المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك(إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك) - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - جـ ٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك(إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك)

- ‌رسالةفي دحض شبهات على التوحيدمن سوء الفهم لثلاثة أحاديث

- ‌(رسالة)معنى قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"، ومحاجة آدم لموسى عليهما السلام

- ‌الطلاق على عوض

- ‌(نصيحة في التمسك بالتوحيد، والأمر بإنكار المنكر)

- ‌فتاوى في الاستشفاع والاستغاثة وغيرها

- ‌معنى كلمة التوحيدوحكم من قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله

- ‌[معنى كلمة التوحيد وما تنفي وما تثبت]

- ‌فتاوى فقهية ومسائل(في تصرف وصي الصبي في ماله، وفي الطلاق، وأيهما يقدم من مال الميت: سداد الدين أو الحج عنه

- ‌{رسالة في هبة ثواب الأعمال إلى الميت هل يجوز أم لا

- ‌رسالةفي حكم من يكفِّر غيره من المسلمينوالكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل(فلا يحكم عليه به إلا بعد أن تقوم عليه الحجة)والذي لا يعذر

- ‌فائدة عظيمةمن كلام مفتي الديار النجدية عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -قدس الله سره-(في موضوع التكفير المتقدم عنه)

- ‌رسالة أخرىفي سكوت أكثر الناس عن المنكرات{وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها

- ‌رسالة له أخرى(في الرد على من احتج على جواز الشرك والضلال بعمل الناس وكثرة السواد)

- ‌أسئلة عن أحاديث غير صحيحة وأجوبتها

- ‌[قول بعضهم: الجمعة خلف غير المتزوج لا تصح. وإتمام التراويح 20 ركعة]

- ‌(الكلام على إعادة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال)

- ‌{المسائل الحفظية}نصيحة في تعلم التوحيدوالطريق إليه(وبيان ما يجب على أهل القرى من حق الضيف، وحق الإمام في زكاة النقدين، والعمل بظاهر الأحاديث)

- ‌[رسائل للشيخ عبد الرحمن بن حسن]

- ‌(وجوب جهاد أهل الفساد ودفع فسادهم في الدين)

- ‌(الآيات في التوحيد الذي دعت إليه كل الأنبياء)

- ‌أقوال العلماء في الاشتغال بفن المنطق

- ‌رسالة أدبية، سياسية صوفيةفيها الإشارة إلى ما حدث للمسلمين من العقاب بذنوبهم(وما يجب عليهم في هذا المشهد من التوبة عن السيئات، وما فوقه من مشهد الأسماء والصفات)

- ‌وجوب صلاة الجمعة على أهل القرىوالعدد الذي تنعقد به جماعتها

- ‌وصية بالتقوى(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

- ‌رسالة{في بيان فضل من يحيي السنة ويهدم الشرك والبدعة}

- ‌{الإشارة إلى إيواء أهل عنيزة لبعض الخارجين وأخذ العهود عليهم في الامتناع منه}

- ‌(عموم المصاب بقسوة القلوب وانصراف الخلق عن العبادة وغربة الإسلام)

- ‌{حكم العمل بالخط المعروف في الوصية وغيرها}

- ‌(فتوى في حق الضيف على أهل القرى والبادية)

- ‌المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية

- ‌فتاوى ومسائل فقهية مختلفة{لبعض علماء نجد

- ‌أجوبة مسائل سئل عنها الشيخ سليمان بن علي وغيره

- ‌(مسألة في أن على مؤجر الأرض قيمة حفر البئر إذا كان فيها دفين أو غيره)(للشيخ عبد الله بن عضيب)

- ‌مسألة في حق النخلة في الماء المجاور لها

- ‌[مسألتان: دعوى أن الميت أقر له بنخلتين من ثلاث وجهل عين أحدهما، ورجوع المقر عن إقراره]

- ‌النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين

- ‌رسالة فيما يدلي به العاصب من الورثة وما لا يدلي

- ‌{رسالة فيما يلحق بالنقدين في الزكاة وما لا يلحق فيها مما يتعامل الناس به}من حسن بن حسين

- ‌تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهاتلبعض علماء نجد

- ‌رسالةفيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم

- ‌الرد على المدعو عبد المحمود البخاري{فيما موّه به من أقوال الاتحادية والمشركين}

- ‌رسالةفي العهد والأمانهل يشترط في احترامهما أن يكون من يعقدهما مؤمنًا عدلًا أم لا؟ وفي العهد والأمان الذي يكون من البدو والأعراب لبعضهم ولغيرهم

- ‌مسائل وفتاوىفي الطلاق والخلع والشهادات والعينة وشروط الصلاة وغيرهالأحد علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى فقهيةلبعض علماء نجد

- ‌مسائل وفتاوى أخرىلبعض علماء نجد*

- ‌مسائل وفتاوىفي القراءة في الصلاة والطهارة والوضوء والتيمم والطلاق والعدة وعورة الأمة والكلام عند الأذان وتلاوة القرآن وغير ذلكلأحد علماء نجد

- ‌ مسائل سئل عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌مسائل وفتاوىفي الطلاق والعدة والإجارة والثمار والعاقلة، والتيمم لنجاسة الثوب والبدن، والحدود والنكاح والإقرار وغير ذلكللعلامة الشيخ سعيد بن حجي

- ‌الكَلامُ المُنْتَقى مما يتعلّق بكلمَة التقوى

- ‌حكم التزام مذهب معين(والانتقال من مذهب إلى آخر)

الفصل: ‌تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك(إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك)

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تشديد الشيخ ابن تيمية وتلميذه في أمر الشرك

(إنما هو اتباع لما جاء عن الله ورسوله في ذلك)

من عبد الله بن عبد الرحمن -أبا بطين-، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته. آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله إلى الخير، وصرف عنا وعنكم كل ضير، وذكرت في خطك أشياء ينبغي تنبيهك عليها.

"منها": قولكم: "إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه" فالله -سبحانه- هو الذي شدد في ذلك، لقوله -سبحانه-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال على لسان المسيح لبني إسرائيل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية، وقال الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه-:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5.

وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير عن الشرك والتشديد فيه ما لا يحصى. وغالب الأحاديث التي يذكر فيها صلى الله عليه وسلم الكبائر يبدأها بالشرك. ولما سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك"6.

1 سورة النساء آية: 48.

2 سورة المائدة آية: 72.

3 سورة الزمر آية: 65.

4 سورة الأنعام آية: 88.

5 سورة التوبة آية: 5.

6 البخاري: تفسير القرآن "4477"، ومسلم: الإيمان "86"، والترمذي: تفسير القرآن "3182 ،3183"، والنسائي: تحريم الدم "4013 ،4014 ،4015"، وأبو داود: الطلاق "2310" ، وأحمد "1/ 380 ،1/ 431 ،1/ 434 ،1/ 462 ،1/ 464".

ص: 466

إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم.

والشيخ تقي الدين وتلميذه إنما بالغا في بيان الشرك، وإيضاحه لما شاهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام؛ وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ:

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيم إذ عصت مضر

وأظهر الحق إذ آثاره اندرست

وأخمد الكفر إذ طارت له شرر

[الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر]

وقولك: إن هذه الأمور المحدثة منها ما هو شرك أكبر، ومنها وما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر المُخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر.

من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة، كالتوجه إلى الموتى، والغائبين بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، كذلك الذبح، والنذر لغير الله.

كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر؛ فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم من العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى.

ومن كلام الشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال بعد كلام:"وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه؛ فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار"، إلى أن قال: "قال -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 1 إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 2.

1 سورة الإسراء آية: 56.

2 سورة الإسراء آية: 57.

ص: 467

قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه"، -إلى أن قال رحمه الله:

"فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين"، إلى أن قال:

وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى

فإن هذا دين المشركين، عباد الأوثان الذين كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله. وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى"،* إلى أن قال:

"وأما الشفاعة التي نفاها القرآن -كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة- فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين والغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك، والله -سبحانه- قد نزه نفسه عن ذلك".** انتهى ملخصًا.

* من بداية النقل عن شيخ الإسلام إلى هنا من "الواسطة بين الحق والخلق" ص 20 - 39، ومجموع الفتاوى 1/ 123 - 135. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

** هذ النقل في مجموع الفتاوى 24/ 342. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 468

فهذا الذي ذكر الشيخ رحمه الله إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز، بل زعم أن الله أمر به؛ وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1.

وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب بطلب الحاجات، وتفريج الكربات من الأموات والغائبين.

وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات والغائبين والتقرب إليهم بالنذور والذبائح ليس بشرك، بل هو مباح. ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك وأحبه. لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم أن الله أمر عباده المؤمنين أن يقصدوا قبور الأموات، ويسألونهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء، والكذب على الله!

فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية لكان كافرًا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به، وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة!

وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها. وذكر رحمه الله عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا*.

وذكر رحمه الله في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها الغلو الذي

1 سورة المائدة آية: 35.

* انظر "الرد على البكري" 2/ 731. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 469

ذمه الله

كالغلو في بعض المشايخ، مثل الشيخ عدي 1، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر.

والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها ترزق وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم يقولون:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} ، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة.* وكلامه رحمه الله في هذا الباب كثير.

وكذلك ابن القيم بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبيّن بطلانه، كقوله في شرح المنازل: ومنه -أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا، ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله أن يشفع له. انتهى.

وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم هو الذي يزعم داود البغدادي أن الله أمر به، تعالى الله عما يقول المفترون علوًّا كبيرًا.

[وجوب هدم مواضع الشرك والطاغوت]

وقال ابن القيم في الهدي -في فوائد غزوة الطائف- ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها البتة. قال: وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار

1 لعله الشيخ عدي بن مسافر الذي تؤلهه فرقة اليزيدية بالعراق، والذين يقال عنهم: إنهم يعبدون الشيطان.

* مجموع الفتاوى 3/ 383، 395. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 470

التي تقصد بالتعظيم، والتبرك، والنذر، والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها. وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان.

ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. انتهى.

[عبادة القبور واتخاذها أوثانا]

فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"1.

فهذا الحديث يبين أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟

وقوله رحمه الله: كثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. صدق رحمه الله لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد كما هو مستفيض عند الخاصة

1 أحمد "2/ 246".

ص: 471

والعامة، وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون عند الشدائد الدعاء له سبحانه وتعالى وينسون آلهتهم. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة كما قال -سبحانه-:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} 2، وقال:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} 4.

فهذا إخباره -سبحانه- عن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد. وغالب مشركي أهل هذا الزمان بعكس ذلك.

[لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه]

وقول ابن القيم رحمه الله: غلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله: ظهور الجهل وقلة العلم. فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث:"لا يأتي زمان، إلا والذي بعده شر منه"5 قال ابن مسعود: "لا أقول زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات، ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير، كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي، فيلزمه إن قصد المشركين الأولين لآلهتهم كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل إذ طلب الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور والذبائح، إن هذا ليس بشرك إذا لم يسجدوا لها. فيا سبحان الله!! كيف يبلغ الجهل بمن ينسب إلى علم إلى هذه الفضيحة!

[البدع التي يعذر فاعلها بالجهل والتأول ما لم تكن شركا بينا]

وقال ابن القيم رحمه الله: رأيت لأبي الوفاء ابن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.

1 سورة العنكبوت آية: 65.

2 سورة الإسراء آية: 67.

3 سورة الأنعام آية: 40، 41.

4 سورة الزمر آية: 8.

5 البخاري: الفتن "7068" ، وأحمد "3/ 132 ،3/ 177 ،3/ 179".

ص: 472

قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها 1 وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى.

وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام، أو نائبه، فيصر، وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك: فهذه الجملة التي حكيت عنهما لا أصل لها في كلامهما.

وأظن اعتمادك في هذا على ورقة كتبها داود، نقل فيها نحو هذه العبارة من اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بها، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك -كما تزعم هذه الطائفة- فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه.

فلما بلغني هذا عنه أرسلت إليه، وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه، وبينت له أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: "وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع.

وعامة العبادات المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة. ثم العامل قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا، فيغفر له خطأه، ويثاب على ما فعله من المشروع المقرون بغير المشروع".* فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا.

1 تخليقها: تطييبها بالحلوق، ومثله كل عطر وطيب.

* "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 290. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 473

وأما الشرك فقد قال رحمه الله: "إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر"*؛ نقل عنه ذلك تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك -والله أعلم- لعموم قوله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 مع أن الشيخ رحمه الله لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال: قد يكون.

وقد قال رحمه الله في شرح العمدة، لما تكلم في كفر تارك الصلاة فقال:"وفي الحقيقة فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرًا يسيرًا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر"، يعني فإنه لا يقال: قد يعفى عنه.**

وقال رحمه الله في أثناء كلام له في ذم أصحاب الكلام، قال: "والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك، والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق

وتوجد الردة فيهم كثيرًا كالنفاق

وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلمها العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا، والميسر، ونحو ذلك".

وقولك: إن الشيخ يقول: إن من فعل شيئًا من هذه الأمور الشركية لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية. فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره وإنما قد يقال.

* المستدرك على مجموع الفتاوى 3/ 193، وانظر "الرد على البكري" 1/ 301. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

1 سورة النساء آية: 48.

** لم أجده في المطبوع من كتاب "شرح العمدة" ولا غيره من كتب شيخ الإسلام. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

مجموع الفتاوى 4/ 28، 18/ 54. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 474

وقوله: "قد يقع ذلك في طوائف منهم يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا بعث بها وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام"*. يعني: فهذا لا يمكن أن يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة غيره هو ما نحن فيه، قال -تعالى-:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.

وقوله رحمه الله: "بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك". حكي لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلون عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه.

[من جعل شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله]

وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الأصول الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال -تعالى-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 2: أي يعبدوني وحدي، وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال -تعالى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 والطاغوت اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 7، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 8.

فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، قال الله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 9؛ فمن زعم أن الله -سبحانه- يغفره فقد رد خبر الله -سبحانه-.

* تقدم هذا النقل وتوثيقه في الصفحة الفائتة 4/ 474. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

1 سورة النساء آية: 165.

2 سورة الذاريات آية: 56.

3 سورة النحل آية: 36.

4 سورة الأنبياء آية: 25.

5 سورة الأعراف آية: 59.

6 سورة الأعراف آية: 65.

7 سورة الأعراف آية: 73.

8 سورة الأعراف آية: 85.

9 سورة النساء آية: 48.

ص: 475

وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله؛ فكل قول، وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة. فكل ما أمر به شرعا أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة. فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء التي من جعل منها لغير الله شيئا فهو كافر مشرك.

[الجهل بحقيقة التوحيد وأصول الدين ليس عذرا لأحد]

ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم أنه لم يوقعهم فيما وقعوا إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟

يوضح ما ذكرنا أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه "باب حكم المرتد"؛ وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا: إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"1، ولو كان الجاهل أو المقلد غير محكوم بردته إذا فعل الشرك لم يغفلوه، وهذا ظاهر.

وقد وصف الله -سبحانه- أهل النار بالجهل كقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، وقال:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 4، وقال -تعالى-:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون} 5، قال ابن جرير، عند تفسير هذه الآية: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور.

ومن المعلوم أن أهل البدع، الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة،

1 البخاري: تفسير القرآن "4477"، ومسلم: الإيمان "86"، والترمذي: تفسير القرآن "3182 ،3183"، والنسائي: تحريم الدم "4013 ،4014 ،4015"، وأبو داود: الطلاق "2310" ، وأحمد "1/ 380 ،1/ 431 ،1/ 434 ،1/ 462 ،1/ 464".

2 سورة الملك آية: 10.

3 سورة الأعراف آية: 179.

4 سورة الكهف آية: 103، 104.

5 سورة الأعراف آية: 30.

ص: 476

وفيهم زهد ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل، والذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار هل آفتهم إلا الجهل؟

[من كفر جاهلا أو مقلدا غير معذور]

ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل. قال -تعالى-:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وقد قال الله -سبحانه- عن النصارى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ما عبدناهم. قال: "أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى قال: فتلك عبادتهم" فذمهم الله -سبحانه-، وسماهم مشركين مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل.

ولو قال إنسان عن الرافضة في هذه الأزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليه الخاص والعام.

وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله إجماع المسلمين على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله -سبحانه- في كتابه من تعظيم أمر الشرك بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه، وهو يعرف أنه شرك، هذا ما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه مَن جهل أنه شرك.

وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور. نقله عنه ابن القيم مستحسنا له.

والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، وقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله عن المقلدين من أهل النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

1 سورة الجاثية آية: 32.

2 سورة التوبة آية: 31.

ص: 477

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال -سبحانه- حاكيا عن الكفار قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2، وفي الآية الأخرى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3.

[الواجب على كل مسلم قبول الحق من كل مَن بينه بالحجة]

واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة وأصول الدين، وأن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة وسائر أصول الدين لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة، ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء.

وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما شركا فما دونه بجهل، وبيّن له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبيّن له دليله من الكتاب والسنة أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه. وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، وما فطنت لعيبه، وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله كالمرتد في بلاد الإسلام.

وأظن هذه العبارة مأخوذة من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: إنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها، والدعاء إلى فعل شيء غير بيان الحجة على خطئه، أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع. فالعالم مثلا يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام، أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه.

وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك ظاهرة في الشام والعراق والحجاز، ولم تسمع منكرا. فمن رزقه الله بصيرة بدينه ما راج عليه

1 سورة الأحزاب آية: 67.

2 سورة الزخرف آية: 22.

3 سورة الزخرف آية: 23.

ص: 478

ذلك، والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف.

قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أترى أننا نظن إنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقد سبق كلام ابن القيم في وصفه أهل زمانه:

[من له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف]

وقوله: "غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء"؛ هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟ لأنه "لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه" بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، مع قوله:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"1، مع أننا قد سمعنا وبلغنا عن كثير من علماء الزمان إنكار هذه الأمور المبتدعة الشركية. سمعنا من ناس في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك؛ لأن عمارة هذه المشاهد الشركية أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك وزينه لهم علماء السوء، بسبب ذلك استحكم الشر وتزايد، والشر في زيادة والخير في نقصان.

وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها". فما أصدق قول عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدين إلا الملو

ك وأحبار سوء ورهبانها

1 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/ 84 ،3/ 89 ،3/ 94".

ص: 479

ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة: أن أكثر أهل هذه الأمصار التي ذكرت مخالفون للصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، خصوصًا الإمام أحمد، ومن وافقه في صفات الرب تبارك وتعالى، يتأولون أكثر الصفات بتحريف الكلم عن مواضعه، من ذلك قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق. وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير، وكثير منهم صرح بكفرهم، وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا الإمام أحمد رحمه الله وأفاضل أصحابه بعده. وأكثر هذه الأمصار اليوم على خلاف ما عليه السلف والأئمة، ومن له بصيرة بالحق لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار -بسبب ذلك- المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟

نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

{انتهت الرسالة}

طبعت عن نسخة كتب في آخرها ما نصه:

بقلم الفقير إلى الله عبد الله الرشيد الفرج، من خط المصنف رحمه الله سنة 1345.

ص: 480