الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيَغْفُلُونَ عَنْ مَقَالِهِنَّ.
وَالْحَاصِلُ اخْتِصَاصُ النُّبُوَّةِ بِأَشْرَفِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ الرَّأْيِ وَلَوْ فِي الصِّبَا كَعِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا نَفَّرَ عَنِ الِاتِّبَاعِ كَدَنَاءَةِ الْآبَاءِ وَعِهْرِ الْأُمَّهَاتِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعُيُوبِ الْمُنَفِّرَةِ لِلطِّبَاعِ كَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ، وَالْأُمُورِ الْمُخِلَّةِ بِالْمُرُوءَةِ كَأَكْلٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَالْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ كَالْحِجَامَةِ، وَكُلِّ مَا يُخِلُّ بِحِكْمَةِ الْبَعْثَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَشْعَرَ بِانْفِرَادِ كَمَالِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِالنُّبُوَّةِ وَاخْتِصَاصِ الذُّكُورِ الْأَحْرَارِ الْمُنَزَّهِينَ عَنِ النَّقَائِصِ بِهَا خَشِيَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ يُدْرَكُ بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّهْذِيبِ وَالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَالتَّأْدِيبِ، فَنَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
[النبوة غير مكتسبة]
((وَلَا تُنَالُ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ
…
بِالْكَسْبِ وَالتَّهْذِيبِ وَالْفُتُوَّةِ))
((لَكِنَّهَا فَضْلٌ مِنَ الْمَوْلَى الْأَجَلِّ
…
لِمَنْ يَشَا مِنْ خَلْقِهِ إِلَى الْأَجَلْ))
((وَلَا تُنَالُ)) بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ: لَمْ تُعْطَ ((رُتْبَةُ)) بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ، يُقَالُ: نَالَهُ يَنُولُهُ إِذَا أَعْطَاهُ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّوَالُ وَالنَّائِلُ الْعَطَاءُ، وَنُلْتُهُ وَنُلْتُ لَهُ وَبِهِ أَنُولُهُ وَأَنَلْتُهُ إِيَّاهُ، وَنَوَّلْتُهُ أَعْطَيْتُهُ.
وَالرُّتْبَةُ بِالضَّمِّ، وَالْمَرْتَبَةُ الْمَنْزِلَةُ ((النُّبُوَّةِ)) بِالْجَرِّ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الرُّتْبَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ عَالِيَةٍ يَنْكَشِفُ بِهَا مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي هِيَ مَطْلُوبَاتُ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي يُكَلِّفُهُمْ بِهَا انْكِشَافًا يُنَاسِبُ انْكِشَافَ النَّارِ لِلدُّهْنِ بِرُؤْيَةِ الدُّخَانِ، وَانْكِشَافِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ بِجَذْبِ النَّفَسِ إِلَى الْأَنْفِ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: مَا يَعُمُّ الرِّسَالَةَ كَمَا لَا يَخْفَى ((بِالْكَسْبِ)) مُتَعَلِّقٌ بِلَا تُنَالُ " وَ " لَا تُنَالُ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ وَدَرَجَةُ الرِّسَالَةِ أَيْضًا بِـ ((التَّهْذِيبِ)) أَيْ: تَنْقِيَةِ الْبَدَنِ وَتَصْفِيَةِ الْأَخْلَاقِ وَخُلُوصِ الْبِنْيَةِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَتَبْقِيَةِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ وَالنُّعُوتِ الْجَلِيلَةِ ((وَ)) لَا تُنَالُ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ أَيْضًا بِـ ((الْفُتُوَّةِ)) أَيْ: كَرَمِ النَّفْسِ وَتَخْلِيصِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ إِلَى الْأَوْصَافِ الْمَمْدُوحَةِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفُتُوَّةُ الْكَرَمُ، وَقَدْ تَفَتَّى وَتَفَاتَى يَعْنِي تَعَاطَى أَوْصَافَ الْفُتُوَّةِ وَتَخَلَّقَ بِهَا، وَرَاضَ نَفْسَهُ حَتَّى صَارَ مِنْ ذَوِيهَا، وَفَتَوْتُهُمْ إِذَا غَلَبْتَهُمْ فِيهَا.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تُنَالُ بِمُجَرَّدِ الْكَسْبِ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَتَكَلُّفِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَاقْتِحَامِ أَشَقِّ الطَّاعَاتِ، وَتَدَأُّبٍ فِي تَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَتَنْقِيَةِ خَوَاطِرِهِ
وَتَطْهِيرِ أَخْلَاقِهِ، وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ وَبَدَنِهِ، وَتَهْذِيبِ ذَلِكَ ((لَكِنَّهَا)) أَيِ: النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ ((فَضْلٌ مِنَ الْمَوْلَى الْأَجَلِّ)) سبحانه وتعالى يُؤْتِيهِ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ سَبَقَ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّانِ بِاصْطِفَائِهِ لَهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ الْمُجَوِّزِينَ اكْتِسَابَ النُّبُوَّةِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَنْ لَازَمَ الْخَلْوَةَ وَالْعِبَادَةَ وَدَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ وَتَنَاوُلَ الْحَلَالِ وَإِخْلَاءَ نَفْسِهِ مِنَ الشَّوَاغِلِ الْعَائِقَةِ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ كَمَالِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِالتَّهْذِيبِ وَالرِّيَاضَةِ انْصَقَلَتْ مِرْآةُ بَاطِنِهِ وَفُتِحَتْ بَصِيرَةُ لُبِّهِ، وَتَهَيَّأَ لِمَا لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ غَيْرُهُ مِنَ التَّحَلِّي بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنِ اجْتِمَاعِ ثَلَاثِ خَوَاصَّ فِي الْإِنْسَانِ (إِحْدَاهَا) الِاطِّلَاعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ لِصَفَاءِ جَوْهَرِ نَفْسِهِ وَشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ الْعَالِيَةِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ كَسْبٍ وَلَا تَعَلُّمٍ وَلَا تَعْلِيمٍ.
(الثَّانِيَةُ) : ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِحَيْثُ تُعْطِيهِ الْهَيُولَى الْعُنْصُرِيَّةَ الْقَابِلَةَ لِلصُّوَرِ الْمُفَارِقَةَ إِلَى بَدَنٍ.
(الثَّالِثَةُ) : مُشَاهَدَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرٍ مُتَخَيَّلَةٍ، وَيَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى.
هَذَا مُحَصَّلُ مَذْهَبِهِمُ الْفَاسِدِ، وَمُلَخَّصُ مَسْلَكِهِمُ الْبَاطِلِ، فَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللَّهِ مَا يَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا فِي نَفْسِ النَّبِيِّ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْفَيْضِ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ وَسَائِرِ النُّفُوسِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَصْفَى وَأَكْمَلَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ النَّبِيِّ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ زَنَادِقَةِ الْإِسْلَامِ يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرُوا أَنْبِيَاءَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّبُوَّةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَمَوْهِبَةٌ، وَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَمُنُّ بِهَا سُبْحَانَهُ وَيُعْطِيهَا ((لِمَنْ يَشَاءُ)) أَنْ يُكْرِمَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا بِكَسْبِهِ، وَلَا يَنَالُهَا عَنِ اسْتِعْدَادِ وِلَايَتِهِ، بَلْ يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ((مِنْ خَلْقِهِ)) وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ فَهُوَ زِنْدِيقٌ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَلَامُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ، وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِأَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ عليهم السلام، وَلِهَذَا قَالَ:((إِلَى الْأَجَلِ)) يَعْنِي أَنَّ النُّبُوَّةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةٌ يَمُنُّ بِهَا الرَّبُّ الْحَكِيمُ، وَالْعَلِيمُ الْكَرِيمُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُرِيدُ إِكْرَامَهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَدًّا مَنْ عَهِدَ الْأَبِ