المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله] - لوامع الأنوار البهية - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ في ذِكْرِ بَعْضِ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ ذِكْرِ الْبَرْزَخِ وَالْقُبُورِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَالْحَشْرِ وَالنُّشُورِ]

- ‌[المراد بها ما طريق العلم به النصوص الشرعية]

- ‌[أمور ما بعد الموت منها سؤال منكر ونكير]

- ‌[عذاب القبر]

- ‌[ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ في الكلام في الروح وحقيقتها]

- ‌[الاختلاف في حقيقة الروح وهل هي النفس أم غيرها]

- ‌[أين مستقر الأرواح في البرزخ]

- ‌[خَلْقِ الْأَرْوَاحِ هَلْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا]

- ‌[أَيْنَ مُسْتَقَرُّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[هَلْ تَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ وَتَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ أَيْضًا]

- ‌[معنى السيد وهل يطلق على البشر]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى اقْتِرَابِهَا وَمَجِيئِهَا]

- ‌[الأدلة على أشراط الساعة]

- ‌[أشراط الساعة ثلاثة أقسام الأول ما قد مضى وانقضى]

- ‌[القسم الثاني الْأَمَارَاتُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَهِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْقَضِ بَلْ تَزَّايَدُ وَتَكْثُرُ]

- ‌[القسم الثالث الْعَلَامَاتُ الْعِظَامُ وَالْأَشْرَاطُ الْجِسَامُ الَّتِي تَعْقُبُهَا السَّاعَةُ]

- ‌[العلامة الأولى ظهور المهدي]

- ‌[اسم المهدي وأشهر أوصافه]

- ‌[فوائد في شأن المهدي الأولى حليته وصفته]

- ‌[الثانية سيرة المهدي]

- ‌[الثالثة علامات ظهور المهدي]

- ‌[الرابعة بعض ما يسبق المهدي من الفتن]

- ‌[الخامسة فِي مَوْلِدِ المهدي وَبَيْعَتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّالثة نزول عيسى عليه السلام]

- ‌[نزول عيسى عليه السلام ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ]

- ‌[فَوَائِدُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ عليه السلام الأولى حليته وسيرته]

- ‌[الثانية وقت نزول المسيح ومحله وما يجري على يديه]

- ‌[الثالثة مقدار مدة ووفاة المسيح عليه السلام]

- ‌[قتل المسيح للدجال]

- ‌[تنبيهات الأول قتل المسلمين لأتباع الدجال من اليهود]

- ‌[الثَّانِي فِي قَدْرِ لُبْثِ الدجال وَكَيْفِيَّةِ النَّجَاةِ مِنْهُ]

- ‌[الثَّالث ينبغي بث الأحاديث المنذرة بالدجال]

- ‌[الرابع في ابن صياد وهل هو الدجال]

- ‌[الخامس قصة تميم الداري حديث الجساسة]

- ‌[السادس الدَّجَّالِ عِنْدَ الْيَهُودِ وزعمهم فيه]

- ‌[السابع زيارة عيسى لقبر النبي وحجه البيت الحرام]

- ‌[العلامة الرابعة خروج يأجوج ومأجوج]

- ‌[العلامة الخامسة هَدْمُ الْكَعْبَةِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السادسَةُ الدُّخَانِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السابعة رَفْعُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثامنة طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[الْعَلَامَةُ التاسعة دَابَّةِ الْأَرْضِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ العاشرة خُرُوجُ النَّارِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ]

- ‌[الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ حَقٌّ وَاقِعٌ وَصِدْقٌ صَادِقٌ دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ]

- ‌[النفخ في الصور]

- ‌[الوقوف للحساب]

- ‌[الصحف]

- ‌[الميزان]

- ‌[الصراط]

- ‌[الحوض]

- ‌[قوم يزادون عن الحوض]

- ‌[الشفاعة]

- ‌[شفاعة الأنبياء وغيرهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي‌‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[جنة النعيم للأبرار]

- ‌[خلود الجنة والنار]

- ‌[سؤالَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ وَالتَّنْعِيمِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ]

- ‌[رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة]

- ‌[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ ذِكْرِ سيدنا مُحَمَّدٍ وبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ]

- ‌[إرسال الرسل منة من الله تعالى]

- ‌[الأوصاف اللازمة للنبوة]

- ‌[النبوة غير مكتسبة]

- ‌[خاتم النبيين]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَعْضِ الخَصَائِصِ النبوية]

- ‌[مزايا وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غير ما ذكر]

- ‌[فَصْلٌ في التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تنحصر]

- ‌[القرآن وانشقاق القمر]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ فَضِيلَةِ نَبِيِّنَا وَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ]

- ‌[أفضل العالم الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الأفضل من سائر الخلق بعد النبي أهل العزم]

- ‌[فَصْلٌ فيما يجب وما يستحيل في حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ الجائزفي حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرِ فضل الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي الله عنهم]

- ‌[أبو بكر الصديق]

- ‌[عمر الفاروق]

- ‌[عثمان ذو النورين]

- ‌[علي أبو السبطين]

- ‌[مَنْ أَحَب الخلفاء الأربعة فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ أَبْغَضَهُم فَهُوَ زِنْدِيقٌ]

- ‌[باقي العشرة]

- ‌[طلحة بن عبيد الله]

- ‌[الزبير بن العوام]

- ‌[سعد بن أبي وقاص]

- ‌ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ

- ‌[سعيد بن زيد]

- ‌[أبوعبيدة بن الجراح]

- ‌[أهل بدر]

- ‌[أهل الشجرة]

- ‌[أهل أحد]

- ‌[عائشة وخديجة]

- ‌[فَصْلٌ فِي فضل الصَّحَابَةِ جملة وحقهم]

- ‌[الصحابة أَحَقُّ الْأُمَّةِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَأَجْدَرُ الْخَلْقِ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ]

- ‌[أسباب تفضيل الصحابة]

- ‌[التحذير من الإزراء بفضل الصحابة]

- ‌[التابعون وفضلهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي ذِكْرِ‌‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌[أوجه تولي الإمامة وشروطه]

- ‌[وجوب طاعته بشرطه]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ]

- ‌[صلاح العباد لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الآمر بالمعروف يبدأ بنفسه]

- ‌[الْخَاتِمَةُ]

- ‌[مدارك العلوم]

- ‌[تعريف الحد وبيان شرطه]

- ‌[الإدراك بالحس وحال السفوسطائية]

- ‌[بعض اصطلاحات العلماء]

- ‌[التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمُثُولُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[ذكر المؤلف أن اقتفاء الأئمة والسلف الصالح ليس تقليدا لهم في الاعتقاد]

- ‌[ذكر أئمة المذاهب الأربعة]

- ‌[تُقَليِّدَ أحِد الأئمة الْأَرْبَعَةِ]

- ‌[حث المؤلف على الاقتداء بالأئمة]

- ‌[حث المؤلف على أخذ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ]

الفصل: ‌[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله]

فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نَعَمْ، فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا» " الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، قَالَ سَعِيدٌ: أَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ. ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ وَيَبْرُزُ لَهُمْ عَرْشُهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ - وَمَا فِيهِمْ مَنْ دَنِيٍّ - عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَمَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، هَلْ تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: " كَذَلِكَ لَا تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرِّجَالِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى بِسَعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ» " الْحَدِيثَ.

وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَرَى اللَّهَ عز وجل؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُنَادَى: أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفِ الرَّحِمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ، فَيَمُرُّونَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَلِهَذِهِ الْجَنَّةِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:

[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله]

((لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُحْجَبِ

إِلَّا عَنِ الْكَافِرِ وَالْمُكَذِّبِ))

ص: 244

((لِأَنَّهُ)) أَيِ: الرَّبَّ ((سُبْحَانَهُ)) وَتَعَالَى ((لَمْ يُحْجَبِ)) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ: لَمْ يَمْتَنِعْ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ ((إِلَّا عَنِ الْكَافِرِ)) بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِكُلِّ مُكَفِّرٍ اتَّصَفَ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: مَا حَجَبَ اللَّهُ عز وجل أَحَدًا عَنْهُ إِلَّا عَذَّبَهُ، ثُمَّ قَرَأَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ - ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17] قَالَ بِالرُّؤْيَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَحَدَّثَنِي بِنَحْوِ عَشْرَةِ أَحَادِيثَ فِي هَذَا، وَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ أَخَذْنَا دِينَنَا هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ، وَالتَّابِعُونَ أَخَذُوهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ عَنْ مَنْ أَخَذُوهُ؟ . وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ: أَتَيْنَا أَبَا نُعَيْمٍ يَوْمًا فَنَزَلَ إِلَيْنَا مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي فِي دَارِهِ فَجَلَسَ وَسَطَهَا كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَهَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يُحَدِّثُونَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يُرَى فِي الْآخِرَةِ حَتَّى أَنَّ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى - يَعْنِي بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ: لَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُمْ - يَعْنِي الْمُبْتَدِعَةَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ أَوْ أَضَرَابِهِمْ - الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] فَقَالُوا: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَحَدُوا وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنَضْرَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلَنَّ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ لَهُ ثَوَابًا لِيُنَضِّرَ بِهَا وُجُوهَهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ، وَيُفَلِّجَ بِهَا حُجَّتَهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ، وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

وَلِذَا قُلْنَا ((وَ)) يُحْجَبُ أَيْضًا عَنِ ((الْمُكَذِّبِ)) بِرُؤْيَتِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 245

{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ - ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17] قَالَ بِالرُّؤْيَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالرُّؤْيَةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ.

وَقَالَ وَقَدْ بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ - أَوْ فَقَدْ كَفَرَ - عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وَقَالَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لَأَبَى عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ أَبِي الْعَطُوفِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: إِنِ اسْتَقَرَّ الْجَبَلَ فَسَوْفَ تَرَانِي، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَا تَرَانِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؟ فَغَضِبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَبَيَّنَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ قَاعِدًا وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَأَخَذَ نَعْلَهُ وَانْتَعَلَ وَقَالَ: أَخْزَى اللَّهُ هَذَا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَنْ هَذَا، وَدَفَعَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ (أَنْ يَكُونَ) رَوَاهُ أَوْ حَدَّثَ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا جَهْمِيٌّ كَافِرٌ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وَقَالَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يُخْزِي اللَّهُ هَذَا الْمُحَدِّثَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: مَنْ كَذَّبَ بِالرُّؤْيَةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، قَالَ رضي الله عنه: نُؤْمِنُ بِهَا أَيِ الرُّؤْيَةِ وَأَحَادِيثِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى، نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَشُكُّ فِيهِ وَلَا نَرْتَابُ.

وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ، فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَسَأَلَهُ عَنْ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ نُؤْمِنُ بِهَا، وَنُقِرُّ بِهَا، وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَقْرَرْنَا بِهِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَفَعْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] )

ص: 246

(فَوَائِدُ)

(الْأُولَى) : قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي كِتَابِهِ نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ كَسَائِرِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ: وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ، وَيُكَلِّمُهُمْ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِيهِمَا وَلَا يَرَاهُ الْكُفَّارُ، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ، قَالَ: وَمَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ كَفَرَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ انْتَهَى.

وَفِي حَادِي الْأَرْوَاحِ: الرَّبُّ سبحانه وتعالى يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ رضي الله عنهم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ: لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ وَلَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظْمَتِهِ، وَبَصَرُهُ تَعَالَى يُحِيطُ بِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهَمْ تبارك وتعالى بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا، وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تُحِيطُ بِهِ إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ عز وجل بِأَنَّ شَيْئًا يُحِيطُ بِهِ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَهَكَذَا يُسْمِعُ كَلَامَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُحِيطُونَ بِكَلَامِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، فَهُوَ لِعَظَمَتِهِ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ وَلَا تُحِيطَ بِهِ، وَلِلُطْفِهِ وَخِبْرَتِهِ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَهُوَ الْعَظِيمُ فِي لُطْفِهِ، اللَّطِيفُ فِي عَظَمَتِهِ، الْعَالِي فِي قُرْبِهِ، الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّهِ، الَّذِي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]- {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] . انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(الثَّانِيَةُ) : ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَ اللَّهَ تبارك وتعالى فِي الْآخِرَةِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ أَيْضًا مِنْهُمُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ وَابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ أَيْضًا تبارك وتعالى فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ النَّصَّ الصَّرِيحَ وَالْخَبَرَ الصَّحِيحَ يَرُدُّ هَذَا وَيُبْعِدُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيَدْحَضُهُ وَيَطْرُدُهُ، فَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ

ص: 247

رَأَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عز وجل فَأَحْدَثُهُمْ عَهْدًا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، قَالَ: وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنَاتُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى " أَيْ: فِي مِثْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى» ، وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ شَامِلَةٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ.

وَأَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ، قَالَ: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَنْ يَرَانِي أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ، وَلَا رَطْبٌ إِلَّا تَفَرَّقَ، وَإِنَّمَا يَرَانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا تَمُوتُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ» ". وَبِظَاهِرِ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَخَذَ ابْنُ كَثِيرٍ فَاخْتَارَ أَنَّ النِّسَاءَ يَرَيْنَ رَبَّهُمْ فِي الْأَعْيَادِ دُونَ الْجُمَعِ، وَبِهِ جَزَمَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَاسْتَثْنَى الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ زَوْجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَبَنَاتِهِ فَيَرَيْنَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْأَعْيَادِ، كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرُ يَرَيَانِهِ تَعَالَى أَزْيَدَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قُلْتُ: وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ، وَكَذَا نَحْوُهُمَا كَأُمِّ مُوسَى وَأُخْتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي آخِرِ الْبُدُورِ السَّافِرَةِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ: وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةٌ بِمُؤْمِنِي الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَوْنَهُ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فَإِنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ بِالْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ نَصَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى خِلَافِهِ فَقَالَ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ: ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ - فَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِعِبَادَتِهِ أَصْنَافًا، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَلَائِكَةً قِيَامًا صَافِّينَ مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَلَائِكَةً رُكُوعًا خُشُوعًا مِنْ يَوْمَ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

ص: 248

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ مَا عِنْدَهُمْ، مَلَكٌ مَا تَقْطُرُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا يُسَبِّحُ، وَمَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي لَكَ» " انْتَهَى.

وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ تَعَالَى، بَلْ وَمُؤْمِنُو الْجِنِّ، إِمَّا فِي الْمَوْقِفِ فَجَزْمًا مَعَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا فِي الْجَنَّةِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا يَظْهَرُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ دُونَ مُؤْمِنِي الْإِنْسِ فِي الرُّؤْيَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ رُؤْيَةَ الرَّبِّ جل جلاله فِي الْمَوْقِفِ حَاصِلَةٌ حَتَّى لِمُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَمَّا الرُّؤْيَا فِي الْجَنَّةِ فَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ، وَقَدْ جَزَمَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اللَّطَائِفِ بِأَنَّ كُلَّ يَوْمِ عِيدٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ عِيدٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عَلَى زِيَارَةِ رَبِّهِمْ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَيَوْمُ الْجُمُعَةَ فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى يَوْمَ الْمَزِيدِ،

ص: 249

وَيَوْمُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى يَجْتَمِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اللَّطَائِفِ: رُوِيَ أَنَّهُ يُشَارِكُ النِّسَاءُ الرِّجَالَ فِيهِمَا كَمَا كُنَّ يَشْهَدْنَ الْعِيدَيْنِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: فَهَذَا لِعُمُومِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ عِيدٌ يَزُورُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لِأَنَّ الْخَوَاصَّ كَانَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَهُمْ أَعْيَادًا، فَصَارَتْ أَيَّامُهُمْ فِي الْآخِرَةِ كُلُّهَا أَعْيَادًا، قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ، فَالْيَوْمُ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمُؤْمِنُ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فَهُوَ لَهُ عِيدٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَفِي التَّذْكِرَةِ لِلْقُرْطُبِيِّ: إِنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْمَوْقِفِ ثُمَّ يُحْجَبُونَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ لَا يُحْجَبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَا فِي حَالِ تَمَتُّعَاتِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْكُفَّارَ كَالْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَهُ تَعَالَى ثُمَّ يُحْجَبُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ الْحَجْبَةُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَخَصَّ النَّوَوِيُّ الْخِلَافَ بِالْمُنَافِقِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ غَيْرُ الْمُنَافِقِ فَلَا يَرَاهُ تَعَالَى اتِّفَاقًا، كَمَا لَا يَرَاهُ غَيْرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(الثَّالِثَةُ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ لِرَبِّهِ إِلَهِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَأَسْمَى، فَأَثْبَتَهَا حَبْرُ الْأُمَّةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، الْحَدِيثَ، ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهَذَا قَوْلُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ

ص: 250

سُلَيْمَانَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ - يَعْنِي رُؤْيَةَ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ - سَمْعًا بُقُولِهِ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وَإِذَا جَازَتْ فِي الْآخِرَةِ جَازَتْ فِي الدُّنْيَا لِتَسَاوِي الْوَقْتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْتَى.

كَذَا قَالَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزَةٌ عَقْلًا، وَتُثْبِتُ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ وُقُوعَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا لَمْ يُرَ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ، وَالْبَاقِي لَا يُرَى بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ رُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً فَرَأَوُا الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ اسْتِحَالَةُ الرُّؤْيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا أَقْدَرَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَمْتَنِعْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِيهِ ( «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» ) وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنهما فَإِنْ جَازَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الدُّنْيَا عَقْلًا فَقَدِ امْتَنَعَتْ سَمْعًا، لَكِنْ مَنْ أَثْبَتَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ. كَذَا فِي الْفَتْحِ، قَالَ: وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، وَجَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِإِثْبَاتِهَا، وَكَانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ إِذَا ذُكِرَ لَهُ إِنْكَارُ عَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَجَزَمَ بِهِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَالزُّهْرِيُّ وَصَاحِبُهُ مَعْمَرٌ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَالِبِ أَتْبَاعِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ؟ وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه كَالْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: جَاءَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، قَالَ: فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:«أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ» .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ - الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ ابْنَ

ص: 251

عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13] قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ.

وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ يَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ.

وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ رضي الله عنه «قَالَ صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُ نُورًا» " وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْهُ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُرَادَ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه بِذِكْرِ النُّورِ، أَيِ: النُّورُ حَالَ (بَيْنَهُ) وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ لَهُ بِبَصَرِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا ثُبُوتُ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَتْبَاعِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه، فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ قَالَ:«قُلْتُ لِأَحْمَدَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ قَوْلُهَا؟ قَالَ: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُ رَبِّي "، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهَا» .

وَجَنَحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِلَى تَرْجِيحِ الْإِثْبَاتِ، وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَحَمَلَ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعَيْنِهِ وَمَرَّةً بِقَلْبِهِ.

(الثَّانِي) : مَنْعُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَتْ رضي الله عنها:«مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ» .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَعْبًا بِعَرَفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ - وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: نَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ

ص: 252

مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلِمَهُ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ» .

قَالَ مَسْرُوقٌ: «فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ قَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي - أَيْ قَامَ مِنَ الْفَزَعِ لِمَا حَصَلَ - عِنْدَهَا مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ وَاعْتَقَدْتُهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: - أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ؟ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَفِي لَفْظٍ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]- {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] وَلَكِنْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ» .

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ مَسْرُوقًا قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ - أَصْلُهُ يَا أُمِّ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ فَأُضِيفَ إِلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِغَاثَةِ فَأُبْدِلَتْ تَاءً وَزِيدَتْ هَاءُ السَّكْتِ بَعْدَ الْأَلِفِ - هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ؟ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتِ الْآيَتَيْنِ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أَنْزِلُ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ» ، وَوَافَقَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ رضي الله عنهم، وَبِهِ قَالَ جَمْعُ الْعُلَمَاءِ، بَلْ نَقَلَ الدَّارِمِيُّ الْحَافِظُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبِ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا رضي الله عنها لَمْ تَنْفِ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ قَوْلًا فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حُجَّةً اتِّفَاقًا، وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْإِدْرَاكِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَفْيُ الْإِحَاطَةِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرُّؤْيَةَ. انْتَهَى.

كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُوَضَّحًا، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ تَبِعَ فِيهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ:

ص: 253

النَّفْيُ لَا يُوجِبُ عِلْمًا، قَالَ: وَلَمْ تَحْكِ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلَتِ الْآيَةَ. انْتَهَى.

وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُمَا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مَسْرُوقًا قَالَ: «كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ.

قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي، أَلَمْ يَقْلِ اللَّهُ {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَقَرَأَتِ الْآيَتَيْنِ» .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ فَقَالَتْ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ - رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا» .

نَعَمْ، خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِاحْتِجَاجِهَا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ» .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - مَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه مِنْ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ إِنَّمَا يَعْنِي رُؤْيَةَ الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ رَآهُ، فَإِنَّ رُؤَى الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَمْ يَقُلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ يَقَظَةً، وَمَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وَهِمَ، وَهَذِهِ نُصُوصُهُ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُ نَبِيٍّ، وَلَمْ يَقَعِ النِّزَاعُ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَعْرُوفَةَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ رَآهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ مَوْضُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. انْتَهَى.

وَإِذَا عُلِمَ مَا حَرَّرْنَاهُ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ

ص: 254

- رضي الله عنهم بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ.

ثُمَّ الْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْفُؤَادِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا مُجَرَّدُ حُصُولِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ مُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا تُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ، وَقَدْ مَرَّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه «أَنَّهُ سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ:" نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ " رَأَيْتُ نُورًا "، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْهُ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا تَبَيَّنَ مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ بِذِكْرِ النُّورِ، أَيْ: أَنَّ النُّورَ حَالَ (بَيْنَهُ وَ) بَيْنَ رُؤْيَتِهِ لَهُ بِبَصَرِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ كَإِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَالْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمَا: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: مَعْنَاهُ كَانَ ثَمَّ نُورٌ وَحَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ نُورٌ فَأَنَّى أَرَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ:«هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ نُورًا» . قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ أُعْضِلَ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: نُورَانِيٌّ أَرَاهُ، عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النِّسْبَةِ وَالْكَلِمَةُ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا الْفَهْمُ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ وَكَانَ قَوْلُهُ " أَنَّى أَرَاهُ " كَالْإِنْكَارِ لِلرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ رَدَّهُ بِاضْطِرَابِ لَفْظِهِ، وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَنْ مُوجَبِ الدَّلِيلِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ شَيْخُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «حِجَابُهُ النُّورُ» "، فَهَذَا النُّورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. انْتَهَى.

وَذَكَرَ ابْنُ الْأَسِيرِ فِي حَلِّ أَلْفَاظِ جَامِعِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه سَأَلَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ هَذَا فَقَالَ: مَازِلْتُ مُنْكِرًا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِنُورٍ، وَخَطَّأْنَا الْمَجُوسَ فِي قَوْلِهِمْ هُوَ نُورٌ، وَالْأَنْوَارُ أَجْسَامٌ، وَالْبَارِي سبحانه وتعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حِجَابَهُ سُبْحَانَهُ النُّورُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي حَدِيثِ

ص: 255