الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية
جواب مسألة سئل فيها الشيخ عبد العزيز "قاضي الدرعية" ومن حوله من العلماء* المسماة "المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية".
فوصل الجواب، واختصر ألفاظ السؤال في كل باب، بل حُذف كثير من ذلك الخطاب، لكن بيت القصيد قد ضمن في الجواب السديد. وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم.
نص الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه التوفيق، وبيده أزِمَّة الهداية والتحقيق.
[الشرك الأكبر الذي يحل الدم والمال]
"أما المسألة الأولى" وهي السؤال الأول عن الشرك بالله، ما هو الأكبر الذي ذم فاعله؟ وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟
فنقول: قد ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر أن يجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور كما يتوكل على الله.
والحاصل أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته ومعاملته، فقد أشرك بالله، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، كما دل على ذلك قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 1 إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2.
وقال تعالى عن أهل النار: {تاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 قال بعض المفسرين: والله ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير،
* في "الدرر السنية"(1/ 196): (وسئل أيضا أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
1 سورة البقرة آية: 165.
2 سورة البقرة آية: 167.
3 سورة الشعراء آية:97، 98.
ولكن سووهم به في المحبة والإجلال والتعظيم. وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 أي يعدلون به في العبادة.
ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر؛ لأن هذا كفر عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2 ثم شهد الله عليهم بالكذب والكفر فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3 فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء يزعم أنهم يقربونه إلى الله. وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4.
وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة لهم حيث لم يتخذوا من دونه شفعاء، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد الذي حقق قول: لا إله إلا الله.
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له لمن وحَّده، والشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون.
فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال: "لا إله إلا الله" خالصا من قلبه"5 فجعل أعظم الأسباب التي تنال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله. فأكذب النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه.
ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ من دون الله شفيعا أنه يشفع له، وينفعه
1 سورة الأنعام آية: 1.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة الزمر آية: 3.
4 سورة يونس آية: 18.
5 البخاري: العلم "99" ، وأحمد "2/ 373".
كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1 وبقي فصل ثالث وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعن هاتين الكلمتين يسئل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسئل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها:
"فالأول" أنه لا شفاعة إلا بإذنه. "والثاني" أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. "والثالث" أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله.
وقد قطع سبحانه وتعالى الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2 فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا فيمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده.
فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشرك والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية برهانا ونورا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، {ولكن أكثر الناس لا
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2 سورة سبأ آية: 22، 23.
يشعرون} بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن.
ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". والشرك وما عابه الله وذمه فإنه يقع فيه ويقره، ويدعو إليه ويصوبه ويحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه. فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُبَدَّع الرجل لتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أهل الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا. والله المستعان.
والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها يعرف به -كل من نور الله قلبه- حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله.
ولكن من أعظم أنواعه، وأكثرها وقوعا في هذه الأزمان طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والرحيل إليهم. وهذا أصل شرك العالم كما ذكره المفسرون عند قوله -تعالى- حكاية عن قوم نوح:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1 إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه في تفسير سورة نوح عليه السلام، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[الشرك الأصغر]
وأما الشرك الأصغر فَكَيَسِير الرياء والحلف بغير الله كما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم
1 سورة نوح آية: 23.
أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"1 ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده"2 وهذه اللفظة أحق من غيرها من الألفاظ، وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه عند العلماء أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر.
[وجوب التوبة من كبير الشرك وصغيره]
واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة واستكملت شروطها، لكن ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه قال: لا تقبل توبة القاتل. وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنهما أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب. فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل. واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3 وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} 4 فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا، فإن الله عزوجل غفار له.
فصل
[في مراتب الدين]
وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان وحقيقتان ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، ويتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد عن دائرة الإسلام لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟
فاعلم -رحمك الله تعالى- أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب:
1 الترمذي: النذور والأيمان "1535"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3251" ، وأحمد "2/ 34 ،2/ 69 ،2/ 86 ،2/ 125".
2 أحمد "1/ 283".
3 سورة الزمر آية: 53.
4 سورة طه آية: 82.
"المرتبة الأولى" مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام ويذعن وينقاد له.
"المرتبة الثانية" مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى؛ لأن الله تعالى نفى عمن ادعوها الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 فأنكر -سبحانه- عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك.
وفي الحديث الصحيح -حديث سعد- لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا 2 فقال: "أو مسلما"3.
"المرتبة الثالثة" الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل عليه السلام هذه المراتب كلها لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"4.
فقد ينفى عن الرجل الإحسان ويثبت له الإيمان، وينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، كما في قوله عليه السلام:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"5 ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة.
وأما المعاصي والكبائر كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك فلا تخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليد فاعلها في النار.
1 سورة الحجرات آية: 14، 15.
2 أي ما لك تعرض أو تعدل عن فلان فلا تعطيه؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" إضراب يتضمن النهي عن وصفه بالإيمان، وأن يصفه بالإسلام الذي يصدق مهما يكن باطن الرجل. والحديث في الصحيحين.
3 البخاري: الإيمان "27"، ومسلم: الإيمان "150"، والنسائي: الإيمان وشرائعه "4993"، وأبو داود: السنة "4683 ،4685" ، وأحمد "1/ 176 ،1/ 182".
4 مسلم: الإيمان "8"، والترمذي: الإيمان "2610"، والنسائي: الإيمان وشرائعه "4990"، وأبو داود: السنة "4695"، وابن ماجه: المقدمة "63" ، وأحمد "1/ 27 ،1/ 28 ،1/ 51".
5 البخاري: المظالم والغصب "2475"، ومسلم: الإيمان "57"، والترمذي: الإيمان "2625"، والنسائي: قطع السارق "4870 ،4871 ،4872" والأشربة "5659 ،5660"، وأبو داود: السنة "4689"، وابن ماجه: الفتن "3936" ، وأحمد "2/ 243 ،2/ 317 ،2/ 386"، والدارمي: الأشربة "2106".
واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين.
فمن ذلك ما رواه محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا وهب بن جرير بن حازم: حدثنا أبي عن الفضل عن أبي جعفر محمد بن علي أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"1.
فقال أبو جعفر: هذا الإسلام ودونه دائرة واسعة، وهذا الإيمان ودونه دائرة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلى الكفر بالله. انتهى.
قال: وإن الله تعالى جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية، ومدحه، وأوجب عليه الجنة فقال:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 2 وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 4 وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 5 وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 6 الآية. قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن أتى بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام باق على حاله، واسم الإيمان زائل عنه.
[الكفر ضد أصول الإيمان]
فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟
"فالجواب" أن الكفر ضد أصل الإيمان؛ لأن الإيمان له أصول وفروع، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر.
فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنهم اسم الإيمان، هل بقي معهم من الإيمان شيء؟
قيل: نعم أصله ثابت، ولولا ذلك لكفَّرهم.
1 البخاري: المظالم والغصب "2475"، ومسلم: الإيمان "57"، والترمذي: الإيمان "2625"، والنسائي: قطع السارق "4870 ،4871 ،4872" والأشربة "5659 ،5660"، وأبو داود: السنة "4689"، وابن ماجه: الفتن "3936" ، وأحمد "2/ 243 ،2/ 317 ،2/ 386"، والدارمي: الأشربة "2106".
2 سورة الأحزاب آية: 43، 44.
3 سورة يونس آية: 2.
4 سورة الحديد آية: 12.
5 سورة البقرة آية: 257.
6 سورة التوبة آية: 72.
فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟
"قلنا": لأن الله ورسوله وجماهير المسلمين يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه فهو في جميع ذلك يتقي 1.
وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع نفاه الله يزيد فيه
…
2
من دعاء بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه تقيا ولا ورعا مع إتيانه ببعض الكبائر، بليسمونه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد نفى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليهم المغفرة والجنة. قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا، ونسميه فاسقا وزانيا، وإن كان في قلبه أصل الإيمان؛ لأن اسم الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة. ثم قال: مسلم ولم يقل ومن قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام لكان أحق الناس به أهل النار الذين يخرجون منها؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان.
ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة؛ ثبت أنهم مسلمون يجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين.
1 الكلام هنا غير منسق. فلعله سقط منه شيء.
2 بياض في الأصل.
3 البخاري: الإيمان "22"، ومسلم: الإيمان "184" ، وأحمد "3/ 56".
إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلم.
[الفرق بين المسلم والمؤمن]
والمقصود معرفة ما قدمناه من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي قبلها، فالمحسن مؤمن مسلم، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يلزم أن يكون مؤمنا.
وهذا التفصيل الذي أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فقال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 الآية.
فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الأقسام الثلاثة في سورة الواقعة والمطففين وهل أتى.
وقال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله تعالى-: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق.
وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها.
قال الشيخ تقي الدين: "والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره،
1 سورة فاطر آية: 32.
2 سورة الذاريات آية: 35.
وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس الإسلام نفس الإيمان. وكان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي.
وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما: أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص"*.1
فصل
[في تفاضل الناس في التوحيد ولوازمه]
إذا تمهدت هذه القاعدة تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض؛ فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من
* كتاب الإيمان ص 282 - 283، وهو في مجموع الفتاوى 7/ 359. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
1 وقال بعض العلماء: إن نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر معناه أنه في حال تلبسه بما ذكر لا يكون متلبسا بالإيمان بتحريم الله له، كما يدل عليه تقييده بقوله صلى الله عليه وسلم: حين يزني وحين يشرب وحين يسرق. أي: بل يكون غافلا عنه، وقال بعضهم: المراد به نفي الإيمان الكامل، وهو الذي بينه في آخر سورة الحجرات، وأول سورة الأنفال، وفي سور أخرى، فهذا هو الذي ينافي الفسق وارتكاب الكبائر، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات:"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي" .. الآية. فأطلق لقب المؤمنين على المتقاتلين حتى الباغية منهما.
وأما الإسلام فهو العمل بالشريعة، فإن كان اعتقادا قطعيا -وهو الإيمان- كان إسلاما صحيحا، وإلا كان نفاقا ولم يكن إسلاما إلا في الظاهر؛ لأن الإيمان بالاعتقاد الجازم أمر باطني لا يعلمه حق العلم إلا الله -تعالى-، وله آيات ودلائل ذكرت في مواضع من القرآن كما تقدم، والمعصية لا تبطله، وإن كانت كبيرة إلا بالاستحلال، بشرطه الذي تقدم بيانه في رسائل العلامة أبا بطين وحواشيها، وإنما تنافي كماله. وفي الإصرار خطر لا محل لبيانه هنا.
يدخل النار وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون كما في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أخرجوا من النار من قال:"لا إله إلا الله" وفي قلبه من الخير ما يزن برة" -وفي لفظ: "شعيرة"، وفي لفظ: "ذرة"، وفي لفظ: حبة خردل - من إيمان"1.
ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة والإخلاص واليقين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[فصل في دار الكفر ودار الإيمان]
وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم .. الخ؟
فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بالإسلام؛ لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.
وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره، ونقاتله، ونشن عليه الغارة.
وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحققه ونعتقده أن أهل اليمن وتهامة والحرمين والشام والعراق قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص الدين والعبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس من الإشراك بالله من دعاء غير الله،
1 البخاري: الإيمان "44"، ومسلم: الإيمان "193"، والترمذي: صفة جهنم "2593"، وابن ماجه: الزهد "4312" ، وأحمد "3/ 116 ،3/ 173 ،3/ 247 ،3/ 276".
والاستغاثة به عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات. وأنا نأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام، وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات.
ومثل هؤلاء لا يجب دعوتهم قبل القتال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر -لما أعطاه الراية- وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"1 فهو عند أهل العلم على الاستحباب. وأما إذا قدرنا أن أناسًا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، أن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم.
فصل
[في الهجرة من دار الكفر]
وأما قولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك. هل تلزمه الهجرة، وإن لم يكن له قدرة؟
"فنقول": الهجرة تجب على كل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ببلده إن كان قادرا على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2. وأما من لم يقدر على الهجرة فقد استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} 3 الآية.
فصل
[في الإيمان بالمعنى اللغوي والمعنى الشرعي]
وأما السؤال الثالث، وهو قولكم: قد ورد: "الإسلام يهدم ما قبله"4 وفي رواية: "يجب ما قبله"، وفي حديث حجة الوداع:"ألا إن دم الجاهلية كله موضوع"5 الخ،
1 البخاري: الجهاد والسير "2942"، ومسلم: فضائل الصحابة "2406" ، وأحمد "5/ 333".
2 سورة النساء آية: 97.
3 سورة النساء آية: 98.
4 مسلم: الإيمان "121" ، وأحمد "4/ 204".
5 الترمذي: تفسير القرآن "3087"، وأبو داود: البيوع "3334"، وابن ماجه: المناسك "3055".
وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أم لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال: إن لم يكن كافرا فهو مسلم. بل نقول: عمله عمل الكفار. وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.
وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجب ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره والله أعلم.
وأما كلام أسعد على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 إنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك، وقد ذكر المفسرون أن معنى قوله:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم إنهم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية مشركون بالله في العبادة. ومعلوم أن مشركي العرب وغيرهم يؤمنون بالله رب كل شيء ومليكه، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه، بل نجد الرجل يؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله وما بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.
وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب "باب حكم المرتد" وهو الذي يكفر
1 سورة يوسف آية: 106.
2 سورة يوسف آية: 106.
بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة من فعل واحدًا منها كفر.
وإذا تأملت ما ذكرناه تبين لك أن الإيمان الشرعي لا يجامع الكفر بخلاف الإيمان اللغوي. والله أعلم.
وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد.
فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلا عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه إذا فعل شيئا من أفعال البر وأفعال الخير؛ أثابه الله على ذلك إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم ابن حزام:"أسلمت على ما أسلفت من خير"1.
وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به، بل نأمره بإعادة الحج؛ لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة، وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج؛ ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما ما ذكرته عن السيوطي أن الردة لا تنقض الأعمال إن لم تتصل فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب؛ لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته؛ لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها؟
فصل
[في المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد]
وأما السؤال الرابع عن المصافحة بالأيدي والمعانقة وتقبيل اليد. فالمصافحة حسنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها.
وأما تقبيل اليد فورد فيها أحاديث تدل على ذلك، واعتقاده في حق البعض،
1 البخاري: الزكاة "1436"، ومسلم: الإيمان "123" ، وأحمد "3/ 402 ،3/ 434".
وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة؛ فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك، ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد على الوجه الوارد في الأحاديث، بل ننهاهم عن الواقع منهم على خلاف ذلك؛ فإنهم يقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم السر، ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله. والشرع قد ورد بسد الذرائع.
فصل
[في حلق شعر الرأس]
وأما السؤال الخامس عن حلق شعر الرأس:
فالذي تدل عليه الأحاديث النهي عن حلق بعضه وترك بعضه، فأما تركه كله فلا بأس به إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة الصحيحة.
وأما حديث كليب، فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة.
وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا 1 فنهى عن ذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم سدا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون؛ فصار في عدم الحلق تشبها بهم 2.
1 قوله: السفهاء: مراده رحمه الله أن الذي يتركه ويعزره ما مقصوده السنة، بل مقصوده الجمال ليعشقه المردان وربات الحجال ويتبعه الفسقة والأرذال اهـ من حاشية الأصل.
2 فيه أن الكفار إذا فعلوا فعلا مشروعا في الإسلام لا يصح لنا أن نتركه؛ لئلا يكون تشبها، لأننا إنما نفعله لأنه مشروع عندنا وهم المتشبهون بنا، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل شعره ويفرقه، وأنه لم يحلقه إلا في النسك، فلا ينبغي أن يتركه أهل العلم والدين ليصير شعارا للسفهاء أو الكافرين.
فصل
[في فضائل أهل بيت النبي]
وأما السؤال السادس فيما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة.
وكثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت أكثرها لا يصححها الحفاظ، وفيما صح من ذلك كفاية.
وأماقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 وقول من قال: إن الإرادة صفة أزلية لا تتبدل، وأن "إنما" للحصر وغير ذلك.
فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن والحسين وابن عباس لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم 2.
وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله تعالى على نوعين: إرادة قدرية وإرادة شرعية، فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل. فمن الأول قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا} 3 وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا
1 سورة الأحزاب آية: 33.
2 بل كان بعضهم يخالف بعضًا في الأحكام الشرعية كمخالفة الحسن في ترك الإمامة لمعاوية، وكذا مخالفة الحسين في الخروج على يزيد. فهؤلاء خيارهم بالإجماع، وأما من بعدهم فقد كان منهم غلاة الباطنية المارقون من الإسلام، الذين يكيدون له ويدعون إلى تركه وعداوة أهله، والذين يذكرون الحصر في الآية لا يفهمون معناه، وهو ما بيناه في الحاشية في صفحة 582، ولو كانت الآية تدل على العصمة لوجب أن تقول الشيعة بعصمة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالأولى، وأفضلهن عائشة التي يبغضونها، ويخطئونها كما نخطئها في حرب الجمل.
3 سورة الإسراء آية: 16.
فَلا مَرَدَّ لَهُ} 1. وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} 2 الآيتين. ومن الثاني قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 3.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 7 فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذلك المراد رضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك خلف هذا المراد، ولا أنه قضاؤه وقدره.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"8 فطلب من الله تعالى إذهاب الرجس والتطهير عنهم 9.
فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله تعالى عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى:{يُرِيدُ} 10 ما يدل على وقوعه.
ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب القدرية الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض، فلم يقع مراده.
[الإرادة في كتاب الله]
وأما على قول أهل السنة والتحقيق فما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية
1 سورة الرعد آية: 11.
2 سورة القصص آية: 5.
3 سورة النساء آية: 26، 27.
4 سورة الأحزاب آية: 33.
5 سورة المائدة آية: 6.
6 سورة البقرة آية: 185.
7 سورة النساء آية: 26.
8 الترمذي: تفسير القرآن "3205".
9 كذا في الأصل ولعل أصله الصحيح: إذهاب الرجس عنهم والتطهير لهم.
10 سورة النساء آية: 26.
تتضمن خلقه وتقديره "فالأولى" كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 "والثانية" كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2 الآية. وقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 ومثل ذلك كثير في القرآن.
فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم وفيه 4 من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس؛ لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء.
ومما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، فقد قال تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} 5 إلىقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 6 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر والنهي والوعد والوعيد.
لكن لما كان ما ذكره سبحانه يعمّهن، ويعمّ غيرهن من أهل البيت جاء بلفظ التزكية فقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 7 والذي يريد الله من حصول 8 الرجس وحصول التطهير.
فهذا الخطاب وغيره ليس مختصًّا بأزواجه، بل هو يتناول أهل البيت كلهم، وعلي
1 سورة النساء آية: 26.
2 سورة الأنعام آية: 125.
3 سورة هود آية: 34.
4 قوله: وفيه. لعل أصله وفيهم، وكذا ما بعده.
5 سورة الأحزاب آية: 30، 31.
6 سورة الأحزاب آية: 33، 34.
7 سورة الأحزاب آية: 33.
8 كذا في الأصل والظاهر أنه سبق قلم أو سهو من الناسخ والأصل: إذهاب الرجس.
وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك، خصصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم 1.
وهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: "هو مسجدي هذا"3 وفي الصحيح أنه كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس
1 التحقيق أن هذه الآيات كلها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما ذكر الضمير في "عنكم"، "ويطهركم" تغليبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أعاد الخطاب لهن بعد هذه الآية، وهي تعليل لما في الآيات من الأوامر والنواهي، والوعد بمضاعفة الثواب، والوعيد بمضاعفة العقاب. والمعنى: إنما يريد الله بما ذكر من أمر ونهي ووعد ووعيد وترغيب وترهيب؛ أن يطهر هذا البيت المنسوب إلى رسوله من كل رجس، ودنس، وعار يمكن أن يمسه عاره بارتكاب أحد منكن لما نهاكن عنه، وترك ما أمركن به. فهذه الإرادة في الطهارة المعنوية كقوله تعالى في الطهارة الحسية بعد الأمر بالوضوء والغسل:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وما ورد في الدعاء لعلي وفاطمة وولديهما، أو الخبر بكونهم من أهل بيته؛ فمعناه أنهم يدخلون في عموم لفظ أهل البيت الوارد في نسائه صلى الله عليه وسلم فيجب عليهم مما جعله الله سببا للتطهير في الآيات التي خاطب بها نساءه، على القاعدة الأصولية المعروفة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي حديث أم سلمة إشكال؛ لأنه يخالف ظاهر الآيات التي هي نص في الأزواج الطاهرات، وأم سلمة منهم، فهي داخلة في منطوقها أوليا، وظاهر الحديث أن إرادة التطهير قدرية تكوينية لا أنها أثر لامتثال تلك الأوامر والنواهي المعللة بها، فليراجع سنده، فلعل فيه بعض الشيعة المحرفين للآية.
2 سورة التوبة آية: 108.
3 مسلم: الحج "1398"، والترمذي: الصلاة "323"، والنسائي: المساجد "697" ، وأحمد "3/ 8 ،3/ 23 ،3/ 24 ،3/ 91".
على التقوى، وهكذا أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين كلهم من أهل البيت. لكن علي وفاطمة والحسن والحسين أخص بذلك من أزواجه، فلهذا خصصهم بالدعاء 1.
فصل
[في آل النبي أهل بيته بالقرابة وأزواجه]
وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟
فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد من هم؟ فقيل: هم أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا: "آل محمد كل تقي" رواه الخلال، وتمام في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح: أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه:"اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته"2 ولأن امرأة إبراهيم عليه السلام من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته. والآية المذكورة تدل على أنهن من أهل بيته.
وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله وصالح المؤمنين"3 فأولياؤه
1 هذا خلاف المتبادر كما علم مما تقدم، ومن الضروري المعلوم بالفطرة والخبرة أن ما يلحق الرجل من العار بعدم طهارة أزواجه أقوى مما يلحقه بعدم طهارة صهره وأسباطه وأحفاده، فلهذا أورد نص الآيات في الأزواج الطاهرات وافتتحت بقوله تعالى:{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فهذا تفضيل صريح لهن، وهذا لا ينافي كون السيدة فاطمة عليها السلام أفضل منهن بكونها بضعة منه صلى الله عليه وسلم، وبشخصها أيضا، وكذا ولداها وبعلها عليهم السلام والرضوان-.
2 البخاري: أحاديث الأنبياء "3369"، ومسلم: الصلاة "407"، والنسائي: السهو "1294"، وأبو داود: الصلاة "979"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "905" ، وأحمد "5/ 424"، ومالك: النداء للصلاة "397".
3 مسلم: الإيمان "215" ، وأحمد "4/ 203".
المتقون بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان، وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
ومن كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين وابن عباس، فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا مجرد النسب. فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه وإن أمر بالصلاة على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. وأزواجه ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين.
وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
(تمت الأجوبة السنية عن الأسئلة الحفظية)