الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، فَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَرَاهُ وَحِجَابُهُ النُّورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) : الْوُقُوفُ عَنِ الْقَطْعِ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْوُقُوفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْجَحُ، وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَوَّاهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَغَايَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلطَّائِفَتَيْنِ ظَوَاهِرَ مُتَعَارِضَةً قَابِلَةً لِلتَّأْوِيلِ، قَالَ: وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ، فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ. وَمَنِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ لِاقْتِفَاءِ الْآثَارِ وَخَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْلِيدِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّغْيِيرِ فِي وُجُوهِ الْأَخْبَارِ عَلِمَ أَنَّ السَّلَامَةَ فِي التَّسْلِيمِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ ذِكْرِ سيدنا مُحَمَّدٍ وبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ]
[إرسال الرسل منة من الله تعالى]
((الْبَابُ الْخَامِسُ))
(فِي ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَذِكْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ وَعَظَّمَ وَكَرَّمَ) اعْلَمْ أَنَّ حَاجَةَ الْخَلْقِ إِلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَرُورِيَّةٌ، لَا يَنْتَظِمُ لَهُمْ حَالٌ، وَلَا يَصْلُحُ لَهُمْ دِينٌ وَلَا بَالٌ إِلَّا بِذَلِكَ، فَهُمْ أَشَدُّ احْتِيَاجًا إِلَى ذَلِكَ مِنْ إِرْسَالِ الْمَطَرِ وَالْهَوَاءِ، بَلْ وَمِنَ النَّفَسِ الَّذِي لَابُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، كَمَا فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَحَالَتِ السُّمَنِيَّةُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ لِتَوْقِيفِهِ عَلَى عِلْمِ الْمُرْسِلِ بِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا الْخَبَرُ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهِ الْمُتَوَاتِرُ وَهُوَ لَا يُفِيدُ عِنْدَهُمْ عِلْمًا، فَلَعَلَّ الْقَائِلَ لَهُ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى قَوْمِ كَذَا شَيْطَانٌ مَثَلًا.
وَزَعَمَتِ الْبَرَاهِمَةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ عَبَثٌ لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ لِإِغْنَاءِ الْعَقْلِ عَنِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ حَسَنًا عِنْدَهُ فَهُوَ يَفْعَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ قَبِيحًا فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ فَعَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ سَمْعًا وَشَرْعًا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
((وَمِنْ عَظِيمِ مِنَّةِ السَّلَامِ
…
وَلُطْفِهِ بِسَائِرِ الْأَنَامِ))
(أَنْ أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى الْوُصُولِ
…
مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ بِالرَّسُولِ)
((وَمِنْ عَظِيمِ مِنَّةِ)) الرَّبِّ ((السَّلَامِ)) الْمِنَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثِيبُهُ وَلَا يَطْلُبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْمَنَّانُ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ الْمُعْطِي مِنَ الْمَنِّ وَهُوَ الْعَطَاءُ، وَقَدْ يَقَعُ الْمَنَّانُ عَلَى الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ وَاعْتَدَّ بِهِ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ تُفْسِدُ الصَّنِيعَةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا، وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ ذُو السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقِيصَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَالِكُ تَسْلِيمِ الْعِبَادِ مِنَ الْمَهَالِكِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقَادِرِ، وَقِيلَ ذُو السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِنَانِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ قَالَ تَعَالَى {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ أَنَّ الْقُدُّوسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَالسَّلَامَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ((وَ)) مِنْ عَظِيمِ ((لُطْفِهِ)) تَعَالَى أَيْ رِفْقِهِ ((بِسَائِرِ)) أَيْ: جَمِيعِ ((الْأَنَامِ)) كَسَحَابٍ، وَالْآنَامُ بِالْمَدِّ وَالْأَنِيمُ كَأَمِيرٍ الْخَلْقُ أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَجَمِيعُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ: مِنْ رِفْقِهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمِ بِدَقَائِقِ الْمَصَالِحِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ قَدَّرَهَا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، يُقَالُ: لَطَفَ بِهِ وَلَهُ بِالْفَتْحِ يَلْطُفُ لُطْفًا إِذَا رَفُقَ بِهِ، وَأَمَّا لَطُفَ بِالضَّمِّ يَلْطُفُ فَمَعْنَاهُ صَغُرَ وَدَقَّ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّطِيفُ وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ الرِّفْقُ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمِ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: مِنَّةِ الْمَنَّانِ وَلُطْفِهِ بِسَائِرِ الْإِنْسَانِ لِعَدَمِ شُمُولِ نَحْوِ الْجِنِّ، فَبِسَبَبِ عُمُومِ الْأَنَامِ عَلَى الْإِنْسَانِ عَدَلَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْإِنْسِ الْبَشَرِ، وَالْمَنُّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ شَامِلَةٌ لِلثَّقَلَيْنِ بَلْ لِكُلِّ الْخَلْقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
((أَنْ)) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ تُسْبَكُ مَعَ مَا بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ ((أَرْشَدَ)) أَيْ: هَدَى وَدَلَّ وَدَعَا سبحانه وتعالى، يُقَالُ: رَشَدَ كَنَصَرَ وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَادًا هَدَى، وَاسْتَرْشَدَ طَلَبَ الرُّشْدَ، وَالرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْخَلْقِ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَالرَّشِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْهَادِي إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَالَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ فِيمَا قَدَّرَهُ، وَأَنْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَهُ، وَمِنْ عَظِيمِ. . . إِلَخْ، وَالتَّقْدِيرُ: رُشْدُ الْخَلْقِ إِلَى الْوُصُولِ كَانَ مِنْ عَظِيمِ مِنَّةِ السَّلَامِ ((الْخَلْقَ)) مِنَ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ((إِلَى الْوُصُولِ)) إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا شَرَعَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي ثَمَرَتُهُ الْفَوْزُ بِالسَّلَامَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَرِضَى الرَّبِّ الرَّحِمَنِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، مَعَ الْأَتْقِيَاءِ الْأَخْيَارِ، وَالْأَوْلِيَاءِ الْأَبْرَارِ، حَالَ كَوْنِهِ تَعَالَى (مُبَيِّنًا) أَيْ مُظْهِرًا وَمُوَضِّحًا ((لِـ)) نَهْجِ ((الْحَقِّ)) ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَقُّ أَوْ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَمَّا الصِّدْقُ، فَقَدْ شَاعَ فِي الْأَقْوَالِ وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ بِأَنَّ الْمُطَابَقَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْحَقِّ مَنْ جَانِبِ الْوَاقِعِ، وَالصِّدْقِ مَنْ جَانِبِ الْحُكْمِ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى صِدْقِ الْحُكْمِ مُطَابَقَةُ الْوَاقِعِ، وَمَعْنَى حَقِيقَتِهِ مُطَابَقَةُ الْوَاقِعِ إِيَّاهُ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِمَا مُطَابَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْوَاقِعِ ((بِالرَّسُولِ)) مُتَعَلِّقٌ بِمُبَيِّنٍ، وَالرَّسُولُ إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَنَبِيٌّ فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، «وَسُئِلَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ» . وَالْأَوْلَى عَدَمُ حَصْرِهِمْ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَرُبَّمَا خَالَفَ قَوْلَهُ تَعَالَى {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فَلَا يُؤْمَنُ مِنْ دُخُولِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِيهِمْ، وَخُرُوجِ بَعْضِهِمْ عَنْهُمْ، وَأُولُوا الْعَزْمِ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَنُوحٌ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
(تَنْبِيهَاتٌ)
(الْأَوَّلُ) : فِي قَوْلِهِ، وَمِنْ عَظِيمِ مِنَّةِ السَّلَامِ إِلَى آخِرِ الْبَيْتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ وَشَرْعَ الشَّرَائِعِ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَضْلٌ لَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِالْخَلْقِ وَالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ، فَبَعْثُهُ تَعَالَى جَمِيعَ الرُّسُلِ مِنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعِينَ،
إِلَى الْمُكَلَّفِينَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ لِيُبَلِّغُوهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ عَلَيْهِمُ اخْتِصَاصًا كَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَاشْتِرَاكًا كَالتَّوْرَاةِ لِمُوسَى وَهَارُونَ وَيُوشَعَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَيَنْقَطِعَ عَنْهُمْ سَائِرُ التَّعَلُّلَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَوْلِهِ {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَلَوْلَا إِعْذَارُهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِبَعْثَةِ أَهْلِ خِيرَتِهِ مِنْ ذَوِي النُّبُوَّةِ وَالْفَضْلِ لَتَوَهَّمُوا أَنَّ لَهُمْ حَجَّةً سَائِغَةً وَمَعْذِرَةً بَالِغَةً لِوُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا خَلَقَنَا رَبُّنَا لِعِبَادَتِهِ، وَمَا بَيَّنَ لَنَا الْعِبَادَةَ الَّتِي يُرِيدُهَا مِنَّا مَا هِيَ، وَلَا كَمْ هِيَ، وَلَا كَيْفَ هِيَ.
(ثَانِيهَا) : أَنْ يَقُولُوا: قَدْ رَكَّبَنَا رَبُّنَا فِي هَيَاكِلَ وَأَجْسَامٍ تَقْبَلُ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ، وَسَلَّطَ عَلَيْنَا الشَّيْطَانَ وَالشَّهْوَةَ وَالْهَوَى، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَيِّدَنَا بِمَا إِذَا سَهَوْنَا نَبَّهَنَا، وَإِذَا مَالَ بِنَا الْهَوَى رَدَّنَا، وَإِذَا وَسْوَسَ إِلَيْنَا الشَّيْطَانُ مَنَعَنَا بِمَا يُرْشِدُنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَغَيْرِهَا.
(ثَالِثُهَا) : أَنْ يَقُولُوا: هَبْ أَنَّا نَعْلَمُ بِعُقُولِنَا حُسْنَ الْإِيمَانِ وَقُبْحَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ لَكِنَّا لَمْ يَصِلْ إِدْرَاكُ عُقُولِنَا إِلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْقَبِيحَ عُذِّبَ مَعَ أَنَّا نُحِسُّ أَنَّ لَنَا فِي مُعَاطَاةِ الْقَبِيحِ لَذَّةً وَلَيْسَ عَلَى الْبَارِي فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ مَعَ إِدْرَاكِنَا بِعُقُولِنَا عَدَمَ الْعَوْدِ بِمَنْفَعَةٍ لَهُ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ تَقَاضَتْنَا الشَّهَوَاتُ، وَأَقْدَمْنَا عَلَى مَا فِيهِ لَنَا اللَّذَّاتُ.
فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِمُعَاضَدَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ جَائِزٌ فِي حَقِّهِ، وَوَاجِبٌ وُقُوعًا وَسَمْعًا. يَزِيدُ هَذَا وُضُوحًا
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) : أَنَّ الرِّسَالَةَ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا غِنًى لَهُمْ عَنْهَا، وَحَاجَتُهُمْ إِلَيْهَا فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ، فَأَيُّ صَلَاحٍ لِلْعَالَمِ إِذَا عُدِمَ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ وَالنُّورَ؟ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ مَلْعُونَةٌ كُلُّهَا إِلَّا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَا لَمْ تُشْرِقْ فِي قَلْبِهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ
وَتَنَالُهُ حَيَاتُهَا وَرُوحُهَا فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ وَهُوَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فَهَذَا وَصْفُ الْمُؤْمِنِ كَانَ مَيِّتًا فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِرُوحِ الرِّسَالَةِ وَبِنُورِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ.
وَأَمَّا فِي الْكَافِرِ فَمَيِّتُ الْقَلْبِ فِي الظُّلُمَاتِ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى رِسَالَتَهُ رُوحًا، وَالرُّوحُ إِذَا عُدِمَ فَارَقَتِ الْحَيَاةُ، قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] الْآيَةَ، فَالرُّوحُ الْحَيَاةُ، وَالنُّورُ الْإِضَاءَةُ الْمُزِيلَةُ لِلظُّلْمَةِ، فَالْكَافِرُ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَهُوَ مَيِّتٌ غَيْرُ حَيٍّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ لَكِنَّهُ عَادِمُ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ الْفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ، وَتَكْمِيلِ مَا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَبُعِثُوا جَمِيعًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَبَيَانِ حَالِهِمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَأَرْشَدُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتِ صِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَذِكْرِ أَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَهِيَ الْقَصَصُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَالْأَمْثَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا لَهُمْ، وَأَرْشَدُوهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَبَيَانِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ، وَكَذَلِكَ بَيَّنُوا لَهُمْ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أُصُولٍ مَدَارُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالسَّعَادَةُ وَالْفَلَّاحُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَفَاصِيلِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُدْرِكُ وَجْهَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُدْرِكُ الْحَاجَةَ إِلَى الطِّبِّ وَمَنْ يُدَاوِيهِ، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى تَفَاصِيلِ الْمَرَضِ، وَتَنْزِيلِ الدَّوَاءِ عَلَيْهِ، وَحَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ حَاجَةِ الْمَرِيضِ إِلَى الطَّبِيبِ، فَإِنَّ آخِرَ مَا يُعَذَّبُ بِعَدَمِ الطَّبِيبِ مَوْتُ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْعَبْدِ نُورُ الرِّسَالَةِ وَحَيَاتُهَا مَاتَ قَلْبُهُ مَوْتًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ أَبَدًا، وَشَقِيَ شَقَاوَةً لَا سَعَادَةَ مَعَهَا أَبَدًا، فَلَا فَلَاحَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِالْفَلَاحِ أَتْبَاعَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَأَنْصَارَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] أَيْ: لَا مُفْلِحَ إِلَّا هُمْ، فَالْهُدَى وَالْفَلَاحُ دَائِرٌ حَوْلَ رَبْعِ الرِّسَالَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي قَاعِدَةِ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالرِّسَالَةِ: وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَبُعِثَتْ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ الْمُرْسَلَةِ. وَقَالَ: الرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ فِي صَلَاحِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي آخِرَتِهِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ، فَكَذَلِكَ لَا صَلَاحَ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ حَرَكَتَيْنِ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَا يَضُرُّهُ، وَالشَّرْعُ هُوَ النُّورُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، فَهُوَ نُورُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَعَدْلُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَحِصْنُهُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ، فَإِنَّ الْحِمَارَ وَالْجَمَلَ يُفَرِّقُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّعِيرِ وَالتُّرَابِ، بَلِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ فَاعِلَهَا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، كَنَفْعِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجِيرَانِ وَالْمَمَالِيكِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالرِّضَا بِمَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَفْعٌ وَصَلَاحٌ لِلْعَبْدِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمْ يَهْتَدِ الْعَقْلُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي الْمَعَاشِ، فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَشْرَفِ مِنَّةٍ عَلَيْهِمْ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرَّ حَالًا مِنْهَا، فَمَنْ قَبِلَ رِسَالَةَ اللَّهِ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَأَحْقَرُ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِنَا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كُنَّا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَلَا بَقَاءَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مَا دَامَتْ آثَارُ الرِّسَالَةِ مَوْجُودَةً فِيهِمْ.
فَإِذَا دَرَسَتْ آثَارُ الرُّسُلِ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْمَحَتْ مَعَالِمُ هُدَاهُمْ أَخْرَبَ اللَّهُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ، وَلَيْسَتْ حَاجَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى الرَّسُولِ كَحَاجَتِهِمْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى حَيَاتِهِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْعَيْنِ إِلَى ضَوْئِهَا وَالْجِسْمِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنْ كُلِّ مَا يَقْدِرُ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ، فَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى رَبِّهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ".
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي قَاعِدَةِ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: وَهَذَا الْمَقْتُ كَانَ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِمْ بِالرُّسُلِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْمَقْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَمَحَجَّةً لِلْمَسَاكِينِ، وَحُجَّةً عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْزِيزَهُ، وَالْقِيَامَ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، وَسَدَّ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ فَلَمْ يَفْتَحْ لِأَحَدٍ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَخَتَمَ بِهِ الرِّسَالَةَ، وَهَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَفَتَحَ بِرِسَالَتِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، فَأَشْرَقَتْ بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا، وَتَأَلَّفَتْ بِهَا الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا، فَأَقَامَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، وَأَوْضَحَ بِهِ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، وَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، أَرْسَلَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَدُرُوسٍ مِنَ الْكُتُبِ، حِينَ حُرِّفَ الْكَلِمُ، وَبُدِّلَتِ الشَّرَائِعُ، وَاسْتَنَدَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى ظُلَمِ آرَائِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَقَالَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَهْوَائِهِمُ النَّادَّةِ، فَهَدَى اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ، وَأَوْضَحَ بِهِ الطَّرَائِقَ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ بِهِ مِنْ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَيَّزَ بِهِ بَيْنَ نَهْجِ أَهْلِ الْفَلَاحِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ اهْتَدَى، وَمَنْ مَالَ عَنْ سَبِيلِهِ فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى، فَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَا لَاحَ نَجْمٌ وَبَدَا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنِ اقْتَدَى.
(التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ)
اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَى وُجُوبِهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ لَدُنْ صَفِيِّ اللَّهِ أَبِي الْبَشَرِ آدَمَ عليه السلام إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَتَصْدِيقِهِمْ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَطَاعَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا أَمَرُوا بِهِ وَنَهَوْا عَنْهُ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ الْإِيمَانَ بِكُلِّ مَا أَتَوْا بِهِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ بِمَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُمْ، قَالَ تَعَالَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] فَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمِلَّةِ عَلَى كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا مَعْلُومَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا مَنْ سَبَّ نَبِيًّا أَوِ انْتَقَصَهُ، وَيَجِبُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْ لَا نُفَرِّقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَتَصْدِيقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَاتِّبَاعُهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151] وَتَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى خَاتَمِهِمْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ «دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَحْدَهُ - فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا، وَفِيهِ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: آدَمُ عليه السلام، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَكَلَّمَهُ قُبُلًا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ آدَمُ وَشِيثٌ
وَأُخْنُوخُ - وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ - وَنُوحٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: مِائَةُ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، أُنْزِلَ عَلَى شَيْثٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً، وَأُنْزِلَ عَلَى أُخْنُوخَ ثَلَاثُونَ صَحِيفَةً، وَأُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرُ صَحَائِفَ، وَأُنْزِلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرُ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ» - الْحَدِيثَ - وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، وَرَدَّ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ لِإِدْخَالِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي كِتَابِ شَرْحِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي الرُّسُلِ وَعَدَدِهِمْ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِمْ، وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ الْكَفِّ عَنْ عَدَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، قَالَ: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ. انْتَهَى.
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه ذَكَرَ ذَلِكَ إِلْزَامًا لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا زِيَادَتُهُ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ تُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ؟ فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ: هَلْ تَجِدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ؟ أَلَيْسَ إِنَّمَا تَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ تَكُفُّونَ عَنْ عَدَدِهِمْ؟ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ مَعْرِفَةِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعَقَائِدِ فِي عَقَائِدِهِمْ هَذَا الْعَدَدَ مُعْتَمِدِينَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَلَى مَا فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْإِيمَانُ بِهِمْ جُمْلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فَالْوَاجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِهِمْ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا فِيمَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.
وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي كِتَابِهِ الْجَوَابِ الصَّحِيحِ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ: أَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْثَرَ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءً، بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَبُعِثَ إِلَيْهِمْ بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ أَلْفُ نَبِيٍّ كُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَلَا يُغَيِّرُونَ مِنْهَا شَيْئًا