الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» ".
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ فَكَادَتْ أَنْ تُلْقِيَهُ، وَإِذَا أَقْبُرُ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَقَالَ " مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا فَقَالَ " مَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟ " فَقَالَ مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ". ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» " الْحَدِيثَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ» .
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْآجُرِّيُّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْآجُرِّيُّ (وَابْنُ مَنْدَهْ) . وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَسَنَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَمَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْلَى بْنِ سِيَابَةَ وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَأُمِّ بَشِيرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
[ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ]
(الْأَمْرُ الثَّالِثُ) مَا وَرَدَ فِي ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ - أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ قَعَدَ عَلَى شَفِيرِهِ فَجَعَلَ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: " يُضْغَطُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ ضَغْطَةً تَزُولُ مِنْهَا حَمَائِلُهُ» " قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْقَبْرُ.
الْحَمَائِلُ هُنَا عُرُوقُ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُرَادُ هُنَا مَوْضِعُ حَمَائِلِ السَّيْفِ أَيْ عَوَاتِقُهُ وَأَضْلَاعُهُ وَصَدْرُهُ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا نَاجِيًا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» " رضي الله عنه.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا دُفِنَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَبَّحَ النَّاسُ مَعَهُ طَوِيلًا ثُمَّ كَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ ثُمَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ سَبَّحْتَ؟ قَالَ " لَقَدْ تَضَايَقَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ» ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ دُفِنَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى قَبْرِهِ قَالَ: " «لَوْ نَجَا مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ أَحَدٌ لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ أُرْخِيَ عَنْهُ» " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» " يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ فَرَحًا بِرُوحِهِ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ابْنُ أُمَيَّةَ أَوِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ «سَأَلَ بَعْضَ أَهْلِ سَعْدٍ مَا بَلَغَكُمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ " كَانَ يُقَصِّرُ فِي بَعْضِ الطَّهُورِ مِنَ الْبَوْلِ» ".
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مَا أُجِيرَ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ أَحَدٌ وَلَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي مِنْدِيلٌ مِنْ مَنَادِيلِهِ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَشَدُّ حَدِيثٍ سَمِعْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «مَا عُفِيَ أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ إِلَّا فَاطِمَةَ بِنْتَ أَسَدٍ " فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلَا الْقَاسِمُ ابْنُكَ؟ قَالَ " وَلَا إِبْرَاهِيمُ» " وَكَانَ أَصْغَرَهُمَا. فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السَّعْدِيُّ فِي كِتَابِ الرُّوحِ لَهُ لَا يَنْجُو مِنْ ضَغْطَةِ
الْقَبْرِ صَالِحٌ وَلَا طَالِحٌ. وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَنِ اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ضَمَّتِ الْمُصْطَفَى وَلَمَّا مَاتَتْ سَكَبَ عَلَيْهَا الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ الْكَافُورُ وَأَلْبَسَهَا قَمِيصَهُ وَاضْطَجَعَ فِي قَبْرِهَا وَقَالَ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَلَقِّنْهَا حَاجَتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا» ". وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَتْ شَمَالَ قُبَّةِ عُثْمَانَ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْحَمَّامُ وَعَلَيْهَا قُبَّةٌ صَغِيرَةٌ كَمَا فِي زُبْدَةِ الْأَعْمَالِ مُخْتَصَرِ تَارِيخِ الْأَزْرَقِيِّ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السَّعْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي ضَمَّةِ الْقَبْرِ دَوَامُهَا لِلْكَافِرِ وَحُصُولُ هَذِهِ الْحَالَةِ لِلْمُؤْمِنِ فِي أَوَّلِ نُزُولِهِ إِلَى قَبْرِهِ ثُمَّ يَعُودُ الِانْفِسَاحُ لَهُ فِيهِ، قَالَ وَالْمُرَادُ بِضَغْطَةِ الْقَبْرِ الْتِقَاءُ جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَدِ الْمَيِّتِ.
قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ سَبَبُ هَذِهِ الضَّغْطَةِ أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ أَلَمَّ بِخَطِيئَةٍ مَا وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَجُعِلَتْ هَذِهِ الضَّغْطَةُ جَزَاءً لَهَا ثُمَّ تُدْرِكُهُ الرَّحْمَةُ وَلِذَلِكَ ضُغِطَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه.
قَالَ وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّ لَهُمْ فِي الْقُبُورِ ضَمَّةً وَلَا سُؤَالًا لِعِصْمَتِهِمْ - أَيْ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ فَكَيْفَ يُسْأَلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ رَآهُ الْمَرْوَذِيُّ رحمه الله بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ سَأَلَاهُ وَقَالَا لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَمِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ؟ فَقَالَا لَا تُؤَاخِذْنَا بِذَا أُمِرْنَا ثُمَّ انْصَرَفَا. فَكَيْفَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَهُمُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ الدَّالُّونَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ فِي إِنْقَاذِ عِبَادِهِ مِنْ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ بِإِذْنِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ التَّمِيمِيُّ: ضَمَّةُ الْقَبْرِ إِنَّمَا أَصْلُهَا أَنَّ الْأَرْضَ أُمُّهُمْ وَمِنْهَا خُلِقُوا فَغَابُوا عَنْهَا الْغَيْبَةَ الطَّوِيلَةَ فَلَمَّا رُدُّوا إِلَيْهَا وَهُمْ أَوْلَادُهَا ضَمَّتْهُمْ ضَمَّةَ الْوَالِدَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَلَدُهَا ثُمَّ قَدِمَ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا ضَمَّتْهُ بِرِفْقٍ وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا ضَمَّتْهُ بِعُنْفٍ سُخْطًا لِرَبِّهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ مُنْذُ حَدَّثْتَنِي بِصَوْتِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَيْسَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ؟ ، قَالَ " يَا عَائِشَةُ إِنَّ أَصْوَاتَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ كَإِثْمِدٍ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَالْأُمِّ الشَّفِيقَةِ يَشْكُو إِلَيْهَا ابْنُهَا الصُّدَاعَ فَتَغْمِزُ
رَأْسَهُ غَمْزًا رَفِيقًا، وَلَكِنْ يَا عَائِشَةُ وَيْلٌ لِلشَّاكِّينَ فِي اللَّهِ كَيْفَ يُضْغَطُونَ فِي قُبُورِهِمْ كَضَغْطَةِ الصَّخْرَةِ عَلَى الْبَيْضَةِ» "
(فَوَائِدُ)
(الْأُولَى) : ذَكَرَ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه رَفَعَهُ " «أَوَّلُ عَدْلِ الْآخِرَةِ الْقُبُورُ فَلَا يُعْرَفُ شَرِيفٌ مِنْ وَضِيعٍ» " وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ مَا يَكُونُ لِعَبْدِهِ إِذَا دَخَلَ قَبْرَهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ النَّاسُ وَأَهْلُهُ.
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَرْحَمُ مَا يَكُونُ اللَّهُ بِالْعَبْدِ إِذَا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ» ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْحَبَطِيِّ يَرْفَعُهُ: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُتْحَفُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ يُقَالُ لَهُ أَبْشِرْ فَقَدْ غُفِرَ لِمَنْ تَبِعَ جِنَازَتَكَ» ". وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَعَبْدٌ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُجَازَى بِهِ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُغْفَرَ لِجَمِيعِ مَنْ تَبِعَهُ» ". وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ.
(الثَّانِيَةُ) قَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تُدْفَعُ بِأَحَدِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ أَنْ يَتُوبَ فَيُتَابَ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَغْفِرَ فَيُغْفَرَ لَهُ، أَوْ يَعْمَلَ حَسَنَاتٍ فَتَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ يُبْتَلَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ فَيُكَفَّرُ عَنْهُ، أَوْ فِي الْبَرْزَخِ بِالضَّغْطَةِ وَالْفِتْنَةِ فَيُكَفَّرُ عَنْهُ، أَوْ يُبْتَلَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَهْوَالٍ تُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ تُدْرِكَهُ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ رَحْمَةُ رَبِّهِ تبارك وتعالى. وَتَقَدَّمَ فِي التَّوْبَةِ طَرَفٌ صَالِحٌ مِنْ هَذَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(الثَّالِثَةُ) الْأَسْبَابُ الَّتِي يُعَذَّبُ بِهَا أَصْحَابُ الْقُبُورِ عَلَى قِسْمَيْنِ مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ، أَمَّا الْمُجْمَلُ فَإِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَإِضَاعَتِهِمْ لِأَمْرِهِ وَارْتِكَابِهِمْ مَعَاصِيَهِ فَلَا يُعَذِّبُ اللَّهُ رُوحًا عَرَفَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ وَامْتَثَلَتْ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَتْ نَهْيَهُ، وَلَا بَدَنًا كَانَتْ فِيهِ أَبَدًا فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ بَلْ وَعَذَابَ الْآخِرَةِ أَثَرُ غَضَبِ
اللَّهِ وَسُخْطِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَمَنْ أَغْضَبَ اللَّهَ وَأَسْخَطَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِارْتِكَابِ مَنَاهِيهِ وَلَمْ يَتُبْ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَذَابُ الْبَرْزَخِ بِقَدْرِ غَضَبِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ عَلَيْهِ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ وَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ.
وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ فَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْآخَرَ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَلَفْظُهُ:«مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: " إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ; أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ". ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا وَاحِدَةً، قَالُوا لِمَ فَعَلْتَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا» ".
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ أَهْوَالِ الْقُبُورِ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرُّوحِ فَهَذَا تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ وَهَذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوقِعَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوقِعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ أَعْظَمُ عَذَابًا كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الَّتِي الِاسْتِبْرَاءُ مِنَ الْبَوْلِ بَعْضُ شُرُوطِهَا أَشَدُّ عَذَابًا.
وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: " «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» " فَهَذَا مُغْتَابٌ وَذَاكَ نَمَّامٌ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَعْذِيبِ مَنْ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتَبْلُغُ الْآفَاقَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الَّذِي ضُرِبَ فِي قَبْرِهِ سَوْطًا امْتَلَأَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ نَارًا لِكَوْنِهِ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَمَرَّ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، وَتَعْذِيبُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنَامُ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فِي النَّهَارِ، وَتَعْذِيبُ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي، وَتَعْذِيبُ آكِلِ الرِّبَا كَمَا شَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَرْزَخِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ: رَضْخُ رُءُوسِ أَقْوَامٍ بِالصَّخْرِ لِتَثَاقُلِ رُءُوسِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالَّذِينَ يَأْكُلُونَ الزَّقُّومَ وَالضَّرِيعَ لِتَرْكِهِمُ الزَّكَاةَ، وَالَّذِينَ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ الْخَبِيثَ لِزِنَاهُمْ، وَالَّذِينَ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ لِقِيَامِهِمْ فِي الْفِتَنِ بِالْكَلَامِ وَالْخُطَبِ.
وَمِنَ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ وَالْمُرَاءُونَ وَالْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ وَالطَّعَّانُونَ عَلَى السَّلَفِ وَالَّذِينَ يَأْتُونَ الْكَهَنَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالْعَرَّافِينَ فَيَسْأَلُونَهُمْ وَيُصَدِّقُونَهُمْ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِدُنْيَا غَيْرِهِمْ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَشْتَغِلُ بِذُنُوبِ النَّاسِ عَنْ ذَنْبِهِ وَبِعُيُوبِهِمْ عَنْ عَيْبِهِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِهَذِهِ الْجَرَائِمِ بِحَسَبِ كَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا وَصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ كَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ الْقُبُورِ مُعَذَّبِينَ وَالْفَائِزُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، فَظَوَاهِرُ الْقُبُورِ تُرَابٌ وَبَوَاطِنُهَا حَسَرَاتٌ وَعَذَابٌ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ وَبِاللَّهِ الْإِعَانَةُ وَالْعَوْنُ.
(الرَّابِعَةُ) الْأَسْبَابُ الْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ، أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَهُوَ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي الْعَذَابَ، وَمِنْ أَنْفَعِهَا أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَمَا يُرِيدُ النَّوْمَ لِلَّهِ سَاعَةً يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا عَلَى مَا خَسِرَهُ وَرَبِحَهُ فِي يَوْمِهِ ثُمَّ يُجَدِّدَ لَهُ تَوْبَةً نَصُوحًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَيَنَامَ عَلَى تِلْكَ التَّوْبَةِ وَيَعْزِمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ إِذَا اسْتَيْقَظَ وَيَفْعَلُ هَذَا كُلَّ لَيْلَةٍ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى تَوْبَةٍ وَإِنِ اسْتَيْقَظَ مُسْتَقْبِلًا لِلْعَمَلِ مَسْرُورًا بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالِ السُّنَنِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ النَّوْمِ حَتَّى يَغْلِبَهُ النَّوْمُ فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا وَفَّقَهُ لِذَلِكَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» ".
وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الشُّهَدَاءِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ (تَبَارَكَ الْمُلْكَ) فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «ضَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ
وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ أَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ: رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ الرَّجُلُ بَلَى قَالَ اقْرَأْ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] احْفَظْهَا وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ وَصِبْيَانَ بَيْتِكَ وَجِيرَانَكَ فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ أَوْ تُخَاصِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا وَتَطْلُبُ لَهُ إِلَى رَبِّهَا أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» ".
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ سُورَةً ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ فِي صَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ - تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» "
(تَنْبِيهَاتٌ)
الْأَوَّلُ: أَنْكَرَتِ الْمَلَاحِدَةُ وَالزَّنَادِقَةُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَسِعَتَهُ وَضِيقَهُ وَكَوْنَهُ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ أَوْ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَأَنْكَرُوا جُلُوسَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، قَالُوا وَقَدْ وَضَعُوا عَلَى صَدْرِ الْمَيِّتِ زِيبَقًا فَكَشَفُوا عَنْهُ فَوَجَدُوهُ بِحَالِهِ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَلَائِكَةً يَضْرِبُونَ الْمَوْتَى بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ وَلَا وَجَدُوا حَيَّاتٍ وَلَا عَقَارِبَ وَلَا نِيرَانًا وَأَجْنَبُوا وَأَجْلَبُوا مِثْلَ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ وَالتُّرَّهَاتِ، وَقَالَ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ كُلُّ حَدِيثٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعُقُولِ نَقْطَعُ بِتَخْطِئَةِ نَاقِلِهِ، قَالُوا وَنَحْنُ نَرَى الْمَصْلُوبَ عَلَى الْخَشَبَةِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لَا يُسْأَلُ وَلَا يُجِيبُ وَلَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَتَوَقَّدُ جِسْمُهُ نَارًا، قَالُوا وَمَنِ افْتَرَسَتْهُ السِّبَاعُ وَنَهَشَتْهُ الطَّيْرُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي حَوَاصِلِ الطُّيُورِ وَأَجْوَافِ السِّبَاعِ وَبُطُونِ الْحِيتَانِ وَمَدَارِجِ الرِّيَاحِ كَيْفَ يُسْأَلُ؟ وَكَيْفَ يَصِيرُ الْقَبْرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا رَوْضَةً أَوْ حُفْرَةً؟ وَكَيْفَ يَتَّسِعُ قَبْرُهُ أَوْ يَضِيقُ؟ وَأَكْثَرُوا مِنْ هَذَا الْهَذَيَانِ.
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَأُمَنَاءِ الْأُمَّةِ بِمَا يَقْمَعُ الْمُفْتَرِينَ وَيُقْلِعُ عَنِ الشَّاكِّينَ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَةٍ (مِنْهَا) أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ تُخْبِرْ بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ بَلْ أَخْبَارُهُمْ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ بِهِ وَالثَّانِي: مَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ بِمُجَرَّدِهَا كَالْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرُوا بِهَا عَنْ تَفَاصِيلِ الْبَرْزَخِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُحَالًا فِي الْعُقُولِ أَصْلًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَأْتِي بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ بَلْ بِمُحَارَاتِهَا فَكُلُّ خَبَرٍ يُظَنُّ أَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا خَطَأٌ فِي النَّقْلِ أَوْ فَسَادٌ فِي الْعَقْلِ فَتَكُونُ شُبْهَةٌ خَيَالِيَّةٌ ظَنَّ صَاحِبُهَا أَنَّهَا أَمْرٌ عَقْلِيٌّ صَرِيحٌ وَالْحَالُ أَنَّهُ خَيَالٌ وَهْمِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ قَالَ تَعَالَى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُضَمَّ إِلَى خَبَرِ الرَّسُولِ مُرَادُهُ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ وَلَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَلَا يُقَصَّرُ بِهِ عَنْ مُرَادِهِ وَعَمَّا قَصَدَهُ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَبِإِهْمَالِ ذَلِكَ حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّورَ ثَلَاثَةً، دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْبَرْزَخِ وَدَارَ الْقَرَارِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامًا تَخْتَصُّ بِهَا، وَرَكَّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ وَجَعَلَ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَرْوَاحُ تَبَعٌ لَهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ مُرَتَّبَةً عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَرَكَاتِ الْإِنْسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنْ أَضْمَرَتِ النُّفُوسُ خِلَافَهُ، فَالْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ الظَّاهِرِ وَتَتَأَلَّمُ الرُّوحُ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْأَبْدَانُ تَبَعٌ لَهَا، فَكَمَا تَبِعَتِ الْأَرْوَاحُ الْأَبْدَانَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَتَأَلَّمَتْ بِأَلَمِهَا وَالْتَذَّتْ بِرَاحَتِهَا وَلَذَّتِهَا وَكَانَتْ هِيَ الْمُبَاشِرَةَ لِأَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ فَكَذَلِكَ تَبِعَتِ الْأَبْدَانُ الْأَرْوَاحَ فِي نَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَكَانَ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى الرُّوحِ وَلَهَا بِالْأَصَالَةِ وَالْبَدَنُ تَابِعٌ لِلرُّوحِ فِي ذَلِكَ عَكْسُ دَارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِدَارِ الْقَرَارِ وَالْمَعَادِ صَارَ الْحُكْمُ مِنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ بَادِيًا ظَاهِرًا أَصْلًا وَمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
وَنَعِيمِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلذَّوْقِ السَّلِيمِ طَابَقَ الْعَقْلَ الْمُسْتَقِيمَ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَمْرَ الْآخِرَةِ وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا غَيْبِيًّا وَحَجَبَهَا عَنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَتِهِ وَلِيَتَمَيَّزَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِلُ عَلَى الْمُحْتَضِرِ وَتَجْلِسُ قَرِيبًا مِنْهُ وَيُشَاهِدُهُمْ عِيَانًا وَيَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ وَمَعَهُ وَرُبَّمَا كَلَّمَهُمْ وَرَدَّ أَجْوِبَةً لَهُمْ، وَتَكُونُ مَعَهُمُ الْأَكْفَانُ وَالْحَنُوطُ إِمَّا مِنَ الْجَنَّةِ وَإِمَّا مِنَ النَّارِ.
وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الْحَاضِرِينَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَدْ يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُحْتَضِرِ وَيَرُدُّ عليهم السلام تَارَةً بِلَفْظِهِ وَتَارَةً بِإِشَارَةٍ وَتَارَةً بِقَلْبِهِ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ النُّطْقِ وَالْإِشَارَةِ وَقَدْ سُمِعَ بَعْضُ الْمُحْتَضَرِينَ يَقُولُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ. وَمِنْ ذَلِكَ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِالْبَالِ وَلَا يَتَصَوَّرْهُ الْخَيَالُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ النَّارَ الَّتِي فِي الْقَبْرِ لَيْسَتْ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيُشَاهِدُهَا مَنْ شَاهَدَ نَارَ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ شِدَّتَهَا عَلَى مَنْ هِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ دُونَ مَنْ مَسَّهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، بَلْ رُبَّمَا دُفِنَ الرَّجُلَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا فِي رَوْضَةٍ وَنَعِيمٍ وَالْآخَرُ فِي حُفْرَةٍ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ وَقُدْرَةُ الرَّبِّ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِ الْكَافِرُونَ لَا يَشْعُرُونَ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يُحْدِثُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُهُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ وَمَنْ إِلَى جَانِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَاهُ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ الْكُفَّارَ بِالسِّيَاطِ وَتَضْرِبُ رِقَابَهُمْ وَتَصِيحُ بِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ وَلَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى حَجَبَ ابْنَ آدَمَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ بَيْنَهُمْ فَهَذَا جِبْرِيلُ كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ وَالْحَاضِرُونَ لَا يَسْمَعُونَهُ.
وَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَأَقَرَّ بِقُدْرَتِهِ أَنْ يُحْدِثَ حَوَادِثَ يَصْرِفُ عَنْهَا أَبْصَارَ خَلْقِهِ وَأَسْمَاعَهُمْ حِكْمَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً بِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَتَهَا وَسَمَاعَهَا وَالْعَبْدُ أَضْعَفُ بَصَرًا وَسَمْعًا مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لِمُشَاهَدَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ أَشْهَدَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ضَعُفَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَيْشِ زَمَنًا، وَبَعْضُهُمْ كُشِفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
تَوْسِعَةَ الْقَبْرِ وَضِيقَهُ وَإِضَاءَتَهُ وَخُضْرَتَهُ وَنَارَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْهُودِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَشْهَدَ عِبَادَهُ هَذِهِ الدَّارَ وَمَا كَانَ فِيهَا وَمِنْهَا وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَقَدْ أَسْبَلَ عَلَيْهِ الْغِطَاءَ لِيَكُونَ الْإِقْرَارُ بِهِ وَالْإِيمَانُ سَبَبًا لِسَعَادَتِهِمْ وَلَوْ كَشَفَ عَنْهُ الْغِطَاءَ لَكَانَ مُشَاهَدًا عَيَانًا وَفَاتَتْهُ نَتِيجَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَمْ تُحِلْهُ الْعُقُولُ وَحَيْثُ كَانَ مُمْكِنًا فَمُعَارَضَةُ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ إِلْحَادٌ، وَهُوَ كَمَا أَنَّهُ مُقْتَضَى السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ الْمَرْوَذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ هَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ بِهَا، كُلَّمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِسْنَادٌ جَيِّدٌ أَقْرَرْنَا بِهِ، إِذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَدَفَعْنَاهُ وَرَدَدْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . قُلْتُ وَعَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ؟ قَالَ: حَقٌّ يُعَذَّبُونَ فِي الْقُبُورِ. قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: نُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ (وَأَنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فِي الْقَبْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نُقِرُّ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) . وَمَا يُرْوَى فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ نَعَمْ نُقِرُّ بِذَلِكَ، قُلْتُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ نَقُولُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ هَكَذَا أَوْ نَقُولُ مَلَكَيْنِ؟ قَالَ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. قُلْتُ يَقُولُونَ لَيْسَ فِي حَدِيثٍ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؟ قَالَ هُوَ هَكَذَا - يَعْنِي أَنَّهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحُ: وَأَمَّا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ: مَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، قَالَا وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْقَبْرِ إِنَّمَا تَقَعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَثْبَتَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَالْبَلْخِيُّ عَذَابَ الْقَبْرِ لَكِنَّهُمْ نَفَوْهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتُوهُ لِأَصْحَابِ التَّخْلِيدِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ عَلَى أُصُولِهِمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي)
الْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، تُنَعَّمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْبَدَنِ، وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا، فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمِعَيْنِ كَمَا يَكُونُ عَلَى الرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْبَدَنِ. وَهَلْ يَكُونُ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ لِلْبَدَنِ بِدُونِ الرُّوحِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الرُّوحِ وَإِنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ. قَالَ وَهَذَا تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمُنْكِرُونَ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ لَكِنْ يَقُولُونَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ، وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْبَدَنِ فِي الْبَرْزَخِ فَقَطْ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الْمُنَعَّمَةُ وَالْمُعَذَّبَةُ فِي الْبَرْزَخِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُذِّبَتِ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ مَعًا، قَالَ وَهَذَا قَالَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ بَلْ هُوَ مُضَافٌ إِلَى قَوْلِ مَنْ يُقِرُّ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيُقِرُّ بِالْقِيَامَةِ وَيُثْبِتُ مَعَادَ الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، عَلَيْهَا وَعَلَى الْبَدَنِ بِوَاسِطَتِهَا، عَلَى الْبَدَنِ فَقَطْ، وَقَدْ يُضَمُّ إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُثْبِتُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيَجْعَلُ الرُّوحَ هِيَ الْحَيَاةُ - وَيَجْعَلُ الشَّاذَّ قَوْلَ مُنْكِرِ عَذَابِ الْأَبْدَانِ مُطْلَقًا وَقَوْلَ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْبَرْزَخِ مُطْلَقًا؟ فَإِذَا جُعِلَتِ الْأَقْوَالُ الشَّاذَّةُ ثَلَاثَةً (فَالْقَوْلُ الثَّانِي) الشَّاذُّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الرُّوحَ بِمُفْرَدِهَا لَا تُنَعَّمُ وَلَا تُعَذَّبُ وَإِنَّمَا الرُّوحُ هِيَ الْحَيَاةُ وَهَذَا
يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِ وَيُنْكِرُونَ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ أَصْحَابُهُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْأَبْدَانِ وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ.
قَالَ وَالْفَلَاسِفَةُ الْإِلَهِيُّونَ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ، وَهَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَرْوَاحِ وَنَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا بِدُونِ الْأَبْدَانِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ. نَعَمْ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ أَبْعَدُ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَ (التَّحْقِيقِ فِي) الْكَلَامِ.
(الْقَوْلُ الثَّالِثُ) مِنَ الشَّوَاذِّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْبَرْزَخَ لَيْسَ فِيهِ نَعِيمٌ وَلَا عَذَابٌ بَلْ (لَا) يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ الْكُبْرَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ، فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ ضُلَّالٌ فِي أَمْرِ الْبَرْزَخِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى. انْتَهَى.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَعَرَفْتَ بُطْلَانَهَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتِ الْأَرْوَاحُ إِلَى الْأَجْسَادِ وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى رَبِّ الْمَعَادِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ يَجْرِي عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ رَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ يَجُوزُ أَنْ يَأْلَمَ وَيُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَيَعْلَمَ بِلَا رُوحٍ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكَرَامِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَذِّبُ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ وَيُحْدِثُ فِيهِمُ الْآلَامَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَإِذَا حُشِرُوا وَجَدُوا تِلْكَ الْآلَامَ وَأَحَسُّوا بِهَا، قَالُوا وَسَبِيلُ الْمُعَذَّبِينَ مِنَ الْمَوْتَى سَبِيلُ السَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَوْ ضَرَبُوهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْآلَامَ فَإِذَا عَادَ إِلَيْهِمُ الْعَقْلُ أَحَسُّوا بِأَلَمِ الضَّرْبِ، وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ رَأْسًا مِثْلَ (ضِرَارِ) بْنِ عَمْرٍو وَيَحْيَى
بْنِ كَامِلٍ وَهُوَ قَوْلُ الْمَرِيسِيِّ فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَهْلِ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ وَقَدْ عَلِمْتَ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ)
تَقَدَّمَ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَهُ نَصِيبُهُ مِنْهُ قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه فِي ذِكْرِ مَنَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الطَّوِيلِ وَرُؤْيَتِهِ لِلْمُعَذَّبِينَ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي عَذَابِ الْبَرْزَخِ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(الرَّابِعُ)
زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ لَهُ أَنَّ مَنْ ظَنَّ الْمَيِّتَ يَحْيَا فِي قَبْرِهِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ قَالَ لِأَنَّ الْآيَاتِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] وَقَوْلَهُ تَعَالَى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] قَالَ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ يَحْيَا فِي قَبْرِهِ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَاتَنَا ثَلَاثًا وَأَحْيَانَا ثَلَاثًا، قَالَ وَهَذَا بَاطِلٌ وَخِلَافُ الْقُرْآنِ إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مَنْ خَصَّهُ نَصٌّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] قَالَ فَصَحَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ أَرْوَاحَ سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا لَا تَرْجِعُ إِلَى أَجْسَادِهِمْ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ تَخَيُّلَاتٍ وَهِيَ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ حَمَلَهَا عَلَى غَيْرِ مَحَامِلِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى تُرَدُّ إِلَى أَجْسَادِهِمْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَقُلْنَا بِهِ. قَالَ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ رَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ فِي الْقُبُورِ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَقَالَ فِيهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ - وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ -:
مَا جَازَتْ لِلْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَطُّ شَهَادَةٌ فِي الْإِسْلَامِ - عَلَى مَا قَدْ نَقَلَ وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، قَالَ وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الَّذِي صَحَّ أَيْضًا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ آثَارًا يَزْعُمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنْ أَرَادَ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَحْيَا فِي قَبْرِهِ الْحَيَاةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الرُّوحُ بِالْبَدَنِ وَتُصَرِّفُهُ وَتُدَبِّرُهُ وَيَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ فَهَذَا خَطَأٌ كَمَا قَالَ وَالْحِسُّ وَالْعَقْلُ يُكَذِّبُهُ كَمَا يُكَذِّبُهُ النَّصُّ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ حَيَاةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بَلْ تُعَادُ إِلَيْهِ الرُّوحُ إِعَادَةً غَيْرَ الْإِعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الدُّنْيَا لِيُسْأَلَ وَيُمْتَحَنَ فِي قَبْرِهِ فَهَذَا حَقٌّ وَنَفْيُهُ خَطَأٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ» " فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَهُوَ يُلْحِدُ فَقَالَ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ عَلَى الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا نَزَلَتْ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، قَالَ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا» - الْحَدِيثَ -.
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَفِيهِ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ - الْحَدِيثَ - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ أَوَّلَهُ وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَائِينِيُّ.