الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ وَتَقْوَى أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ الْأَقْوَى، فَقَالَ:
[تُقَليِّدَ أحِد الأئمة الْأَرْبَعَةِ]
((مَنْ لَازِمٌ لِكُلِّ أَرْبَابِ الْعَمَلِ
…
تَقْلِيدُ حَبْرٍ مِنْهُمُ فَاسْمَعْ تَخَلْ))
((مَنْ)) أَيِ الَّذِينَ هُمْ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فَرْضٌ، ((لَازِمٌ)) لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ وَلَا مَنْدُوحَةَ مِنْهُ ((لِكُلِّ)) وَاحِدٍ مُكَلَّفٍ مِنْ ((أَرْبَابِ)) أَصْحَابِ ((الْعَمَلِ)) الصَّالِحِ وَالْكَدِّ النَّاجِحِ، مِمَّنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ ((تَقْلِيدُ حَبْرٍ مِنْهُمْ)) أَيْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَعْلُومَةِ مَذَاهِبُهُمْ، الْمَضْبُوطَةِ أَقْوَالُهُمْ، الْمَحْفُوظَةِ رِوَايَاتُهُمْ، الْمُدَوَّنَةِ مَذَاهِبُهُمْ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَعَصْرٍ، الْوَاصِلَةِ بِالتَّوَاتُرِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَمَوَانِعِهَا وَإِتْقَانِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يَنْسِبَ لِمَذْهَبٍ مِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ مِنْهُ، بَلْ آحَادُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَيَعِيبُهُ، وَيَقُولُ: هَذَا لَيْسَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَشْهُورَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَذْهَبِ وَالْمَهْجُورَ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمَأْثُورُ مَعَ الْقَوْلِ الْمَهْجُورِ.
وَالْحَبْرُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - الْعَالِمُ الْمُتْقِنُ، وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ لِعِلْمِهِ وَسِعَتِهِ، وَتُسَمَّى سُورَةُ الْمَائِدَةِ سُورَةَ الْأَحْبَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44] ، وَالتَّقْلِيدُ لُغَةً وَضْعُ الشَّيْءِ فِي الْعُنُقِ مُحِيطًا بِهِ وَذَلِكَ الشَّيْءُ يُسَمَّى قِلَادَةً وَجَمْعُهَا قَلَائِدُ، وَعُرْفًا أَخْذُ مَذْهَبِ الْغَيْرِ مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ، فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى الْمُفْتِي وَإِلَى الْإِجْمَاعِ، وَرُجُوعُ الْقَاضِي إِلَى الْعُدُولِ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ وَلَوْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَقْلِيدًا لَسَاغَ، وَفِي الْمُقْنِعِ الْمَشْهُورِ أَنَّ أَخْذَهُ بِقَوْلِ الْمُفْتِي تَقْلِيدٌ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَدَّمَهُ النَّجْمُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَالتَّقْلِيدُ قَبُولُ الْقَوْلِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَيْسَ الْمَصِيرُ إِلَى الْإِجْمَاعِ تَقْلِيدًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ، وَلِذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُقَالُ تَقْلِيدٌ بِخِلَافِ فُتْيَا الْفَقِيهِ، وَذَكَرَ فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: مَنْ قَلَّدَ الْخَبَرَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْلَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عَلَى مَنْ صَارَ إِلَى الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ.
(تَنْبِيهٌ) إِنَّمَا قَالَ: لِكُلِّ أَرْبَابِ الْعَمَلِ لِيَحْتَرِزَ بِهِ عَنِ التَّقْلِيدِ
فِي عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُعُوتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَالرِّسَالَةِ، وَكَذَا فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَوَاتَرَ وَاشْتَهَرَ، ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ وَأَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ لِتَسَاوِي النَّاسِ فِيمَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ اجْتِهَادٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مُطَوَّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ فِي الرَّوْضَةِ: وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ فَهُوَ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَامَّةَ يَلْزَمُهُمُ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ، وَاسْتَدَلَّ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَهُوَ عَامٌّ لِتَكَرُّرِهِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَعِلَّةُ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ الْجَهْلُ، وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْعَوَامَّ يُقَلِّدُونَ الْعُلَمَاءَ مِنْ غَيْرِ إِبْدَاءِ مُسْتَنَدٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَيْضًا عَدَمُ الْقَوْلِ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْمَعَاشِ وَالصَّنَائِعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ لِتَيَسُّرِهِ وَقِلَّتِهِ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى الْعَوَامِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْأَدِلَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا الْقَدَرِيَّةَ فِي إِيجَابِهِمْ عَلَى الْعَوَامِّ الِاجْتِهَادَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَمِنْ الِاسْتِطَاعَةِ تَرْكُ التَّقْلِيدِ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ فَوُجُوبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ تَرْكُهَا قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَلَنَا أَنَّ الْخَطَأَ مُتَعَيِّنٌ وَبُلُوغُ الصَّوَابِ مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ فِي حَقِّ الْعَوَامِّ إِذَا انْفَرَدُوا بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَلَا الْمُخَصِّصَ وَلَا الْمُقَيِّدَ وَلَا كَثِيرًا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَضْبُطُونَهُ، وَلَا يَسُوغُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُ لِفَرْطِ الْغَرَرِ فِيهِ فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَوَسَّطَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ لَا تَحْتَاجُ لِنَصْبِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْلِيدِ فِيهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْخَفِيَّةُ مِنَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ التَّقْلِيدُ فِيهَا بِالضَّرُورَةِ وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَلَا سِيَّمَا التَّقْلِيدُ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَهُوَ دُونَ الضَّرُورَةِ بِكَثِيرٍ وَمَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ يَتَعَيَّنُ التَّقْلِيدُ فِيهِ لِحَاجَةِ النَّظَرِ إِلَى آلَاتٍ مَفْقُودَةٍ فِي الْعَامِّيِّ.
(تَنْبِيهَاتٌ)
(أَحَدُهَا) مَنَعَ قَوْمٌ وُجُوبَ لُزُومِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا هَلْ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ بِحَيْثُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ؟ وَرُخَصِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مَنْ يُوَافِقُ غَرَضَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لَهُ مَنْ لَا يُقَلِّدُهُ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَقْوَالِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ وُجُوبَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يُمَاثِلُهُ كَشُفْعَةِ الْجِوَارِ، فَلَيْسَ لَهُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ هُوَ الطَّالِبَ وَانْتِفَاؤُهَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْهَوَى مُتَابَعَةً لِلْهَوَى لَا مُرَاعَاةً لِلتَّقْوَى.
وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى: التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ بِحَيْثُ يَأْخُذُ بِرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ طَاعَةُ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَتَوَقَّفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ، وَقَالَ: إِنْ خَالَفَهُ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ أَوْ زِيَادَةِ عِلْمٍ أَوْ تَقْوَى فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ. وَقَالَ: بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَهُ وَأَنَّهُ نَصُّ الْإِمَامِ. وَكَذَا قَالَ الْقَدَرِيُّ الْحَنَفِيُّ: مَا ظَنَّهُ أَقْوَى فَعَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِيهِ، وَلَهُ الْإِفْتَاءُ بِهِ حَاكِيًا مَذْهَبَ مَنْ قَلَّدَهُ. وَقَالَ صَدْرُ الْوُزَرَاءِ عَوْنُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ هُبَيْرَةَ: إِنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُقِيمَ أَوْثَانًا فِي الْمَعْنَى تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبِنَا تَقْلِيدًا لِمُعَظَّمٍ عِنْدَهُ قَدْ قَدَّمَهُ عَلَى الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَاكِمِ وَلَا الْمُفْتِي تَقْلِيدُ رَجُلٍ فَلَا يَحْكُمُ وَلَا يُفْتِي إِلَّا بِقَوْلِهِ. انْتَهَى. وَالْأَشْهَرُ الْآنَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ: هَذَا الْأَشْهَرُ فَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَ أَهْلِهِ. وَقَالَ فِي آدَابِ الْمُفْتِي: يَجْتَهِدُ فِي أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ فَيَتَعَبَّدُ، وَقَطَعَ الْكِبَارُ بِلُزُومِ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. انْتَهَى.
(الثَّانِي) إِذَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنِ الْمَذْهَبِ الَّذِي تَمَذْهَبَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فَيَتَخَيَّرُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَاخْتَارَ
الْآمِدِيُّ مَنْعَ الِانْتِقَالِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إِذَا خَالَفَهُ لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ زِيَادَةِ عِلْمٍ أَوْ تَقْوَى فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: امْتِنَاعُ الِانْتِقَالِ عَنْهُ مُطْلَقًا لِالْتِزَامِهِ إِيَّاهُ، الثَّانِي: لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَالْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ وَهُوَ إِنْ كَانَ عَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الَّذِي تَمَذْهَبَ بِهِ، وَصَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِهِ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ لِغَيْرِهِ لَزِمَهُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهُ، وَصَوَّبَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ.
(الثَّالِثُ) يَحْرُمُ عَلَى الْعَامِّيِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ فِي التَّقْلِيدِ، وَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ الِانْتِقَالِ وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وَجَدَ رُخْصَةً فِي مَذْهَبٍ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَعْمَلُ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُفَسَّقُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ الرُّخَصِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالرُّخَصِ فِي مَذْهَبٍ لَا يَقُولُ بِالرُّخْصَةِ الْأُخْرَى فِي غَيْرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصَ إِجْمَاعًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ؛ يَعْمَلُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ لَكَانَ فَاسِقًا. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ - يَعْنِي الْغِنَاءَ - وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَبَقَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ، وَبَقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي الْمُسْكِرِ؛ كَانَ أَشَرَّ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ - أَوْ قَالَ زَلَّةِ كُلِّ عَالِمٍ - اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ إِمَامُ الْمَذْهَبِ بَعْدَ ذِكْرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادٌ إِلَى الرُّخَصِ فَهَذَا فَاسِقٌ، لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَاتَّبَعَ الْبَاطِلَ، أَوْ يَكُونَ عَامِّيًّا فَأَقْدَمَ عَلَى الرُّخَصِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ فَهَذَا أَيْضًا فَاسِقٌ، لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِفَرْضِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ، قَالَ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا وَقَلَّدَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَفْسُقْ، لِأَنَّهُ قَلَّدَ مَنْ يَسُوغُ اجْتِهَادُهُ. وَنَظَرَ فِيهِ الْجِرَاعِيُّ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى أُصُولِ ابْنِ
اللِّحَامِ. قُلْتُ: وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ نَقَلَ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ إِنَّمَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ فِي النَّوَازِلِ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:(الْأَوَّلُ) أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَثَلًا عَلَى صِفَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ، قُلْتُ أَيْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ مُقَلِّدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَبِلَا شُهُودٍ مُقَلِّدًا لِمَالِكٍ، فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدُهُمَا وَلَا غَيْرُهُمَا، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ لِلزِّنَا، فَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي رَدِّهِ، (الثَّانِي) أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ وَلَوْ بِوُصُولِ خَبَرِهِ إِلَيْهِ، (الثَّالِثُ) أَنْ لَا يَتَتَبَّعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ.
(الرَّابِعُ) لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَفْضُولَ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا مِنْهُمُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَالْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي رَوْضَتِهِ، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ إِنِ اعْتَقَدَهُ فَاضِلًا أَوْ مُسَاوِيًا لَا إِنِ اعْتَقَدَهُ مَفْضُولًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ، وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ وَالسَّمْعَانِيُّ: يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فَيُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ، (وَفِي) مَعْنَاهُ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ وَالْإِمَامِ الْمُوَفَّقِ فِي الْمُقْنِعِ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه رِوَايَتَانِ، وَاسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَفْضُولَ مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنَ السَّلَفِ كَانَ يُفْتِي مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ مَعَ الِاشْتِهَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ اسْتِفْتَائِهِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِفْتَاءِ الْأَفَاضِلِ وَبِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَأَيْضًا الْعَامِّيُّ لَا يُمْكِنُهُ التَّرْجِيحَ لِقُصُورِهِ، وَلَوْ كُلِّفَ بِذَلِكَ لَكَانَ تَكْلِيفَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ زَيَّفَ ابْنُ الْحَاجِبِ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّ التَّرْجِيحَ يَظْهَرُ بِالتَّسَامُعِ وَرُجُوعِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِ وَغَيْرِهِ، لِكَثْرَةِ الْمُسْتَفْتِينَ وَتَقْدِيمِ الْعُلَمَاءِ لَهُ. انْتَهَى. لِكَثْرَةِ جِهَاتِ التَّفْضِيلِ كَمَا سَبَقَ وَإِيجَادِ أَشْيَاءَ فِي الْمَفْضُولِ بِبَعْضِهَا مَا يُفَضِّلُ الْفَاضِلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: ((فَاسْمَعْ تَخَلْ)) أَيْ فَاسْمَعْ نِظَامِي، وَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ لُزُومِ كُلِّ مُكَلَّفٍ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَعَادِنِهَا وَلَا اسْتِنْبَاطِ الْأَدِلَّةِ مِنْ مَكَانِهَا التَّقْلِيدَ وَالِاقْتِدَاءَ بِأَحَدِ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى، وَقَوْلُهُ: تَخَلْ أَيْ تَظُنَّ وَتَعْلَمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ سَمَاعِهِ يَكُونُ خَالِيَ الذِّهْنِ، فَإِذَا سَمِعَ الْكَلَامَ وَتَأَمَّلَ مَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامٍ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ، وَأَصْلُهُ مَثَلٌ يَقُولُهُ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَهُ شَيْءٌ