الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة أخرى
في سكوت أكثر الناس عن المنكرات
{وكونه لا يعد إجماعا يحتج به على مشروعيتها
؟}
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين)
من علي بن عبد الله إلى الوالد المكرم عبد الله بن عبد الرحمن، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعيه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض. والإشارة هنا إلى التوحيد، وإلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ أفدنا جزاك الله خيرًا جوابًا سديدًا.
"فأجاب": سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "وبعد": دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكرها.
فيقال: قد أنكرها كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنف فيه جماعة كالنعيمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وغيرهم، ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في
إنكار ذلك. وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"1، وليس المراد بالظهور بالسيف بل بالحجة دائما، وبالسيف أحيانا.
ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"2.
وأيضا فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي تعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنصوص عليه في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرا في الأمصار. والله سبحانه- إنما افترض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة.
فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه 3، ومن أعظم ذلك الدعاء لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح. علم أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو
1 مسلم: الإمارة "1920"، والترمذي: الفتن "2229"، وأبو داود: الفتن والملاحم "4252"، وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" ، وأحمد "5/ 279".
2 مسلم: الإيمان "145"، وابن ماجه: الفتن "3986" ، وأحمد "2/ 389".
3 يعني أن عبادة الله -تعالى- تشمل جميع الأقوال والأفعال المذكورة، وليس هذا تعريفا للعبادة بمعناها الأعم الذي يشمل عبادات الكفار كطواف المشركين بالبيت عراة، وأكثر العلماء يعرفونها بما يسمى تعريف الرسم. وأدق تعريف لها أن يقال: هي كل قول وعمل بدني، أو نفسي يوجه، ويتقرب به إلى من يعتقد فاعله أن له قدرة على النفع ودفع الضرر فوق الأسباب التي يقدر عليها البشر، إما بذاته كالرب الخالق -تعالى-، وإما بالوساطة والتأثير عنده -تعالى-. ومن الأخير قوله -تعالى- في المشركين "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" يعنون أن الله تعالى ينفعهم، ويدفع عنهم الضر بشفاعتهم عنده التي يدعونهم لأجلها لا لذواتهم.
عبادة غير الله، فإذا تحقق الإنسان ذلك عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأمور التي تفعل عند القبور جائزة شرعا، فهو محاد لله ورسوله، فإن قال: هذه الأمور ما تجوز لكنها ليست بشرك، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبين له الحق لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين لا سيما في هذا الزمان.
وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار في قولهم {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} 1، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2. وقد قال علي رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله".
وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو أن أكثر الناس اليوم على الحق لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة. ولما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- الشرك وظهوره قال: فما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يعني ما أقل من لا يعادي من أنكره.
وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد نقلنا في الأوراق التي كتبنا وهي عندكم طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك.
ومن ذلك قول الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: "من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين".* انتهى. وهذا الذي يفعل عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
آمين، وصلى الله على محمد.
1 سورة الأحقاف آية: 11.
2 سورة الأنعام آية: 53.
* انظر "الواسطة بين الحق والخلق ص 22، وهي في مجموع الفتاوى 1/ 124. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
3 سورة النور آية: 40.