الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ".
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ كُنْتُ أَفْتَيْتُ بِأَنَّ ابْنَ مَرْيَمَ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ سَبْعَ سِنِينَ، قَالَ وَاسْتَمَرَّيْتُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى رَأَيْتُ الْإِمَامَ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ اعْتَمَدَ أَنَّ مُكْثَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعُونَ سَنَةً مُعْتَمِدًا مَا أَفَادَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ " «ثُمَّ يَمْكُثُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ قَتْلِ الدَّجَّالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ". وَهَذَا هُوَ الْمَرْجِعُ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ يُحْتَجُّ بِهَا، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَقَلِّ لِمَا مَعَهَا مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ مُثْبَتٌ وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ. انْتَهَى.
وَإِلَى قَتْلِ سَيِّدِنَا عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِلدَّجَّالِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:
[قتل المسيح للدجال]
((وَإِنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالْ
…
بِبَابِ لُدٍّ خَلِّ عَنْ جِدَالْ))
((وَإِنَّهُ)) أَيِ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام ((يَقْتُلُ)) بِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ وَمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ ((الدَّجَّالْ)) أَيِ الْكَذَّابَ وَهُوَ اسْمٌ لِهَذَا الشَّخْصِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الشَّرَائِعِ وَقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَ دَجَّالًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْأَرْضَ وَيَسِيرُ فِي أَكْثَرِ نَوَاحِيهَا، يُقَالُ دَجَلَ الرَّجُلُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ سُمِّيَ بِهِ لِتَمْوِيهِهِ عَلَى النَّاسِ وَتَلْبِيسِهِ، يُقَالُ دَجَلَ إِذَا لَبَّسَ وَمَوَّهَ. وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّجْلِ وَهُوَ طَلْيُ الْجَرَبِ بِالْقَطِرَانِ وَتَغْطِيَتُهُ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ يُغَطِّي الْحَقَّ وَيَسْتُرُهُ.
(تَنْبِيهٌ)
إِنَّمَا سُمِّيَ الدَّجَّالُ مَسِيحًا لِأَنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ مَمْسُوحَةٌ لَا يُبْصِرُ بِهَا وَالْأَعْوَرُ يُسَمَّى مَسِيحًا كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ سَيِّدِنَا عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مَسِيحًا فَقِيلَ لِمَسْحِ زَكَرِيَّا عليه السلام إِيَّاهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ أَيْ يَقْطَعُهَا فِي سِيَاحَتِهِ، وَقِيلَ الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ. فَسَيِّدُنَا عِيسَى مَسِيحُ الْهُدَى وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَمَسِيحُ الضَّلَالَةِ، وَضَبْطُهُ فِيهِمَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفِّفَةً وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُمِعَ مِسِّيحٌ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى وَزْنِ فِعِّيلٍ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى فَيُشَدِّدُ فِي الدَّجَّالِ وَيُخَفِّفُ فِي سَيِّدِنَا عِيسَى.
قَالَ الْغُنَيْمِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ " الْأَجْوِبَةُ الْمُفِيدَةُ عَلَى الْأَسْئِلَةِ الْعَدِيدَةِ " مَا لَفْظُهُ: قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عُمَرَ أَنَّ مُوسَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ الْحَافِظَ أَبَا عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْبَرِّ يَقُولُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ خَطَأٌ وَلِذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنَقَلَهُ الصَّحَابَةُ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَقَالَ الرَّاجِزُ:
إِذَا الْمَسِيحُ قَتَلَ الْمَسِيحَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَعْنِي عِيسَى عليه السلام يَقْتُلُ الدَّجَّالَ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْمَطْلَعِ: الْمَسِيحُ اثْنَانِ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام وَالدَّجَّالُ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي ضَبْطِ الْمَسِيحِ عِيسَى عَلَى مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ سُمِّيَ مَسِيحًا لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ - وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ: قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ لَا أَخْمَصَ لَهُ، وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَهُ أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا، وَهَذَا تَقَدَّمَ - وَالْمَسْحَةُ الْجَمَالُ وَالْحُسْنُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ.
قَالَ: وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَهُوَ مِثْلُ عِيسَى فِي اللَّفْظِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سِرَاجٍ وَغَيْرِهِ كَسْرُ الْمِيمِ وَتَشْدِيدُ السِّينِ، وَأَنْكَرَهُ الْهَرَوِيُّ وَجَعَلَهُ تَصْحِيفًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُسِرَتِ الْمِيمُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى عليه السلام، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ بَعْضُهُمْ يَكْسِرُهَا فِي الدَّجَّالِ وَيَفْتَحُهَا فِي عِيسَى وَكُلٌّ سَوَاءٌ.
قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ وَالْمَسِيحُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ضِدُّ الْمَسِيخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَسَحَهُ اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا وَمَسَخَ الدَّجَّالَ إِذْ خَلَقَهُ مَلْعُونًا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَسِيحُ الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ، وَقِيلَ الْمَسِيحُ الْأَعْوَرُ وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ مَشِيحٌ فِيهِمَا مُعَرَّبٌ، وَعَلَى هَذَا اللَّفْظِ يَنْطِقُ بِهِ الْعِبْرَانِيُّونَ. انْتَهَى.
وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي النِّهَايَةِ ثُمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ وَقِيلَ إِنَّهُ الَّذِي مُسِخَ خَلْقُهُ أَيْ شُوِّهَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى.
تَقَدَّمَ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عليه السلام يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ ثُمَّ يَخْرُجُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا فِي طَلَبِ الدَّجَّالِ وَيَمْشِي وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْأَرْضُ تُقْبَضُ لَهُ وَمَا أَدْرَكَ نَفَسُهُ مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَقَتَلَهُ وَيُدْرِكُ حَيْثُ مَا أَدْرَكَ بَصَرُهُ حَتَّى يُدْرِكَ بَصَرُهُ حُصُونَهُمْ وَقَرْيَاتِهِمْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَيَجِدَهُ مُغْلَقًا قَدْ حَصَرَهُ الدَّجَّالُ فَيُصَادِفُ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «فَيَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ - يَعْنِي مِنَ الدَّجَّالِ - إِلَى جَبَلِ الدُّخَانِ بِالشَّامِ فَيَأْتِيهِمْ فَيَشْتَدُّ حِصَارُهُمْ وَيُجْهِدُهُمْ جُهْدًا شَدِيدًا. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ يَشُكُّونَ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ حِينَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ ثَانِيًا
كَمَا تَقَدَّمَ وَيُبَادِرُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِذَا صَعِدَ عَقَبَةَ فِيقٍ رَفَعَ ظُلَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُوتِرُونَ قِسِيَّهُمْ لِقِتَالِهِ فَأَقْوَاهُمْ مَنْ بَرَكَ حَتَّى إِذَا طَالَ الْحِصَارُ قَالَ رَجُلٌ: إِلَى مَتَى هَذَا الْحِصَارُ؟ اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا إِمَّا بِالشَّهَادَةِ وَإِمَّا الْفَتْحُ فَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؟ فَيَتَبَايَعُونَ عَلَى الْقِتَالِ بَيْعَةً يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهَا الصِّدْقُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ وَإِنَّ قُوتَ الْمُؤْمِنِ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ ثُمَّ تَأْخُذُهُمْ ظُلْمَةٌ لَا يُبْصِرُ أَحَدُهُمْ كَفَّهُ فَيَنْزِلُ ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام فَيَحْسُرُ عَنْ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ لَأْمَةٌ فَيَقُولُونَ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ عِيسَى اخْتَارُوا إِحْدَى ثَلَاثٍ: أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَى الدَّجَّالِ وَجُنُودِهِ عَذَابًا جَسِيمًا أَوْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ سِلَاحَكُمْ وَيَكُفَّ سِلَاحَهُمْ. فَيَقُولُونَ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشَفَى لِصُدُورِنَا فَيَوْمَئِذٍ تَرَى الْيَهُودِيَّ الْعَظِيمَ الطَّوِيلَ الْأَكُولَ الشَّرُوبَ لَا تُقِلُّ يَدُهُ سَيْفَهُ مِنَ الرُّعْبِ فَيَنْزِلُونَ إِلَيْهِمْ فَيُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ» .
وَلِذَا قَالَ ((بِبَابِ)) مُتَعَلِّقُ بِقَتْلِ الدَّجَّالِ أَيْ يَقْتُلُهُ بِبَابِ ((لُدٍّ)) بِضَمِّ اللَّامِ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ بِوَزْنِ مُدٍّ بَلَدٌ مَشْهُورَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَمْلَةِ فِلَسْطِينَ مِقْدَارُ فَرْسَخٍ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ مُتَّصِلٌ شَجَرُهَا بِشَجَرِهَا - فَيَقْتُلُهُ هُنَاكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى عليه السلام فَيُنَادِي (مُنَادٍ) مِنَ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ، وَيَسْمَعُونَ النِّدَاءَ: جَاءَكُمُ الْغَوْثُ. فَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ
رَجُلٍ شَبْعَانَ، وَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ احْمِدُوا رَبَّكُمْ وَسَبِّحُوهُ - أَيْ فَإِنَّ التَّحْمِيدَ وَالتَّسْبِيحَ قُوتُهُمْ كَمَا مَرَّ - فَيَفْعَلُونَ وَيُرِيدُ أَصْحَابُ الدَّجَّالِ الْفِرَارَ فَيُضَيِّقُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ فَإِذَا أَتَوْا بَابَ لُدٍّ فِي نِصْفِ سَاعَةٍ يُوَافِقُونَ عِيسَى فَإِذَا نَظَرَ الدَّجَّالُ عِيسَى يَقُولُ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ خَوْفًا مِنْهُ - أَيْ مِنْ عِيسَى وَيَقُولُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَقُولُ عِيسَى يَا عَدُوَّ اللَّهِ زَعَمْتَ أَنَّكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَلِمَنْ تُصَلِّي؟ فَيَضْرِبُهُ بِمِقْرَعَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِحَرْبَتِهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَذْبَحُهُ بِالسِّكِّينِ» . وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ سِلَاحٌ لِسَيِّدِنَا عِيسَى عليه السلام فَيَقْتُلُهُ.
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: «ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنَ السَّحَرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى هَذَا الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ فَيَقُولُونَ هَذَا رَجُلٌ حَيٌّ فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى عليه السلام فَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَيُقَالُ لَهُ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ، فَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ، فَحِينَ يَرَاهُ الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلَا يَتْرُكَنَّ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ تَبِعَهُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ» .
وَحَاصِلُ وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عليه السلام يَنْزِلُ أَوَّلًا بِدِمَشْقَ الشَّامِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ لِسِتِّ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ يَأْتِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَوْثًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَلْحَقُهُمْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَدْ أَحْرَمَ الْمَهْدِيُّ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ لَمْ يُحْرِمْ بَعْدُ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالصَّلَاةِ فَيَأْتِي وَالْمَهْدِيُّ فِي الصَّلَاةِ فَيُقَهْقِرُ وَيُقَالُ لِعِيسَى تَقَدَّمْ أَيْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَى الْمَهْدِيَّ تَقَهْقَرَ فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ عَلَى كَتِفِ الْمَهْدِيِّ أَنْ تَقَدَّمْ وَيَقُولُ لِلْقَائِلِ إِمَامُكُمْ فَيُجِيبُ الْمَهْدِيُّ بِالْفِعْلِ، وَالْقَائِلُ بِالْقَوْلِ لِيَكُونَ جَوَابُ كُلٍّ عَلَى طِبْقِ قَوْلِهِ «ثُمَّ إِذَا أَصْبَحُوا شَرَدَ أَصْحَابُ الدَّجَّالِ فَتُضَيَّقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ فَيُدْرِكُهُمْ بِبَابِ لُدٍّ فَيُصَادِفُ ذَلِكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَيَتَحَيَّلُ الدَّجَّالُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ سَيِّدِنَا عِيسَى بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا عَرَفَ عَدَمَ التَّخَلُّصِ ذَابَ خَوْفًا مِنْهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ بِالْمَاءِ فَأَدْرَكَهُ فَقَتَلَهُ» ، أَوْ أَنَّ الدَّجَّالَ يُنْشِئُ صَلَاةً
فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى ضَلَالِهِ وَجَهَالَتِهِ بِاللَّهِ كَمَا فِي الْإِشَاعَةِ.
ثُمَّ قَالَ وَهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَيَّامِ الْقِصَارِ الَّتِي هِيَ آخِرُ أَيَّامِ الدَّجَّالِ تُقَدَّرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُصَادِفَ التَّقْدِيرُ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ بَيْنَ كَوْنِهِ يَنْزِلُ بِدِمَشْقَ لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَيْنَ مِنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْعَصْرِ.
وَلِي عَلَى هَذَا الْجَمْعِ اسْتِشْكَالٌ ذَكَرْتُهُ فِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ ثَابِتَةٌ أَنَّ نُزُولَ عِيسَى عليه السلام مَعَ الْفَجْرِ عَلَى مَنَارَةِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيَّةِ وَيَكُونُ الْمَهْدِيُّ قَدْ جَمَعَ النَّاسَ لِقِتَالِ الدَّجَّالِ فَتَعُمُّهُمْ ضَبَابَةٌ مِنْ غَمَامٍ ثُمَّ تَنْكَشِفُ عَنْهُمْ مَعَ الصُّبْحِ فَيَرَوْنَ عِيسَى عليه السلام قَدْ نَزَلَ وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ وَالنَّاسُ يُرِيدُونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ يَتْبَعُونَ الدَّجَّالَ وَقَدْ فَرَّ، فَهَذَا كَالصَّرِيحِ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ عَلَى مَنَارَةِ دِمَشْقَ الصُّبْحَ فَكَيْفَ يُقَالُ لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنَ النَّهَارِ؟ .
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا أَحْرَمُوا بِالْفَجْرِ بَعْدُ، بَلْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عِيسَى عليه السلام إِنَّمَا يُصَلِّي وَرَاءَ الْمَهْدِيِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَا الْعَصْرِ فَأَوَّلُ صَلَاةِ عِيسَى بِالنَّاسِ الظُّهْرُ.
وَرُبَّمَا يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَأْخِيرًا لِاشْتِغَالِهِ فِي طَلَبِ الدَّجَّالِ فَالْأُولَى التَّسْلِيمُ لِمَا وَرَدَ عَلَى مَا وَرَدَ وَالْإِذْعَانُ لِلْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ فَلَا تُقَابَلُ بِالْمُعَارَضَةِ وَالرَّدِّ وَلِهَذَا قَالَ ((خَلِّ)) أَيِ اتْرُكْ وَتَنَحَّ وَتَفَرَّغْ ((عَنْ جِدَالْ)) فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ سَمْعِيٌّ أَخْبَرَ بِهِ الْمَعْصُومُ وَالْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ فَوَجَبَ اعْتِقَادُهُ وَالتَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَالْإِذْعَانُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ خَيْرُ الْعِبَادِ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ صلى الله عليه وسلم.
وَالْجَدَلُ لُغَةً اللَّدَدُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهَا يُقَالُ جَادَلَ يُجَادِلُ فَهُوَ جَدِلٌ كَكَتِفٍ وَمِجْدَلٌ كَمِنْبَرٍ وَمِجْدَالٌ كَمِحْرَابٍ، وَجَدَلْتُ الْحَبْلَ أَجْدِلُهُ جَدْلًا مِثْلَ فَتَلْتُهُ أَفْتِلُهُ فَتْلًا ; أَيْ فَتَلْتُهُ فَتْلًا مُحْكَمًا، وَالْجَدَالَةُ الْأَرْضُ يُقَالُ طَعَنَهُ فَجَدَلَهُ أَيْ رَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ حَدِيثُ " «كُنْتَ نَبِيَّنَا وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ» " وَالْجِدَالُ فِي اصْطِلَاحِ النُّظَّارِ وَالْفُقَهَاءِ فَتْلُ الْخَصْمِ عَنْ قَصْدِهِ لِطَلَبِ صِحَّةِ قَوْلِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِأَنَّ بِهِ نَتَبَيَّنُ صِحَّةَ الدَّلِيلِ مِنْ فَسَادِهِ