الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة
فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم
وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآية
لم يذكر اسم مؤلفها، والأسلوب يدل على أنه من المحققين
وفيها نقول كثيرة عن العلامة المحقق ابن القيم من كتاب الروح
من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية
الإمام عبد العزيز آل سعود
ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
(وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين)
1 سورة الأعراف آية: 172.
رسالة فيما هو الميثاق الذي أخذ الله على بني آدم
…
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه لما سيودعه من الحكم والأسرار، حيث خلقه بيده وسواه، وألهمه فجوره وتقواه، لما أراده منه، وقدره عليه، ليكون مصيره ومنتهاه إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله.
"اعلم" -رحمك الله تعالى- بأنه سبحانه وتعالى لما ذكر قصة موسى عليه السلام ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين.
[الأحاديث في أخذ ذرية آدم من ظهره]
واختلف العلماء في تفسيرها فقال بعضهم محتجا بما رواه مسلم بن يسار الجهني: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق
2 سورة الأعراف آية: 172: 174.
العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار"1 قال الحاكم: هذا على شرط مسلم.
وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن زيد بن أسلم، عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم قال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه: فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال الله -تعالى-: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطيء فخطئت ذريته"وهذا على شرط مسلم، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من جحد آدم"2 وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل الله له ألف سنة، ولداود مائة سنة.
وفي صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي} 3 الآية قال: جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منهم إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، واستنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4. قال الله -تعالى-: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 لم نعلم، أو تقولوا:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 6 فلا تشركوا بي شيئا، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم
1 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/ 44"، ومالك: الجامع "1661".
2 أحمد "1/ 251".
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة الأعراف آية: 172.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 سورة الأعراف آية: 172.
عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد إنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج.
وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} 1 وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} 2 وذلك قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} 3 وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 4 وهو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} 5.
كان في علمه بما أقروا به من يكذب به، ومن يصدق به، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق في زمن آدم، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 6 إلى قوله:? {قْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ} 7 قال: حملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام، قال أبو جعفر: فحدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:"دخل من فيها" وهذا إسناد صحيح.
[الآثار في أخذ ذرية آدم من ظهره]
وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: "يا رسول الله: تبتدأ الأعمال أم قضي القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة مُيَسَّرُون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار".
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه "قال: لما أراد الله أن يخلق آدم فذكر خلق آدم فقال له: يا آدم أيّ يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي -وكلتا يدي ربي يمين-، فبسط يمينه، وإذا فيه ذريته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء
1 سورة الأحزاب آية: 7.
2 سورة الروم آية: 30.
3 سورة النجم آية: 56.
4 سورة الأعراف آية: 102.
5 سورة يونس آية: 74.
6 سورة مريم آية: 16، 17.
7 سورة مريم آية:22، 23.
على هيئاتهم، فقال: ألا عافيتهم كلهم؟ فقال: أحب أن أشكر".
وروى محمد بن نصر بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "خلق الله آدم، ثم قال: بيديه فقبضهما فقال: اختر يا آدم فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يديك يمين- فبسطها فإذا فيها ذريته؟ فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك إلى يوم القيامة".
وروى أيضا ابن إسحاق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة"1.
وحدث ابن إسحاق، عن عمرو بن زرارة بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 الآية. قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وهو ينظر بنعمان -هذا الذي بإزاء عرفة- وأخذ ميثاقهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 3. ورواه أبو حمزة الضبعي ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو صالح، وغيرهم عن ابن عباس.
وقال ابن إسحاق أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.
وحدثنا حجاج عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله -تعالى- حين خلق آدم ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفة له ولأمره، والتصديق به وبأمره من بني آدم كلهم، وشهدهم على أنفسهم، فآمنوا، وصدقوا، وعرفوا، وأقروا.
وعنه رضي الله عنه "أن آدم أبصر في ذريته قوما لهم نور، فقال: يا رب من هم؟
1 الترمذي: تفسير القرآن "3076".
2 سورة الأعراف آية: 172.
3 سورة الأعراف آية: 172.
فقال الأنبياء: ورأى واحدا هو أشدهم نورا فقال: من هو؟ فقال: داود، قال: كم عمره؟ فقال: ستون سنة، فقال: هو قليل، وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست وهبته من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأهب لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها.
[تفسير وإذ أخذ ربك من بني آدم بالأحاديث الواردة]
وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيض كهيئة الذر، ثم جانبه الأيسر، فخرج منه ذرية سود كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء للنار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم قرأ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} 2 ثم أعادهم جميعا في صلب آدم. فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء.
وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 3.
وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي، وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى، وأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا النار، ولا أبالي. فذلك حيث يقول: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على جهة
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الواقعة آية:8، 9.
3 سورة الأعراف آية: 102.
التقية، فقال هو والملائكة:{شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1 أو تقولوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فليس أحد من بني آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فذلك قوله -تعالى-:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 3 وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 4 وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5.
يعني يوم أخذ عليهم الميثاق سبحانه وتعالى صور النسم، وقدر خلقها، وأجلها، وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له كما قال أبو محمد بن حزم.
نعم الرب -سبحانه- يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه سبحانه وتعالى في جميع مخلوقاته، قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات، ثم أبرزها في الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص عنه. وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، فلا تناقض حينئذ بين الآية والأحاديث؛ لأن ما في الآية لا ينافي المسح على ظهر آدم، ولا في الأحاديث ما ينفي خروج الذرية من ظهور بني آدم، وإنما سبقت الآية ببيان ما وقع من أخذ الميثاق، وبروز الذرية من ظهور بني آدم، وهذا لا يخالف ما في الأحاديث المذكورة من أن الله -تعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فإن الذرية المستخرجة من ظهور بني آدم هي بواسطة مسح ظهر أبيهم، فخرج من ظهره ذرية بلا واسطة، وخرج من ظهور ذريته ذرياتهم بواسطة مسح ظهر أبيهم، ويصدق عليهم جميعا أنهم استخرجوا من ظهر آدم بواسطة، وبلا واسطة، وهكذا حكم كل فرع مع أصله.
فالآية الكريمة فصلت ما أجملته الأحاديث من الإخراج، وبينت كيفيته، وبينت الأحاديث أن أخذ الذرية من ظهور بني آدم بواسطة مسح ظهر أبيهم،
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 173.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة آل عمران آية: 83.
5 سورة الأنعام آية: 149.
حتى خرج منه من علم الله بروزه إلى عالم الكون والفساد، وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد، وترك الأنداد، وليس فيها نفي ما تضمنته الآية من خروج الذرية من ظهور بني آدم كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
[تفسير آية وإذ أخذ ربك من بني آدم بأنها ليست بمعنى الأحاديث الواردة]
ونازع هؤلاء البعض الآخر في كون هذا معنى الآية، وقالوا: معنى قوله -تعالى-: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 أي أخرجهم، وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنع ربه ما شهد على أنه بارئه، ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك، ودعاهم كل ما يرون، ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع من كتابه:{شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 2 يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقال: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد قد عرفته، وكأن جوارحي لو أشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت.
ومن هذا الباب أيضا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 يريد أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من شهد عند الحكام وغيرهم، كما قاله ابن الأنباري.
وزاد الجرجاني -بيانا لهذا القول- فقال حاكيا عن أصحابه: إن الله لما خلق الخلق، ونفذ علمه فيهم بما هو كائن مما لم يكن بعد صار ما هو كائن كالكائن، إذ علمه بكونه واقعا غير كونه واقعا في مجاري العربية، فساغ أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في مواضع من القرآن كقوله:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} 4 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 5 {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 6 قال: فيكون تأويل قوله: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وإذ يأخذ ربك.
وكذلك قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة التوبة آية: 17.
3 سورة آل عمران آية: 18.
4 سورة الأعراف آية: 50.
5 سورة الأعراف آية: 44.
6 سورة الأعراف آية: 48.
أَنْفُسِهِمْ} أي ويشهدون بما رُكِّبَ فيهم من العقل الذي يكون به الفهم، ويجب به الثواب والعقاب، وكل مولود بلغ الحنث، وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله -تعالى- أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل على وجوده، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ، ولم يقدح فيه مانع من فهم، إلا إذا حزبه أمر فزع إلى الله عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بأصبعه علما منه بأن خالقه فوقه، وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق.
وجائز أن يقال له: قد أقر، وأذعن، واستسلم، إذ جعل فيه السبب والآلة اللذين بهما يؤخذ العهد والميثاق، كما قال عز وجل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 2.
[عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال من المجاز]
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه"3 وقوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 4.
والأمانة ههنا عهد وميثاق، فامتناع السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب في هذا المعنى ضروب نظم فمنها قوله:
ضمن القنان لفقعس سوآتها
…
إن القنان لفقعس لا يأتلي
والقنان: جبل فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه لهم أنهم كانوا إذا جرى بهم أمر من هزيمة، أو خوف لجأوا إليه فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة:
1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الرعد آية: 15.
3 أبو داود: الحدود "4403" ، وأحمد "1/ 116 ،1/ 118 ،1/ 140 ،1/ 154 ،1/ 158".
4 سورة الأحزاب آية: 72.
كاجارن الجولان من هلك ربه
…
وحوران منها خاشع متضائل 1
وأجارن الجولان جبالها، وحوران الأرض التي إلى جانبها.
قال إن في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين َأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 دليلا على هذا التأويل؛ لأنه عز وجل علم أن هذا الأخذ للعهد عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3.
والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إما أن يكون عن يوم القيامة، أو عن أخذه الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر -سبحانه- في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط.
[أخذ ميثاق النبيين كأخذ العهد على ذرية آدم]
فأما أخذ الميثاق فالأطفال والإسقاط إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم -كما قال المخالف- فهم لم يبلغوا بعد أخذ الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه، فيجحدونه، وينكرونه. فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز، ولا يكون محالا.
وقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 4 فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم، أو من آبائهم، فإن كان منهم، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الحجة عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم، فالأمة مجمعة على {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5 كما قال الله عز وجل.
وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم، وأخرج منه ذرية، وأخذ عليهم العهد"6؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اقتص قول الله عز وجل فجاء بمثل
1 كذا في الأصل، والبيت يرثي به النابغة أبا حجر الغساني. وهو في التاج هكذا: * بكى حارث الجولان من فقد ربه
…
إلخ، ويروى من هلك ربه. كما هنا. والحارث قلة من قلاته. والجولان: جبل بالشام.
2 سورة الأعراف آية:172، 173.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة الأعراف آية: 173.
5 سورة النجم آية: 38.
6 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/ 44"، ومالك: الجامع "1661".
نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل، وهذا شبيه قوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} 1 فجعل -سبحانه- ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم، يدل على ذلك قوله:{ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ثم قال للأمم: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
فجعل -سبحانه- بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجعل معرفتهم إقرارا منهم.
[الآيات في أخذ العهد والميثاق على بني آدم]
وشبيه به أيضا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 2 فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله -تعالى-:{لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 3 وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله. ومثله قوله -تعالى- لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 5 ومثله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظا} 7 فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم.
وهذا الميثاق الذي لعن الله -سبحانه- من نقضه، وعاقبه بقوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 8 فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 9.
ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سور مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاق
1 سورة آل عمران آية: 81.
2 سورة المائدة آية: 7.
3 سورة الرعد آية: 20.
4 سورة يس آية: 60.
5 سورة البقرة آية: 40.
6 سورة آل عمران آية: 187.
7 سورة الأحزاب آية: 7.
8 سورة المائدة آية: 13.
9 سورة البقرة آية: 63.
فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله.
ولما كانت آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام بجميع المكلفين بالإقرار بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وتنقطع به المعذرة، وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، ونظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:
"أحدها" أنه قال سبحانه وتعالى: {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} 1 ولم يقل: من آدم، وبنو آدم غير آدم.
"الثاني" أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} 2 ولم يقل من ظهره، وليس لآدم إلا ظهر، وهذا بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
"الثالث" أنه قال: {ذرياتهم} 3 بصيغة الجمع، ولم يقل من ذريته، وهو مفرد 4.
"الرابع" أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 5 أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون شاهدا ذاكرا لما يشهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادته قبلها.
"الخامس"{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطر التي فطروا عليها كما قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6.
"السادس" تذكيرهم بذلك؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 172.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 في قراءة حفص المشهورة "ذريتهم" والمفرد المضاف إلى الجمع يفيد العموم.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 سورة النساء آية: 165.
غَافِلِينَ} 1. ومعلوم أنهم غافلون بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم، وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
"السابع" قوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 2 فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد: "إحداهما" أن لا يدعوا الغفلة. "والثانية" أن لا يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره.
"الثامن" أنه سبحانه وتعالى أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير هذا الموضع من كتابه كقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 أي فكيف يعرضون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم؟ وهذا كثير في القرآن.
فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله بقوله:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 فالله سبحانه وتعالى ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم بإقرار سابق على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجة.
"التاسع" قوله -تعالى-: {فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 5 أي لو عذبهم لجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه وتعالى إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما يكونون عليه، وقد أخبر -سبحانه- بأنه لم يكن {لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 6 وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.
"العاشر" أنه جعل هذا آية وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب -تعالى- فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزم للعلم به فقال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} 7 أي مثل
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الأعراف آية: 173.
3 سورة الزخرف آية: 87.
4 سورة إبراهيم آية: 10.
5 سورة الأعراف آية: 173.
6 سورة هود آية: 117.
7 سورة الأعراف آية: 174.
هذا التفصيل والتبيين، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان.
[الجمع بين آية أخذ الميثاق وحديث "إن الله مسح ظهر آدم"]
وهذه الآيات التي فصلها، وبينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية، آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى مما يدل على وجوده ووحدانيته، وصدق رسله والمعاد والقيامة، ومن أثبتها ما أشهد به كل أحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون محدثا بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2 وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة.
وهذه الآية وهي قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم مطابقة لقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة"3 ولقوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.
وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه؛ لأنه عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 5 لم يذكر آدم في القصة، إنما هو ههنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولاده، وفي الحديث:"أنه مسح ظهر آدم"6 فلا يمكن رد ما جاء في القرآن، وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.
قال الجرجاني: وأنا أقول ونحن إلى ما روي في الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أميل، وإليه أقبل، وبه آنس.
قال ابن القيم: وفيما ادعيتموه من التفاوت بين الآية والخبر لاختلاف ألفاظهما نظر لأن الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم" أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكرها الله في كتابه، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الزيادة
1 سورة الأعراف آية: 174.
2 سورة الشورى آية: 11.
3 البخاري: الجنائز "1385"، ومسلم: القدر "2658"، وأبو داود: السنة "4714" ، وأحمد "2/ 233 ،2/ 282 ،2/ 315 ،2/ 346 ،2/ 393 ،2/ 410"، ومالك: الجنائز "569".
4 سورة الروم آية: 30.
5 سورة الأعراف آية: 172.
6 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/ 44"، ومالك: الجامع "1661".
التي أخبر بها فما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت، بل كان زيادة في الفائدة. وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها، وكان مرجعها إلى شيء واحد، لم يوجب ذلك تناقضا، كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم، فذكره مرة أنه خلق من تراب، ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة، فإن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب، ومن التراب تدرجت في هذه الأحوال. فقوله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته"2 فمرجعهما إلى جوهر واحد وهو آدم، ومنه تدرجت الذرية إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "مسح ظهر آدم" زيادة في الخبر عن الله عز وجل ومسح ظهر آدم مسح لظهور ذريته، واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك
…
إلى أن قال ابن القيم رحمه الله:
وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال -تعالى-: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} . فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعت للأسماء المكنية فيها، وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر، ولا يحتمل أن يكون قوله "خاضعين" للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات. ومنه قول الشاعر:
ويشرق بالقول الذي قد أذعته
…
كما شرقت صدر القناة من الدم
فالصدر مذكر. وقوله: شرقت أنث لإضافة الصدر إلى القناة 3.
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 الترمذي: تفسير القرآن "3075"، وأبو داود: السنة "4703" ، وأحمد "1/ 44"، ومالك: الجامع "1661".
3 إلى هنا كلام ابن القيم رحمه الله وأوله "ونازع هؤلاء البعض الأخرون".
وقال أصحاب النظر وأرباب المعقولات: إنه -تعالى- أخرج الذرية، وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله -تعالى- من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، حتى جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا مرضيا. ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وخزائن صنعه وقت الإشهاد حتى صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان. ولذلك نظائر منها قوله -تعالى -:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1 ومنها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وقالت العرب: * امتلأ الحوض وقال قطني * فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب، فوجب حمل الكلام عليه.
هذا ما اطلعت عليه من كلام السلف والخلف في الآية والحديث، ومحصل الفائدة منهما "ثبوت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم بالمعرفة له، والإيمان به، بقوله -تعالى -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 3. وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها لهم في أنفسهم، وفي العالم، وبإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والأمثال المنقولة إليهم أخبارها، ولا يطالب سبحانه وتعالى أحدا بشيء من الطاعة، إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركب فيه من القدرة، وبين -سبحانه- ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أننا نعلم أنه عدل لا يجور في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسئل عما يفعل {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 "5.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
"تمت"
1 سورة فصلت آية: 11.
2 سورة النحل آية: 40.
3 سورة الأعراف آية: 172.
4 سورة الأعراف آية: 54.
5 ما بين العلامتين " " من كلام ابن القيم في الروح.
مسائل وفتاوى فقهية
{في الطهارة، والجمعة، والأضحية، والتفليس، والوقف، واللقطة، والصلح}
من تأليف
الفاضل المحقق الشيخ حسن بن حسين من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية
الإمام عبد العزيز آل سعود
ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
(وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسائل وفتاوى في فروع فقهية
من حسن بن حسين إلى الأخ الفالح والمحب الصالح عبد الرحمن بن محمد لا زال علمه يزداد ويتجدد،
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط المصحوب بالصحيفة، المشتملة على سؤالاتكم اللطيفة، وصل -وصلكم الله عز وجل، وتلقينا الأسئلة بالترحاب، ووافيناها فورا بالجواب، طلبا لمستطاب الثواب، ورجاء لدعوات نافعة في المآب.
قال السائل -كثر الله تعالى فوائده-:
[تداخل الطهارة الصغرى في الكبرى]
"المسألة الأولى": رجل عليه موجب للغسل فنوى بطهارته رفع الحدث الأكبر فقط، هل يرتفع الأصغر، وتتداخل الأحداث بعضها في بعض أم لا؟.
"الجواب": إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي، وما كان من جنسه ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع أحد الحدثين فيرتفعان معا بنية رفع أحدهما بالغسل؛ لتداخلهما وتساويهما موجبا وحكما. وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، أو نوى الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل. ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنزلة العضو الواحد. وأما الحدث الأصغر فلا يرتفع بنية الأكبر فقط؛ لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل. هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها:
والغسل للكبرى فقط لا يرفع
…
صغرى وإن نوى فعنه يرفع
قال في شرحه: أي وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى أي رفع الحدث الأكبر لم يرتفع حدثه الأصغر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما لكل امرئ ما نوى" 1 وهذا لم ينو الوضوء، هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم اهـ.
وحكى في "الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" عن الأزجي وأبي العباس ابن تيمية أن الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات لاندراج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه. ومبنى الطهارات على التداخل فماهية الأصغر انعدمت بانعدام جزئها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر، أو تأخر عنه.
وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج؟. وعن يحيى بن سعيد قال: سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يغتسل من الجنابة. يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم.
واستأنسوا -أعني القائلين بدخوله في الأكبر- بحديث جابر بن عبد الله أن أهل الطائف قالوا: "يا رسول الله: إن أرضنا باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا"2 وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين"3 أو قال: "فإذا أنت قد طهرت"4 رواهما مسلم. لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة، وعلى المذهب فقد حصر مُحَشِّي "المنتهى" الشيخُ عثمان صورَ نية رفع الحدث الأكبر في ست فقال:
نية رفع الحدث الأكبر. نية رفع الحدثين. نية رفع الحدث وتطلق. نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معا. نية ما يسن له الغسل ناسيا للغسل الواجب. ففي هذه الصور كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضا فيما عدا الأولى والأخيرتين، ثم ذكر أنها تأتي في الأصغر أيضا وزيادة، ولا حاجة لذكرها هنا؛ لأنها ليست من غرض السائل.
1 البخاري: بدء الوحي "1"، ومسلم: الإمارة "1907"، والترمذي: فضائل الجهاد "1647"، والنسائي: الطهارة "75" والطلاق "3437" والأيمان والنذور "3794"، وأبو داود: الطلاق "2201"، وابن ماجه: الزهد "4227" ، وأحمد "1/ 25 ،1/ 43".
2 البخاري: الغسل "254"، ومسلم: الحيض "327"، والنسائي: الطهارة "250" والغسل والتيمم "425"، وأبو داود: الطهارة "239"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "575" ، وأحمد "4/ 85".
3 مسلم: الحيض "330"، والترمذي: الطهارة "105"، والنسائي: الطهارة "241"، وأبو داود: الطهارة "251"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".
4 الترمذي: الطهارة "105"، وأبو داود: الطهارة "251"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "603".
[غسل من عليه الحدث الأكبر يديه بنية القيام من النوم]
"المسألة الثانية": إذا غسل يديه من عليه الحدث الأكبر بنية القيام من نوم الليل، هل يرتفع الحدث عنهما بتلك النية أم لا بد من التخصيص بالنية أو بالفعل أو بهما؟
"الجواب" إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات عن أحمد في هذه المسألة واشترطنا النية لغسلهما كما هو المقطوع به عندهم فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكون وجوب غسلهما منه تعبديا غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما وغسلهما لمعنى فيهما لا كما يقوله بعضهم، وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة.
"تنبيه" غمس الشمال في هذا كغمس اليمين ولا فرق لأنه مفرد مضاف فيعم كقوله عليه السلام "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى"1 صرح به في قوله "فإن التراب لهما طهور" وقوله في رواية مسلم "فنفض بيده" والمراد بيديه كما في المتفق عليه.
قال أبو الحسن ابن اللحام في القواعد الأصولية: المفرد المضاف يعم، هذا مذهبنا ونص عليه إمامنا تبعا لعلي وابن عباس.
وقال بدر الدين بن عبد الهادي في كتابه: غاية السول في الأصول المفرد المضاف يعم.
قال ابن القيم في البدائع: وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 2 وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} 3 والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم انتهى.
"قلت" ويستفاد أيضا من قوله -تعالى-: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 4.
1 أبو داود: الطهارة "385".
2 سورة التحريم آية: 12.
3 سورة الجاثية آية: 29.
4 سورة الحاقة آية: 10.
قال ابن كثير: وليس رسولهم واحدًا، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" والمراد جميع عمارهن سوى الله -سبحانه-. ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة واللغة فلا نطول باستقصائه إذ المقام مقام اختصار. والغرض التفطن لهذه القاعدة المهمة.
[غمس اليدين في الماء بعد غسلهما بنية رفع الحدث]
"المسألة الثالثة" إذا غسلهما بنية رفع الحدث فهل يؤثر غمسهما في الماء بعد الغسل أم لا؟
"الجواب" إذا فرعنا على القول الذي ذكرناه أولا فإن غسلهما والحالة هذه يؤثر في الماء فسادا.
قال في "شرح المفردات": ولا يكفي نية الغسل عن نية غسلهما انتهى، وكذا قال غيره من متأخري الأصحاب لما تقدم من أنها طهارة مفردة.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختارها من أصحابه الخرقي والموفق وأبو البركات ابن تيمية وابن أبي عمر في شرح المقنع وجزم به في الوجيز وفاقا لأكثر الفقهاء.
قال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وأما الحديث 1 فمحمول على التنزيه. انتهى.
[تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة]
"المسألة الرابعة" هل يظهر لكم دليل للأصحاب في اشتراطهم تقدم الطهارة للمسح على الجبيرة أم لا؟
"الجواب" دليلهم القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل. والقياس إذا صح فهو أحد الأدلة الخمسة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب
1 وهو "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا".
فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب، وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعا انتهى، فالتحق بالأصول الأربعة.
وقد عرفوا القياس اصطلاحا بأنه حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى، قال أبو العباس ابن تيمية*: لا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة. انتهى.
فينظر في قياسهم الجبيرة على الخف ونحوه، هل هو صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه فيصح دليلا أم لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارات أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة، ولو ذهبنا ننقلها في هذا الموضع لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم.
إذا علمت ذلك فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط هو إحدى الروايتين عن أحمد "الثانية" لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة واختارها الخلال وابن عقيل وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص والموفق، وجزم به في الوجيز للأخبار والمشقة لكون الجراح قد تقع في حال لا يعلم وقوعها فيه، ففي اشتراط تقدم الطهارة للمسح إفضاء إلى الحرج الموضوع.
[الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم]
"المسألة الخامسة" هل يشترط الموالاة والترتيب بين الوضوء والتيمم أم لا.
"الجواب" قال في "المبدع": وإن كان حدث الجريح أصغر راعى الترتيب والموالاة ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر لا ترتيب ولا موالاة. فعلى هذا لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم لاشتراط الترتيب في
* مجموع الفتاوى 22/ 332. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
الوضوء، فلا ينقل عن عضو حتى يكمله غسلا وتيمما عملا بقضية الترتيب، فعلى هذا لا يضر نداوة التراب في يديه كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به بعض الشافعية، وحكي في الفروع عن المجد أن قياس المذهب أن الترتيب سنة.
وحكي في الإنصاف وغيره عن أبي العباس ينبغي أن لا يرتب وقال غيره لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة. وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قاله لا سيما وقد حكى هو وغيره من العلماء عن أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة وبين بعض الأدلة الشرعية رابط خفي علينا ففوق كل ذي علم عليم.
[اشتراط دخول الوقت للوضوء من الحدث الدائم]
"المسألة السادسة" هل يظهر لكم دليل لاشتراطهم دخول الوقت لوضوء من حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح ومن به قروح أو جروح؟
"الجواب" دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم كسلس البول ودائم الريح والجروح التي لا يرقأ دمها والقروح السيالة، هو القياس على المستحاضة بجامع العذر، وقد أسلفنا لك أن القياس إذا صح دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم. قال في شرح المفردات عند قول الناظم:
وبدخول الوقت طهر يبطل
…
لمن بها استحاضة قد نقلوا
لا بالخروج منه لو تطهرت
…
للفجر لم يبطل بشمس ظهرت
يعني أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه يتوضأ لوقت كل صلاة إلا لأن يخرج منه شيء، وهو قول أصحاب الرأي لحديث علي بن ثابت عن أبيه
عن جده في المستحاضة "تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة"1 رواه أبو داود والترمذي.
وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم -فذكرت خبرها- ثم قالت قال "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت"2 رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت ثم بعد أن دخل الوقت بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه. والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت، وإن توضأ بعد الوقت صح وضوءه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى من الخمس، فمن تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوءها بطلوع الشمس لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى.
قال المجد -في شرح الهداية- ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه. وقال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما ثم قال: والأول أولى انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية أنها تبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم تبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه.
وقال أبو العباس*: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضئون لوقت كل صلاة أو لكل صلاة.
[نقض الوضوء بسقوط الجبيرة]
"المسألة السابعة" إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء هل تنتقض الطهارة بذلك أم لا؟
"الجواب" قال في الفروع: وإن زالت الجبيرة فكالخف وقيل طهارتها باقية
1 الترمذي: الطهارة "126"، وأبو داود: الطهارة "297"، وابن ماجه: الطهارة وسننها "625"، والدارمي: الطهارة "793".
2 البخاري: الوضوء "228"، وأبو داود: الطهارة "298".
* مجموع الفتاوى 21/ 221. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقا كإزالة شعر اهـ وعنى بشيخه أبا العباس، قال العكبري: فلو خلع الجبيرة على طهارة لم ينتقض وضوءه بمجرد خلعها.
وقال في الإقناع والمنتهى وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف اهـ وكذا عبر غيرهم بلفظ زالت وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل، فعلى هذا إن كان سقوطها على طهارة لم تنتقض الطهارة به وإن كان بعد حدث انتقضت وعلى الثانية هي باقية مطلقا ما لم يبرأ.
[صور من جمع المسافر بين الصلاتين]
"المسألة الثامنة" إذا تحقق المسافر وصول الماء قبل خروج وقت الثانية من المجموعتين هل له أن يصليهما جميعا في هذه الحال أم لا؟
"الجواب" له أن يؤخر الأولى جمعا مع الثانية لجواز الجمع للمسافر مطلقا، تحقق وجود الماء أو ظنه وقت الثانية أم لا على المشهور في مذهب أحمد، بل حكي في الفروع عن بعضهم أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل وأنه مذهب الشافعي، وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم نص عليه اهـ.
وقال أبو العباس في المسألة المسماة "بتيسير العبادات"*: الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية فلأن يكون مشروعا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت. وقال في موضع آخر**: الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتا لهما، وقاله في الإنصاف وغيره.
[ما يستحب وما يكره للجمعة وحكم السفر قبل صلاتها]
"المسألة التاسعة" ما ورد في يوم الجمعة كقراءة سورة الكهف والغسل والتفريق بين الاثنين وغيرها هل هو مختص بما قبل الزوال أو باليوم كله؟
"الجواب" أما قراءة سورة الكهف فظاهر الخبر الآتي وصريح كلام
* "تيسير العبادات لأرباب الضرورات" ضمن "مجموع فيه مصنفات لشيخ الإسلام ابن تيمية" لإبراهيم الميلي ص 260 - 261، وهو في مجموع الفتاوى 21/ 451. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
** مجموع الفتاوى 22/ 72. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
فقهاء الحنابلة والشافعية أنها في مطلق اليوم، والأصل فيه ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعا "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وفي رواية للبيهقي "ما بينه وبين البيت العتيق" قال في "شرح الجامع الصغير": وفي رواية "ليلة الجمعة" بدل "يوم الجمعة" وجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها اهـ. وقاله في "شرح المنهاج"، وفي "الفتاوى المصرية": هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة ببعد العصر اهـ.
قال في "شرح المنهاج": ويستحب الإكثار من قراءتها كما نقل عن الشافعي وقراءتها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير اهـ.
فلم يقيدها بغير الأولوية وعليها يحمل ما حكاه في "المغني" وغيره عن خالد بن معدان من أنها قبل الصلاة. لكن هل الليلة ما قبل اليوم أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وغيرها فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي"1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة اهـ ملخصا.
وقد جاء الحديث أيضا بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، روى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعا "اقرءوا سورة هود يوم الجمعة"2 ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب وهو في مراسيل أبي داود. قال الحافظ مرسل صحيح الإسناد، وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله وملائكته عليه حتى تجب الشمس"3.
ومما ورد من الخصائص مطلقا أيضا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه
1 مسلم: الصيام "1144".
2 الدارمي: فضائل القرآن "3403".
3 أي تغيب من "وجب" بمعنى سقط كقوله -تعالى- "وجبت جنوبها" أي سقطت.
رواه أبو داود والترمذي من حديث أوس بن أوس قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ومن ذلك أوكدية السواك والتفرغ للعبادة ومزية الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم وتوافيها فيه.
وأما الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق والتحلق، والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد لأنه قال في يومها الحاضر: إن صلاها، إلا لامرأة، وقيل: ولها اهـ.
ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "من أتى الجمعة فليغتسل"1 وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح -فذكره إلى أن قال-: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"2 وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد مرفوعا "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ومس من الطيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إذا خرج إمامه" الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعا "ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت"3 الحديث، وفي الطبراني عن أبي هريرة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة" وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"4.
وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها فمنعه الأصحاب بعد الزوال إن لم يخف فوت رفقته إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه، قال ابن المنذر: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء لوجوب السعي حينئذ، وقال المجد في "شرح الهداية" روى ابن أبي ذئب قال: "رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له تسافر يوم الجمعة؟ فقال إن رسول
1 البخاري: الجمعة "877 ،894 ،919"، ومسلم: الجمعة "844"، والترمذي: الجمعة "492"، والنسائي: الجمعة "1376 ،1405 ،1407"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "1088" ، وأحمد "2/ 3 ،2/ 9 ،2/ 35 ،2/ 37 ،2/ 41 ،2/ 42 ،2/ 48 ،2/ 53 ،2/ 55 ،2/ 57 ،2/ 64 ،2/ 75 ،2/ 77 ،2/ 78 ،2/ 101 ،2/ 105 ،2/ 115 ،2/ 120 ،2/ 141 ،2/ 145 ،2/ 149"، ومالك: النداء للصلاة "231"، والدارمي: الصلاة "1536".
2 البخاري: الجمعة "881"، ومسلم: الجمعة "850"، والترمذي: الجمعة "499"، والنسائي: الجمعة "1388"، وأبو داود: الطهارة "351" ، وأحمد "2/ 460"، ومالك: النداء للصلاة "227".
3 البخاري: الجمعة "910" ، وأحمد "5/ 438 ،5/ 440".
4 الترمذي: الجمعة "514"، وأبو داود: الصلاة "1110" ، وأحمد "3/ 439".
الله صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة" رواه أبو بكر النجاد وهو من أقوى وجوه المُرْسل لاحتجاج من أرسله به اهـ.
وفي مسند الشافعي عن عمر أنه رأى رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر، وفيه عن علي نحوه، وفي سنن سعيد بن منصور عن ابن كيسان أن أبا عبيدة بن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة.
وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه "من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره" ففيه ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ.
وأما ساعة الإجابة فاختلف العلماء فيها وفي موضعها على أكثر من ثلاثين قولا ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" و"لوامع الأنوار" وغيرهما، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتا، وأقرب الأقوال فيها قولان -وأحدهما أرجح من الآخر، كما قاله ابن القيم في الهدي وغيره-:"الأول" ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. "والثاني" أنها بعد العصر، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس. قال الترمذي هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم.
"خاتمة" ذكر في "التوشيح" وغيره أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين.
[الاشتراك في الأضحية وإجزاء الشاة عن الرجل وعياله]
"المسالة العاشرة" ما معنى قوله عليه السلام في الأضحية "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" وقوله لما ذبح "أضحية محمد، وآل محمد، وأمة محمد" وهل يشترك في البدنة والبقرة أكثر من سبعة؟ وهل المراد سبعة من الغنم أو سبعة أشخاص إلخ؟
" الجواب" قوله: الجزور عن سبعة يعني تضحية الإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح.
وقال عن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والنسائي: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة"1 إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم وهو "الجزور عن سبعة"2 انتهى. وقال في "المغنى" عن حديث رافع: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم فعَدَل عشرةً من الغنم ببعير، هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى. وقد أخذ كثير من العلماء، أو أكثرهم بمفهوم الناسخ، فقالوا: لا تجزئ البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة، أو بقرة فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم. قال في "الإنصاف" على الصحيح من المذهب، نقله ابن القاسم وعليه أكثر الأصحاب. ونقل منها تجزي عن سبعة، ويرضون الثامن ويضحي، وهو قول في الرعاية. انتهى ملخصا.
وقال في حاشية "التنقيح": قوله عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: وتعتبر أن تشترك الجماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، أو قالوا: من جاء يريد الأضحية شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن الثلاثة. انتهى. وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته 3.
وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن في قوله عليه السلام:"تقبل من محمد، وآل محمد"4 دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروى عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة. انتهى.
قال ابن تيمية في الفتاوى المصرية*: "أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما؛ فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، وقال -فذكر الحديث-". وترجم جده المجد في المنتقى "باب الاجتزاء
1 الترمذي: الأضاحي "1501"، والنسائي: الضحايا "4392"، وابن ماجه: الأضاحي "3131".
2 مسلم: الحج "1318"، والترمذي: الحج "904" والأضاحي "1502"، وأبو داود: الضحايا "2807"، وابن ماجه: الأضاحي "3132" ، وأحمد "3/ 293 ،3/ 363"، ومالك: الضحايا "1049".
3 كذا في الأصل والوجه في الإعراب أن يقال "مضحيا" في الموضعين؛ لأنه خبر لكون.
4 مسلم: الأضاحي "1967"، وأبو داود: الضحايا "2792" ، وأحمد "6/ 78".
* مجموع الفتاوى 26/ 310. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
بالشاة لأهل البيت الواحد" ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي أيوب، وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاق، وكان يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده: البدنة، والبقرة، والشاة. وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزئ عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل: لا تجزئ، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب، لا في الإجزاء. انتهى.
والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد، قال في المنهاج وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم يجز، والأحاديث المخالفة لذلك كحديث:"اللهم هذا عن محمد، وآل محمد"1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى.
وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة أن الشاة الواحدة لا يُضحَّى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم. وعلى هذا حمل ما روي أنه عليه السلام ضحى بكبش وقال:"اللهم تقبل عن محمد، وآل محمد"2 وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن التضحية كذلك، وأنها مسنونة لأهل كل بيت، وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب؛ لأنه قال:"وعن أمة محمد" انتهى.
[إخراج الزكاة المستحقة على المورث]
"المسألة الحادية عشرة": رجل غني مات، لكن غالب ماله؛ إما في ذمة صاحب عقار معسر، لا يحصل منه وفاء إلا من غلته، أو عند مماطل، أو جاحد ونحوه، فحصل من ذلك المال كل نوع بحسبه، فهل زكاته -لما مضى- واجبة من موت المورث إلى الحصول؟ وهل وقته الذي كان في حياة المورث واجبة على الوارث؟
1 أحمد "6/ 391".
2 أحمد "6/ 391".
فإن قلتم: نعم، وكان بعض الورثة لا يملك نصابا، فهل تكون الزكاة من رأس المال، أو على حصة من ملك نصابا؟
"الجواب": إذا اعتمدنا ما قطع به المتأخرون من وجوب الزكاة في الدَّين الذي على غير المليء كعلى المليء، لصحة الحوالة به عليه والإبراء منه، فإنه يكون في المسألة تفصيل، فإن كان قد مضى على الدَّين المذكور حَولٌ فأكثر من ملك ربه له قبل موته، فإن زكاته تخرج من تركته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا.
قال في المبدع: وإذا مات من وجبت عليه الزكاة أخذت من تركته؛ نص عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "فدين الله أحق بالقضاء"1 وصرحوا بأن الوارث لا يبني على حول مورثه، بل يستأنف حولا من ابتداء ملكه، وهو وقت موت المورث.
ثم إن كان قد مضى من موته في صورة السؤال حول فأكثر، وبلغ نصابا، زكاه صاحبه كذلك.
وإن لم يحل عليه الحول أو حال ولم يبلغ نصابا، فإنه لا زكاة فيه، هذا على المقطوع به عند المتأخرين من الروايات عن أحمد في المسألة.
وعنه رواية ثانية: أن الدين على غير المليء لا زكاة فيه مطلقا، صححها في التلخيص ورجحها جماعة، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين ذكره عنهم في المبدع، وقال: روي عن عمر وابن عمر؛ لأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهذا مفقود. انتهى.
وعنه رواية ثالثة: إنما يؤمل رجوعه كالدَّين على الغائب المنقطع خبره والمفلس، ففيه الزكاة، وما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه، قال أبو العباس: وهذا أقرب -إن شاء الله-، حكاه عنه في المبدع والإنصاف.
1 البخاري: الصوم "1953"، ومسلم: الصيام "1148"، وأبو داود: الأيمان والنذور "3310" ، وأحمد "1/ 227 ،1/ 258 ،1/ 362".
[وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة]
"المسألة الثانية عشرة": إذا وجد البائع عين ماله عند المفلس بشروطه المعتبرة، وكان المبيع جمع عددا أكثر بين عشرة إلى مائة، فهل إذا وجد بعضها يأخذه بقسطه، ويضرب فيما بقي مع الغرماء، أم يكون أسوة الغرماء، ولا يملك أخذ باقي سلعته؟
الجواب": هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد: "إحداهما": أنه يرجع في العين الباقية؛ جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف: أنه الصحيح من المذهب؛ لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه.
والرواية الثانية": أن المتعدد كغيره إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء؛ لتعذر كل العين. قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة. انتهى. وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين.
[التزام شروط الواقف ومن جوز تغييرها إلى الأصلح]
"المسألة الثالثة عشرة": إذا وقَّف إنسان وقفا على جهة معينة كعلى صوام المسجد الفلاني، ثم أراد الواقف 1 أو غيره صرفه إلى جهة أخرى؛ إما في تلك البلد، أو في بلد أخرى، هل له ذلك، أم لا؟
"الجواب": يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة على الصحيح من المذهب؛ نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب.
وقال الشيخ تقي الدين*: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صُرِف إلى الجند. انتهى من الإنصاف.
فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه. ووجه الأول وقوع الوقف لازما، وانتقال الملك
1 كذا في الأصل؛ وهو من أوقف لغة تميم، وأنكرها بعضهم.
* "الاختيارات الفقهية" لابن اللحام ص 509، و"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" 7/ 57، وهو في "المستدرك على مجموع الفتاوى" 4/ 96. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
فيه بمجرد عقده إلى الله -سبحانه-، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين.
قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والموقف وغيره في هذا سواء؛ لزوال الملك عنه في الموقوف.
[ما تصح به العقود من قول وفعل]
"المسألة الرابعة عشر": إذا وقف إنسان وقفا، وأشهد عليه، وكتب به، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعُرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظنا منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهما عالمان منه إرادة التعقيب دون التشريك، إلخ.
"الجواب": يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغاتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء؛ لكون العقود بالمقصود.
قال أبو العباس*: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال:
"أحدها" أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع، والإجارة، والنكاح، والوقف، والعتق، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكون الأصل عندهم هو اللفظ.
"والقول الثاني" أنها تصح بالأفعال كالوقف؛ كمن بنى مسجدا، أو أذن للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة. فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها لفسدت أكثر أحوال الناس، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجر به العرف.
"والقول الثالث" أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا، أو إجارة فهو بيع، أو إجارة. وإن اختلف اصطلاح
* "القواعد النورانية" ص 153، وهو في مجموع الفتاوى 29/ 5. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما يتعاقدون به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد، فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر، ولا نظر.
وهذه القاعدة من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي يعرفها العامة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو أنه من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصا. والمنصف لا يعدل عنه.
[رد اللقطة لصاحبها]
"الخامسة عشرة": إذا التقط رجل لقطة فطلبها صاحبها، وكتمها الملتقط؛ ليبذل عليها صاحبه مالا، هل له أخذ المال على هذا المنوال، أم لا؟ فإن قلتم: لا يحل، فهل يملك الباذل الرجوع، أم لا؟ وهل لقوله حال الإنشاد: حلال من الله، تأثير، أم لا؟
الجواب": لا يحل له أخذ المال المبذول، والحال ما ذكر؛ لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا، متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين.
قال أبو بكر في التنبيه: ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الضالة المكتومة غرامتها، ومثلها معها"1 وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد. اهـ.
وصرح الفقهاء بأن أجرة المنادي عليه، وبكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب به نفس باذله بعد علمه بالحال،
1 أبو داود: اللقطة "1718".
وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله، لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة قبل بلوغه بذل مالكها للجعل أنه يحرم عليه أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة له، لكنه لم يسمعه، وهو في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه محرما عمدا، أو يمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم.
[التحكيم ونفوذ حكم الحكم بالتراضي أو مطلقا]
"السادسة عشرة": إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله، أم لا؟ وهل يفرق بينه وبين غيره، أم لا؟ وهل هو محسن، أم لا؟
"الجواب": إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما، جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وللشافعي قولان:"أحدهما": لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله هو الحكم فلِمَ تكنى أبا الحكم؟، قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمَن أكبر ولدك؟، قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح"1 أخرجه النسائي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيَّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. اهـ من شرح المقنع.
وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح، واللعان في ظاهر كلامه، وهو المذهب، وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَود وحدّ، وقذف ولعان ونكاح، وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطأ على عاقلة من رضي بحكمه، وما قاله في الإنصاف أولا هو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده، قال في
1 النسائي: آداب القضاة "5387"، وأبو داود: الأدب "4955".
التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقا، قال في حاشيته: أي سواء وجد حاكم أم لا. اهـ. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض.
وقال في الاختيارات: إذا حكّم أحد الخصمين خصمه، جاز لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكّما مفتيا في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزم، فإن أراد أحدهما الامتناع؛ فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. اهـ. فقد ظهر -مما قلناه- لزوم ما حكم به.
وأما اشتراط الأهلية فكتب الأصحاب طافحة بها لصحة حكمه ولزومه، وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق، وأما اتصافه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن.
وليكن هذا ختام ما نقلناه، وختام ما قلناه، في هذه الألفاظ اللائحة، والأحرف الواضحة، جعله الله -تعالى- في مقام الإخلاص والتقوى السبب الأقوى، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم.
"انتهت"