الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَوَّلِ الصَّفِيِّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام إِلَى أَنْ بُعِثَ الْخَاتَمُ النَّبِيُّ الْحَبِيبُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا قَالَ:
[خاتم النبيين]
((وَلَمْ تَزَلْ فِيمَا مَضَى الْأَنْبَاءُ
…
مِنْ فَضْلِهِ تَأْتِي لِمَنْ يَشَاءُ))
((حَتَّى أَتَى بِالْخَاتَمِ الَّذِي خَتَمْ
…
بِهِ وَأَعْلَانَا عَلَى كُلِّ الْأُمَمْ))
((وَلَمْ تَزَلْ فِيمَا)) أَيْ فِي الزَّمَنِ الَّذِي ((مَضَى)) أَيْ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ ((الْأَنْبَاءُ)) جَمْعُ نَبِيٍّ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالنَّبِيِّينَ ((مِنْ فَضْلِهِ)) أَيْ: مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَرَأْفَتِهِ وَلُطْفِهِ لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَعَالَى - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ((تَأْتِي)) بِإِبْلَاغِ الشَّرَائِعِ وَبَيَانِ الْحَقِّ وَإِيضَاحِ السَّبِيلِ ((لِمَنْ)) أَيْ: لِكُلِّ أَهْلِ زَمَنٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ((يَشَاءُ)) اللَّهُ سبحانه وتعالى بِتَبْلِيغِ مَا يَشَاءُ عَلَى أَلْسِنَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ مُكَلَّفِي عِبَادِهِ، فَلَمْ تَخْلُ الْأَرْضُ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام إِلَى أَنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي مَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِجْمَالًا فِي مَنْ لَمْ يُعَيَّنُوا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ إِلَّا مَنْ تَثْبُتُ تَسْمِيَتُهُ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَانَ مَجِيءُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأَزْمَانِ الْخَالِيَةِ مَعْرُوفًا مُسْتَمِرًّا مِنْ لَدُنِ الْأَبِ الْأَوَّلِ الصَّفِيِّ عليه السلام ((حَتَّى)) أَيْ: إِلَى أَنْ ((أَتَى بِـ)) النَّبِيِّ ((الْخَاتَمِ)) وَالرَّسُولِ الْقَائِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ: إِلَى أَنْ أَرْسَلَهُ بِخَيْرِ كِتَابٍ وَأَتَمِّ شَرِيعَةٍ وَأَفْضَلِ مِلَّةٍ وَأَكْمَلِ دِينٍ ((الَّذِي خَتَمَ)) اللَّهُ ((بِهِ)) النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَكْمَلَ بِدِينِهِ كُلَّ دِينٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ الْمُبِينِ:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] أَيِ: الَّذِي خَتَمَهُمْ وَخُتِمُوا بِهِ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(( «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ» )) الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه وَمِنْ
وُجُوهٍ أُخَرَ مُرْسَلَةٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(( «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهُ وَأَحْسَنَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ وَيَعْجَبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ - زَادَ مُسْلِمٌ - فَجِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ» )) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَعْنَاهُ وَفِيهِ: «فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتِ اللَّبِنَةُ، فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» )) .
وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ بِمَكَّةَ يَهُودِيٌّ يَتَّجِرُ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ وُلِدَ فِيكُمُ اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ؟ فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُهُ، فَقَالَ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخِيرَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَامَةٌ لَهَا شَعَرَاتٌ مُتَوَاتِرَاتٌ كَأَنَّهُنَّ عُرْفُ فَرَسٍ، فَخَرَجُوا بِالْيَهُودِيِّ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالُوا: أَخْرِجِي لَنَا ابْنَكِ، فَأَخْرَجُوهُ وَكَشَفُوا عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَأَى تِلْكَ الشَّامَةَ، فَوَقَعَ الْيَهُودِيُّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ قَالَ: ذَهَبَتْ وَاللَّهِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يَعْرِفُهُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَيَسْأَلُونَ عَنْهَا وَيَطْلُبُونَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ مِنَ النَّصَارَى أَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَنْظُرُ لَهُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ. وَفِي نُبُوَّةِ شَعْيَا أَنَّ سُلْطَانَهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى كَتِفِهِ يُرِيدُ عَلَامَةَ نُبُوَّتِهِ.
وَفِي الْجَوَابِ الصَّحِيحِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - مَا نَصُّهُ: قَالَ أَشْعِيَاءُ النَّبِيُّ عليه السلام وَنَصَّ عَلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ: وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ يَكُونُ عَجَبًا وَبِشْرًا، وَالشَّامَةُ عَلَى كَتِفَيْهِ آرْكُونُ السَّلَامِ، وَسُلْطَانُهُ سُلْطَانُ السَّلَامِ، يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ. فَالْآرْكُونُ هُوَ الْمُعَظَّمُ بِلُغَةِ الْإِنْجِيلِ، وَالْأَرَاكِنَةُ الْمُعَظَّمُونَ، فَشَهِدَ أَشْعِيَاءُ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَهُ بِأَخَصِّ عَلَامَاتِهِ وَأَوْضَحِهَا، وَهَى شَامَتُهُ، فَلَعَمْرِي لَمْ تَكُنِ الشَّامَةُ لِسُلَيْمَانَ وَلَا لِلْمَسِيحِ، وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ يَعْنِي أَنَّهُ سَيَرِثُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبُوَّتَهُمْ، وَمُلْكَهُمْ، وَيَبْتَزُّهُمْ رِيَاسَتَهُمْ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ رحمهم الله فِي حِكْمَةِ وُجُودِ الْخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَوْ عَلَى نَغْضِ كَتِفِهِ
الْأَيْسَرِ: هُوَ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مُلِئَ قَلْبُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَنْوَارِ، وَجُمِعَ لَهُ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ وَحَوَاشِيهَا خُتِمَ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى الْوِعَاءِ الْمَمْلُوءِ مِسْكًا أَوْ دُرًّا، فَلَمْ تَجِدْ نَفْسُهُ وَلَا عَدُوُّهُ سَبِيلًا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْخَتْمِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَخْتُومَ مَحْرُوسٌ كَمَا بُيِّنَ لَنَا أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا الشَّيْءَ بِخَتْمِهِ زَالَ الشَّكُّ، وَانْقَطَعَ الْخِصَامُ فِيمَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ، فَلِذَلِكَ خَتَمَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ خَتْمًا يَطْمَئِنُّ لَهُ الْقَلْبُ، أَلْقَى النُّورَ فِيهِ وَنَفَذَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ فَظَهَرَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَبَيْضَةِ الْحَجَلَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: ((وَأَعْلَانَا)) - مَعْشَرَ أُمَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَالرَّسُولِ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ - الرَّبُّ الرَّحِيمُ، وَالْإِلَهُ الْحَكِيمُ بِهِ صلى الله عليه وسلم ((عَلَى كُلِّ الْأُمَمِ)) الْمَاضِيَةِ، وَالْمِلَلِ الْخَالِيَةِ بِشَاهِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَزَالُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ". وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» )) وَرُوِيَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ» " وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عِصَابَتَانِ مِنْ أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ: عِصَابَةٌ تَغْزُو الْهِنْدَ، وَعِصَابَةٌ تَكُونُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم: «أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُهَا فِي الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ وَالْقَتْلِ» ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ» - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ - «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» - وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ - أَيْ: غَيْرَ - أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا» " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه: "«أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ» ". هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَكَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، يَعْنِي قَبْلَ الْوَاوِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا» ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ - وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 40] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنْتُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ» . قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الثَّوْرِيِّ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، أَنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا» . رَوَاهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيُّ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ
قَدْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا، وَاخْتَلَفَتْ مَخَارِجُهَا، وَصَحَّ سَنَدُ بَعْضِهَا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الشَّطْرِ، لِأَنَّهُ عليه السلام رَجَا أَوَّلًا أَنْ يَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَجَاءَهُ، وَزَادَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ "، قَالَ فَكَبَّرْنَا، قَالَ: " فَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا الشَّطْرَ» . وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي» " قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ حَادِي الْأَرْوَاحِ: فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَسْبَقُ الْأُمَمِ خُرُوجًا مِنَ الْأَرْضِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى مَكَانٍ فِي الْمَوْقِفِ وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الْفَصْلِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَالْجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى يَدْخُلَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَمُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُهُ.
وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ - وَفِي لَفْظٍ - إِنَّكُمْ تُوفُونَ - سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - أَوْ قَالَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ - وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ» "، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه رَفَعَهُ: " «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ يَغْفِرُهَا اللَّهُ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» " وَقَدْ رَوَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَرُوِيَ أَيْضًا
مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: " «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» " قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا، إِنَّمَا هِيَ فِي أُنَاسٍ مُذْنِبِينَ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِكَاكًا مِنَ النَّارِ. وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: يَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَنَّهُ يُضَاعِفُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ حَتَّى يَكُونَ عَذَابُهُمْ بِقَدْرِ جُرْمِهِمْ وَجُرْمِ مُذْنِبِي الْمُسْلِمِينَ لَوْ أُخِذُوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْخُذُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يُضَاعِفَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ الْعَذَابَ، وَيُخَفِّفُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ بِحُكْمِ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَيُقَالُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ:«لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا النَّارَ» ، مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُذْنِبَ لَمَّا كَانَ يَسْتَحِقُّ مَكَانًا فِي النَّارِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ بَقِيَ مَكَانُهُ خَالِيًا مِنْهُ أَضَافَ ذَلِكَ الْمَكَانَ إِلَى يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ لِيُعَذَّبَ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى تَعْذِيبِ مَكَانِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ كُفْرِهِ.
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُذْنِبًا كَانَ أَوْ لَا مَنْزِلَيْنِ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، وَكَذَا الْكَافِرُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] أَيْ يَرِثُ الْمُؤْمِنُونَ مَنَازِلَ الْكُفَّارِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْكُفَّارُ مَنَازِلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوِرَاثَةَ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِثُ بِلَا حِسَابٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِثُ بِحِسَابٍ وَمُنَاقَشَةٍ.
قَالَ الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ فِي قَوْمٍ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ كُفِّرَتْ عَنْهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، أَوْ فِي مَنْ أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ، يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ الْخُرُوجِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ مَجَازًا عَنْ رُؤْيَةِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا. وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى الْكُفَّارِ ذُنُوبٌ كَانَ الْكُفَّارُ سَبَبًا فِيهَا بِأَنْ سَنُّوهَا، فَلَمَّا غُفِرَتْ سَيِّئَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ سَيِّئَاتُ الَّذِي سَنَّ تِلْكَ الْبِدْعَةَ السَّيِّئَةَ بَاقِيَةً عَلَى أَرْبَابِهَا الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْوَضْعُ كِنَايَةً عَنْ إِبْقَاءِ الذَّنْبِ الَّذِي لَحِقَ الْكَافِرَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ. وَقَوَّاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ نُورَيْنِ كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ، رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (الْوَفَاءِ) عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا لِلْحِسَابِ فَدُعِيَ الْأَنْبِيَاءُ، فَجَاءَ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ أُمَّتُهُ، وَرَأَى لِكُلِّ نَبِيٍّ نُورَيْنِ، وَلِكُلٍّ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ نُورٌ يَمْشِي بِهِ، فَدُعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا لِكُلِّ شَعَرَةٍ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نُورٌ، وَلِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ نُورَانِ يَمْشِي بِهِمَا - فَقَالَ كَعْبٌ - وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّهَا رُؤْيَا - مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتَ هَذَا فِي مَنَامِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ إِنَّهَا لَصِفَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُمَمِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَيْضًا أَنَّهُ رَأَى حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ بَعْضَ الْأُمُورِ، فَقَالَ كَعْبٌ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ لَئِنْ أَخْبَرْتُكَ مَا أَبْكَاكَ لَتَصْدُقَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ مُوسَى نَظَرَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَجِدُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الْآخِرِ، وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ، قَالَ: فَقَالَ مُوسَى رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: هُمْ أُمَّةُ أَحْمَدَ يَا مُوسَى، قَالَ الْحَبْرُ: نَعَمْ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَالَ مُوسَى عليه السلام: لَيْتَنِي مِنْ أُمَّتِهِ أَوْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] الْحَدِيثَ.
وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ وَقَرَأَهَا فَوَجَدَ فِيهَا ذِكْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخِرُونَ، وَالسَّابِقُونَ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ فَاجْعَلْهَا أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ قَالَ: يَا رَبِّ فَاجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ فَأُعْطِيَ عِنْدَ ذَلِكَ خَصْلَتَيْنِ، فَقَالَ:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] قَالَ رَضِيتُ يَا رَبِّ» .
وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فِي كُنْتُمْ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: كَانَ وَصْفُكُمْ فِي الْبِشَارَةِ قَبْلَ وُجُودِكُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ، الثَّانِي: كُنْتُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ: مَا زِلْتُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى كُنْتُمْ أَيْ أَنْتُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَدْ يَأْتِي الْفِعْلُ عَلَى بِنْيَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ ذَاهِبٌ أَوْ مُسْتَقْبَلٌ كَقَوْلِهِ: كُنْتُمْ، وَمَعْنَاهُ أَنْتُمْ، وَمِثْلُهُ {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} [المائدة: 116] أَيْ يَقُولُ اللَّهُ، وَمِثْلُهُ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَنَظَائِرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْلَمْ أَنَّ فَضِيلَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَهَا وَتَقْدِيمِهِ إِيَّاهَا، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِذَلِكَ سَبَبًا كَمَا جَعَلَ سَبَبَ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عليه السلام عِلْمُهُ بِمَا جَهِلُوهُ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ لِتَقْدِيمِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبَبًا هُوَ الْفِطْنَةُ وَالْفَهْمُ وَالْيَقِينُ وَتَسْلِيمُ النُّفُوسِ، فَاعْتَبَرَ حَالَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى رَأَوْا قُدْرَةَ الْخَالِقِ فِي شَقِّ الْبَحْرِ، ثُمَّ قَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا، ثُمَّ مَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَعَرَضَتْ لَهُمْ غُزَاةٌ فَقَالُوا: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، وَلَمْ يَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ حَتَّى نَتَقَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، وَلَمَّا اخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ مِنْهُمْ وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا أَوْجَبَ تَزَلْزُلَ الْجَبَلِ بِهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا صَعِدَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبَلِ حِرَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ تَزَلْزَلَ، فَقَالَ:«اسْكُنْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» .
فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مَنْ يَشُكُّ كَقَوْمِ مُوسَى. وَمَنْ تَأَمَّلَ حَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَآهُمْ قَدْ أُمِرُوا بِقَوْلِ حِطَّةٍ، فَقَالُوا: حِنْطَةٌ، وَقِيلَ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، فَدَخَلُوا زَحْفًا، وَآذَوْا نَبِيَّهُمْ فَقَالُوا: آدَرُ. وَمِنْ مَذْهَبِهِمُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ التَّغْفِيلِ، لِأَنَّ الْجِسْمَ مُؤَلَّفٌ، وَلَا بُدَّ لِلْمُؤَلَّفِ مِنْ مُؤَلِّفٍ. وَمِنْ غَفْلَةِ النَّصَارَى اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوْهَرٌ، وَالْجَوَاهِرُ تَتَمَاثَلُ، وَلَا مِثْلَ لِلْخَالِقِ، ثُمَّ مَقَالَاتُهُمْ فِي عِيسَى وَتَثْلِيثُهُمْ، وَدَعْوَاهُمْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْأَبْدَانُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ فُهُومٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ أُمَّتِنَا: إِنَّهُمْ عَارٌ عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ.
هَذَا، وَقَدْ عَلِمَ يَقِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبَذْلَهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم -