْهَرُ لِصَاحِبِهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ نَفْسِهِ عَنِ الشَّوَاغِلِ الْبَدَنِيَّةِ بِالنَّوْمِ، فَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ وَالْمُحَالِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَطُّ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا الْمَيِّتُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهَا وَلَا عِنْدَهَا عَلَامَةٌ عَلَيْهَا وَلَا أَمَارَةٌ بِوَجْهٍ مَا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرُّوحِ.
قَالَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَقَعُ كَذَلِكَ وَأَنَّ مِنَ الرُّؤْيَا مَا يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَصُوَرِ الِاعْتِقَادِ بَلْ أَكْثَرُ مَرَائِي النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ مُجَرَّدِ صُوَرِ اعْتِقَادِهِمُ الْمُطَابِقِ وَغَيْرِ الْمُطَابِقِ فَإِنَّ الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ.
وَالرُّؤْيَا الصَّحِيحَةُ أَقْسَامٌ:
(مِنْهَا) إِلْهَامٌ يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَهُوَ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ.
(وَمِنْهَا) مَثَلٌ يَضْرِبُهُ لَهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا الْمُوَكَّلُ بِهَا.
(وَمِنْهَا) الْتِقَاءُ رُوحِ النَّائِمِ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا.
(وَمِنْهَا) عُرُوجُ رُوحِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَخِطَابُهَا لَهُ.
(وَمِنْهَا) دُخُولُ رُوحِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَشَاهِدُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَالْتِقَاءُ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ اضْطَرَبَتْ فِيهِ النَّاسُ فَمِنْ قَائِلٍ
إِنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ وَإِنَّمَا اشْتِغَالُهَا بِعَالَمِ الْحِسِّ يَحْجُبُ عَنْهَا مُطَالَعَتَهَا، فَإِذَا تَجَرَّدَتْ بِالنَّوْمِ رَأَتْ مِنْهَا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا وَلَمَّا كَانَ تَجَرُّدُهَا بِالْمَوْتِ أَكْمَلَ كَانَتْ عُلُومُهَا وَمَعَارِفُهَا هُنَاكَ أَكْمَلَ.
قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ: وَهَذَا فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ فَلَا يُرَدُّ كُلُّهُ وَلَا يُقْبَلُ كُلُّهُ فَإِنَّ تَجَرُّدَ النَّفْسِ يُطْلِعُهَا عَلَى عُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ التَّجَرُّدِ لَكِنْ لَوْ تَجَرَّدَتْ كُلَّ التَّجَرُّدِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا عَلَى تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الرُّسُلِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَتَفَاصِيلِ الْمَعَادِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَتَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ تَجَرُّدَ النَّفْسِ عَوْنٌ لَهَا عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَتَلَقِّيهِ مِنْ مَعْدَنِهِ أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ وَأَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْمُنْعِمَةِ فِي الشَّوَاغِلِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَمَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرَائِي عُلُومٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ فِعْلِيٍّ نَهَجَ قَوْلَ مُنْكِرِ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ وَالْقُوَى.
قَالَ الْمُحَقِّقُ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ يَضْرِبُهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَإِلْفِهِ عَلَى يَدِ مَلَكِ الرُّؤْيَا فَمَرَّةً يَكُونُ مَثَلًا مَضْرُوبًا وَمَرَّةً يَكُونُ نَفْسَ مَا رَآهُ الرَّائِي فَيُطَابِقُ الْوَاقِعَ مُطَابَقَةَ الْعِلْمِ لِمَعْلُومِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ بَلْ لَهَا أَسْبَابٌ أُخَرُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُلَاقَاةِ الْأَرْوَاحِ وَإِخْبَارِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَمِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَالرَّوْعِ وَمِنْ رُؤْيَةِ الرُّوحِ لِلْأَشْيَاءِ مُكَافَحَةً بِلَا وَاسِطَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِهِ (النَّفْسُ وَالرُّوحُ) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ رُبَّمَا شَهِدْتَ وَغِبْنَا وَرُبَّمَا شَهِدْنَا وَغِبْتَ، ثَلَاثٌ أَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْهُنَّ عِلْمٌ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ خَيْرًا، وَالرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ شَرًّا. فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، تَلْتَقِي فِي الْهَوَاءِ فَتُشَامُّ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» ". فَقَالَ عُمَرُ: " وَاحِدَةٌ ". قَالَ عُمَرُ: وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ إِذَا نَسِيَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ وَمَا نَسِيَهُ إِذْ ذَكَرَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " «مَا فِي الْقُلُوبِ قَلْبٌ إِلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ بَيْنَا الْقَمَرُ يُضِيءُ إِذْ تَجَلَّلَتْهُ سَحَابَةٌ فَنَسِيَ إِذَا انْجَلَتْ عَنْهُ فَيَذْكُرُ» ". قَالَ عُمَرُ: " اثْنَانِ ". قَالَ: وَالرَّجُلُ يَرَى الرُّؤْيَا فَمِنْهَا مَا يَصْدُقُ وَمِنْهَا مَا يَكْذِبُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ عَبْدٍ يَنَامُ يَمْتَلِئُ نَوْمًا إِلَّا عُرِجَ بِرُوحِهِ إِلَى الْعَرْشِ فَالَّذِي لَا يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَصْدُقُ، وَالَّذِي يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَهِيَ الَّتِي تَكْذِبُ» " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ثَلَاثٌ كُنْتُ فِي طَلَبِهِنَّ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَصَبْتُهُنَّ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: عَجِبْتُ لِرُؤْيَا الرَّجُلِ يَرَى الشَّيْءَ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ فَيَكُونُ كَأَخْذٍ بِيَدٍ، وَيَرَى الشَّيْءَ فَلَا يَكُونُ شَيْئًا. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] قَالَ وَالْأَرْوَاحُ يُعْرَجُ بِهَا فِي مَنَامِهَا فَمَا رَأَتْ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ الْحَقُّ فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى أَجْسَادِهَا تَلَقَّتْهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَّبَتْهَا فَمَا رَأَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْبَاطِلُ. قَالَ فَجَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه يَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ مَنْدَهْ هَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ تَتَلَاقَى فَتُشَامُّ كَمَا تُشَامُّ الْخَيْلُ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» ". قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلَمْ تَزَلِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا تَعْرِفُ هَذَا وَتُشَاهِدُهُ. قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ:
أَظَلُّ نَهَارِي مُسْتَهَامًا وَتَلْتَقِي
…
مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا
فَإِنْ قِيلَ فَالنَّائِمُ يَرَى غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ يُحَدِّثُهُ وَيُخَاطِبُهُ وَرُبَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ وَيَكُونُ الْمَرْءُ يَقْظَانُ رُوحُهُ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ فَكَيْفَ الْتَقَتْ رُوحُهُمَا؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَثَلًا مَضْرُوبًا ضَرَبَهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا لِلنَّائِمِ أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ نَفْسٍ مِنَ الرَّائِي تَجَرَّدَ لَهُ فِي مَنَامِهِ قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ:
سُقْيًا لِطَيْفِكَ مِنْ زُورٍ أَتَاكَ بِهِ
…
حَدِيثُ نَفْسِكَ عَنْهُ وَهْوَ مَشْغُولُ