المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[خلود الجنة والنار] - لوامع الأنوار البهية - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ في ذِكْرِ بَعْضِ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ ذِكْرِ الْبَرْزَخِ وَالْقُبُورِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَالْحَشْرِ وَالنُّشُورِ]

- ‌[المراد بها ما طريق العلم به النصوص الشرعية]

- ‌[أمور ما بعد الموت منها سؤال منكر ونكير]

- ‌[عذاب القبر]

- ‌[ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ في الكلام في الروح وحقيقتها]

- ‌[الاختلاف في حقيقة الروح وهل هي النفس أم غيرها]

- ‌[أين مستقر الأرواح في البرزخ]

- ‌[خَلْقِ الْأَرْوَاحِ هَلْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا]

- ‌[أَيْنَ مُسْتَقَرُّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[هَلْ تَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ وَتَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ أَيْضًا]

- ‌[معنى السيد وهل يطلق على البشر]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى اقْتِرَابِهَا وَمَجِيئِهَا]

- ‌[الأدلة على أشراط الساعة]

- ‌[أشراط الساعة ثلاثة أقسام الأول ما قد مضى وانقضى]

- ‌[القسم الثاني الْأَمَارَاتُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَهِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْقَضِ بَلْ تَزَّايَدُ وَتَكْثُرُ]

- ‌[القسم الثالث الْعَلَامَاتُ الْعِظَامُ وَالْأَشْرَاطُ الْجِسَامُ الَّتِي تَعْقُبُهَا السَّاعَةُ]

- ‌[العلامة الأولى ظهور المهدي]

- ‌[اسم المهدي وأشهر أوصافه]

- ‌[فوائد في شأن المهدي الأولى حليته وصفته]

- ‌[الثانية سيرة المهدي]

- ‌[الثالثة علامات ظهور المهدي]

- ‌[الرابعة بعض ما يسبق المهدي من الفتن]

- ‌[الخامسة فِي مَوْلِدِ المهدي وَبَيْعَتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّالثة نزول عيسى عليه السلام]

- ‌[نزول عيسى عليه السلام ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ]

- ‌[فَوَائِدُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ عليه السلام الأولى حليته وسيرته]

- ‌[الثانية وقت نزول المسيح ومحله وما يجري على يديه]

- ‌[الثالثة مقدار مدة ووفاة المسيح عليه السلام]

- ‌[قتل المسيح للدجال]

- ‌[تنبيهات الأول قتل المسلمين لأتباع الدجال من اليهود]

- ‌[الثَّانِي فِي قَدْرِ لُبْثِ الدجال وَكَيْفِيَّةِ النَّجَاةِ مِنْهُ]

- ‌[الثَّالث ينبغي بث الأحاديث المنذرة بالدجال]

- ‌[الرابع في ابن صياد وهل هو الدجال]

- ‌[الخامس قصة تميم الداري حديث الجساسة]

- ‌[السادس الدَّجَّالِ عِنْدَ الْيَهُودِ وزعمهم فيه]

- ‌[السابع زيارة عيسى لقبر النبي وحجه البيت الحرام]

- ‌[العلامة الرابعة خروج يأجوج ومأجوج]

- ‌[العلامة الخامسة هَدْمُ الْكَعْبَةِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السادسَةُ الدُّخَانِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السابعة رَفْعُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثامنة طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[الْعَلَامَةُ التاسعة دَابَّةِ الْأَرْضِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ العاشرة خُرُوجُ النَّارِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ]

- ‌[الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ حَقٌّ وَاقِعٌ وَصِدْقٌ صَادِقٌ دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ]

- ‌[النفخ في الصور]

- ‌[الوقوف للحساب]

- ‌[الصحف]

- ‌[الميزان]

- ‌[الصراط]

- ‌[الحوض]

- ‌[قوم يزادون عن الحوض]

- ‌[الشفاعة]

- ‌[شفاعة الأنبياء وغيرهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي‌‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[جنة النعيم للأبرار]

- ‌[خلود الجنة والنار]

- ‌[سؤالَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ وَالتَّنْعِيمِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ]

- ‌[رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة]

- ‌[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ ذِكْرِ سيدنا مُحَمَّدٍ وبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ]

- ‌[إرسال الرسل منة من الله تعالى]

- ‌[الأوصاف اللازمة للنبوة]

- ‌[النبوة غير مكتسبة]

- ‌[خاتم النبيين]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَعْضِ الخَصَائِصِ النبوية]

- ‌[مزايا وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غير ما ذكر]

- ‌[فَصْلٌ في التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تنحصر]

- ‌[القرآن وانشقاق القمر]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ فَضِيلَةِ نَبِيِّنَا وَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ]

- ‌[أفضل العالم الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الأفضل من سائر الخلق بعد النبي أهل العزم]

- ‌[فَصْلٌ فيما يجب وما يستحيل في حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ الجائزفي حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرِ فضل الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي الله عنهم]

- ‌[أبو بكر الصديق]

- ‌[عمر الفاروق]

- ‌[عثمان ذو النورين]

- ‌[علي أبو السبطين]

- ‌[مَنْ أَحَب الخلفاء الأربعة فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ أَبْغَضَهُم فَهُوَ زِنْدِيقٌ]

- ‌[باقي العشرة]

- ‌[طلحة بن عبيد الله]

- ‌[الزبير بن العوام]

- ‌[سعد بن أبي وقاص]

- ‌ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ

- ‌[سعيد بن زيد]

- ‌[أبوعبيدة بن الجراح]

- ‌[أهل بدر]

- ‌[أهل الشجرة]

- ‌[أهل أحد]

- ‌[عائشة وخديجة]

- ‌[فَصْلٌ فِي فضل الصَّحَابَةِ جملة وحقهم]

- ‌[الصحابة أَحَقُّ الْأُمَّةِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَأَجْدَرُ الْخَلْقِ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ]

- ‌[أسباب تفضيل الصحابة]

- ‌[التحذير من الإزراء بفضل الصحابة]

- ‌[التابعون وفضلهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي ذِكْرِ‌‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌[أوجه تولي الإمامة وشروطه]

- ‌[وجوب طاعته بشرطه]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ]

- ‌[صلاح العباد لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الآمر بالمعروف يبدأ بنفسه]

- ‌[الْخَاتِمَةُ]

- ‌[مدارك العلوم]

- ‌[تعريف الحد وبيان شرطه]

- ‌[الإدراك بالحس وحال السفوسطائية]

- ‌[بعض اصطلاحات العلماء]

- ‌[التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمُثُولُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[ذكر المؤلف أن اقتفاء الأئمة والسلف الصالح ليس تقليدا لهم في الاعتقاد]

- ‌[ذكر أئمة المذاهب الأربعة]

- ‌[تُقَليِّدَ أحِد الأئمة الْأَرْبَعَةِ]

- ‌[حث المؤلف على الاقتداء بالأئمة]

- ‌[حث المؤلف على أخذ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ]

الفصل: ‌[خلود الجنة والنار]

لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ " قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ» .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ".

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «آتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ: فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عُتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ» " وَفِي هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ تَزِيدُ عَلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ.

[خلود الجنة والنار]

((وَاجْزِمْ بِأَنَّ النَّارَ كَالْجَنَّةِ فِي

وُجُودِهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَتْلَفِ))

((وَاجْزِمْ)) جَزْمَ إِيقَافٍ وَعِرْفَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَإِذْعَانٍ ((بِأَنَّ النَّارَ)) وَمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ وَالْبَوَارِ وَالزَّبَانِيَةِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَقَارِبِ كَالْبِغَالِ وَنَحْوِهَا مَوْجُودٌ الْآنَ، وَمِنْ قَبْلِ الْآنَ ((كَمَا)) أَنَّ ((الْجَنَّةَ)) وَمَا فِيهَا مِنَ الْوِلْدَانِ وَالْحُورِ وَالنَّعِيمِ وَالْحُبُورِ وَالْحُلَلِ وَالتِّيجَانِ وَالْفَوَاكِهِ وَالدُّورِ وَالْفُرُشِ وَالْقُصُورِ وَجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالسُّرُورِ مَوْجُودٌ الْآنَ، وَقَبْلَ الْآنَ، فَالنَّارُ ((فِي وُجُودِهَا)) الْآنَ كَالْجَنَّةِ فَهُمَا مَوْجُودَتَانِ، قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي كِتَابِهِ:(حَادِي الْأَرْوَاحِ) : لَمْ يَزَلْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَفُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ وَإِثْبَاتِهِ

ص: 230

مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ دَعُوا الْأُمَمَ إِلَيْهَا وَأَخْبَرُوا بِهَا، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ كَالنَّارِ الْآنَ مَخْلُوقَةٌ، وَقَالُوا:

بَلِ اللَّهُ يُنْشِئُهَا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلُهُمُ الْفَاسِدُ الَّذِي وَضَعُوا بِهِ شَرِيعَةً فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَقَاسُوهُ سُبْحَانَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَفْعَالِهِ، فَهُمْ مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ، وَدَخَلَ التَّجَهُّمُ فِيهِمْ فَصَارُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَطِّلَةً فِي الصِّفَاتِ وَقَالُوا: خَلْقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَبْلَ الْجَزَاءِ عَبَثٌ، فَإِنَّهُمَا يَصِيرَانِ مُعَطَّلَتَيْنِ مُدَدًا مُتَطَاوِلَةً لَيْسَ فِيهِمَا سَاكِنُهُمَا، قَالُوا:

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَلِكًا لَوِ اتَّخَذَ دَارًا وَأَعَدَّ فِيهَا الْأَلْوَانَ وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآلَاتِ وَالْمَصَالِحَ وَعَطَّلَهَا مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ دُخُولِهَا قُرُونًا مُتَطَاوِلَةً لَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَوَجَدَ الْعُقَلَاءُ سَبِيلًا إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ.

فَحَجَرُوا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى بِعُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي وَضَعُوهَا، وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَضَيَّعُوهَا وَضَلَّلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ بِدْعَتَهُمْ هَذِهِ الْقَبِيحَةَ، وَبَدَّعُوا مَنِ انْصَرَفَ عَنْ شِرْعَتِهِمْ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ، وَالْتَزَمُوا لَهَا لَوَازِمَ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمْ فِيهَا الْعُقَلَاءَ، وَقَبَّحَ عَلَيْهِمْ رَأْيَهُمْ بِسَبَبِهَا النُّبَلَاءُ، وَلِهَذَا صَارَ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ، وَيَذْكُرُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَاطِبَةً لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِمَامُ كُلِّ أَشْعَرِيٍّ فِي كِتَابِهِ (مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ) وَفِيهِ: وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَرَأَى عِنْدَهَا الْجَنَّةَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي صِفَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي آخِرِهِ:" «ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» ".

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ

ص: 231

الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". وَقَدْ رَأَى صلى الله عليه وسلم الْجَنَّةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ حَتَّى هَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ عُنْقُودًا مِنْ عِنَبِهَا، وَرَأَى النَّارَ فَلَمْ يَرَى مَنْظَرًا أَفْظَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا.

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي قِصَّةِ ذَلِكَ، وَفِيهِ " «لَقَدْ أُدْنِيَتِ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ بَسَطْتُ يَدِي لَتَعَاطَيْتُ مِنْ قُطُوفِهَا، وَلَقَدْ أُدْنِيَتِ النَّارُ مِنِّي حَتَّى لَقَدْ جَعَلْتُ أَتَّقِيهَا خَشْيَةَ أَنْ تَغْشَاكُمْ» " الْحَدِيثَ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا " قَالُوا: وَمَاذَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ، وَقَالَ: بِعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا.

فَأَمَرَ بِالْجَنَّةِ فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: فَارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، وَمَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ:

فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ:

وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّارِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَالَ: لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ قَالَ:

وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَدُخُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَرُؤْيَتُهُ نَهْرَ الْكَوْثَرِ وَقُصُورًا فِي الْجَنَّةِ وَحُورَهَا وَثِمَارَهَا وَدُورَهَا وَقُصُورَهَا، وَقِصَّةُ آدَمَ وَخُرُوجُهُ مِنْهَا، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي يَفُوتُ عَدُّهَا، وَيَتَعَسَّرُ حَدُّهَا، وَيَعْلَمُ الْمُنْصِفُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ مَضْمُونِهَا مُكَابَرَةٌ، وَرَدٌّ لِلْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

((وَ)) اجْزِمْ أَيْضًا ((أَنَّهَا)) أَيِ النَّارُ ((لَمْ تَتْلَفْ)) أَيْ لَمْ تَهْلَكْ وَتَبِدْ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ تَلِفَ كَفَرِحَ: هَلَكَ، وَأَتْلَفَهُ أَفْنَاهُ، وَالْمُتْلَفُ كَالْمُقْعَدِ: الْمُهْلَكُ.

يَعْنِي أَنَّ النَّارَ لَا تَفْنَى وَلَا يَفْنَى مَا فِيهَا كَالْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا.

قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ: أَمَّا أَبَدِيَّةُ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَبِيدُ فَمِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

ص: 232

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَلَا تَنَافٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] ، نَعَمِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ فِي الَّذِينَ يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ فَيُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي النَّارِ.

(وَقَالَتْ فِرْقَةٌ) : الْعَزِيمَةُ وَقَعَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْخُلُودِ الدَّائِمِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خِلَافَ ذَلِكَ إِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ خُلُودِهِمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ، وَقَوْلِهِ:{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وَقَوْلِهِ:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

(وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى) : الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي الْجَنَّةِ مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِلَّا بِمَعْنَى سِوَى، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى خَالِدِينَ فِيهَا مُدَّةَ الْعَالَمِ سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ عَلَى مُدَّةِ الْعَالَمِ.

(وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى) : الْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ سَمَاءُ الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا، وَهُمَا بَاقِيَتَانِ أَبَدًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

" «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَطَّلِعُونَ مُشْفِقِينَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَطَّلِعُونَ فَرِحِينَ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ فِيهَا، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ فِيهَا ".

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] .

وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا» . «وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] : وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] » ) ، أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، «فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، فَيُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ فَيُذْبَحُ» ". قَوْلُهُ فَيَشْرَئِبُّونَ:

ص: 233

هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ، أَيْ: يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ لِلنَّظَرِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَيَدْخُلُ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ» ".

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَهُمَا " «فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا عَلَى حُزْنِهِمْ» ".

وَفِي هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَابْنِ مَاجَهْ، وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَالْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ " «فَيُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَيَأْمَنُ هَؤُلَاءِ، وَيَنْقَطِعُ رَجَاءُ هَؤُلَاءِ» "، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ خُلُودُ أَهْلِ الدَّارَيْنِ خُلُودًا مُؤَبَّدًا كُلٌّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَأَجْمَعُوا أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ لَا يَنْقَطِعُ، كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ، وَزَعَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ يَفْنَيَانِ، وَقَالَ هَذَا إِمَامُهُمْ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ إِمَامُ الْمُعَطِّلَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ قَطُّ لَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَلَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، نَعَمْ حَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ قَوْلَيْنِ.

وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَبْعُ أَقْوَالٍ (أَحَدُهَا) :

قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا بَلْ كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا يَخْلُدُ فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ.

(وَالثَّانِي) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ مُدَّةً فِيهَا ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ، وَتَبْقَى طَبَائِعُهُمْ نَارِيَّةً يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّارِ لِمُوَافَقَتِهَا طَبَائِعَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ فِي كِتَابِ فُصُوصِ الْحِكَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ.

(الثَّالِثُ) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا، وَيَخْلُفُهُمْ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكْذَبَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81] فَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْيَهُودِ، فَهُمْ

ص: 234

شُيُوخُ أَرْبَابِهِ وَالْقَائِلِينَ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ عَلَى فَسَادِهِ.

(الرَّابِعُ) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَتَبْقَى نَارًا بِحَالِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ يُعَذَّبُ، ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْفِرَقِ، قَالَ: وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدَّانِ هَذَا الْقَوْلَ.

(الْخَامِسُ) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: تَفْنَى النَّارُ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ وَأَبَدِيَّتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَشِيعَتِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

(السَّادِسُ) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: تَفْنَى حَيَاتُهُمْ وَحَرَكَاتُهُمْ وَيَصِيرُونَ جَمَادًا لَا يَتَحَرَّكُونَ وَلَا يُحِسُّونَ بِأَلَمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ طَرْدًا لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ.

(السَّابِعُ) :

قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُفْنِيهَا لِأَنَّهُ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى - عَلَى زَعْمِ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ - جَعَلَ لَهَا أَمَدًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ ثُمَّ تَفْنَى وَيَزُولُ عَذَابُهَا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ.

وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَتِلْمِيذِهِ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ مَيْلٌ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَذَكَرَ عَلَى تَأْيِيدِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ وَجْهًا، ثُمَّ قَالَ:

وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَانُّ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَطَإٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ، وَاللَّهُ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَصْدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.

وَقَدْ أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ الْكُرَّمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رِسَالَةً سَمَّاهَا تَوْقِيفَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى خُلُودِ أَهْلِ الدَّارَيْنِ.

((تَنْبِيهٌ)) :

ذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ وَمَعْنًى، وَالْأَعْرَاضُ لَا تَنْقَلِبُ أَجْسَامًا، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَوْتَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَبِهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] بِأَنَّ الْخَلْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّقْدِيرُ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَأْتِي الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ فَيُذْبَحُ؟ فَالْجَوَابُ: نَقَلَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوُقُوفُ عَنِ الْخَوْضِ فِي مَعْنَاهُ، فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ.

وَأَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ: لَعَلَّ هَذَا الْكَبْشَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَ الْخَلَائِقِ.

ص: 235

وَإِلَّا فَالْمَوْتُ فِي نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ رَاجِعٌ إِلَى سَلْبِ الْحَيَاةِ، أَوْ هُوَ اسْتَعَارَةٌ وَكِنَايَةٌ عَنِ الْخُلُودِ الدَّائِمِ، فَضُرِبَ الْمَثَلُ بِالْمَوْتِ وَلَا مَوْتَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، انْتَهَى.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ جِسْمٌ لَا عَرَضَ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي صُورَةِ كَبْشٍ، وَالْحَيَاةُ فِي صُورَةِ فَرَسٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَسَنٍ الْأَشْعَرِيُّ:

الْمَوْتُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] وَالْعَدَمُ لَا يُخْلَقُ.

كُلُّ هَذَا مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ هَذَا الْجِسْمَ ثُمَّ يُذْبَحُ مِثَالًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَطْرَأُ عَلَى أَهْلِ الْآخِرَةِ.

قُلْتُ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ جِسْمٌ فِي صُورَةِ كَبْشٍ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] قَالَ:

الْحَيَاةُ فَرَسُ جِبْرِيلَ، وَالْمَوْتُ كَبْشٌ أَمْلَحُ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ فِي صُورَةِ فَرَسٍ لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا حَيِيَ.

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ:

خَلَقَ اللَّهُ الْمَوْتَ كَبْشًا أَمْلَحَ مُسْتَتِرًا بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ جَنَاحٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَجَنَاحٌ فِي الثَّرَى، وَجَنَاحٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَجَنَاحٌ فِي الْمَشْرِقِ، قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْرُزْ فَبَرَزَ لِعِزْرَائِيلَ.

قُلْتُ: الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَأَنَّهُ جِسْمٌ لَا عَرَضٌ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ فِي صُورَةِ فَرَسٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَنَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ وَدَوَّنَهُ الْجَهَابِذَةُ الْأَخْيَارُ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عِنْدَنَا مُصَوَّرَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِصُوَرِ الْأَجْسَامِ، وَمُشَخَّصَةٌ بِهَيْئَةِ الْأَشْخَاصِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُحِسُّ ذَلِكَ لِكَوْنِنَا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ، وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ شَاهِدَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَخْبَارٍ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ فِي صُورَةِ أَشْخَاصٍ، الْإِسْلَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْمَعْرُوفُ وَالذِّكْرُ، فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(فَائِدَةٌ)

ذُكِرَ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ أَنَّ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ الشَّامِيِّ

ص: 236

فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَبْحَ الْمَوْتِ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَقِيلَ: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عليهما السلام، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَتِمَّةٌ فِي ذِكْرِ مَكَانِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَيْنَ هُمَا عَلَى مُقْتَضَى الْآثَارِ) .

اعْلَمْ أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 - 15] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَمَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الْجَنَّةُ - وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ عَنْهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَكْرَمُ خَلِيقَةِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ» ". وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَيَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ شَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجَهَنَّمُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.

وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَالنَّارُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَيْنَ الْجَنَّةُ؟ قَالَ:

فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. قُلْتُ: فَأَيْنَ النَّارُ؟ قَالَ: تَحْتَ سَبْعَةِ أَبْحُرٍ مُطْبَقَةٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْعُلُوِّ، وَالِارْتِفَاعِ.

وَفِي لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ " ( «إِنَّ فِي) الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» ". وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُرَجِّحُ هَذَا اللَّفْظَ، وَهُوَ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ دَرَجَةُ الْجَنَّةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» " أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ هَذَا الْعَدَدُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

ص: 237

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْزِلَةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ فِي دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ، وَتِلْكَ الْمِائَةُ يَنَالُهَا آحَادُ أُمَّتِهِ بِالْجِهَادِ.

وَقَالَ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) : وَالْجَنَّةُ مُقَبَّبَةٌ، أَعْلَاهَا أَوْسَعُهَا وَوَسَطُهَا وَهُوَ الْفِرْدَوْسُ، وَسَقْفُهُ الْعَرْشُ كَمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» ".

قَالَ فِي حَادِّي الْأَرْوَاحِ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ الْحَافِظُ: وَالصَّوَابُ رَاوِيَةُ مَنْ رَوَاهُ فَوْقُهُ بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ الظَّرْفِ، أَيْ: وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالْجَنَّةُ جَمِيعُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ سَقْفُهَا، فَإِنَّ الْكُرْسِيَّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْعَرْشُ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْعَرْشُ أَقْرَبَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ مِمَّا دُونَهُ مِنَ الْجِنَانِ بِحَيْثُ لَا جَنَّةَ فَوْقَهُ دُونَ الْعَرْشِ كَانَ سَقْفًا لَهُ دُونَ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْجِنَانِ لِعِظَمِ سَعَةِ الْجَنَّةِ، وَغَايَةُ ارْتِفَاعِهَا يَكُونُ الصُّعُودُ مِنْ أَدْنَى إِلَى أَعْلَى بِالتَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا دَرَجَةً فَوْقَ دَرَجَةٍ، كَمَا يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ آخِرِ حِفْظِهِ، وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَ آخِرِ تِلَاوَتِهِ لِمَحْفُوظِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخٍ أَصْبَهَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالدُّنْيَا، وَإِنَّ الْجَنَّةَ وَرَائَهَا، فَلِهَذَا كَانَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» ".

وَأَخْرَجَ جُوَيْبِرٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " يُجَاءُ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مُعَلَّقٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَصِيحُ إِلَيَّ أَهْلِي إِلَيَّ أَهْلِي، فَإِذَا كَانَتْ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى مَسِيرَةِ مِائَةِ سَنَةٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً، فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي» ". وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ» ". وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبَى الْحُسَيْنِ قَالَ: الْبَحْرُ طَبَقُ

ص: 238

جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ يَهُودِيًّا أَصْدَقَ مِنْ فُلَانٍ زَعَمَ أَنَّ نَارَ اللَّهِ الْكُبْرَى هِيَ الْبَحْرُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ثُمَّ بَعَثَ عَلَيْهِ الدَّبُورَ فَسَعَّرَتْهُ.

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] قَالَ الْبَحْرُ يُسْجَرُ فَيَصِيرُ جَهَنَّمَ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ أُمِرَ بِالْغَلَقِ فَيُكْشَفُ عَنْ سَقَرَ، وَهُوَ غِطَاؤُهَا فَتَخْرُجُ مِنْهُ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْبَحْرِ الْمُطْبِقِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ بَحْرُ الْبُحُورِ نَشَّفَتْهُ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ، وَهُوَ حَاجِزٌ بَيْنَ جَهَنَّمَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، فَإِذَا نَشَفَ اشْتَعَلَتْ فِي الْأَرَضِينَ السَّبْعِ فَتَدَعُهَا جَمْرَةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: إِنَّ النَّارَ فِي السَّمَاءِ كَالْجَنَّةِ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَلَمْ نُزَايِلْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَنَا وَجِبْرِيلُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَفُتِحَتْ لَنَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَرَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي السَّمَاءِ فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا» ".

وَلَيْسَ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ فِي السَّمَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَرَاهَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، وَهَذَا الْمَيِّتُ يَرَى وَهُوَ فِي قَبْرِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَيْسَتِ الْجَنَّةُ فِي الْأَرْضِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَآهُمَا وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ إِنْ ثَبَتَ وَفِيهِ أَنَّهُ رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي السَّمَاءِ، فَالسَّمَاءُ ظُرْفٌ لِلرُّؤْيَةِ لَا لِلْمَرْئِيِّ. وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ جِدًّا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ» ، فَلَوْ صَحَّ حُمِلَ مَا ذَكَرْنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَسَقْفُهَا الْعَرْشُ، وَأَنَّ النَّارَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُعْتَمَدِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَلَمَّا أَنْهَى الْكَلَامَ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَصَحَّحَ وُجُودَهُمَا الْآنَ وَبَقَائَهُمَا أَبَدًا بِلَا نِهَايَةٍ وَلَا حِسَابٍ، وَبَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى مَكَانِهِمَا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

ص: 239