الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَيْرُ مَرْضِيٍّ مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِنْ كَانَ مَبْغُوضًا مِنْ جِهَةِ الذُّنُوبِ وَالْعِصْيَانِ وَارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الْأَسَاسِ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْحَسَنَاتُ وَالِاعْتِدَادُ بِالْكَمَالَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّفَاعَةِ وَاجِبٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ النُّصُوصِ مَا لَعَلَّهُ يَقْلَعُ شُرُوشَ الِاخْتِلَاجِ مِنْ خَوَاطِرِ مَنْ أَذْعَنَ لَهَا، وَخَلَعَ مِنْ عُنُقِهِ رِبْقَةَ تَقْلِيدِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالِاعْوِجَاجِ، كَيْفَ وَالنُّصُوصُ مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْآثَارُ مُتَوَافِرَةٌ، وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ، وَالنَّقْلُ الصَّرِيحُ نَاطِقٌ بِمَا هُنَالِكَ، فَدَعْ عَنْكَ نِحْلَةَ فُلَانَةَ وَفُلَانٍ، وَاعْقِدْ قَلْبَكَ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ، وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا عَقْلَ يُحِيلُهُ، وَلَا نَقْلَ يُزِيلُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفَّقُ.
[فَصْلٌ فِي
الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]
[الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]
((فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ))
وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَأَقْسَامِهَا وَتَفْصِيلِهَا وَأَحْكَامِهَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْعَظِيمَتَيْنِ دَارِ الْقَرَارِ لِلْأَخْيَارِ، وَدَارِ الْبَوَارِ لِلْكُفَّارِ، وَهُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَ:
((وَكُلُّ إِنْسَانٍ وَكُلُّ جِنَّةٍ
…
فِي دَارِ نَارٍ أَوْ نَعِيمِ جَنَّةٍ))
((هُمَا مَصِيرُ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْوَرَى
…
فَالنَّارُ دَارُ مَنْ تَعَدَّى وَافْتَرَى))
((وَمَنْ عَصَى بِذَنْبِهِ لَمْ يَخْلُدِ
…
وَإِنْ دَخَلَهَا يَا بَوَارَ الْمُعْتَدِي))
((وَكُلُّ إِنْسَانٍ)) مِنْ بَنِي آدَمَ، فَالْإِنْسُ وَالْإِنْسَانُ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْوَاحِدُ إِنْسِيٌّ وَأَنَسِيٌّ، وَالْجَمْعِ أَنَاسِيُّ وَالْمَرْأَةُ إِنْسَانٌ، وَبِالْهَاءِ عَامِّيَّةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ قَالَ: وَسُمِعَ فِي شِعْرٍ كَأَنَّهُ مُوَلَّدٌ:
لَقَدْ كَسَتْنِي فِي الْهَوَى
…
مَلَابِسَ الصَّبِّ الْغَزَلْ
إِنْسَانَةٌ فَتَّانَةٌ
…
بَدْرُ الدُّجَى مِنْهَا خَجِلْ
إِذَا زَنَتْ عَيْنِي بِهَا
…
فَبِالدُّمُوعِ تَغْتَسِلْ
((وَكُلُّ جِنَّةٍ)) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مَفْتُوحَةً طَائِفَةُ الْجِنِّ، وَالْجَانُّ اسْمٌ لِلْجِنِّ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّقَلَيْنِ الَّذَيْنِ هُمَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ لَابُدَّ أَنْ
يَكُونَ ((فِي)) إِحْدَى الدَّارَيْنِ إِمَّا فِي ((دَارِ نَارٍ)) وَهِيَ دَارُ الْبَوَارِ وَمَقَرُّ الْكُفَّارِ، وَهِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُحْرِقٌ يَطْلُبُ الْعُلُوَّ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى نُوَيْرَةٍ، وَتُجْمَعُ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى نِيرَةٍ وَأَنْوَارٍ، وَجَمْعَ كَثْرَةٍ عَلَى نِيرَانٍ وَنُورٍ، وَالنُّورُ ضَوْءُهَا وَضَوْءُ كُلِّ نِيرٍ، وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ، وَالنَّارُ سَبْعُ طَبَقَاتٍ أَعْلَاهَا جَهَنَّمُ، فَلَظًى ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، وَبَابُ كَلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ دَاخِلِ الْأُخْرَى عَلَى الِاسْتِوَاءِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ ((أَوْ)) فِي دَارِ ((نَعِيمٍ)) مُقِيمٍ فِي ((جَنَّةِ)) الْمَوْلَى الْكَرِيمِ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَاعْتِقَادُ وَجُودِهِ حَقٌّ لَازِبٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْجَنَّةِ دَارُ الثَّوَابُ، وَمِنَ النَّارِ دَارُ الْعِقَابِ ((هُمَا)) أَيِ: الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ((مَصِيرُ الْخَلْقِ)) مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَيْ لَابُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ ((مِنْ كُلِّ الْوَرَى)) كِفَّتَيِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بَلْ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَأْتِي، أَنْ يَصِيرَ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ وَإِمَّا أَهْلِ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا يَأْتِي ((فَالنَّارُ الَّتِي هِيَ دَارُ الْهَوَانِ وَالْبَوَارِ، فَهِيَ ((دَارُ مَنْ)) أَيْ كُلِّ شَخْصٍ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ ((تَعَدَّى)) طَوْرَهُ، وَخَالَفَ مَوْلَاهُ فَكَفَرَ بِهِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، أَوْ بِكِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ، أَوْ شَرْعٍ مِنْ شَرْعِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ بَعَثَهُ، وَلَمْ يَنْسَخْهُ ((وَافْتَرَى)) فِيمَا عَبَدَ، وَاجْتَرَأَ بِمَا قَصَدَ، فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْحُدُودِ، وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ الْمَوْعُودِ، فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ مِنْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنِّيرَانِ، وَأَهْلِ الشَّرَائِعِ الْمَنْسُوخَةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُمْ خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَدَارِ الْخِزْيِ وَالْبَوَارِ ((مِنْ)) أَيْ وَكُلُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ مُبْتَدِعًا لَمْ يَحْكُمِ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ ((عَصَى)) بِمُخَالَفَةِ رَبِّهِ، وَتَعَدَّى حُدُودَهُ ((بِذَنْبِهِ)) ، وَلَوْ كَانَ ذَنْبُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا، وَمَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ ((لَمْ يَخْلُدْ)) فِي النَّارِ ((وَإِنْ دَخَلَهَا)) لِيَتَطَهَّرَ مِنَ الْأَوْزَارِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا إِمَّا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، أَوْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ((يَا بَوَارَ)) أَيْ يَا هَلَاكَ ((الْمُعْتَدِي)) إِشَارَةً إِلَى تَقْبِيحِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ، فَهُوَ خَالِدٌ فِيهَا لِأَنَّهُ إِمَّا كَافِرٌ، أَوْ صَاحِبُ كَبِيرَةٍ
مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ إِذِ الْمَعْصُومُ وَالتَّائِبُ وَصَاحِبُ الصَّغِيرَةِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أُصُولِهِمْ، وَالْكَافِرُ مُخَلَّدٌ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الْعَاصِي، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَإِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُعَذِّبْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُ، وَأَمَّا خُلُودُ الْمُؤْمِنِ الْمُصِرِّ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَأَهْلُ الْحَقِّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ)
(الْأَوَّلُ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَا بْنُ عُقَيْلٍ: إِنَّمَا يُسَمَّى الْجِنُّ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ، وَاسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْعُيُونِ، قَالَ: وَالشَّيَاطِينُ عُصَاةُ الْجِنِّ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ، وَالْمَرَدَةُ أَعْتَاهُمْ وَأَغْوَاهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجِنُّ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ بِاللِّسَانِ عَلَى مَرَاتِبَ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْجِنَّ خَالِصًا قَالُوا: جِنِّيٌّ، فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَعَ النَّاسِ قَالُوا: عَامِرٌ، وَالْجَمْعُ عُمَّارٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِضُ لِلصِّبْيَانِ قَالُوا: أَرْوَاحٌ، فَإِنْ خَبُثَ وَتَعَرَّضَ قَالُوا شَيْطَانٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ قَالُوا: عِفْرِيتٌ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُودِ الْجِنِّ، وَكَذَا جُمْهُورُ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ وُجُودَهُمْ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ يَعْرِفُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَقَالَ: وَلَمْ يُنْكِرِ الْجِنَّ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ جُهَّالِ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: كَثِيرٌ يُقِرُّ بِوُجُودِهِمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَوْنَ لِرِقَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَنُفُوذِ الشُّعَاعِ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يُرَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَا أَلْوَانَ لَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي الْمُبْتَدَأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: خُلِقَ الْجِنُّ قَبْلَ آدَمَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى سَوْمًا أَبَا الْجِنِّ؟ وَهُوَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ قَالَ لَهُ تَعَالَى: تَمَنَّ، قَالَ: أَتَمَنَّى أَنْ نَرَى وَلَا نُرَى، وَأَنْ نَغِيبَ فِي الثَّرَى، وَيَصِيرَ كَهْلُنَا شَابًّا. فَأُعْطِيَ ذَلِكَ، فَهُمْ يَرَوْنَ وَلَا يُرَوْنَ، وَإِذَا مَاتُوا غُيِّبُوا فِي الثَّرَى، وَلَا يَمُوتُ كَهْلُهُمْ حَتَّى يَعُودَ شَابًّا يَعْنِي مِثْلَ الصَّبِيِّ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَأَخْرَجَ
مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» ".
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] قَالَ: اللَّهَبُ الْأَصْفَرُ وَالْأَخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: خُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: خُلِقَ الْجَانُّ وَالشَّيَاطِينُ مِنْ نَارِ الشَّمْسِ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْوَفَا بْنُ عُقَيْلٍ فِي الْفُنُونِ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ الْجِنِّ، فَقَالَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ نَارٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُبَ تَضُرُّهُمْ وَتُحْرِقُهُمْ، فَكَيْفَ تُحْرِقُ النَّارُ النَّارَ؟ قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الشَّيَاطِينَ وَالْجَانَّ إِلَى النَّارِ حَسْبَ مَا أَضَافَ الْإِنْسَانَ إِلَى التُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْفَخَّارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ أَنَّ أَصْلَهُ الطِّينُ، وَلَيْسَ الْآدَمِيُّ طِينًا حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ كَانَ طِينًا، كَذَلِكَ الْجَانُّ كَانَ نَارًا فِي الْأَصْلِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْجِنِّ النَّارُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ: الْجِنُّ أَجْسَامٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَأَشْخَاصٌ مُمَثَّلَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَقِيقَةً وَأَنْ تَكُونَ كَثِيفَةً، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أَجْسَامٌ رَقِيقَةٌ، وَلِرِقَّتِهَا لَا تَرَاهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَلَا قُدْرَةَ لِلشَّيَاطِينِ عَلَى تَغْيِيرِ خَلْقِهِمْ وَالِانْتِقَالِ فِي الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهُمُ اللَّهُ كَلِمَاتٍ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْأَفْعَالِ إِذَا فَعَلَهَا وَتَكَلَّمَ بِهَا نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ، فَيُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّصْوِيرِ وَالتَّخْيِيلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَوْلٍ إِذَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ نَقَلَهُ اللَّهُ عَنْ صُورَةٍ إِلَى أُخْرَى لِجَرْيِ الْعَادَةِ، وَأَمَّا أَنْ يُصَوِّرَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ فَذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَهَا عَنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ وَتَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ، وَإِذَا انْتَقَلَتْ بَطُلَتِ الْحَيَاةُ وَاسْتَحَالَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَكَيْفَ تَنْقُلُ نَفْسَهَا؟ قَالَ: وَالْقَوْلُ فِي تَشْكِيلِ الْمَلَائِكَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالَّذِي رُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلٍ قَالَهُ فَنَقَلَهُ اللَّهُ عَنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ أُخْرَى، قَالَ الْقَاضِي: الْجِنُّ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ كَمَا يَفْعَلُ الْإِنْسُ.
وَظَاهِرُ الْمَعْلُومَاتِ أَنَّ جَمِيعَ الْجِنِّ كَذَلِكَ، وَهُوَ رَأْيُ قَوْمٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَهُمْ وَشُرْبَهُمْ تَشَمُّمُ اسْتِرْوَاحٍ لَا مَضْغٌ وَبَلْعٌ، وَهَذَا لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِمَضْغٍ وَبَلْعٍ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ جَمِيعَ الْجِنِّ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ. وَهَذَا سَاقِطٌ، وَقِيلَ إِنَّ صِنْفًا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَصِنْفًا لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَسُئِلَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنِ الْجِنِّ هَلْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ وَهَلْ يَمُوتُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ؟ فَقَالَ: هُمْ أَجْنَاسٌ، فَأَمَا خَالِصُ الْجِنِّ فَهُمْ رِيحٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَمِنْهُمْ أَجْنَاسٌ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَوَالَدُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَمُوتُونَ، قَالَ: وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي مِنْهَا السَّعَالِي وَالْغُولُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَحَدِيثُ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ: «لَمَّا أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَاعٍ مِنَ الْجِنِّ، فَذَهَبَ مَعَهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقَ بِأَصْحَابِهِ فَأَرَاهُمْ آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْإِنْسِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الزَّادَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم:
لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» - «وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ» .
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» " وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ بِأَنَّ مَا فِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مِنَ الْجِنِّ، وَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَصَحَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقَالَ: هَذَا يُعَضِّدُ الْأَحَادِيثَ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى مُنَاكَحَتِهِمْ بُقُولِهِ تَعَالَى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ الْجِمَاعُ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «إِنَّ الْجِنَّ يَتَوَالَدُونَ كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا» ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظْمَةِ عَنْ قَتَادَةَ.
(الثَّانِي)
فِي ذِكْرِ تَكْلِيفِ الْجِنِّ، وَلَوَاحِقِ ذَلِكَ - قَالَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِهِ الْفُرُوعِ: الْجِنُّ مُكَلَّفُونَ فِي الْجُمْلَةِ إِجْمَاعًا يَدْخُلُ
كَافِرُهُمُ النَّارَ إِجْمَاعًا، وَيَدْخُلُ مُؤْمِنُهُمُ الْجَنَّةَ وِفَاقًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما لَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ، وَأَنَّ ثَوَابَ مُؤْمِنِهِمُ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ خِلَافًا لَأَبَى حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، قَالَ: وَظَاهِرُ الْأَوَّلِ يَعْنِي قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَغَيْرِهِمْ بِقَدْرِ ثَوَابِهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ فِيهَا كَمُجَاهِدٍ، أَوْ أَنَّهُمْ فِي رَبَضٍ حَوْلَ الْجَنَّةِ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ: الْجِنُّ كَالْإِنْسِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَاتِ. انْتَهَى كَلَامُ الْفُرُوعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجِنُّ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مُكَلَّفُونَ مُخَاطَبُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130] وَكَقَوْلِهِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَطْبَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كُلَّهُمْ مُكَلَّفُونَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ:
لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ.
(الثَّالِثُ) :
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فُرُوعِهِ: وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ - يَعْنِي الْجِنَّ - نَبِيٌّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهُمْ رَسُولٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عُقَيْلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكَقَوْلِهِ:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] وَإِنَّمَا هُوَ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَانِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مِنْهُمْ رُسُلًا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي (لُقَطِ الْمَرْجَانِ) : جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجِنِّ قَطُّ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبَى حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] قَالَ: لَيْسَ فِي الْجِنِّ رُسُلٌ إِنَّمَا الرُّسُلُ فِي الْإِنْسِ، وَالنِّذَارَةُ فِي الْجِنِّ، وَقَرَأَ {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ: رُسُلٌ مِنْكُمْ قَالَ: رُسُلُ الرُّسُلِ، وَقَرَأَ الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَمَّا
الَّذِينَ قَالُوا بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رُسُلًا أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، قَالُوا: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ رُسُلِ الْجِنِّ بِمَعْنَى رُسُلِ الْإِنْسِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ رُسُلِ الْإِنْسِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجِنِّ، وَفِي فَسَادِ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الْخِطَابِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ:
لَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْجِنِّ نَبِيٌّ مِنَ الْإِنْسِ الْبَتَّةَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجِنُّ مِنْ قَوْمِ الْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً» ". قَالَ: وَبِالْيَقِينِ نَدْرِي أَنَّهُمْ قَدْ أُنْذِرُوا، وَأَفْصَحَ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] . انْتَهَى.
وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مَعَ مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ وَالْبَحْثُ فِيهِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنْ نَقْطَعَ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا بِبِعْثَةِ رُسُلِ الْإِنْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ كَانُوا يَأْتَمِرُونَ فِي الشَّرَائِعِ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ كَانَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَلْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ أَوْ شَرْعِ مُوسَى؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْجَوَابِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرْعِ مُوسَى؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ اسْتَمَرَّتْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى أَنْ بُعِثَ عِيسَى، فَنَسَخَ بَعْضَهَا وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ بَعْضٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، بَلْ صَرِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) :
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: لَيْسَ الْجِنُّ كَالْإِنْسِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَا يَكُونُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ مُسَاوِيًا لِمَا عَلَى الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، لَكِنَّهُمْ مُشَارِكُوهُمْ فِي جِنْسِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مُنَاكَحَتِهِمْ وَغَيْرِهَا.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَقَدْ يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ أَصْحَابِنَا. وَفِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِجِنِّيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالتَّمْلِيكِ كَالْهِبَةِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَيَتَوَجَّهُ مِنَ انْتِفَاءِ التَّمْلِيكِ