الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكَلامُ المُنْتَقى مما يتعلّق بكلمَة التقوى
"لا إله إلّا الله"
تأليف
العلامة سعيد بن حجي الحنبلي النجدي
رحمه الله وعفا عنه آمين
تنبيه
قد ظفرنا بهذه الرسالة بعد طبع الرسائل التي أرسلها إلينا الإمام والملك الهمام، فاستحسنا أن نجعلها مسك الختام
من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية
الإمام عبد العزيز آل سعود
ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
أيده الله ووفقه
(وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين)
الكلام المنتقى مما يتعلق بكلمة التقوى للشيخ سعيد بن حجي
…
بسم الله الرحمن الرحيم
"رب عونك"
إلى الأخ الشيخ: محمد بن أحمد الحفظي -حفظه الله من الآفات، وجنبه الشرك والبدع المضلات- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"أما بعد" فوصل الكتاب، وفهمنا مضمون الخطاب، وهو قولكم: الشوق إلى الاطلاع على فوائدكم، وما تنتجه القريحة من عوائدكم، وهاهنا عشرة أفصاص في كلمة الإخلاص، أفيدونا بالكلام عليها وهي هذه: لفظها، معناها، حقها، حقيقتها، حكمها، لازمها، فائدتها، مقتضاها، نواقضها، متمماتها. اهـ ملخص جوابكم.
[أصل التقوى وحقيقة معناها]
"فالجواب وبالله التوفيق" قولكم: هاهنا يشعر أن العشرة لديكم أفصاص، لو قلت أفحاص، أي أبحاث لكان أنسب للمقام 1 وكلمة الإخلاص هي لا إله إلا الله، فأمرها عظيم، وخطبها جسيم، أعلاها مثمر، وأسفلها مغدق، وهي كلمة التقوى. قال الله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 2 قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كلمة التقوى "لا إله إلا الله" وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. اه من البغوي، وقال البيضاوي وغيره: أضاف الكلمة إلى التقوى لأنها سببها، أو كلمة أهلها اهـ.
وأصل التقوى اتخاذ وقاية تقيه مما يخافه ويحذره. فتقوى العبد لله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي امتثال أوامره، واجتناب زواجره.
1 الفص يجمع على فصوص، والفحص مصدر الأصل فيه ألا يجمع إلا باعتبار أفراده، وفص الخاتم قلبه الذي ينقش فيه الاسم وفصوص العظام مفاصلها. قال في أساس البلاغة: وفلان حزاز الفصوص إذا كان مصيبا في رأيه، وآتيك بالأمر من فصه أي من محزه وأصله. وقرأت في فص الكتاب كذا. ومنه فصوص الأخبار اهـ فاستعمال الفصوص في مسائل كلمة التوحيد أفصح من استعمال الأفحاص أو الفحوص.
2 سورة الفتح آية: 26.
وقولكم: أفيدونا بالكلام عليها. فلست أهلا لذلك؛ لأن علمي لم يصل إلى ذلك، "وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. ونذكر قبل الشروع في المرام، مقدمة في فضل العلم لتكون له كالتمام: وقد ورد في فضل العلم آيات كثيرة، وأخبار صحيحة شهيرة، وله آداب وشروط، من أهمها الإخلاص لله تعالى في طلبه.
قال الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين النووية المسمى "جامع العلوم والحكم": وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله -تعالى- كما خرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله -تعالى-1 لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة 2 يوم القيامة". وخرج الترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"3 وخرجه ابن ماجه بمعناه. وجاء من حديث جابر: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتتخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" اهـ.
وقال الشهاب أحمد بن حجر العسقلاني في شرح الأربعين النووية عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنما أهلك الذين من قبلكم"4 الحديث: إن كثرة السؤال من غير ضرورة مشعر بالتعنت أو مفض إليه، وهو حرام. وقد نهى الشارع عن قيل وقال وكثرة السؤال اهـ.
وقال في الإحياء: حقيقة الإخلاص أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وتخلص عنه يسمى خالصا، ويسمى الفعل المخلص المصفى، والتصفية إخلاصا، قال الله تعالى:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} 5 فإذا خلص الفعل عن الرياء كان لله خالصا اهـ.
1 أي من العلوم الدينية وخرج بهذا القيد العلوم المعاشية من فنون الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها فهذه تتعلم لأجل عرض الدنيا، ولا يدخل متعلمها في هذا الوعيد، بل هو مأجور عليها؛ لأنها من فروض الكفايات.
2 عرف الجنة - بفتح العين المهملة وسكون الراء - ريح الجنة.
3 ابن ماجه: المقدمة "253".
4 تتمته "كثرة سؤلهم واختلافهم على أنبيائهم" وهذا الشرح لابن حجر الهيتمي الفقيه، لا للحافظ العسقلاني.
5 سورة النحل آية: 66.
وقال ابن القيم رحمه الله: من الناس من يحرم العلم لعدم حسن السؤال إما أنه لا يسأل، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه.
وقال سلمان لحذيفة: إن العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه.
[ضبط ألفاظ كلمة التوحيد وإعرابها]
(رجعنا إلى الجواب)
"أما لفظها" فقال في المختصرة المسماة "فاكهة القلوب والأفواه، في تحقيق ما يتعلق بلا إله إلا الله، محمد رسول الله" المنتخبة من شرح محمد بن يوسف السنوسي:
فصل
في ضبط هذه الكلمة
فينبغي للذاكر أن لا يمد ألف "لا" جدا، وأن يقطع الهمزة من إله، إذ كثيرا ما يلحن بعض الناس فيردها ياء، وكذلك يفصح بالهمزة من "إلا" ويشدد اللام بعدها، إذ كثيرا ما يلحن بعضهم فيرد الهمزة أيضا ياء ويخفف اللام، وأما كلمة الجلالة والتعظيم التي بعد "إلا" فلا يخلو إما أن يقف عليها الذاكر أو لا، فإن وقف تعين عليه السكون، وإن وصلها بشيء آخر كأن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فله فيها وجهان: الرفع وهو الأرجح، والنصب وهو مرجوح.
وقد ذكر أهل التجويد في اسم الله تعالى: المحافظة على ترقيق ألفه، وأن لا يزيد فيها على مقدار المد الطبيعي، وترقق لام "الله" إذا كسرت، أو كسر ما قبلها، وقد أجمعوا على تفخيمها بعد فتحة أو ضمة.
فصل
(في إعراب هذه الكلمة)
قد احتوت على صدر وعجز، فعجزها ظاهر الإعراب، إذ هو جملة من مبتدأ وخبر ومضاف إليه، وأما صدرها فلا فيه نافية "وإله" مبني معها لتضمنه معنى "من"
إذ التقدير لا من إله، ولهذا كانت نصا في العموم، كأنه قد نفى كل إله غيره عز وجل من مبدأ ما يقدر منها إلى ما لا نهاية له، بني الاسم معها للتركيب، وذهب الزجاج إلى أن اسمها معرب منصوب بها، وإذا فرعنا على المشهور من البناء فموضع الاسم نصب ب"لا" العاملة عمل "إن"، وقال الأخفش:"لا" هي العاملة فيه.
ونقل السنوسي كلاما قال: قال أهل العلم: إن الاسم المعظم في هذا التركيب يرفع، وهو الكثير ولم يأت في القرآن غيره، وقد ينصب، فالرفع بالبدلية أو على الخبرية، فالقول بالبدلية هو المشهور، وهو رأي ابن مالك، ثم الأقرب أن يكون البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أما القول بالخبرية في الاسم المعظم فقد قال به جماعة.
ومن البسيط الوافي: "لا إله إلا الله" الأصل فيه: الله إله، فلما أريد قصر الخبر على المبتدأ، وهو من قصر الصفة على الموصوف، قدم الخبر فاقترن بإلا لأن المقصور عليه هو الذي يلي إلا، والمقصور هو الواقع في سياق النفي.
ومن القواعد: أن المبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر.
والله مرفوع على أنه بدل من اسم "لا" حملا على محله البعيد الذي هو الرفع بالابتداء الحاصل بالتحويل إليه بعد التقديم وقبل اعتبار النسخ، والتقدير: لا إله موجود في الوجود إلا الله، وهذا هو التقدير المشهور.
فصل
[معنى كلمة التوحيد]
وأما معنى هذه الكلمة فلا تتسع له هذه الرسالة، لكن لا نخل ببعضه والله المستعان.
فلا شك أنها محتوية على نفي وإثبات، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا عز وجل والمثبت من تلك الحقيقة فرد واحد، وهو مولانا عز وجل وأتي بإلا لقصر حقيقة الإله على الله تعالى-، وهو الواجب الوجود المستحق للعبادة، المعبود بحق، وهو الخالق المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه. انتهى كلام صاحب فاكهة القلوب ملخصا.
ومنه قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية: هذا الخطاب يعم أهل الكتاب ومن جرى مجراهم، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله:{أَلا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا وثنا، ولا صليبا، ولا صنما، ولا طاغوتا، ولا نارًا، ولا نبيا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل ثم قال تعالى:{وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال ابن جرير: يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، وقال عكرمة: يعني يسجد بعضنا لبعض، انتهى ملخصا.
فقد علمت أن معنى لا إله إلا الله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وشيئا أنكر النكرات، وأن لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله.
ومنه قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} 2 الآية، فالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أصلها تصديق بالجنان، وفرعها إقرار باللسان، وأكلها عمل بالأركان. انتهى من تفسير الحنفي.
وفي تفسير البغوي "كلمة طيبة" لا إله إلا الله. انتهى. ثم ذكر نحو ما تقدم.
ومنه الكفر بعبادة غير الله وتوحيده، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 3 الآية: أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحَّد الله، فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 أي: فقد ثبت على الصراط المستقيم قال مجاهد: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 5 يعني الإيمان، وقال سعيد بن جبير
1 سورة آل عمران آية: 64.
2 سورة إبراهيم آية: 24، 25.
3 سورة البقرة آية: 256.
4 سورة البقرة آية: 256.
5 سورة البقرة آية: 256.
والضحاك: يعني لا إله إلا الله. انتهى ملخصا.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاا الَّذِي فَطَرَنِي} 1 الآية، أي: بريء من عبادتكم إلا الذي فطرني؛ لأنهم كانوا يعبدون الله والأوثان، أو إني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، انتهى ملخصًا من البيضاوي.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل"2 رواه البخاري.
وقال الشيخ أبو علي إمام أهل نجد في زمانه محمد بن عبد الوهاب في معنى لا إله إلا الله في"كتاب التوحيد" شيئًا عجبيًا، قال:"باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" إلى أن قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب فليراجع.
ومنه قوله رحمه الله في نبذة تسمى "كشف الشبهات": إذا تحققت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون هو التوحيد في العبادة، وهو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرزاق، فإنهم يعلمون أن ذلك هو الله وحده، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم هو إفراد الرب بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منهم. فإنه لما قال لهم:"قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3 الآية" انتهى كلامه رحمه الله.
1 سورة الزخرف آية: 26، 27،
2 مسلم: الإيمان "23" ، وأحمد "3/ 472 ،6/ 394".
3 سورة ص آية: 5.
[تعريف لفظ الإله ومدلوله]
"فرعان"
"الأول" في تعريف الإله، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: الله، أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام: ولذلك قيل يا ألله بالقطع، إلا أنه مختص بالمعبود بالحق، والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، واشتقاقه من أله إلهة وألوهة وألوهية، بمعنى عبد، وقيل: من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل: إنه علم لذاته العلية لأنه يوصف ولا يوصف به، والأظهر أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره صار له كالعلم، انتهى كلام البيضاوي ملخصا. وذكر العماد ابن كثير القولين.
"تنبيه"
انظر إلى قول البيضاوي المتقدم: والإله في الأصل يقع على كل معبود، ثم غلب على المعبود بحق، وقوله: والأظهر أنه وصف في أصله إلى آخره، وقول صاحب الفاكهة المتقدم، وهو من قصر الصفة على الموصوف، وقول أهل اللغة: أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه- ثم استعاره المشركون لما عبدوا من دونه، وإله على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي: معبود، ككتاب بمعنى مكتوب، وإمام بمعنى مؤتم به. انتهى من المصباح.
وانظر أيضا إلى قول الشيخ محمد المتقدم وهو قوله: فإن الإله عندهم هو الذي يقصد
…
إلى آخره، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} 1 الآية قال البيضاوي: يعبده إفرادًا وإشراكا، انتهى. فسمي المعبود إلها.
وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن
1 سورة المؤمنون آية: 117.
حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"1 رواه الترمذي في صحيحه فتأمل هذا الحديث وقصة بني إسرائيل المشار إليها تجدها مصرحة بما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فالمقصود أن لفظة "إله" اسم صفة لكل من قصد بشيء من العبادة، كاسم القاضي لمن ولي القضاء، والأمير لمن تأمر، والإمام والمؤذن ونحو ذلك، فكل من قصد مخلوقا بشيء من العبادة فهو إله لمن قصده، والإله الأعظم المستحق للعبادة، المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال هو الله تبارك وتعالى.
وهذا بخلاف اسم الجلالة، فإنه علم على الرب تبارك وتعالى مختص به وهو المعبود بالحق، فإنه لم يسم به غيره قال الله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2.
[تعريف العبادة]
الفرع الثاني
(في تعريف العبادة)
قال العماد ابن كثير في تفسيره: العبادة في اللغة من الذلة، يقال طريق معبد أي مذلل، وبعير معبد أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف انتهى.
وعبارة البيضاوي في تفسيره: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أي: مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة؛ ولذلك
1 القذة ريشة السهم، أي كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع يضرب مثلا لشيئين يستويان ولا يتفاوتان.
2 سورة مريم آية: 65.
لا يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى انتهى.
وفي حاشية الشهاب على البيضاوي: العبادة أبلغ من العبودية التي هي إظهار التذلل، وعرفت العبادة بأنها فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله تعالى. انتهى. والعبادة اسم جنس يشمل جميع أنواعها 1.
تنبيه
اعلم أن مبنى العبادة على الأمر لتظاهر الأدلة على ذلك، فمنها قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إ} 2 في أمر الدين والعبادة {إِلَاا لِلَّهِ} 3 ثم بين ما حكم به فقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 4 الثابت الذي دلت عليه البراهين الآية وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 5 أمر أمرًا مقطوعا به {أَلَاا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 6 "أن" مفسرة، ولا تعبدوا أي: بأن لا تعبدوا، انتهى من تفسير الحنفي 7.
وقال البغوي في تفسيره: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 8 أي: أمر ربك. قاله ابن عباس وقتادة والحسن. انتهى.
وقد تقدم في حديث أبي واقد الليثي قول الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا.
1 هذا في العبادة الشرعية. وكل ما قدم من معناها اللغوي فهو من التعريف بالرسم والخواص. وأما حقيقة معناها الفطري الذي يصدق عليها عند العرب وغيرهم أنها: كل تعظيم وتقرب بقول أو فعل يبعث عليه الشعور بالسلطان الغيبي الذي هو مصدر النفع ودفع الضر بذاته لا بالأسباب، وأعظم هذه العبادة الدعاء بطلب منفعة أو دفع مضرة تعذر على الداعي بكسبه واتخاذ الأسباب له فلجأ إليه بشعوره بذلك السلطان الخاص برب العالمين القادر على كل شيء العالم بكل شيء الذي يجير ولا يجار عليه، والنصوص تدل على هذا ولا سيما الآيات والأحاديث في الدعاء.
2 سورة يوسف آية: 40.
3 سورة يوسف آية: 40.
4 سورة يوسف آية: 40.
5 سورة الإسراء آية: 23.
6 سورة الإسراء آية: 23.
7 لعله النسفي.
8 سورة الإسراء آية: 23.
ذات أنواط، فإنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر.
وقد ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائله على التوحيد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"1 الحديث، متفق عليه وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
حق الإله عبادة بالأمر لا
…
بهوى النفوس فذاك للشيطان
إذا تمَّ هذا فالأمر هو استدعاء الفعل بالقول، ممن هو دونه على سبيل الوجوب عند الإطلاق والتجرد عن القرينة. فيحمل عليه والله أعلم.
فصل
في حكم كلمة التوحيد
وأما حكمها فقال في "فاكهة القلوب والأفواه": اعلم أن الناس مؤمن وكافر، فأما المؤمن بالأصالة فيجب أن يذكرها مرة في عمره وينوي بها الوجوب 2. ثم ينبغي له أن يكثر من ذكرها وليعرف معناها لينتفع بها، وأما الكافر فذكره
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة "7288"، ومسلم: الحج "1337"، والنسائي: مناسك الحج "2619"، وابن ماجه: المقدمة "2" ، وأحمد "2/ 482".
2 قد قال كثير من العلماء مثل هذا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم-بناء على أن الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} للوجوب، وأن الامتثال يحصل بمرة واحدة. ومثل هذا التدقيق أو التقييد بالاصطلاحات لم يكن يخطر ببال الصحابة ولا غيرهم من علماء السلف أولي السليقة العربية، ولا يعقل أحد منهم ولا عاقل من غيرهم أن يوجد مسلم في العالم لا يذكر كلمة التوحيد في عمره إلا مرة واحدة أو مرتين أو مرارًا قليلة، دع وجوبها في الصلاة. ولنا أن نقول -على طريقتهم في الاستدلال: إن الله تعالى- أمر المؤمنين أن يذكروه ذكرًا كثيرًا ووصفهم بكثرة الذكر قياما وقعودًا وعلى جنوبهم، ووصف المنافقين بقلة الذكر. وأفضل الذكر لا إله إلا الله، فهي مما أمرنا بالإكثار منها أو في مقدمته - فحكمها الإكثار منها لا النطق بها مرة واحدة في العمر.
لهذه الكلمة واجب، وهو شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة. انتهى ملخصا.
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"1. قال علماؤنا رحمهم الله: إذا قال الكافر: لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"2.
ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار ماله ودمه معصومين، ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين، فقال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل"3 متفق عليه.
فبين أن تمام العصمة إنما يحصل بذلك 4 ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام.
1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
2 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
3 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".
4 التحقيق أن المراد بالحديثين واحد، وهو الدخول في الإسلام ومفتاح الدخول فيه من المشركين النطق بكلمة التوحيد فهو يعصم صاحبه في المعركة إذ لا مجال فيها لصلاة ولا زكاة، وأما الكفار الموحدون، فلابد من نطق أحدهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن النووي. وذكر الصلاة والزكاة في الحديث الآخر يراد به قبول شرائع الإسلام وركنها الديني المحض الأعظم الصلاة وركنها المالي الزكاة فمن دان بهما دان بغيرهما، فإن فرض أنه جحد الصيام أو الحج أو غيرهما مما علم من الدين بالضرورة حكم بكفره، وقد حققنا هذه المسألة في تفسير {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فيراجع في الجزء العاشر من تفسير المنار وسيأتي ما يؤيد هذا.
وقال النَوَوِيُّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله. فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل"1.
قال الخَطَّابِيُّ: "معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف". وذكر القاضي عِيَاض رحمه الله معنى هذا، وزاد عليه وأوضح، فقال:"اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله. تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دُعِي إلى الإسلام وقُوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقرُّ بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا الله. إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده؛ ولذلك جاء في الحديث الآخر: "أني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"". هذا كلام القاضي.
"قلت" ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به" انتهى كلام النَوَوِيّ، انتهى من رسالة الشيخ أحمد بن ناصِر الحَنْبَلِيّ المُسَمَّاة "الفَوَاكِهُ العِذَاب، في الرَّدِ على مَنْ لم يُحَكِّمْ السُّنَةَ والكِتَاب".
وقال الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ في شرح "الأَرْبَعِين": "ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما، وقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إله إلا الله. واشتد نكيره عليه".
وقال شهابُ الدين أحمد بن حَجَر على شرح "الأربعين النووية" نحو ذلك.
والمقصود أن حكم من قال: لا إله إلا الله. أنها تعصم ماله ودمه، ثم يُطالب بمعناها وحقها، كالكفر بعبادة غير الله، وشهادة رسالة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر شرائع الإسلام، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك.
1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
فصل
[حق كلمة التوحيد]
وأما حقها 1 فقال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": على حديث ابن عُمَر "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا"2 إلخ وتقدم، فقوله صلى الله عليه وسلم "إلا بحقها"3 وفي رواية:"إلا بحق الإسلام"4 قد سبق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضا. ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات، وقد روي تفسير حقها بذلك. خرج الطَبَرَانِيُّ وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل قيل: وما حقها؟ قال: زِنا بعد إِحْصان، وكُفْر بعد إيمان، وقَتْل نفسٍ فيقتل بها"5. ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزَّانِي، والنَّفس بالنفس، والتارِك لدينه المُفارِق للجماعة"6 انتهى.
وقد ذكر ابن رجب في شرح هذا الحديث أنه قد ورد قتل المسلم بغير هذه الثلاث، فمنها اللُّواط، ومنها من أتَى ذَاتَ مَحْرَمٍ، ومنها الساحِر، وذكر غير ذلك.
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نُبْذَةٍ له في الحب والبغض في الله: واعلم أن قول رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". "يدل" تحقيقا على أن الصلاة من حقها والزكاة من حقها والصوم من حقها والحج من حقها. فهذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا بحقها" يعني إذا أقرُّوا بالشهادتين وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجُّوا البيت "فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" انتهى. والله أعلم. (*)
(*) لم أجد هذا النقل. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
2 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
3 مسلم: الإيمان "21"، والترمذي: الإيمان "2606"، والنسائي: تحريم الدم "3971 ،3976 ،3977 ،3978"، وأبو داود: الجهاد "2640"، وابن ماجه: الفتن "3927 ،3928" ، وأحمد "1/ 11 ،2/ 377 ،2/ 423 ،2/ 502 ،3/ 300 ،3/ 332 ،3/ 394".
4 البخاري: الإيمان "25".
5 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
6 البخاري: الديات "6878"، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات "1676"، والترمذي: الديات "1402"، والنسائي: القسامة "4721"، وأبو داود: الحدود "4352"، وابن ماجه: الحدود "2534" ، وأحمد "1/ 382 ،1/ 428 ،1/ 444 ،1/ 465 ،6/ 181"، والدارمي: الحدود "2298" والسير "2447".
وأما لازمها، فالظاهر لي -والله أعلم- أنه داخل في حكمها وحقها المتقدمين، فتأملهما 1.
فصل
[نواقض كلمة التوحيد]
وأما نواقضها، فقال في "المطلع على أبواب المقنع":"النواقض واحدها ناقض، وهو اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده، فنواقض الوضوء مفسداته"، انتهى. ومنه "انقض الأمر بعد استقامته": فسد.
فنسأل الله الرحمن الرحيم، اللطيف الكريم، أن يحفظ علينا ديننا، وأن يمتِّعنا به، ويزيدَ إيماننا، وأن يدخلنا جنته برحمته، وأن يعيذنا من أليم نقمته، إنه جَوَادٌ كريم، ويجيب دعوة العباد.
فأما نواقض "لا إله إلا الله" فعسيرٌ إحصاؤها، ولا يكاد يُطاق استقصاؤها، وقد تقدم في معنى "لا إله إلا الله" وفي حكمها جمل من نواقضها، فتأمله، فنحيلك على باب المرتد.
[قول الفقهاء في حكم المرتد]
قال في "الإقناع" وشرحه -وهو العمدة عند متأخري الحنابلة-: (باب حكم المرتد) وهو الذي يكفر بعد إسلامه؛ نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، ولو كان هازلا،
1 اللزوم: الثبوت والدوام، وفسره بعضهم بعدم الانفكاك، فلازم الشيء ما يصحبه ولا ينفك عنه في الواقع، فلازم كلمة التوحيد ما هو أثر فِطريّ طَبعِيّ لاعتقاد مضمونها، وهو غير حقها وحكمها اللذان هما من وضع الشرع، لا من تأثير الطبع. فالمؤمن الموقن بأنه لا إله يعبد بحق إلا الله الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء من نفع وضُرّ، وعطاء ومنع يلزم يقينه هذا إخلاص الدعاء له وحده في كل شدة تعرض له، هذا ألصق لوازم الكلمة بصاحبها مهما يكن مسرفا على نفسه، فإذا كمل يقينه بكثرة الذكر والعبادة كان من لوازم توحيده كمال التوكل والشجاعة في الحق إلى غير ذلك، فأظهر لوازم كلمة التوحيد ألا يدعو صاحبها غير الله فيما هو وراء الأسباب، ولا يستغيث غيره في الشدائد، ولا ينذر ولا يذبح لغيره نسكًا. فويل للمشركين الذين يبيحون كل انفكاك هذه اللوازم عن كلمة التوحيد بدعاء غير الله .. إلخ، ويسمونه توسلا إلى الله لا شركا به.
وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو صفة من صفاته أو اتخذ له -أي الله- صاحبة أو ولدا، كفر، ومن ادَّعى النبوة أو صدَّق من ادَّعَاها أو جحد البعث، أو سب الله ورسوله، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر؛ لقوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن تيمية: "أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به الرسول اتفاقا". وقال أيضا: "أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم إجماعا". أي: كفر؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 انتهى من "الإقناع" وشرحه*.
فتأمل قوله: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه، فإن ظفرت بهذا الباب، ففيه ما يكشف الحجاب.
ونحيلك أيضا على كتاب "الإِعلام بقواطِعِ الإسلام" تأليف شهاب الدِّين أحمد بن حَجَرٍ الهَيْتَمِيّ الشَّافِعِيّ، فإنه ذكر فيه الألفاظ والأفعال التي توقع في الكفر عند الأئمة، حتى إنه ذكر أن العزمَ على الكفرِ كفرٌ في الحال.
[الردة التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم]
ونحيلك -أيضا- على نبذة ألفها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وذكر في آخرها سبع قصص.
"أولاهن" قصة الرِّدَّة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم:
وصورتها أن العرب افترقت في رِدَّتِها؛ فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات. وطائفة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي. وطائفة أقرَّت بالإسلام وصلُّوا، ولكن منعوا الزكاة. وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، ولكن صدَّقوا مُسَيْلِمَة الكَذَّاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة، ولم يشُك أحد من الصحابة في كفر من ذكرنا إلا مانعي الزكاة، فناظر أبو بكر عمر فيهم، فاقتنع عمر، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر، فقاتلوهم.
1 سورة التوبة آية:65، 66.
2 سورة الزمر آية: 3.
* "كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي 6/ 168. ولم أجده فيما بين يدي من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
"الثانية" قصة وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي أن بقايا بني حَنِيفة لما رجعوا إلى الإسلام وتبرءوا من مسيلمة تحملوا إلى الثغر بأهليهم، فنزلوا الكوفة، فسمع منهم كلام معناه: أن مسيلِمة على حق، وهم جماعة، فجمع عبد الله بن مسعود من عنده من الصحابة فاستشارهم، فاستتاب بعضهم وقتل بعضهم. وهذه القصة في "صحيح البخاري".
"الثالثة" قصة أصحاب عَلِيٍّ بن أبي طَالِب رضي الله عنهلما اعتقدوا فيه الإلهية، فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، فأضرم فيها النار، فقذفهم فيها وهم أحياء، وأجمع الصحابة وأهل العلم على كفرهم.
"القصة الرابعة" قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو رجل ظهر في العراق زمن التابعين يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، واستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجمعة والجماعة، لكن في آخر أمره ادَّعَى أمورا باطلة، وغلا غلوًّا فاحشا، وزعم أنه يوحى إليه، فسيَّر إليه عبد الله بن الزبير جيشا فهزم جيشه فقتلوه. وأجمع العلماء على كفر المختار بن أبي عبيد هذا.
"الخامسة" ما وقع في زمن التابعين، وهي قصة الجَعْد بن دِرْهَم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد صفات الله ضحَّى به خَالد بنُ عبد الله القَسْرِيّ بـ"واسط" يوم الأضحى وقال:"يا أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرْهَم؛ فإنه يزعم أن الله لم يَتَّخِذ إبراهيم خليلا، ولم يُكَلِّم موسى تكليما"، ثم نزل فذبحه. ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر عليه ذلك، بل ذكر ابن القيم في "النونية" إجماعهم على استحسانه فقال:
شكر الضحية كل صاحب سنة
…
لله درك من أخي قربان
ثم ذكر قصة بني عبيد الله القداح، ثم ذكر قصة التتار. اهـ ملخصا من كلام الشيخ المتقدم ذكره.
وذكر القاضي عِيَاض في كتاب "الشفاء" أن رجلا -لما أتى مطر يسير- قال: "ابتدأ الخراز يرش سيوره، وهو قريب للملك". فلم يأمر القاضي بقتله مداراة للملك، فغضب المسلمون عليه، ورفعوا أمره إلى السلطان، فأمر السلطان بقتل قريبه، وأمر بعزل القاضي الذي تركه مداراة، انتهى. فكل هؤلاء -الذين ذكرنا- لما نقضوا "لا إله إلا الله" جرى عليهم ما ذكرنا، والله أعلم.
فصل
(في بيان فضلها)
فاعلم أنه لو لم يكن في بيان فضلها إلا كونها علما على الإيمان في الشرع تعصم الدماء والأموال إلا بحقها، وكون إيمان الكافر موقوفا على النطق بها لكان كافيا للعقلاء، كيف وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة؟
فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له"1 رواه مالك في المُوَطَّأ. زاد الترمذي في روايته: "له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"2.
وروى النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"3.
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح نصف الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه"4.
وقال صلى الله عليه وسلم "ما قال أحد: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر"5.
وقال صلى الله عليه وسلم "أتاني آتٍ من ربي، فأخبرني أنه من مات يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فله الجنة، فقال له أبو ذر: وإنْ زنى أو سرق؟ قال: وإن زنى أو سرق، كررها
1 مالك: النداء للصلاة "498".
2 الترمذي: الدعوات "3585".
3 الترمذي: الدعوات "3383"، وابن ماجه: الأدب "3800".
4 الترمذي: الدعوات "3518".
5 الترمذي: الدعوات "3590".
ثلاثا، كل ذلك يقول: وإن زَنَى وإن سرق، وقال في الثالثة: رغم أنف أبي ذر".
وقال صلى الله عليه وسلم "من دخل القبر بلا إله إلا الله خلصه الله من النار".
وقال صلى الله عليه وسلم "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله. خالصا من قلبه".
وقال صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".
وعنه صلى الله عليه وسلم "لا إله إلا الله مفتاح الجنة".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لُقِّن عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي "الإحياء" عنه صلى الله عليه وسلم "لو جاء قائل لا إله إلا الله صادقا بقراب الأرض ذنوبا غفر له".
وقال: "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد عن الله شرود البعير عن أهله، فقيل: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من لم يقل لا إله إلا الله".
فأكثِرُوا من قول لا إله إلا الله من قبل أن يحال بينكم وبينها؛ فإنها كلمة التوحيد، وهي كلمة الإخلاص، وهي كلمة التقوى، وهي الكلمة الطيبة، وهي دعوة الحق، وهي العُروة الوُثْقَى، وهي ثمن الجنة.
وفي "الإحياء" أيضا قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلا الأِحْسَانُ} 1 فقيل: الإحسان في الدنيا لا إله إلا الله، وفي الآخرة الجنة. اهـ ملخصا من "فاكهة القلوب والأفواه".
[فوائد لا إله إلا الله]
أما فائدة لا إله إلا الله فقال أهل اللغة: الفائدة ما استفدته من علم أو مال، وما أفادت له فائدة أي حصلت: وأفدت المال استفدته.
وقال في فاكهة القلوب والأفواه:
1 سورة الرحمن آية: 60.
فصل
(في الفوائد التي تحصل لذاكر هذه الكلمة المشرفة وهي كثيرة)
فمنها الزهد، ونعني به خلو الباطن من الميل إلى فانٍ، وفراغ القلب من الثقة إلى زائل، وإن كانت اليد معمورة بمتاع حلال فعلى سبيل العارية.
ومنها التوكل، وهو ثقة القلب بالوكيل الحق، بحيث يسكن عن الاضطراب عند تعذر الأسباب ثقة بمسبب الأسباب، ولا يقدح في توكله تلبس ظاهره بالأسباب إذا كان قلبه فارغا منها.
ومنها الحياء بتعظيم الله عز وجل بدوام ذكره، والتزام امتثال أمره ونهيه، والإمساك عن الشكوى إلى العجزة.
ومنها الغناء، وهو غناء القلب بسلامته من فتن الأسباب، فلا يعترض على الأحكام بـ"لو، ولعل"؛ لعلمه بمن صدرت عنه عز وجل.
ومنها الفتوة، وهي التجافي عن مطالبة الخلق بالإحسان إليه ولو أحسن إليهم؛ لعلمه بأن إحسانه وإساءتهم إليه، كل ذلك مخلوق لله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1.
ومنها الشكر، وهو إفراد القلب بالثناء على الله تعالى، ورؤية النعم في طي النقم.
ومنها وضع البركة في الطعام ونحوه، حتى يكثر القليل ويكفي اليسير، وهذا مشاهد لأولياء الله تعالى. انتهى ملخصا.
"قلت" ومنها أنها تعصم الدم والمال لمن قالها إلا بحقها كما تقدم.
ومنها أن من مات عليها دخل الجنة؛ لحديث معاذ مرفوعا: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله. دخل الجنة"2 رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وغيره من الأحاديث الدالة على ذلك، وقد تقدم بعضها، والله أعلم.
[تحقيق معنى كلمة التوحيد وإيضاحه]
ثم بعد نقل هذه الرسالة من الكتب المذكورة -مع ما فتح الله به- سنح لي أن
1 سورة الصافات آية: 96.
2 أبو داود: الجنائز "3116" ، وأحمد "5/ 233 ،5/ 247".
أذكر كلاما ذكره الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب -المتقدم ذكره- على كلمة الإخلاص يليق ذكره هنا، فإنه ذكر شيئا من تحقيق لا إله إلا الله، وتحقيق أن مُحَمَّدًا رسول الله، وما تقتضي لا إله إلا الله وشيئا من أنواع العبادة، وشيئا من الشرك، وشيئا من فضل لا إله إلا الله.
قال رحمه الله في أثناء كلامه:
فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يؤله القلب غير الله؛ حبا ورجاء، وخوفا وتوكلا، واستعانة وخضوعا، وإنابة وطلبا.
وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله، أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقد جاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحا أنه قال:"من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: ما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: أن تحجزك عما حرَّم الله عليك"1 وهذا يُروى من حديث أنس بن مالك وزيد بن أرقم، ولكن إسنادهما لا يصح، وجاء أيضا من مراسيل الحسن نحوه.
وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا إله غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي من خصائص الإلهية - كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه، أو التوكل عليه، أو العمل لأجله. كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت.
1 الترمذي: الإيمان "2638".
وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر، كالطيرة والرقى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون.
وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادِح في تمام التوحيد وكماله، ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي مَنْشَؤها من اتباع هوى النفس أنها كفر وشرك كقتال المسلم، ومن أتى حائضا أو امرأة في دُبُرِها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف:"كفر دون كفر، وشرك دون شرك".
وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1 قال الحَسَن: "هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه". وقال قَتَادَة: "هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى".
ورُوي من حديث أبي أُمَامَةَ مرفوعا بإسناد ضعيف: "ما تحت السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع". وفي حديث آخر: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك ردت عليهم، وقيل لهم: كذبتم". ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ عبد القطيفة، تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَش"2 فدل هذا على أن كل من أحب شيئا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه.
ويدل عليه أيضا أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان، كما قال تعالى:{لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 3 وقال -تعالى- حاكيا
1 سورة الجاثية آية: 23.
2 انتكس: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، "وإذا شِيكَ فَلا انْتَقَش": إذا دخلت فيه شوكة لا أخرجها من موضعها بالمنقاش.
3 سورة يس آية: 60.
عن خليله إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} 1.
فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته له ولم يخلص من عبادة الشيطان، إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 2 فهم الذين حققوا قول: "لا إله إلا الله"، وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله، محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول "لا إله إلا الله"، وهم عباد الله حقا.
فأما من قال: "لا إله إلا الله" بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 3 {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4.
فيا هذا، كن عبدًا لله لا عبدا للهوى؛ فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 5 "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار"6.
والله ما ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت معه إلى شيء من الأغيار.
من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
كان بعض العارفين يتكلم على أصحابه على رأس جبل، فقال في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردا بفرد، فانزعج واضطرب حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدَكْدَكَت، وبقي على ذلك ساعات، فلما أفاق فكأنه نشر من قبره.
قَول "لا إله إلا الله"، يقتضي أن لا يحب سواه؛ فإن الإله هو الذي يطاع محبة وخوفا ورجاء، ومن تمام محبته محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئا مما يكرهه الله أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله
1 سورة مريم آية: 44.
2 سورة الحجر آية:42.
3 سورة القصص آية:52.
4 سورة ص آية: 26.
5 سورة يوسف آية: 39.
6 البخاري: الجهاد والسير "2887"، وابن ماجه: الزهد "4136".
إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم} 1.
قال لَيْثُ بنُ سَعْدٍ عن مُجَاهِد في قوله تعالى: {لا يُشْرِكُونَ} 2 قال: "لا يحبون غيري". وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب الذرة على الصفا 3 في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور أو يبغض على شيء من العدل".
وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4.
وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي. وقال الحسن:"اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته".
وسُئل ذو النُّون: متى أحب ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر". وقال بِشْرُ بنُ السَّرِيِّ: "ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك". وقال أبو يعقوب النَّهرَجورِيُّ: "كل من ادَّعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة". وقال رُوَيْم: "المحبة: الموافقة في جميع الأحوال". وأنشد:
ولو قلت لي: مِتْ، مِتُّ سمعا وطاعة
…
وقلت لداعي الموت: أهلا ومرحبا
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5 قال الحسن: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله هذه الآية".
ومن هنا يُعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا يتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من طريق الرسول، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله.
1 - سورة محمد آية: 28.
2 -
سورة النور آية: 55.
3 -
الذرة: النملة الصغيرة، والصفا: الحجر الأملس.
4 -
سورة آل عمران آية: 31.
5 -
سورة آل عمران آية: 31.
وتصديقه ومتابعته؛ ولهذا قَرَنَ الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 كما قَرَنَ طاعته بطاعة رسوله في مواضع كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"2.
هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل نفوسهم، وقالوا لفرعون:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3.
ومتى تمكنت المحبة في القلب، لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب، وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرَّجه البُخَارِيُّ في صحيحه، وفيه:"ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"4 وقد قيل في بعض الروايات: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي".
والمعنى أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى رضاء الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها.
يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} 5 ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه.
وفي بعض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على
1 - سورة التوبة آية: 24.
2 البخاري: الإيمان "16"، ومسلم: الإيمان "43"، والترمذي: الإيمان "2624"، والنسائي: الإيمان وشرائعه "4987"، وابن ماجه: الفتن "4033" ، وأحمد "3/ 103 ،3/ 174 ،3/ 230".
3 -
سورة طه آية: 72.
4 البخاري: الرقاق "6502".
5 -
سورة الحج آية: 11.
معصية، فإن كانت على طاعة تقدمت، وإن كانت على معصية تأخرت. هذا حال خواص المحبين الصادقين.
فافهموا -رحمكم الله- هذا؛ فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا المقام أشار صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحِبُّوا الله من كل قلوبكم" وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره. فإنه من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله:
أَرَوحُ وقَدْ خَتَمْتَ عَلَى فُؤَادِي
…
بحبِّكَ أَنْ يَحِلَّ بِهِ سِواكَا
فَلوْ أنِّي استَطَعْت غَضَضْت طَرفيِ
…
فَلَمْ أَنْظُرْ بهِ حَتَّى أَرَاكَا
أُحبُّك لا بِبَعْضِي، بَلْ بِكُلِّي
…
وَإِنْ لَمْ يُبقِ حُبُّكَ لِي حَرَاكَا
وفي الأحْبَابِ مَخْصُوصٌ بوَجدٍ
…
وآخرُ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا
إذا اشتَبَكَت دُموعٌ في خُدُودٍ
…
تَبَينَ مَنْ بَكى مِمَنْ تَبَاكَى
ومتى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى؛ إنما المحب من يفنى عن كل هوى ويبقى بحبيبه "فبي يسمع وبي يبصر" القلب بيت الرب، وفي بعض الإسرائيليات: ما وسعني سمائي ولا أرضي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن.
فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى. الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه، أو أن يكون فيه شيء لا يرضاه.
أَرَدْنَاكُمُ صِرفًا فلَّمَا مُزِجْتُمُ
…
بَعُدتُم بِمقْدَار التِفَاتِكم عَنَّا
وقُلْنَا لَكُم لا تُسْكِنُوا القَلْبَ غَيْرَنَا
…
فأَسْكَنْتُم الأَغْيَار، مَا أَنْتُم مِنَّا
لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1 السليم هو الطاهر من أدناس
1 - سورة الشعراء آية: 88 - 89.
المخالفات، فأما المُتَلَطِّخُ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدس إلا بعد أن يُصهر في كِير العذاب، فإذا زال عنه الخَبَث صلح حينئذ للمجاورة "إنَّ الله طيبٌ لا يقْبَلُ إلا طيِّبًا"فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 1 {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 2.
من لم يحرق قلبه اليوم بنار الأسف على ما أسلف، أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب، فنار جهنم له أشد حرًّا، ما يحتاج للتطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه.
أول من تُسَعَّر بهم النار من الموحدين العباد المُراءون بأعمالهم، وأولهم العالم والمجاهد والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك.
ما نظر المُرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق.
المرائي يُزوِّر التوقيع على اسم الملك؛ ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرف الملك بالكلية.
نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج، والبهرج لا يجوز إلا على غير الناقد، وبعد أهل الرياء يدخل النار أصحاب الشهوات وعبيد الهوى، الذين أطاعوا هواهم، وعصوا مولاهم. وأما عبيد الله حقا فيقال لهم:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3.
جهنم تنطفي بنور إيمان الموحدين، في الحديث:"تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمن؛ فقد أطفأ نورك لهبي".
وفي المسند عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم" هذا ميراث ورثه المحبون من حال الخليل عليه السلام.
1 - سورة الزمر آية: 73.
2 -
سورة النحل آية: 32.
3 -
سورة الفجر آية: 27 - 30.
نار المحبة في قلوب المحبين تخاف منها نار جهنم، قال الجنيد:"قالت النار: يا رب، لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء؟ قال: نعم؛ كنت أسلط عليك ناري الكبرى. قالت: وهل نار أعظم مني وأشد؟ قال: نعم؛ نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين"1. في الحديث: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله" قال بعضهم: من أخبرك أن وليه له هم في غيره فلا تصدقه.
وكان داود الطائي يقول: همك عطل على الهموم، وحالف بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.
ما لي شغل سواه ما لي شغل
…
ما يصرف عن هواه قلبي عذل
ما أصنع إن جفا وخاب الأمل
…
مني بدل ومنه ما لي بدل
إخواني: إذا فهمتم هذا المعنى فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار"فأما من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر سوى الله فمن قلة الصدق في قولها.
من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، لم يرْجُ سواه، لم يخْشَ أحدا إلا الله، لم يتوكل إلا على الله، لم يبق له بقية من أثر نفسه وهواه.
ومع هذا، فلا تظنوا أن المحب مطالب بالعصمة؛ وإنما هو مطالب كلما زلَّ أن يتلافى تلك الوصمة، قال زيد بن أسلم:"إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه أن يقول: اذهب فاعمل ما شئت فقد غفرت لك"2 وقال الشعبي: "إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب".
1 إن صح هذا عن الجنيد فمراده منه أن نار الحب أشد حرا من جهنم بطريقة التمثيل لا الرواية، وهو أشبه بكلام جهلة الصوفية منه بكلام الإمام الجنيد "رح".
2 أخذ هذا من حديث أهل بدر الصحيح.
وتفسير هذا الكلام: أن الله عز وجل له عناية بمن يحبه من عباده، فكلما زلق ذلك العبد في هوة الهوى أخذ بيده إلى النجاة، ويسّر له أسباب التوبة، ينبهه على قبح الزلة، فيفزع إلى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفرة لما جنى.
في بعض الآثار يقول الله عز وجل "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب". وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى تذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث".
وفي المُسْنَد وصحيح ابن حِبَّان عن عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ: "أن رجلا لقِي امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت: مَهْ؛ فإن الله قد أذهب الشرك وجاء بالإسلام. فتركها وولَّى، فجعل يلتفت خلفه وينظر إليها، حتى أصاب وجهه
…
1 فأخبره بالأمر، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت عبد أراد الله بك خيرا. ثم قال: إن الله إذا أراد بعبده شرا أمسك عنه بذنبه حتى يوافي يوم القيامة".
يا قوم، قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرُشُّوا عليها من دموع العيون فقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى؛ فالِحمْيَة رأس الدواء، متى طالبتكم بمألوفاتها فقولوا كما قالت تلك المرأة لذلك الرجل الذي دمي وجهه:"قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام"، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة، ذكروها مدحة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2.
راود رجل امرأة في فَلاة ليلا فأبَتْ، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: فأين مُكَوْكِبُهَا؟
1 بياض في الأصل. والمفهوم من السياق أنه أصاب وجهه جدار أو نحوه فدمي. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
سورة فصلت آية:30.
أكره رجل امرأة على نفسها، وأمرها بغلق الأبواب، فغلقت، فقال لها: هل بقي باب لم تغلقيه؟ قالت: نعم، الباب الذي بيننا وبين الله تعالى. فلم يتعرض لها.
رأى بعض العارفين رجلا يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما.
سُئل الجُنَيْد: عما يستعان به على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وقال المُحَاسِبِيُّ: المراقبة علم القلب بقرب الرب، كلما قويت المعرفة بالله قوي الحياء من قربه ونظره.
وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا "أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالح عشيرته لا يفارقه" قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك.
كان بعضهم يقول: لي منذ أربعين سنة ما خطوت خطوة لغير الله، ولا نظرت إلى شيء أستحسنه؛ حياء من الله عز وجل.
كأن رقيبا منك يرعى خواطري
…
وآخر يرعى ناظري ولساني
فما أبصرت عيناي بعدك منظرا
…
لغيرك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من فيَّ بعدك لفظة
…
لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة
…
على القلب إلا عرجت بعناني
فصل
[فضائل كلمة التوحيد]
وكلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن -هاهنا- استقصاؤها، فنذكر بعض ما ورد فيها:
[كلمة التقوى والإخلاص]
فهي "كلمة التقوى" كما قال عمر وغيره من الصحابة.
وهي كلمة الإخلاص، وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ونجاة العبد، ورأس هذا الأمر، ولأجلها خلق الخلق، كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1. ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} 3.
وهذه الآية أول ما عدَّد الله على عباده من النعم في سورة النعم التي تُسمى "سورة النحل"؛ ولهذا قال ابن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرَّفه "لا إله إلا الله"، وإن "لا إله إلا الله" لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه حلال".
[مفتاح دعوة الرسل]
وهي مفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحا 4 وفي مسند البزَّار وغيره عن عِيَاض بن حمار الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لا إله إلا الله كلمة حق على كريم، ولها من الله مكان". كلمة جمعت وشركت
وهي كلمة جمعت وشركت، فمن قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا أحرزت ماله وحقنت دمه، ولقي الله فيحاسبه.
[مفتاح الجنة ونجاة من النار]
وهي مفتاح الجنة، وهي ثمن الجنة كما تقدم، قاله الحسن، وجاء مرفوعا من وجوه ضعيفة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وهي نجاة من النار، و"سمع النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: خرج من النار" خرَّجه مسلم.
[توجب المغفرة]
وهي توجب المغفرة، في المسند عن شَدَّاد بنِ أَوْسٍ وعُبَادَة بنِ الصَّامِت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنة عليها، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا؛ فإن الله قد غفر لكم"5.
[أحسن الحسنات]
وهي أحسن الحسنات، قال أبو ذر قلت: "يا رسول الله، علمني عملا يقربني من
1 سورة الذاريات آية: 56.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 سورة النحل آية: 2.
4 أي بغير واسطة ولا حجاب.
5 هذا حديث متكلم فيه بالضعف الشديد.
الجنة ويباعدني من النار، فقال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة؛ فإنها عشر أمثالها، قلت: يا رسول الله، لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات،
[تمحو الذنوب والخطايا]
وهي تمحو الذنوب والخطايا". وفي "سنن ابن ماجه" عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل".
رُئي بعض السلف بعد موته في المنام، فسئل عن حاله، فقال: ما أبقت لا إله إلا الله شيئا.
[تجدد ما درس من الإيمان في القلب]
وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب، وفي المسند:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: جددوا إيمانكم، قالوا: كيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله".
[لا يعدلها شيء في الوزن]
وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسماوات والأرض لرجحت بهن، كما في المسند عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السماوات والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله". وفيه أيضا: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام قال: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا أنت، إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله".
وكذلك ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث السجلات والبطاقة، وقد أخرجه أحمد والنسائي والترمذي -أيضا- من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله]
وهي التي تخرق الحجب كلها حتى تصل إلى الله عز وجل وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه" وفيه أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت
له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتُنِبَت الكبائر". ويُروى عن عباس مرفوعا: "ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب إلا قول لا إله إلا الله، كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل". وقال أبو أُمَامَة:"ما من عبد يُهلِّل تهليلة فيُنَهْنِهُهَا 1 شيء دون العرش".
[الكلمة التي ينظر الله إلى قائلها ويستجاب دعاءه]
وهي التي ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاءه، خرَّج النسائي في كتاب "اليوم والليلة" من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. مخلصا بها روحه، مصدقا بها لسانه، إلا فتق الله له السماء فتقا حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله".
[الكلمة التي يصدق الله قائلها]
وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها، كما خرج النسائي والترمذي وابن حبان، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال: العبد لا إله إلا الله والله أكبر، صدقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي"2. وكان يقول: "من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار"3.
[أفضل ما قاله النبيون]
وهي أفضل ما قاله النبيون، كما ورد ذلك في دعاء يوم عرفة.
[أفضل الذكر]
وهي أفضل الذكر كما في حديث جابر المرفوع: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"4.
وعن ابن عباس قال: أحب كلمة إلى الله "لا إله إلا الله". لا يقبل الله عملا إلا بها، وهي
1 في النهاية: في حديث وائل "لقد ابتدرها اثنا عشر ملكا، فما نهنهها شيء دون العرش" أي: ما منعها وكفها عن الوصول إليه اه.
2 الترمذي: الدعوات "3430"، وابن ماجه: الأدب "3794".
3 الترمذي: الدعوات "3430".
4 الترمذي: الدعوات "3383"، وابن ماجه: الأدب "3800".
أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزا من الشيطان كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في كل يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه يوم ذلك"1. وفيهما أيضا عن أبِي أيُّوبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إِسماعِيل".
وفي التِرْمِذِيّ عن عُمَرَ مرفوعا: "من قالها إذا دخل السوق حتى يُمسي -وزاد فيها- يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة -وفي رواية- وبني له بيتا في الجنة"2، 3.
[أمان من وحشة القبر وهول المحشر]
ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول المحشر، كما في المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد قاموا ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن". وفي حديث مُرْسَلٍ من رواية عَلِيّ كرَّم الله وجهه: "من قال: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. كل يوم مائة مرة، كان له أمان من الفقر، وأنس من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة".
[شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم]
وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.
1 البخاري: بدء الخلق "3293"، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار "2691"، والترمذي: الدعوات "3468"، وابن ماجه: الأدب "3798" ، وأحمد "2/ 302 ،2/ 360 ،2/ 375"، ومالك: النداء للصلاة "486".
2 الترمذي: الدعوات "3428"، وابن ماجه: التجارات "2235" ، وأحمد "1/ 47"، والدارمي: الاستئذان "2692".
3 رواه التِرْمِذِيُّ من طريق أَزْهَر بنِ سِنَانٍ، وهو ضعيف، وأنكروه عليه، وضعفه به عَلِيُّ بنُ المَدِينِي جدا. ومن طريق عَمْرُو بنِ دِينَارٍ البَصْرِيُّ قَهْرَمَان آلِ الزُّبَيْرِ، وهو ضعيف يروي المنكرات عن الثقات، بل يروي الموضوعات أيضا، وقد أنكروه عليه. ومثل هذه المبالغة في الثواب الكثير على العمل اليسير من علامات وضع الحديث.
قال النَضْرُ بنُ عَرَبِيٍّ: "بلغني أن الناس إذا قاموا من قبرهم كان شعارهم: لا إله إلا الله". وقد خرج الطبَراني مرفوعا: "إن شعار هذه الأمة على الصراط: لا إله إلا أنت".
[تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية]
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، كما في حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بالشهادتين بعد الوضوء، وقد خرَّجه مسلم. وفي الصحيحين عن عُبَادَة بنِ الصَّامِت عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، وأن عِيسَى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مَرْيَم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء". وفي حديث عبد الرَّحمَن بن سَمُرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة منامه الطويل وفيه:"رأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فأغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة".
[أهل كلمة التوحيد غير مخلدين في النار]
ومن فضائلها أن أهلها -وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها- فإنهم لا بد أن يخرجوا منها. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله"1. وخرج الطَّبَرَانِيُّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله، فيغضب الله لهم، فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة" ومن كان في سخطه محسنا فكيف يكون إذا ما رضي؟ لا يسوي بين من وحده -وإن قصر في حقوق توحيده- وبين من أشرك به.
قال بعض السلف: كان إِبْرِاهِيم عليه السلام يقول في دعائه: "اللهم لا تشرك من كان يشرك بك بمن كان لا يشرك بك". كان بعض السلف يقول في دعائه: "اللهم إنك قلت عن أهل النار: إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت. ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دار واحدة".
1 البخاري: التوحيد "7510".
كان أبو سليمان يقول: "إن طالبني ببخلي طالبته بجوده، وإن طالبني بذنوبي طالبته بعفوه، وإن أدخلني النار أخبرت أهل النار أني كنت أحبه، ما أطيب وصله، وما أعذبه، ما أثقل هجره وما أصعبه، في السخط والرضى فما أهيبه، القلب يحبه وإن عذبه". انتهى كلام الحافظ بن رجب ملخصا.
فتأمل -رحمك الله- قوله: "فتحققه بقول لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله إلى آخره". وقوله: "وتحققه بأن مُحَمَّدًا رسول الله أن لا يعبد الله بغير ما شرعه على لسان مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" إلخ، وقوله:"وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد لا إله إلا الله يقتضي أنه لا إله غير الله إلى آخره". وقوله: "وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع" إلخ. وقوله: "قول لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب سواه". إلخ، وقوله:"ومن هنا يعلم أنه لا يتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا شهادة أن مُحَمَّدًا رسول الله". إلى آخره، وهذه من متممات "لا إله إلا الله" وغير ذلك مما يتعلق ب"لا إله إلا الله"، فإنه إنما يبرز بتأمله؛ لأن له تعلقا بما نحن بصدده، والله أعلم.
فهذا ما فتح الله به ويسره من فضله من الكلام على عشرة الأفصاص، على كلمة الإخلاص، جمعه ولخصه -فقير ربه الملتجئ إلى عفوه ومغفرته- سَعِيد بنُ حجي الحَنْبَلِيُّ النَّجْدِيُّ، قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، آمين.
انتهى
طبع هذا عن نسخة حسنة الخط، قليلة التحريف والغلط، أخذها الأستاذ الشيخ حامد الفقي المصري من العلامة الشهير الشيخ عبد الله بن بليهد النجدي، وقد كنت ناسخها في آخرها ما نصه:
وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة صبيحة الجمعة، في يوم تسع وعشرين من ربيع الأول، من شهور سنة 1299 ألف ومائتين وتسع وتسعين، على يد -المفتقر إلى كرم الله- صالح بن سالم بن محسن بن شيبان، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين، آمين.
ويلي هذا الرسالة الآتية للمؤلف: