الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِهَا، وَتَعْرِيفُ الْخَاصَّةِ هِيَ كُلِّيَّةٌ تُقَالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ قَوْلًا عَرَضِيًّا.
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ بِهَا أَيِ الْخَاصَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِكَ الْإِنْسَانُ ضَاحِكٌ سُمِّيَ رَسْمًا نَاقِصًا، كَذَا إِنْ كَانَتِ الْخَاصَّةُ مِنْ جِنْسٍ بَعِيدٍ كَقَوْلِكَ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ ضَاحِكٌ، ((فَافْهَمِ الْمُحَاصَّةَ)) - بِضَمِّ الْمِيمِ فَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ فَأَلِفٌ فَصَادٌ مُهْمَلَةٌ مُدْغَمَةٌ فِي مِثْلِهَا فَهَاءُ تَأْنِيثٍ - أَيِ الْمُقَاسَمَةُ يُقَالُ حَصَّصَ الشَّيْءَ تَحْصِيصًا وَحَصْحَصَ: بَانَ وَظَهَرَ، وَتَحَاصُّوا وَحَاصُّوا اقْتَسَمُوا حِصَصًا كَمَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ: وَالْحِصَّةُ بِالْكَسْرِ النَّصِيبُ. وَالْمُرَادُ افْهَمْ مَا بَيْنَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ التَّامِّ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْحَقِيقِيِّ النَّاقِصِ وَلَهُ صُورَتَانِ: الْأُولَى أَنْ يَكُونَ بِفَصْلٍ قَرِيبٍ فَقَطْ كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، أَوْ بِالْفَصْلِ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ أَيْضًا، وَكَذَا افْهَمِ الرَّسْمَ الْحَقِيقِيَّ التَّامَّ وَالرَّسْمَ النَّاقِصَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْجِنْسُ كُلِّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْحَقَائِقِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ؟ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْوَاعِهِ نَحْوَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَالنَّوْعُ كُلِّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ دُونَ الْحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ؟ كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو نَحْوِهِمَا مِنْ أَفْرَادِهِ. وَالْفَصْلُ غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ فِي جَوَابِ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ؟ وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ عَمَّا يُشَارِكُهُ فِي الْجِنْسِ كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَالْحَدُّ اللَّفْظِيُّ مَا كَانَ بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ أَظْهَرُ عِنْدَ السَّائِلِ مِنَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْخِنْرِيسُ؟ فَيُقَالُ هُوَ الْخَمْرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[الإدراك بالحس وحال السفوسطائية]
((وَكُلُّ مَعْلُومٍ بِحِسٍّ وَحِجَى
…
فَنُكْرُهُ جَهْلٌ قَبِيحٌ فِي الْهِجَا))
((فَإِنْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ فَجَوْهَرُ
…
أَوْ لَا فَذَاكَ عَرَضٌ مُفْتَقِرُ))
((وَالْجِسْمُ مَا أُلِّفَ مِنْ جُزْأَيْنِ
…
فَصَاعِدًا فَاتْرُكْ حَدِيثَ الْمَيْنِ))
((وَكُلُّ مَعْلُومٍ بِحِسٍّ)) مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا آفَةَ تَعْتَرِيهَا فَإِنْكَارُهُ قَبِيحٌ جِدًّا، إِذْ هُوَ مُجَرَّدُ مُكَابَرَةٍ، قَالَ فِي شَرْحِ الْجَوَاهِرِ: وَيُنْسَبُ إِنْكَارُ الْحَوَاسِّ إِلَى بَطْلَيْمُوسَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَجَالِينُوسَ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ جَزْمَ الْعَقْلِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْحِسِّ بَلْ بِتَوَسُّطِ ضَمِيمَةٍ لَا أَنَّ حُكْمَ الْحِسِّ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ أَصْلًا وَإِلَّا يَلْزَمُ
انْتِفَاءُ عُلُومِهِمُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْحِسِّيَّةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْإِنْكَارِ بِأَنَّ الْحِسَّ كَثِيرُ الْغَلَطِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَرَى الْعِنَبَةَ فِي الْمَاءِ كَالْإِجَّاصَةِ، وَالْقَطْرَةَ النَّازِلَةَ كَالْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحِسَّ حَاكِمٌ بِبَيَاضِ الثَّلْجِ وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ شَفَّافَةٍ لَيْسَ فِي الْوَاقِعِ لَهُ بَيَاضٌ، وَأَنَّ النَّائِمَ يَجْزِمُ بِمَا رَأَى فِي نَوْمِهِ جَزْمَهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَذَا صَاحِبُ الْبِرْسَامِ وَنَحْوِهِ، فَيُمْكِنُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي رَفْعِ الثِّقَةِ، وَأَيْضًا الْأَمْثَالُ مُتَوَارِدَةٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ جَوَاهِرَ الْأَجْسَامِ عِنْدَ النَّظَّامِ أَوْ عَرَضًا كَالْأَلْوَانِ عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَالْحِسُّ حَاكِمٌ بِاسْتِمْرَارِهَا، فَيَقُومُ الِاحْتِمَالُ فِي الْكُلِّ وَلَا جَزْمَ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ. وَجَوَابُ شُبَهِهِمْ عَمَّا أَوْرَدُوهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِجَزْمِ الْعَقْلِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ بَلْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْعَقْلُ بِمُجَرَّدِ الْحِسِّ وَهُوَ غَيْرُ مَنْكُورٍ، فَالْحَاكِمُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْعَقْلُ بِتَوَسُّطِ الْحِسِّ لَا الْحِسُّ فَقَطْ، كَذَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنَّ إِنْكَارَ الْوُثُوقِ بِالْمُدْرَكِ بِالْحَوَاسِّ مُكَابَرَةٌ، ((وَ)) كَذَا مَا يُدْرَكُ بِ ((حِجَى)) كَإِلَى هُوَ الْعَقْلُ ((فَنُكْرُهُ)) أَيْ إِنْكَارُهُ وَرَدُّهُ بِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ ((جَهْلٌ قَبِيحٌ)) مُتَنَاهٍ فِي الْقُبْحِ، ((فِي الْهِجَا)) أَيْ فِي الشَّكْلِ وَالْمِثْلِ يُقَالُ هَذَا عَلَى هِجَا هَذَا أَيْ عَلَى شَكْلِهِ أَيْ قَبِيحٌ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَمَرْدُودٌ عِنْدَ ذَوِي الْهِجَا الْمُجِيدِينَ فِي التَّبَحُّرِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ يُقَالُ: هَجِيَ النَّبْتُ كَرَضِيَ هِجًى انْكَشَفَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ حَمْدَانَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: كُلُّ مُؤَدٍّ إِلَى حَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ تُعْلَمُ عَقْلًا أَوْ حِسًّا فَإِنْكَارُهُ سَفْسَطَةٌ. انْتَهَى.
وَالسُّوفُسْطَائِيَّةُ أَنْكَرُوا كُلًّا مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ الْجَزْمِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَأَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ جَزْمَهُمْ بِالشَّكِّ فَالْتَزَمُوا عَدَمَ الْجَزْمِ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالُوا: نَحْنُ شَاكُّونَ وَشَاكُّونَ فِي أَنَّا شَاكُّونَ، وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُ فِرَقٍ عِنْدِيَّةٌ وَعِنَادِيَّةٌ وَلَا أَدْرِيَّةٌ، فَالْعِنْدِيَّةُ قَالَتْ مَذْهَبُ قَوْمٍ حَقٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِمْ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُومِهِمْ وَلَا حَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْعِنَادِيَّةُ: مَا مِنْ قَضِيَّةٍ بَدِيهِيَّةً كَانَتْ أَوْ نَظَرِيَّةً إِلَّا وَلَهَا مُعَارِضٌ يُسَاوِيهَا فِي الْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ، وَأَمَّا اللَّا أَدْرِيَّةُ وَهُمْ أَمْثَلُهُمْ فَقَالُوا: نَحْنُ شَاكُّونَ وَشَاكُّونَ فِي أَنَا شَاكُّونَ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ دَلِيلَ كُلٍّ مِنْ مُنْكِرِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ دَالٌّ عَلَى انْتِفَائِهِمَا وَالنَّظَرُ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِمَا مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِمَا
وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْجَزْمِ غَيْرُ الْحِسِّ وَالْبَدِيهِيَّةِ وَالنَّظَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْجَزْمِ تُحَقِّقٌ أَصْلًا. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَاظَرَةِ مَعَهُمْ فَائِدَةٌ، لِأَنَّهَا لِإِفَادَةِ الْمَجْهُولِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَعْلُومٌ فَتُنْجِزُ الْمُنَاظَرَةُ إِلَى الْتِزَامِ مَذْهَبِهِمْ، وَلِذَا مَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهَا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ مَيَّزْتُمْ بَيْنَ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بَيْنَ مَذْهَبِكُمْ وَمَا يُنَاقِضُهُ؟ فَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الْإِصْرَارَ أُوجِعُوا ضَرْبًا وَعُذِّبُوا بِالنَّارِ لِيَعْتَرِفُوا أَوْ يَهْلَكُوا.
وَسُوفُسْطَا اسْمٌ لِلْحِكْمَةِ الْمُمَوَّهَةِ وَالْعِلْمِ الْمُزَخْرَفِ، لِأَنَّ سُوفَا مَعْنَاهُ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ، وَاسْطَا مَعْنَاهُ الْمُزَخْرَفُ وَالْغَلَطُ، وَمِنْهُ اشْتُقَّتِ السَّفْسَطَةُ، كَمَا اشْتُقَّتِ الْفَلْسَفَةُ مِنْ فَيْلَاسُوفَ أَيْ مُحِبِّ الْحِكْمَةِ.
(تَنْبِيهَانِ)
(الْأَوَّلُ) اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ كَسْبِيٌّ، فَالضَّرُورِيُّ مَا يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يَجِدُ إِلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ سَبِيلًا كَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنَ الْجُزْءِ وَأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ الْبَدِيهِيَّ أَخَصُّ مِنَ الضَّرُورِيِّ، لِأَنَّ الْبَدِيهِيَّ هُوَ مَا يُثْبِتُهُ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِيَاجُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْعَقْلِ كَوِجْدَانٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْكَسْبِيُّ فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلضَّرُورِيِّ وَهُوَ النَّظَرِيُّ وَالِاسْتِدْلَالِيُّ، وَهُوَ مَا يَتَضَمَّنُهُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ، وَعَرَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِمَا يَحْصُلُ بِالذَّاتِ عَقِيبَ النَّظَرِ، وَفِي مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ وَشَرْحِهِ: الدَّالُّ النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ لُغَةً الْمُرْشِدُ، وَشَرْعًا مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالظَّنَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْأُصُولِيِّينَ، وَقِيلَ إِنَّ مَا أَفَادَ الْقَطْعَ سُمِّيَ دَلِيلًا وَمَا أَفَادَ الظَّنَّ يُسَمَّى أَمَارَةً.
وَقَالَ: وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ الْمُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ عَقِبَهُ عَادَةً، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَفِيضَ عَلَى نَفْسِ الْمُسْتَدِلِّ بَعْدَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مَادَّةُ مَطْلُوبِهِ وَصُورَةُ مَطْلُوبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَقِيلَ: يَحْصُلُ عَقِبَ النَّظَرِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْإِدْرَاكَ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ بِلَا حُكْمٍ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتِ تَصَوُّرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ سِوَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، وَتُصَوَّرُ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ تَصْدِيقٌ، فَالتَّصَوُّرُ
إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ مُجَرَّدٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّصْدِيقُ نِسْبَةٌ حُكْمِيَّةٌ بَيْنَ الْحَقَائِقِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالضَّرُورَةِ، وَالْكَسْبُ هُوَ صِفَةٌ يُمَيِّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا بَيْنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ تَمْيِيزًا جَازِمًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ كَالْمَعْلُومِ، وَكَمَا يَتَفَاوَتُ الْإِيمَانُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الصَّوَابُ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ تَقْبَلُ التَّزَايُدَ. وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ فِي الْإِيمَانِ هَلْ تَقْبَلُ التَّزَايُدَ وَالنَّقْصَ؟ رِوَايَتَانِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِمْكَانُ الزِّيَادَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ وُجُوبُ اعْتِقَادِ قَبُولِ الْإِيمَانِ لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالْقُرْآنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ لُغَةً وَعُرْفًا عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا) مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ كَمَا تَقَدَّمَ، (الثَّانِي) يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ سَوَاءٌ كَانَ جَازِمًا أَوْ مَعَ احْتِمَالِ رَاجِحٍ أَوْ مَرْجُوحٍ أَوْ مُسَاوٍ، (الثَّالِثُ) أَنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا، (الرَّابِعُ) يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] أَيْ عَلِمُوا، وَقَدْ يُطْلَقُ الظَّنُّ وَيُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أَيْ يَعْلَمُونَ، وَالْمَعْرِفَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ أَوِ انْكِشَافٌ مِنْ بَعْدِ لَبْسٍ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، لِشُمُولِهِ غَيْرَ الْمُسْتَحْدَثِ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَحْدَثَ وَهُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا يَقِينٌ وَظَنٌّ أَعَمُّ مِنَ الْعِلْمِ، لِاخْتِصَاصِهِ حَقِيقَةً بِالْيَقِينِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَخْلُو أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوَّلًا ((فَإِنْ يَقُمْ)) ذَلِكَ الشَّيْءُ ((بِنَفْسِهِ)) أَيْ بِذَاتِهِ، وَمَعْنَى قِيَامِهِ بِذَاتِهِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يَتَحَيَّزَ بِنَفْسِهِ غَيْرُ تَابِعٍ تَحَيُّزُهُ لِتَحَيُّزِ شَيْءٍ آخَرَ، وَعِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ مَعْنَى قِيَامِ الشَّيْءِ بِذَاتِهِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ مَحَلٍّ يَقُومُهُ، فَلَا يَخْلُو الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا وَهُوَ الْجِسْمُ كَمَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ مُرَكَّبٍ فَإِنْ قَامَ بِنَفْسِهِ وَكَانَ غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ جُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا ((فَ)) هُوَ
((جَوْهَرٌ)) ، وَالْجَوْهَرُ هُوَ الْعَيْنُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ لَا فِعْلًا وَلَا وَهْمًا وَلَا فَرْضًا وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَعِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ لَا وُجُودَ لِلْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، أَعْنِي الْجُزْءَ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ.
وَزَعَمُوا أَنْ تَرَكُّبَ الْجِسْمِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ، وَأَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ كُرَةً حَقِيقَةً عَلَى سَطْحٍ حَقِيقِيٍّ لَمْ تُمَاسُّهُ إِلَّا بِجُزْءٍ غَيْرِ مُنْقَسِمٍ إِذْ لَوْ مَاسَّتْهُ بِجُزْأَيْنِ لَكَانَ فِيهَا خَطٌّ بِالْفِعْلِ فَلَمْ تَكُنْ كُرَةً حَقِيقِيَّةً. وَأَشْهَرُهَا عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُتَكَلِّمَةِ وَجْهَانِ:(الْأَوَّلُ) أَنْ لَوْ كَانَ كُلُّ عَيْنٍ مُنْقَسِمًا لَا إِلَى نِهَايَةٍ لَمْ تَكُنِ الْخَرْدَلَةُ أَصْغَرَ مِنَ الْجَبَلِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَنَاهِي الْأَجْزَاءِ وَالْعِظَمُ وَالصِّغَرُ إِنَّمَا هُوَ بِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ وَقِلَّتِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُتَنَاهِي، (الثَّانِي) قَالُوا: إِنَّ اجْتِمَاعَ الْجِسْمِ لَيْسَ لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا قَبِلَ الِافْتِرَاقَ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِيهِ الِافْتِرَاقَ إِلَى الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ إِنْ أَمْكَنَ افْتِرَاقُهُ لَزِمَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْعَجْزِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَبَتَ الْمُدَّعَى الَّذِي هُوَ وُجُودُ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَلِضَعْفِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ لَمْ يُثْبِتْهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ -، وَإِنْ كَانَ فِي إِثْبَاتِهِ نَجَاةٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْفَلَاسِفَةِ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ الْمُؤَدِّي إِلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَامْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ، مِمَّا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
((أَوْ لَا)) يَقُومُ بِنَفَسِهِ ((فَذَاكَ)) الَّذِي لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ أَوْ مُخْتَصًّا بِهِ اخْتِصَاصَ النَّاعِتِ بِالْمَنْعُوتِ، فَهُوَ ((عَرْضٌ مُفْتَقِرٌ)) إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُهُ، فَوُجُودُ الْعَرَضِ فِي الْمَوْضُوعِ هُوَ أَنَّ وُجُودَهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وُجُودُهُ فِي الْمَوْضُوعِ فَيَمْتَنِعُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ، فَالْعَرَضُ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ وَيَحْمِلُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْجُودُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ بِهِ لَا كَجُزْءٍ مِنْهُ وَلَا يَصِحُّ قِوَامُهُ دُونَ مَا هُوَ مِنْهُ، وَقِيلَ: مَا يَطْرَأُ عَلَى جَوْهَرٍ مِنْ كَوْنٍ وَلَوْنٍ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِدُونِ الْمَحَلِّ كَمَا قَدْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، نَعَمْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَعْرَاضِ كَالْأُبُوَّةِ مَثَلًا.
((وَالْجِسْمُ مَا)) أَيْ شَيْءٌ أَوِ الَّذِي ((أُلِّفَ)) أَيْ رُكِّبَ ((مِنْ جُزْأَيْنِ