المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[علي أبو السبطين] - لوامع الأنوار البهية - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ في ذِكْرِ بَعْضِ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ ذِكْرِ الْبَرْزَخِ وَالْقُبُورِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَالْحَشْرِ وَالنُّشُورِ]

- ‌[المراد بها ما طريق العلم به النصوص الشرعية]

- ‌[أمور ما بعد الموت منها سؤال منكر ونكير]

- ‌[عذاب القبر]

- ‌[ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ في الكلام في الروح وحقيقتها]

- ‌[الاختلاف في حقيقة الروح وهل هي النفس أم غيرها]

- ‌[أين مستقر الأرواح في البرزخ]

- ‌[خَلْقِ الْأَرْوَاحِ هَلْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا]

- ‌[أَيْنَ مُسْتَقَرُّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[هَلْ تَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَتَتَزَاوَرُ وَتَتَذَاكَرُ وَتَتَلَاقَى أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ أَيْضًا]

- ‌[معنى السيد وهل يطلق على البشر]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى اقْتِرَابِهَا وَمَجِيئِهَا]

- ‌[الأدلة على أشراط الساعة]

- ‌[أشراط الساعة ثلاثة أقسام الأول ما قد مضى وانقضى]

- ‌[القسم الثاني الْأَمَارَاتُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَهِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ وَلَمْ تَنْقَضِ بَلْ تَزَّايَدُ وَتَكْثُرُ]

- ‌[القسم الثالث الْعَلَامَاتُ الْعِظَامُ وَالْأَشْرَاطُ الْجِسَامُ الَّتِي تَعْقُبُهَا السَّاعَةُ]

- ‌[العلامة الأولى ظهور المهدي]

- ‌[اسم المهدي وأشهر أوصافه]

- ‌[فوائد في شأن المهدي الأولى حليته وصفته]

- ‌[الثانية سيرة المهدي]

- ‌[الثالثة علامات ظهور المهدي]

- ‌[الرابعة بعض ما يسبق المهدي من الفتن]

- ‌[الخامسة فِي مَوْلِدِ المهدي وَبَيْعَتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثَّالثة نزول عيسى عليه السلام]

- ‌[نزول عيسى عليه السلام ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ]

- ‌[فَوَائِدُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ عليه السلام الأولى حليته وسيرته]

- ‌[الثانية وقت نزول المسيح ومحله وما يجري على يديه]

- ‌[الثالثة مقدار مدة ووفاة المسيح عليه السلام]

- ‌[قتل المسيح للدجال]

- ‌[تنبيهات الأول قتل المسلمين لأتباع الدجال من اليهود]

- ‌[الثَّانِي فِي قَدْرِ لُبْثِ الدجال وَكَيْفِيَّةِ النَّجَاةِ مِنْهُ]

- ‌[الثَّالث ينبغي بث الأحاديث المنذرة بالدجال]

- ‌[الرابع في ابن صياد وهل هو الدجال]

- ‌[الخامس قصة تميم الداري حديث الجساسة]

- ‌[السادس الدَّجَّالِ عِنْدَ الْيَهُودِ وزعمهم فيه]

- ‌[السابع زيارة عيسى لقبر النبي وحجه البيت الحرام]

- ‌[العلامة الرابعة خروج يأجوج ومأجوج]

- ‌[العلامة الخامسة هَدْمُ الْكَعْبَةِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السادسَةُ الدُّخَانِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ السابعة رَفْعُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ الثامنة طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[الْعَلَامَةُ التاسعة دَابَّةِ الْأَرْضِ]

- ‌[الْعَلَامَةُ العاشرة خُرُوجُ النَّارِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ]

- ‌[الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ حَقٌّ وَاقِعٌ وَصِدْقٌ صَادِقٌ دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ]

- ‌[النفخ في الصور]

- ‌[الوقوف للحساب]

- ‌[الصحف]

- ‌[الميزان]

- ‌[الصراط]

- ‌[الحوض]

- ‌[قوم يزادون عن الحوض]

- ‌[الشفاعة]

- ‌[شفاعة الأنبياء وغيرهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي‌‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌ الْكَلَامِ عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[جنة النعيم للأبرار]

- ‌[خلود الجنة والنار]

- ‌[سؤالَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ وَالتَّنْعِيمِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ]

- ‌[رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة]

- ‌[الكفار والمكذبين محجوبين عن رؤية الله]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ ذِكْرِ سيدنا مُحَمَّدٍ وبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ]

- ‌[إرسال الرسل منة من الله تعالى]

- ‌[الأوصاف اللازمة للنبوة]

- ‌[النبوة غير مكتسبة]

- ‌[خاتم النبيين]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَعْضِ الخَصَائِصِ النبوية]

- ‌[مزايا وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غير ما ذكر]

- ‌[فَصْلٌ في التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تنحصر]

- ‌[القرآن وانشقاق القمر]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ فَضِيلَةِ نَبِيِّنَا وَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ]

- ‌[أفضل العالم الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الأفضل من سائر الخلق بعد النبي أهل العزم]

- ‌[فَصْلٌ فيما يجب وما يستحيل في حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ الجائزفي حق الأنبياء]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرِ فضل الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي الله عنهم]

- ‌[أبو بكر الصديق]

- ‌[عمر الفاروق]

- ‌[عثمان ذو النورين]

- ‌[علي أبو السبطين]

- ‌[مَنْ أَحَب الخلفاء الأربعة فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ أَبْغَضَهُم فَهُوَ زِنْدِيقٌ]

- ‌[باقي العشرة]

- ‌[طلحة بن عبيد الله]

- ‌[الزبير بن العوام]

- ‌[سعد بن أبي وقاص]

- ‌ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ

- ‌[سعيد بن زيد]

- ‌[أبوعبيدة بن الجراح]

- ‌[أهل بدر]

- ‌[أهل الشجرة]

- ‌[أهل أحد]

- ‌[عائشة وخديجة]

- ‌[فَصْلٌ فِي فضل الصَّحَابَةِ جملة وحقهم]

- ‌[الصحابة أَحَقُّ الْأُمَّةِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَأَجْدَرُ الْخَلْقِ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ]

- ‌[أسباب تفضيل الصحابة]

- ‌[التحذير من الإزراء بفضل الصحابة]

- ‌[التابعون وفضلهم]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي ذِكْرِ‌‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌[أوجه تولي الإمامة وشروطه]

- ‌[وجوب طاعته بشرطه]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ]

- ‌[صلاح العباد لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌[الآمر بالمعروف يبدأ بنفسه]

- ‌[الْخَاتِمَةُ]

- ‌[مدارك العلوم]

- ‌[تعريف الحد وبيان شرطه]

- ‌[الإدراك بالحس وحال السفوسطائية]

- ‌[بعض اصطلاحات العلماء]

- ‌[التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمُثُولُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ]

- ‌[ذكر المؤلف أن اقتفاء الأئمة والسلف الصالح ليس تقليدا لهم في الاعتقاد]

- ‌[ذكر أئمة المذاهب الأربعة]

- ‌[تُقَليِّدَ أحِد الأئمة الْأَرْبَعَةِ]

- ‌[حث المؤلف على الاقتداء بالأئمة]

- ‌[حث المؤلف على أخذ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ]

الفصل: ‌[علي أبو السبطين]

آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ، فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي؟ وَأَنَا الْيَوْمُ أُمْنَعُ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَجَهَّزْتُهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي كُنْتُ عَلَى ثَبِيرِ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ حَتَّى تَسَاقَطَتْ حِجَارَتُهُ بِالْحَضِيضِ، فَرَكَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرِجْلِهِ وَقَالَ: اسْكُنْ ثَبِيرُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ شَهِدُوا لِي بِالْجَنَّةِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثَلَاثًا» - وَفِي رِوَايَةٍ شَهِدُوا لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَنِّي شَهِيدٌ ثَلَاثًا.

وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه:

مَنْ سَرَّهُ الْمَوْتُ صَرْفًا لَا مِزَاجَ لَهُ

فَلْيَأْتِ مَأْدُبَةً فِي دَارِ عُثْمَانَا

ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ

يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا

لَيُسْمَعَنَّ وَشِيكًا فِي دِيَارِهِمُ

اللَّهُ أَكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ قُتِلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه ظُلْمًا بِلَا مُحَالٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَحَدُ الْمُهَاجِرِينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَحَدُ أَخْتَانِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، وَمَآثِرُهُ غَزِيرَةٌ، وَأَيَادِيهِ شَهِيرَةٌ، فَرِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -.

رُوِيَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ، اتَّفَقَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِثَمَانِيَةٍ وَمُسْلِمٌ بِخَمْسَةٍ.

[علي أبو السبطين]

((وَبَعْدُ فَالْفَضْلُ حَقِيقًا فَاسْمَعِ

نِظَامِي هَذَا لِلْبَطِينِ الْأَنْزَعِ))

((مُجَدِّلِ الْأَبْطَالِ مَاضِي الْعَزْمِ

مُفَرِّجِ الْأَوْجَالِ وَافِي الْحَزْمِ))

((وَافِي النَّدَى مُبْدِي الْهُدَى مُرْدِي الْعِدَا

مُجْلِي الصَّدَى يَا وَيْلَ مَنْ فِيهِ اعْتَدَى))

((وَبَعْدُ)) بِبِنَائِهَا عَلَى الضَّمِّ لِحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ ثُبُوتِ مَعْنَاهُ أَيْ وَبَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه عَلَى الْقَوْلِ الرَّجِيحِ وَالْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، ((فَالْفَضْلُ)) الشَّامِخُ وَالْقُرْبُ الرَّاسِخُ وَالْمَجْدُ الْبَاذِخُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ وَاتِّفَاقِ

ص: 334

الْأَئِمَّةِ، ((حَقِيقًا)) أَيْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا نُكْرٍ، ((فَاسْمَعِ)) : فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ مِنِّي ((نِظَامِي)) أَيْ مَنْظُومِي ((هَذَا)) الَّذِي أَدْرَجْتُ فِيهِ عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَضَمَّنْتُهُ مَا يَقْتَفِيهِ كُلُّ مُحَقِّقٍ فَالِحٍ ثَابِتٍ، ذَلِكَ الْفَضْلُ وَمُسْتَقِرٌّ ((لِـ)) الْإِمَامِ الْهُمَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ((الْبَطِينِ الْأَنْزَعِ)) .

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ وَفِي صِفَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: الْبَطِينُ الْأَنْزَعُ أَيِ الْعَظِيمُ الْبَطْنِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَيْضًا رضي الله عنه: أَبِيتُ مِبْطَانًا وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى؟ الْمِبْطَانُ الْكَثِيرُ الْأَكْلِ وَالْعَظِيمُ الْبَطْنِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ بَطِينًا أَنَّ بَاطِنَهُ عَظِيمٌ لِتَضَلُّعِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْزَعِ الْمُنْحَسِرُ شَعْرُ رَأْسِهِ مِمَّا فَوْقَ الْجَبِينِ، وَالنَّزْعَتَانِ عَنْ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مِمَّا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنْزَعَ الشَّعْرِ لَهُ بَطْنٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَنْزَعُ مِنَ الشِّرْكِ الْمَمْلُوءُ الْبَطْنِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، ((مُجَدِّلِ الْأَبْطَالِ)) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: جَدَلَهُ فَانْجَدَلَ وَتَجَدَّلَ صَرَعَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ كَسَحَابَةِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا أَوْ ذَاتَ رَمْلٍ دَقِيقٍ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ:" «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ» ". أَيُّ مُلْقًى عَلَى الْجَدَالَةِ وَهِيَ الْأَرْضُ.

وَفِي حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه حِينَ وَقَفَ عَلَى طَلْحَةَ رضي الله عنه يَوْمَ الْجَمَلِ وَهُوَ قَتِيلٌ، فَقَالَ: أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ. أَيْ مَرْمِيًّا مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ قَتِيلًا، وَالْأَبْطَالُ جَمْعُ بَطَلٍ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَكَشَدَّادٍ بَيْنَ الْبِطَالَةِ أَوِ الْبُطُولَةِ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ جِرَاحَتَهُ فَلَا يَكْتَرِثُ بِهَا، أَوْ يُبْطِلُ عِنْدَهُ دِمَاءَ الْأَقْرَانِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَتَلَ مِنَ الْأَبْطَالِ عِدَّةً مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَرْحَبٍ مِنْ أَبْطَالِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ:((مَاضِي الْعَزْمِ)) إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ قُوَّتِهِ وَوُفُورِ شِدَّتِهِ، وَالْمَاضِي مَنْ مَضَى فِي الْأَمْرِ مَضَاءً وَمُضُوًّا نَفَذَ، وَمَضَى السَّيْفُ أَيْ قَطَعَ وَالْمُضُوُّ كَالْعُلُوِّ التَّقَدُّمُ وَالْعَزْمُ الْجِدُّ وَالصَّبْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] .

وَقَوْلُهُ: ((مُفَرِّجِ)) أَيْ كَاشِفِ ((الْأَوْجَالِ)) يُقَالُ: فَرَّجَ اللَّهُ الْغَمَّ يُفَرِّجُهُ كَشَفَهُ كَفَرَجَهُ، وَالْأَوْجَالُ جَمْعُ وَجَلٍ - بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْجِيمِ - الْخَوْفُ وَرَجُلٌ وَجِلٌ كَفَرِحٍ يَاجَلُ وَيَجِلُ وَيَوْجَلُ

ص: 335

وَيِيجَلُ - بِكَسْرِ أَوَّلِهِ - وَجَلًا وَمَوْجَلًا كَمَقْعَدٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى وَجِلِينَ وَالْمَرْأَةُ وَجِلَةٌ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كَشْفِ الْغُمُومِ وَتَفْرِيجِ الْهُمُومِ، وَالْإِقْدَامِ فِي الْمَوَاقِفِ الصَّعْبَةِ وَالْبُرُوزِ إِلَى الْأَقْرَانِ الْمُسْتَصْعِبَةِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ". فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيْ يَخُوضُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا «فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ» - الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ: ((وَافِي الْحَزْمِ)) إِشَارَةٌ إِلَى وُفُورِ عَقْلِهِ وَغَزَارَةِ فِطْنَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَزْمُ ضَبْطُ الرَّجُلِ أَمْرَهُ وَالْحَذَرُ مِنْ فَوَاتِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَزَمْتَ الشَّيْءَ إِذَا شَدَدْتَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ» ". - يَعْنِي النِّسَاءَ - أَيْ أَذْهَبَ لِعَقْلِ الرَّجُلِ الْمُحْتَرِزِ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَظْهِرِ فِيهَا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ مَا الْحَزْمُ؟ فَقَالَ: " تَسْتَشِيرُ أَهْلَ الرَّأْيِ ثُمَّ تُطِيعُهُمْ» ". وَفِي الْقَامُوسِ الْحَزْمُ: ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحِزَامَةِ وَالْحُزُومَةِ يُقَالُ: حَزُمَ كَكَرُمَ فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ وَالْجَمْعُ حَزَمَةٌ وَحُزَمَاءُ.

وَفِي قَوْلِهِ: ((وَافِي)) أَيْ كَثِيرِ، ((النَّدَى)) أَيِ السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْدَى عَلَى أَصْحَابِهِ أَيْ يَسْخَى كَمَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ تَنْدَى: تَسْخَى وَأَفْضَلُ كَأَنْدَى فَهُوَ نَدِيُّ الْكَفِّ وَالنَّدَى الثَّرَى وَالشَّحْمُ وَالْمَطَرُ وَالْبَلَلُ (وَالْكَلَأُ) وَشَيْءٌ يُتَطَيَّبُ بِهِ كَالْبَخُورِ. وَفِي مَحَلٍّ آخَرَ أَنْدَى كَثُرَ عَطَايَاهُ. انْتَهَى. إِشَارَةٌ إِلَى غَزَارَةِ كَرَمِهِ وَجَزَالَةِ عَطَايَاهُ وَحَزْمِهِ.

((مُبْدِي)) أَيْ مُظْهِرِ ((الْهُدَى)) أَعْنِي الْعُلُومَ الْغَامِضَةَ وَالْفُهُومَ الرَّائِضَةَ وَالْهُدَى - بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ - الرَّشَادُ وَالدَّلَالَةُ، ((مُرْدِي الْعِدَا)) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرْدَاهُ إِذَا أَهْلَكَهُ وَكَسَرَهُ وَأَوْقَعَ أَعْدَاءَهُ فِي الرَّدَى وَالتَّلَفِ وَالْهَلَاكِ، ((مُجْلِي)) أَيْ مُزِيلٍ وَمُفَرِّقٍ وَكَاشِفٍ، ((الصَّدَى)) أَيِ الْعَطَشِ وَالظَّمَأِ وَالْمُرَادُ بِهِ كَاشِفُ الْكَرْبِ وَمُجْلِي النَّوْبِ، ((يَا وَيْلَ)) هَذِهِ يُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ بِالْحُزْنِ وَالْهَلَاكِ وَالْمَشَقَّةِ وَمَعْنَى

ص: 336

النِّدَاءِ فِيهَا يَا حُزْنُ وَيَا هَلَاكُ وَيَا عَذَابُ احْضُرْ فَهَذَا وَقْتُكَ وَأَوَانُكَ لِـ ((مَنْ)) أَيْ إِنْسَانٌ مُكَلَّفٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، ((فِيهِ)) أَيْ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ((اعْتَدَى)) بِانْتِقَاصِهِ وَانْحِطَاطِهِ عَنْ مَنْزِلَتِهِ الشَّامِخَةِ وَدَرَجَتِهِ الْبَاذِخَةِ وَهَضَمَ مِنْ حُقُوقِهِ الظَّاهِرَةِ وَفَضَائِلِهِ الطَّاهِرَةِ، أَوْ غَلَا فِيهِ غُلُوًّا خَارِجًا عَنْ طَوْرِهِ وَنَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَحْوِ أُلُوهِيَّةٍ كَغُلَاةِ أَهْلِ الرَّفْضِ أَوْ نُبُوَّةٍ أَوْ أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ نَفْسُهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " «إِنَّ فِيكَ مَثَلًا مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ الْمَنْزِلَ الَّذِي لَيْسَ بِهِ» ". أَلَا وَإِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ: مُحِبٌّ يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ، وَمُبْغِضٌ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيٍّ:" «أَشْقَى النَّاسِ رَجُلَانِ: أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى يَبُلَّ مِنْهُ هَذِهِ» ". - يَعْنِي لِحْيَتَهُ -. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَصُهَيْبٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنه.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقَدْ وُثِّقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ يَوْمًا: «مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟ قَالَ: الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَافُوخِهِ» ، فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَقُولُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ - يَعْنِي عِنْدَ ضَجَرِهِ مِنْهُمْ - وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ فَخَضَّبَ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ هَذِهِ. وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ. وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ لِعَلِيٍّ: لَا تَقْدَمِ الْعِرَاقَ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكَ بِهَا ذُبَابُ السَّيْفِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: فَمَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ مُحَارِبًا يُخْبِرُ بِذَا عَنْ نَفْسِهِ.

إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ

ص: 337

شَيْبَةُ الْحَمْدِ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: عَامِرٌ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يَصِحُّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَارِثِ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا الْبَطْحَاءِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ عَمَّهُ الْمُطَّلِبَ أَرْدَفَهُ حِينَ أَتَى بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ صَغِيرًا فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: عَبْدِي، وَهُوَ ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ إِلَخِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ، فَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ هَاشِمِيًّا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَخُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤَاخَاةِ، وَصِهَرُهُ عَلَى سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ عليها السلام، وَأَحَدُ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحَدُ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ وَالزُّهَّادِ الْمَذْكُورِينَ وَالْخُطَبَاءِ الْمَعْرُوفِينَ، وَأَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَحَدُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ الْمُبِينَ، وَأَوَّلُ خَلِيفَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَبُو السِّبْطَيْنِ السَّعِيدَيْنِ.

أَسْلَمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَدِيمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ حَتَّى نَقَلَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَخْبَارٍ، وَتَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الصِّدِّيقِ مَا يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا قَالَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَمَّا بَلَغَهُ افْتِخَارُ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: اكْتُبْ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَمْلَى عَلَيْهِ رضي الله عنه قَوْلَهُ:

مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ أَخِي وَصِهْرِي

وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي

وَجَعْفَرٌ الَّذِي يُمْسِي وَيُضْحِي

يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ابْنُ أُمِّي

وَبِنْتُ مُحَمَّدٍ سَكَنِي وَعِرْسِي

مَنُوطٌ لَحْمُهَا بِدَمِي وَلَحْمِي

وَسِبْطَا أَحْمَدَ ابْنَايَ مِنْهَا

فَأَيُّكُمُ لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِي

سَبَقْتُكُمُ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا

غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِي

قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَوَانٍ فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه حِفْظُهُ لِيَعْلَمَ مَفَاخِرَهُ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَاقِبَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَثِيرَةٌ

ص: 338

وَمَآثِرُهُ غَزِيرَةٌ وَفَضَائِلُهُ شَهِيرَةٌ حَتَّى قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدَ رضي الله عنه: مَا جَاءَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا جَاءَ لِعَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ -. وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الْحِسَانِ أَكْثَرُ مِمَّا جَاءَ فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَسَبَبُ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ عَلِيٌّ وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ لَمَّا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْخِلَافَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ نُصْحَ الْأُمَّةِ بِإِشْهَارِهِ لِتِلْكَ الْفَضَائِلِ لِتَحْصُلَ النَّجَاةُ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ نَشَرَ مَنْ سَمِعَ مِنَ الصَّحَابَةِ تِلْكَ الْفَضَائِلَ وَبَثَّهَا نُصْحًا لِلْأُمَّةِ أَيْضًا، ثُمَّ لَمَّا اشْتَدَّ الْخَطْبُ وَاشْتَغَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِتَنْقِيصِهِ وَسَبِّهِ حَتَّى عَلَى الْمَنَابِرِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْخَوَارِجُ، اشْتَغَلَتْ جَهَابِذَةُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَثِّ فَضَائِلِهِ حَتَّى كَثُرَتْ، نُصْحًا لِلْأُمَّةِ وَنُصْرَةً لِلْحَقِّ.

وَقَدْ أَخْرَجَ السِّلَفِيُّ فِي الطُّيُورِيَّاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ كَثِيرَ الْأَعْدَاءِ فَفَتَّشَ لَهُ أَعْدَاؤُهُ شَيْئًا فَلَمْ يَجِدُوا، فَجَاءُوا إِلَى رَجُلٍ قَدْ حَارَبَهُ وَقَاتَلَهُ فَأَطْرَوْهُ كِيَادًا مِنْهُمْ لَهُ رضي الله عنه. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الْكُلُّ مُقِرٌّ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ كُفْئًا لِعَلِيٍّ رضي الله عنهما فِي الْخِلَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ خَلِيفَةً مَعَ إِمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ لِسَابِقَتِهِ وَعِلْمِهِ وَدِينِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَسَائِرِ فَضَائِلِهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةً مَعْرُوفَةً كَفَضْلِ إِخْوَانِهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ، لَكِنَّ سَعْدًا كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ وَكَانَ الْأَمْرُ قَدِ انْحَصَرَ فِي عَلِيٍّ وَفِي عُثْمَانَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إِلَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَمُعَاوِيَةُ لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حِينَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ وَلَا أَنَّهُ

ص: 339

يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَلَا كَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يَبْدَءُوا عَلِيًّا بِقِتَالٍ، بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ شَوْكَةً وَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرُدُّوا إِلَى الْوَاجِبِ، وَهُمْ رَأَوْا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقٍ وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُمْ غَالِبُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُمْ كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ، فَرَأَوْا مِنَ الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً (لَا) يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ الْإِنْصَافَ، وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِالْإِمَامَيْنِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما ظُنُونًا كَاذِبَةً، مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَحْلِفُ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا يَمِينٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغَضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ الَّذِي صَبَرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا، وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ فَكَيْفَ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْمُشَنِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مُقِرٌّ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَلِي (عَلِيٌّ) الْخِلَافَةَ وَوَقَعَتْ لَهُ الْمُبَايَعَةُ بِهَا الْغَدُ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَالُوا لَهُ: نُبَايِعُكَ فَمُدَّ يَدَكَ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَمَنْ رَضِيَ بِهِ أَهْلُ بَدْرٍ فَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إِلَّا أَتَى عَلِيًّا، فَقَالُوا: مَا نَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَا مِنْكَ، مُدَّ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، فَبَايَعُوا، وَهَرَبَ مَرْوَانُ وَوَلَدُهُ وَجَاءَ عَلِيٌّ إِلَى امْرَأَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ لَا أَعْرِفُهُمَا وَمَعَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَخْبَرَتْ عَلِيًّا وَالنَّاسَ بِمَا صَنَعَ.

فَدَعَا مُحَمَّدًا فَسَأَلَهُ عَمَّا ذَكَرَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ تَكْذِبْ قَدْ وَاللَّهِ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا أُرِيدُ قَتْلَهُ فَذَكَرَ لِي أَبِي، فَقُمْتُ عَنْهُ وَأَنَا تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا أَمْسَكْتُ. فَقَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ: صَدَقَ وَلَكِنَّهُ أَدْخَلَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما دَخَلَ كَمَا ذَكَرَ فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُثْمَانَ

ص: 340

فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه: وَاللَّهِ لَوْ رَآكَ أَبُوكَ لَسَاءَهُ مَكَانُكَ مِنِّي. فَتَرَاخَتْ يَدُهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ الرَّجُلَانِ فَتَوَجَّيَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ يُسْمَعْ صُرَاخُهَا لِمَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنَ الْجَلَبَةِ وَصَعِدَتْ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قُتِلَ. فَدَخَلَ النَّاسُ فَوَجَدُوهُ مَذْبُوحًا.

وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَلِيًّا وَطِلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا وَمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ ذُهِلَتْ عُقُولُهُمْ لِلْخَبَرِ الَّذِي أَتَاهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ مَقْتُولًا فَاسْتَرْجَعُوا، وَضَرَبَ عَلِيٌّ الْحَسَنَ وَصَدْرَ الْحُسَيْنِ وَشَتَمَ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ وَكَانَ أَرْسَلَهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ عُثْمَانَ، وَقَالَ لِابْنَيْهِ كَيْفَ قُتِلَ وَأَنْتُمَا عَلَى الْبَابِ؟ وَخَرَجَ وَهُوَ غَضْبَانُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فَهُرِعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ جَمِيعًا. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ إِنَّمَا بَايَعَا كَارِهَيْنِ غَيْرَ طَائِعَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى مَكَّةَ وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِهَا فَأَخَذَاهَا وَخَرَجَا إِلَى الْبَصْرَةِ يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَخَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَقِيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا وَهِيَ وَقْعَةُ الْجَمَلِ، وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقُتِلَ بِهَا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَقَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالْبَصْرَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ وَمَنْ مَعَهُ بِالشَّامِ فَبَلَغَ عَلِيًّا فَسَارَ، فَالْتَقَوْا بِصِفِّينَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَدَامَ الْقِتَالُ بِهَا أَيَّامًا، فَرَفَعَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَ إِلَى مَا فِيهَا مَكِيدَةً مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا أَنْ يُوَافُوا رَأْسَ الْحَوْلِ بِأَذْرُحَ فَيَنْظُرُوا فِي أَمْرِ الْأُمَّةِ، فَافْتَرَقَ النَّاسُ وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ وَمُعَاوِيَةُ إِلَى الشَّامِ وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: وَكَانَ مُقَامُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْبِيضُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. ذَكَرَهُ الثِّقَةُ الْعَدْلُ أَبُو إِسْحَاقَ.

وَمِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْهَرِيرِ جَعَلَ يَهُرُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَالْهَرِيرُ: الصَّوْتُ يُشْبِهُ النُّبَاحَ، لِأَنَّهُمْ تَرَامَوْا بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَتْ وَتَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى انْدَقَّتْ وَتَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى انْقَضَبَتْ، حَتَّى نَزَلَ الْقَوْمُ يَمْشِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَدْ كَسَرُوا أَجْفَانَ سُيُوفِهِمْ وَتَضَارَبُوا بِمَا بَقِيَ مِنَ السُّيُوفِ وَعُمُدِ الْحَدِيدِ، فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَةُ الْقَوْمِ وَالْحَدِيدُ فِي الْهَامِ، ثُمَّ تَرَامَوْا بِالْأَحْجَارِ ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ فَتَحَاثَّوْا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَكَادَمُوا بِالْأَفْوَاهِ

ص: 341

وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَثَارَ الْقَتَامُ وَارْتَفَعَ الْغُبَارُ، وَضَلَّتِ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ، وَمَرَّتْ مَوَاقِيتُ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ، لِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ كَمَا فِي تَارِيخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ، وَكَانَ عِدَّةُ أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الَّذِينَ مَعَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ. وَاسْتُشْهِدَ فِي صِفِّينَ أَبُو الْيَقْظَانِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ -، وَكَانَ عَمَّارٌ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ الطَّيِّبُ الْمُطَيَّبُ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " «ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ: " «تَقْتُلُكَ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ» ". وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ". وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ: " أَبْشِرْ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ". وَاسْتَسْقَى يَوْمَ صِفِّينَ فَأُتِيَ بِقَعْبٍ فِيهِ لَبَنٌ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ:«أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ آخِرَ رِزْقِي مِنَ الدُّنْيَا ضَيَاحُ لَبَنٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَعْبِ، ثُمَّ حَمَلَ فَلَمْ يَثْنِ حَتَّى قُتِلَ» أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ الْمُسْنَدَ مِنْهُ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْبَاقِي ذَكَرَهُ رَزِينٌ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ عَمَّارٍ وَهُمْ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَيَقُولُ:" «وَيْحَ عَمَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» ". قَالَ: وَجَعَلَ عَمَّارٌ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» ". وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ - يَعْنِي تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ -، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ

ص: 342

رُوحَهُ -: وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ رضي الله عنه كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا أَيْ حُكْمَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الَّتِي قَتَلَتْهُ.

وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى مَنُونِ مَقَاتِلِهِ فَمَا قَتَلَهُ إِلَّا الَّذِي أَخْرَجَهُ، فَأَلْزَمَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ، فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَنْ قَتَلَ حَمْزَةَ حِينَ أَخْرَجَهُ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُجَّةَ مُعَاوِيَةَ هَذِهِ أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. انْتَهَى. وَلَا يَرْتَابُ ذَوُو الْأَلْبَابِ أَنَّ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي السِّبْطَيْنِ، وَزَوْجِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.

وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه فَهُوَ مُجْتَهِدٌ مُخْطِئٌ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ فِي الْخِلَافَةِ حَقٌّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا فِي الْخِلَافَةِ وَأَنْتَ مِثْلُهُ؟ قَالَ: لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ وَوَلِيُّهُ أَطْلُبُ بِدَمِهِ، فَائْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَعُ لَنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ، فَأَجَابَ مُعَاوِيَةُ أَهْلَ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ أَبَا مُسْلِمٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ وَلِيَّهُ وَابْنُ عَمِّهِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعَةِ كَمَا فَعَلَ النَّاسُ، ثُمَّ يُحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عِنْدِي، فَأَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ حَتَّى جَرَى مَا جَرَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُسَمُّونَ قَتْلَ عَمَّارٍ فَتْحَ الْفُتُوحِ، وَفِي قَتْلِهِ يَقُولُ الْحَجَّاجُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ لَهُ تَقْتُلْكَ شِرْذِمَةٌ سِيطَتْ لُحُومُهُمُ بِالْبَغْيِ فُجَّارُ فَالْيَوْمَ يَعْلَمُ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمُ أَصْحَابُ ذَاكَ وَمِنْهُمْ شَبَّتِ النَّارُ

وَقَالَ ابْنُ عَبْدُونَ فِي عَمَّارٍ رضي الله عنه: وَمَا رَعَتْ لِأَبِي الْيَقْظَانِ صُحْبَتَهُ وَلَمْ تُزَوِّدْهُ إِلَّا الضَّيْحَ فِي الْعُمْرِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الضَّيَاحُ وَالضَّيْحُ بِالْفَتْحِ اللَّبَنُ الْخَاثِرُ يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ ثُمَّ يُخْلَطُ - وَهُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ فَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ -. وَفِي الْقَامُوسِ: اللَّبَنُ الرَّقِيقُ الْمَمْزُوجُ وَكَذَا الضَّيَاحُ - بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ -. وَلَمَّا رَفَعَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَ إِلَى مَا فِيهَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: نَعَمْ نَحْنُ

ص: 343

أَحَقُّ بِالْإِجَابَةِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ خَوَارِجَ: خَوَّانًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَنْظُرُ إِلَى هَؤُلَاءِ، أَلَا نَمْشِي عَلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ. فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ كَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا أَنْ يُوَافُوا رَأْسَ الْحَوْلِ بِأَذْرُحَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَخَرَجَتْ عَنْ طَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَوَارِجُ وَهُمُ الْقُرَّاءُ فَقَالُوا: كَفَرَ عَلِيٌّ وَكَفَرَ مُعَاوِيَةُ، فَاعْتَزَلُوا عَلِيًّا رضي الله عنه وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَنَاشَدَهُمُ اللَّهَ ارْجِعُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ فِيمَ نَقَمْتُمْ عَلَيْهِ أَفِي قِسْمَةٍ أَوْ قَضَاءٍ؟ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ نَدْخُلَ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ: فَلَا تُعَجِّلُوا ضَلَالَةَ الْعَامِ مَخَافَةَ فِتْنَةِ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَكُونُ نَاحِيَةً فَإِنْ قَبِلَ الْقَضِيَّةَ - يَعْنِي التَّحْكِيمَ - قَاتَلْنَاهُ عَلَى مَا قَاتَلْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الشَّامِ بِصِفِّينَ وَإِنْ نَقَضَهَا قَاتَلْنَا مَعَهُ.

فَسَارُوا حَتَّى قَطَعُوا النَّهْرَ وَافْتَرَقَتْ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ يَقْتُلُونَ النَّاسَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُمْ: مَا عَلَى هَذَا فَارَقْنَا عَلِيًّا. فَلَمَّا بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رضي الله عنه صُنْعُهُمْ وَكَانَ مُتَجَهِّزًا لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا بِأَذْرُحَ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَحَضَرَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْفِتْنَةَ رضي الله عنهم، فَقَدَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ مَكِيدَةً مِنْهُ فَتَكَلَّمَ، فَاتَّفَقَا عَلَى خَلْعِ الِاثْنَيْنِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَيَصِيرُ الْأَمْرُ شُورَى فَمَنْ رَضِيَهُ أَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فَتَقَدَّمَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: قَدْ خَلَعْتُ عَلِيًّا. فَقَامَ عَمْرٌو فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُوسَى قَدْ خَلَعَ عَلِيًّا وَإِنِّي نَصَّبْتُ مُعَاوِيَةَ. فَاخْتَلَفَ النَّاسُ وَأَخَذَ أَبُو مُوسَى يَسُبُّ عَمْرًا، وَيَقُولُ: إِنَّكَ غَدَرْتَ فَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ وَمُعَاوِيَةُ إِلَى الشَّامِ، وَصَارَ خِلَافٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى صَارَ رضي الله عنه يَعَضُّ عَلَى إِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: أُعْصَى وَيُطَاعُ مُعَاوِيَةُ؟ وَرُبَّمَا قَالَ: وَيُطَاعُ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ. إِشَارَةً إِلَى أَكْلِ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ أُمِّ مُعَاوِيَةَ مِنْ كَبِدِ حَمْزَةَ رضي الله عنه يَوْمَ أُحُدٍ.

فَلَمَّا تَجَهَّزَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ شَغَلَهُ أَمْرُ الْخَوَارِجِ وَمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَسِيرُونَ إِلَى عَدُوِّكُمْ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَّفُوكُمْ فِي دِيَارِكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلْ نَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ رضي الله عنه: اسْطُوا عَلَيْهِمْ،

ص: 344

فَوَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ وَلَا يَفِرُّ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فَكَانَ كَذَلِكَ، فَقَالَ: اطْلُبُوا فِي الْقَتْلَى رَجُلًا صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ مِنْ نَعْتِهِ أَنَّ لَهُ ثَدْيًا كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَادَهُمْ وَأَرَاحَنَا مِنْهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ لَمْ تَحْمِلْهُ النِّسَاءُ بَعْدُ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَفَرِحَ عَلِيٌّ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ بِخِلَافِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ وَالْأَسَفُ. وَمِنْ بَقَايَا الْخَوَارِجِ الْقَرَامِطَةُ وَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَالْمَلَاحِدَةُ وَأَضْرَابُهُمْ.

(غَرِيبَةٌ عَجِيبَةٌ)

ذَكَرَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي لَقْطِ الْمَرْجَانِ قَالَ: ذُكِرَ فِي كِتَابِ نُزْهَةِ الْمُذَاكَرَةِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: حَضَرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَتْلَ الْحَرُورِيَّةِ بِالنَّهْرَوَانِ، فَالْتَمَسَ عَلِيٌّ ذَا الثُّدَيَّةِ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ: اطْلُبُوهُ فَوَجَدُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَنْ يَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: نَحْنُ نَعْرِفُهُ هَذَا قُوصٌ وَأُمُّهُ هَاهُنَا. فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَبُو هَذَا؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، فَغَشِيَنِي شَيْءٌ كَهَيْئَةِ الظُّلَّةِ فَحَبَلْتُ مِنْهُ فَوَلَدْتُ هَذَا. انْتَهَى. تَعْنِي أَنَّ أَبَاهُ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ)

عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ - أَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. قَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي عُلَمَائِنَا: قَدِ اتَّفَقَ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَامَّةُ مَنْ حَضَرَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَالْأَنْصَارِ كَاجْتِمَاعٍ أَهْلِ السَّقِيفَةِ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رضي الله عنه:

ص: 345

وَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه إِلَّا كَبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهم. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مِنْ عُلَمَائِنَا: كَانَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه (بَيْعَةَ) اجْتِمَاعٍ وَرَحْمَةٍ لَمْ يَدْعُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُجْبِرْهُمْ عَلَى بَيْعَتِهِ بِسَيْفِهِ، وَلَمْ يَغْلِبْهُمْ بِعَشِيرَتِهِ، وَلَقَدْ شَرَّفَ الْخِلَافَةَ بِنَفْسِهِ، وَزَانَهَا بِشَرَفِهِ وَكَسَاهَا حُلَّةَ الْبَهَاءِ بِعَدْلِهِ، وَرَفَعَهَا بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَلَقَدْ أَبَاهَا فَأَجْبَرُوهُ وَتَقَاعَسَ عَنْهَا فَأَكْرَهُوهُ. وَقَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: إِنَّ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ تُزِنْهُ الْخِلَافَةُ وَلَكِنْ عَلِيٌّ زَانَهَا.

وَرَوَى الشَّعْبِيُّ قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ زَيَّنْتَ الْخِلَافَةَ وَمَا زَانَتْكَ، وَرَفَعْتَهَا وَمَا رَفَعَتْكَ، وَلَهِي كَانَتْ أَحْوَجُ إِلَيْكَ مِنْكَ إِلَيْهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَدْ أَحْسَنَ الْأَعْرَابِيُّ وَصَدَقَ فِيمَا قَالَ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ رضي الله عنهم زَيَّنُوا الْخِلَافَةَ وَجَمَّلُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَتَمُّوا الدِّينَ وَأَظْهَرُوهُ وَأَسَّسُوا الْإِسْلَامَ وَأَشْهَرُوهُ، وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي حَقِّ عَلِيٍّ رضي الله عنه: مَا زَانَهُ الْمُلْكُ إِذْ حَوَاهُ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ يُزَانُ جَرَى فَفَاتَ الْمُلُوكَ سَبْقًا فَلَيْسَ قُدَّامَهُ غِيَانُ نَالَتْ يَدَاهُ ذُرَى مَعَالٍ يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهَا الْعِيَانُ

وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ انْعَقَدَ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْإِجْمَاعُ، وَوَجْهُ انْعِقَادِهِ مَا انْحَصَرَ الْأَمْرُ فِيهِ وَفِي عُثْمَانَ زَمَنَ الشُّورَى عَلَى أَنَّهَا لَهُ أَوْ لِعُثْمَانَ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه لَوْلَا عُثْمَانُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ رضي الله عنه بَقِيَتْ لِعَلِيٍّ إِجْمَاعًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: لَا اكْتِرَاثَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا إِجْمَاعَ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا الْمَقَامُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ.

وَلَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْخَوَارِجَ بِالنَّهْرَوَانِ وَاسْتَأْصَلَ جُمْهُورَهُمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، انْتَدَبَ مِنْ بَقَايَاهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّرِيمِيُّ وَيُعْرَفُ بِالْبَرْكِ، وَدَاذَوَيْهِ مَوْلَى بَنِي الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ إِحْدَى

ص: 346

عَشَرَ، وَقِيلَ: لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ تَعَاقُدُهُمْ وَتَعَاهُدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةَ، فَضِمْنَ ابْنُ مُلْجَمٍ قَتْلَ عَلِيٍّ، فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ لَكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَغْتَالُهُ. وَضَمِنَ الْبَرْكُ قَتْلَ مُعَاوِيَةَ، وَضَمِنَ دَاذَوَيْهِ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ قَدْ أَفْسَدُوا أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَوْ قَتَلُوا لَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ كَذَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَوَجَّهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى صَاحِبِهِ، فَأَمَّا الْبَرْكُ الصَّرِيمِيُّ فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ فَضَرَبَهُ فَجَرَحَ أَلْيَتَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَطَعَ عِرْقَ النَّسْلِ مِنْهُ فَمَا أَحَبْلَ النِّسَاءَ بَعْدَ تِلْكَ الضَّرْبَةِ، وَأَمَّا دَاذَوَيْهِ بْنُ حُذَافَةَ الْعَنْبَرِيُّ فَقَدِمَ مِصْرَ لِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ اسْتَخْلَفَ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ خَارِجَةَ بْنَ حُذَافَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ الْقُرَشِيَّ الْعَدَوِيَّ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَكَانَ أَمِيرُ رُبْعِ الْمَدَدِ الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي فَتْحِ مِصْرَ، وَكَانَ عَلَى شُرَطِ مِصْرَ فِي إِمْرَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهم، قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ هَذَا أَحَدُ فُرْسَانِ قُرَيْشٍ فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَعْدِلُ بِأَلْفِ فَارِسٍ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَكَانَ كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْتَمِدُّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَأَمَدَّهُ بِخَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنهم.

فَأَرَادَ الْخَارِجِيُّ دَاذَوَيْهِ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَتَلَ خَارِجَةَ بْنَ حُذَافَةَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْخَارِجِيُّ أُخِذَ وَأُدْخِلَ عَلَى عَمْرٍو فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَدْخَلْتُمُونِي عَلَيْهِ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. قَالَ: وَمَنْ قَتَلْتُ؟ قَالُوا: خَارِجَةُ. فَقَالَ: أَرَدْتُ عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. فَذَهَبَتْ مَثَلًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدُونَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ الَّتِي رَثَى بِهَا بَنِيَ الْأَفْطَسِ مُلُوكَ بَطْلَيُوسَ بِقَوْلِهِ:

وَلَيْتَهَا إِذْ فَدَتْ عَمْرًا بِخَارِجَةَ

فَدَتْ عَلِيًّا بِمَنْ شَاءَتْ مِنَ الْبَشَرِ

وَأَمَّا أَشْقَى الْآخَرَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ اللَّعِينُ فَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَلَقِيَ بِهَا مِنْ إِخْوَانِهِ الْخَوَارِجِ، فَسَارَّهُمْ بِمَا أَرَادَ فَاشْتَرَى سَيْفًا فِيمَا زَعَمُوا بِأَلْفٍ وَسَقَاهُ السُّمَّ حَتَّى لَفَظَهُ، وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَأْتِي عَلِيًّا رضي الله عنه فَيَسْأَلُهُ

ص: 347

فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى قَطَامِ بِنْتِ عَلْقَمَةَ مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ وَكَانَتْ خَارِجِيَّةً تَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً رَائِعَةً فِي الْجَمَالِ، فَأَعْجَبَتْهُ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ: آلَيْتُ أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ إِلَّا عَلَى مَهْرٍ لَا أُرِيدُ سِوَاهُ. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَتْ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَعَبْدٌ وَجَارِيَةٌ وَقَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ إِلَّا لِلْفَتْكِ بِهِ وَلَا أَقْدَمَنِي هَذَا الْمِصْرَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُكِ أَرَدْتُ تَزْوِيجَكِ. فَقَالَتْ: لَيْسَ إِلَّا الَّذِي قُلْتُ لَكَ. فَقَالَ: وَمَا يُغْنِينِي مِنْكِ إِذَا أَنَا قَتَلْتُ عَلِيًّا أَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُفْلِتْ؟ فَقَالَتْ: إِنْ قَتَلْتَهُ وَنَجَوْتَ فَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ تَبْلُغُ شِفَاءَ نَفْسِكَ وَيُهْنِيكَ الْعَيْشُ مَعِي، وَإِنْ قُتِلْتَ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا. فَقَالَ لَهَا: لَكِ مَا اشْتَرَطْتِ. ثُمَّ قَالَ - لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَعَبْدٌ وَقَيْنَةٌ

وَضَرْبُ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ الْمُسَمَّمِ

فَلَا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَإِنْ غَلَا

وَلَا فَتْكَ إِلَّا دُونَ فَتْكِ ابْنِ مُلْجَمِ

فَقَالَتْ لَهُ: وَرَائِي مَنْ يَشُدُّ ظَهْرَكَ. فَبَعَثَتْ إِلَى ابْنِ عَمٍّ لَهَا يُدْعَى وَرْدَانَ بْنَ مُجَالِدٍ، فَأَجَابَهَا وَلَقِيَ ابْنُ مُلْجَمٍ شَبِيبَ بْنَ شَجَرَةَ الْأَشْجَعِيَّ فَقَالَ: يَا شَبِيبُ هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: تُسَاعِدُنِي عَلَى قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ رَجُلٌ لَا حَرَسَ لَهُ وَيَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ مُنْفَرِدًا، فَنَتَمَكَّنُ مِنْهُ وَقَدْ كَمِنَّا لَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَنَقْتُلُهُ، فَإِنْ نَجَوْنَا نَجَوْنَا وَإِنْ قُتِلْنَا فَقَدْ سَعِدْنَا بِالذِّكْرِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَالَ: وَيْلَكَ إِنَّ عَلِيًّا ذُو سَابِقَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا تَنْشَرِحُ نَفْسِي لِقَتْلِهِ. قَالَ: وَيْلَكَ إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ وَقَتَلَ إِخْوَانَنَا الصَّالِحِينَ، فَنَقْتُلُهُ بِبَعْضِ مَنْ قَتَلَ فَلَا تَشُكَّنَّ فِي دِينِكَ.

فَأَجَابَهُ وَأَقْبَلَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى قَطَامِ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ فِي قُبَّةٍ ضَرَبَتْهَا لِنَفْسِهَا، فَدَعَتْ لَهُمَا وَأَخَذَا سَيْفَيْهِمَا وَجَلَسَا قُبَالَةَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَخَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَبَدَرَهُ شَبِيبٌ فَضَرَبَهُ فَأَخْطَأَهُ وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: الْحُكْمُ لِلَّهِ يَا عَلِيُّ لَا لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَا يَفِرُّ مِنْكُمُ الْكَلْبُ. وَشَدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنُ مُلْجَمٍ فَأَفْرَجُوا لَهُ فَتَلَقَّاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

ص: 348

فَرَمَى عَلَيْهِ قَطِيفَةً كَانَتْ عِنْدَهُ وَاحْتَمَلَهُ وَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَمَّا شَبِيبٌ فَانْتَزَعَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَصَرَعَهُ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَصِيحُونَ: عَلَيْكُمْ بِصَاحِبِ السَّيْفِ فَخَافَ الْحَضْرَمِيُّ عَلَى نَفْسِهِ فَرَمَى بِالسَّيْفِ وَانْسَلَّ شَبِيبٌ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ. فَأُخِذَ ابْنُ مُلْجَمٍ فَدُخِلَ بِهِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنْ أَعِشْ فَالْأَمْرُ لِي وَإِنْ أَمُتْ فَالْأَمْرُ لَكُمْ فَالْعَفْوُ أَوِ الْقِصَاصُ.

وَاجْتَمَعَ الْأَطِبَّاءُ عِنْدَهُ وَكَانَ أَبْصَرَهُمْ بِالطِّبِّ أَثِيرُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ وَكَانَ مِنْ أَطِبَّاءِ كِسْرَى، فَأَخَذَ رِئَةَ شَاةٍ حَارَّةٍ فَتَتَبَّعَ عِرْقًا مِنْهَا فَأَخْرَجَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي جِرَاحَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثُمَّ نَفَخَ الْعِرْقَ فَاسْتَخْرَجَهُ، فَإِذَا عَلَيْهِ بَيَاضُ دِمَاغٍ وَإِذَا الضَّرْبَةُ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْهَدْ عَهْدَكَ فَأَنْتَ مَيِّتٌ. وَسَمِعَ ابْنُ مُلْجَمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - الرَّنَّةَ مِنَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه. فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ: فَعَلَى مَنْ تَبْكِي أُمُّ كُلْثُومٍ؟ أَعَلَيَّ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُ سَيْفِي بِأَلْفٍ وَمَا زِلْتُ أَعْرِضُهُ فَمَا يَعِيبُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْلَحْتُ ذَلِكَ الْعَيْبَ، وَلَقَدْ سَقَيْتُهُ السُّمَّ حَتَّى لَفَظَهُ، وَلَقَدْ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ بِالْمَشْرِقِ لَأَتَتْ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَغَسَّلَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ رضي الله عنهم وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ وَدُفِنَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ أُحْضِرَ ابْنُ مُلْجَمٍ وَجَاءَ النَّاسُ بِالنِّفْطِ وَالْبَوَارِي وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَكُحِّلَتْ عَيْنَاهُ بِمَسَامِيرِ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً، ثُمَّ قُطِعَ لِسَانُهُ ثُمَّ أُحْرِقَ فِي قَوْصَرَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ قُطِعَتْ أَطْرَافُهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَتَأَوَّهْ بَلْ (كَانَ) يَتْلُو الْقُرْآنَ فَلَمَّا أَرَادُوا قَطْعَ لِسَانِهِ امْتَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِهِ فَتَعِبُوا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: قُطِعَتْ يَدَاكَ وَرِجْلَاكَ فَمَا تَمَانَعْتَ، فَمَا هَذَا التَّمَانُعُ عِنْدَ قَطْعِ لِسَانِكَ؟ قَالَ: لِئَلَّا يَفُوتَنِي مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ وَأَنَا حَيٌّ، فَشَقُّوا شِدْقَهُ وَأَخْرَجُوا لِسَانَهُ بِكُلَّابٍ فَقَطَعُوهُ.

وَكَانَ عُمْرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا مَاتَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَعُمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَوْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ

ص: 349

اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ: لِتَصْنَعِ الْعَرَبُ مَا شَاءَتْ بَعْدَهُ فَلَيْسَ لَهَا مَنْ يَنْهَاهَا. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الْمَعْدُودِينَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، حَتَّى يُقَالُ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ أَنْ يُوَسِّعَ دَارَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجَمٍ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ الْفِقْهَ وَالْقُرْآنَ، ثُمَّ كَانَ مِنْ شِيعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَشَهِدَ مَعَهُ صِفِّينَ، ثُمَّ فَعَلَ بَعْدَ هَذَا مَا فَعَلَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ فِي عَافِيَةٍ.

وَعِنْدَ الْخَوَارِجِ أَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ النَّصِيرِيَّةُ يُعَظِّمُونَهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: يَقُولُونَ إِنَّهُ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ خَلَّصَ رُوحَ اللَّاهُوتِ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَسَدِ وَكَدَرِهِ. وَعِنْدَ الرَّوَافِضِ أَنَّهُ أَشْقَى الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ اسْتَحَلَّ قَتْلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَلْ عَدَّ قَتْلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ، وَهَذَا كُفْرٌ بِلَا رَيْبٍ حَتَّى إِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ الْخَارِجِيَّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ يَمْدَحُ ابْنَ مُلْجَمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ -:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا

إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا

إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ

أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا

وَعَارَضَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ:

قُلْ لِابْنِ مُلْجِمِ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ

هَدَمْتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانَا

قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ

وَأَوَّلَ النَّاسِ اسْلَامًا وَإِيمَانَا

وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ

بِمَا سَنَّ الرَّسُولُ لَنَا شَرْعًا وَتِبْيَانَا

صِهْرُ النَّبِيِّ وَمَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ

أَضْحَتْ مَنَاقِبُهُ نُورًا وَبُرْهَانَا

وَكَانَ مِنْهُ عَلَى رَغْمِ الْحَسُودِ لَهُ

مَكَانُ هَارُونَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَا

ص: 350

وَكَانَ فِي الْحَرْبِ سَيْفًا مَاضِيًا ذَكَرَا

لَيْثًا إِذَا لَقِيَ الْأَقْرَانُ أَقْرَانَا

ذَكَرْتُ قَاتِلَهُ وَالدَّمْعُ مُنْحَدِرٌ

فَقُلْتُ سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ سُبْحَانَا

إِنِّي لَأَحْسَبُهُ مَا كَانَ مِنْ بَشَرٍ

يَخْشَى الْمَعَادَ وَلَكِنْ كَانَ شَيْطَانَا

أَشْقَى مُرَادٍ إِذَا عُدَّتْ قَبَائِلُهَا

وَأَبْخَسُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا

كَعَاقِرِ النَّاقَةِ الْأُولَى الَّتِي جَلَبَتْ

عَلَى ثَمُودَ بِأَرْضِ الْحُجْرِ خُسْرَانَا

قَدْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنْ سَوْفَ يَخْضِبُهَا

قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمَانًا وَأَزْمَانَا

فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ مَا تَحَمَّلَهُ

وَلَا سَقَى قَبْرَ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَا

لِقَوْلِهِ فِي شَقِيٍّ ظَلَّ مُجْتَرِمًا

وَنَالَ مَا نَالَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانَا

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا

إِلَّا لَيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا

بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ غَوِيٍّ أَوْرَثَتْهُ لَظًى

فَسَوْفَ يَلْقَى بِهَا الرَّحْمَنَ غَضْبَانَا

كَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَصْدًا بِضَرْبَتِهِ

إِلَّا لِيَصْلَى عَذَابَ الْخُلْدِ نِيرَانَا

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم:

أَرْدَتْ عَلِيًّا وَعُثْمَانًا بِمَخْلَبِهَا

وَلَمْ يَفُتْهَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ

وَمَنْ أَرَادَ التَّأَسِّي فِي مُصِيبَتِهِ

فَلِلْوَرَى فِي رَسُولِ اللَّهِ مُعْتَبَرُ

ص: 351

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَاقِبَ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - كَثِيرَةٌ وَمَآثِرُهُ شَهِيرَةٌ، وَلَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: كَانَ لِعَلِيٍّ ضِرْسٌ قَاطِعٌ فِي الْعِلْمِ، وَكَانَ لَهُ الْقِدَمُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالصِّهْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْفِقْهُ فِي السُّنَّةِ، وَالنَّجْدَةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْجُودُ فِي الْمَالِ. وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ - يَعْنِي عَلِيًّا رضي الله عنه.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ: صِفْ لِي عَلِيًّا. قَالَ: أَوَتُعْفِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلْ تَصِفُهُ لِي. قَالَ: أَوَتُعْفِينِي. قَالَ: لَا أُعْفِيكَ. قَالَ: أَمَّا إِذْ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى، شَدِيدَ الْقُوَى، يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ، كَانَ وَاللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ، وَمِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ، كَانَ وَاللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ، وَيَبْتَدِئُنَا إِذَا أَتَيْنَاهُ، وَيَأْتِينَا إِذَا دَعَوْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً وَلَا نَبْتَدِئُهُ لِعَظَمَتِهِ، كَانَ إِذَا تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُجُوفَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَقَدْ مَثَلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، فَلَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَلِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ لِي تَشَوَّفْتِ؟ هَيْهَاتَ، غُرِّي غَيْرِي، قَدْ بِنْتُكِ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيكِ وَلَا مَثْنَوِيَّةَ، فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ، وَعَيْشُكِ حَقِيرٌ، وَخَطَرُكِ كَبِيرٌ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: حَلَالُكِ حِسَابٌ وَحَرَامُكِ عَذَابٌ، ثُمَّ أَنْشَدَ رضي الله عنه:

دُنْيَا تُخَادِعُنِي كَأَنِّ

ي لَسْتُ أَعْرِفُ حَالَهَا

مَدَّتْ إِلَيَّ يَمِينَهَا

فَرَدَدْتُهَا وَشِمَالَهَا

حَظَرَ الْإِلَهُ حَرَامَهَا

وَأَنَا اجْتَنَبْتُ حَلَالَهَا

وَعَلِمْتُهَا خَدَّاعَةً

فَتَرَكْتُ جُمْلَتَهَا لَهَا

آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ.

قَالَ: فَذَرَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ

ص: 352

فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ وَقَدِ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاللَّهِ كَذَلِكَ فَكَيْفَ حُزْنُكَ عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا، وَلَا تَسْكُنُ حَسْرَتُهَا. وَأَنْشَدَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ مِنْ نَظْمِ الْإِمَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَوَصْفِ نَفْسِهِ:

إِذَا الْمُشْكِلَاتُ تَصَدَّيْنَ لِي

كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ

وَإِنْ بَرَقَتْ فِي مَحَلِّ الصَّوَا

بِ عَمْيَاءُ لَا يَجْتَلِيهَا الْبَصَرْ

مُقَنَّعَةٌ بِغُيُوبِ الْأُمُورِ

وَضَعْتُ عَلَيْهَا صَحِيحَ الْفِكَرْ

لِسَانِي كَشَقْشَقَةِ الْأَرْحَبِيِّ

أَوْ كَالْحُسَامِ الْيَمَانِيِّ الذَّكَرْ

وَفِي الطُّيُورِيَّاتِ قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: نَسْمَعُكَ تَقُولُ فِي الْخُطْبَةِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْنَا بِمَا أَصْلَحْتَ بِهِ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَمَنْ هُمْ؟ فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ قَالَ: هُمْ أَحِبَّائِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ إِمَامَا الْهُدَى وَشَيْخَا الْإِسْلَامِ، رَجُلَا قُرَيْشٍ وَالْمُقْتَدَى بِهِمَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اقْتَدَى بِهِمَا عُصِمَ، وَمَنِ اتَّبَعَ آثَارَهُمَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا فَهُوَ فِي حِزْبِ اللَّهِ.

وَالْإِمَامُ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ النَّحْوِ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ فِي أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَرَأَيْتُهُ مُفَكِّرًا، قُلْتُ: فِيمَ تُفَكِّرُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ بِبَلَدِكُمْ هَذَا لَحْنًا فَأَرَدْتُ أَنْ أَضَعَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ. فَقُلْتُ: إِنْ فَعَلْتَ هَذَا أَحْيَيْتَنَا وَبَقِيتْ فِينَا هَذِهِ اللُّغَةُ. ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَلْقَى إِلَيَّ صَحِيفَةً فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْكَلَامُ كُلُّهُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، فَالِاسْمُ مَا أَنْبَأَ عَنِ الْمُسَمَّى، وَالْفِعْلُ مَا أَنْبَأَ عَنْ حَرَكَةِ الْمُسَمَّى، وَالْحَرْفُ مَا أَنْبَأَ عَنْ مَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ يَا أَبَا الْأَسْوَدِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ ثَلَاثَةٌ: ظَاهِرٌ وَمُضْمَرٌ وَشَيْءٌ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَلَا مُضْمَرٍ، ثُمَّ قَالَ: تَتَبَّعْهُ وَانْحُ نَحْوَهُ وَزِدْ فِيهِ. وَهَذَا مَشْهُورٌ وَمَا تُحِيطُ الدَّفَاتِرُ بِالْبَحْرِ الْخِضَمِّ، وَالشَّيْءِ الْأَعَمِّ وَالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَرَكْنَاهُ كَقَطْرَةِ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ لُجِّيٍّ، أَوْ كَرَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ رِمَالٍ فَيْحَةٍ.

وَرُوِيَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

ص: 353