الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة
في دحض شبهات على التوحيد
من سوء الفهم لثلاثة أحاديث
(حديث: يئس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب، وحديث: يا عباد الله احبسوا، وحديث: عصمة كلمة التوحيد لدم قائلها وماله)
تأليف
{العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية}
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المشتهر بأبا بطين
رحمه الله تعالى
من مطبوعات صاحب الجلالة السعودية، ومحيي السنة المحمدية
الإمام عبد العزيز آل سعود
ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
(وقد وقفها على من ينتفع بها من أهل العلم والدين)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، مفتي الديار النجدية المعروف "بأبا بطين"، عليه الرحمة والغفران:
أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"1 ويستدل به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب. والحديث المروي: "يا عباد الله، احبسوا، احبسوا" وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله"2، وقوله:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"3 ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله، ولا قتله.
(فالجواب): أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"4 فيقال:
(أولا): من المعلوم بالضرورة أن الله -سبحانه- بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك وهو عبادة غير الله.
وأما الشرك بالربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم هو في توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فعبدوا من عبدوه من دون الله ليشفعوا لهم عنده في نصرهم ورزقهم وغير ذلك، كما قال -تعالى- إخبارا عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 5، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 6. فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/ 313 ،3/ 354 ،3/ 366 ،3/ 384".
2 البخاري: المغازي "4269"، ومسلم: الإيمان "96"، وأبو داود: الجهاد "2643" ، وأحمد "5/ 200 ،5/ 207".
3 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/ 313 ،3/ 354 ،3/ 366 ،3/ 384".
5 سورة الزمر آية: 3.
6 سورة يونس آية: 18.
العبادة وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال -تعالى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.
وهذا الأصل هو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله. قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3.
فإذا تبين أن هذا هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله -سبحانه- لا يترك هذا الأمر ملتبسا، بل لا بد أن يكون بيّنا واضحا، لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مسلم مكلف، ولا يجوز فيه التقليد.
وحقيقة ذلك أن الشرك هو عبادة غير الله -تعالى-؛ والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك. قال -تعالى-:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} 4 أي: في العبادة، وقال -تعالى-:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} 5 الآية.
فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرًا: عند مشاهد وقبور يمنًا وحجازًا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم وسؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستغاثة بهم؛ وهذا أمر معلوم بالتواتر عند من شاهد ذلك.
فإذا تحقق الإنسان ذلك علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"6 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب.
فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، فإن فسره بالشرك في توحيد
1 سورة النحل آية: 36.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 سورة الذاريات آية: 56.
4 سورة النساء آية: 36.
5 سورة الكهف آية: 110.
6 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/ 313 ،3/ 354 ،3/ 366 ،3/ 384".
الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله لأنه -سبحانه- أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1؛ والآيات في ذلك كثيرة.
وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ، يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه؛ مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة، وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر.
[معنى يئس الشيطان من عبادة الناس له]
قال ابن رجب على الحديث: المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر. وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} 2 قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني: يئسوا أن تراجعوا دينهم.
وكذا قال عطاء والسدي ومقاتل، قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: "إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"3.
فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر. قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر، وكذا معنى إياس الشيطان لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها. وعلى هذا فلا يدل الحديث أن الشيطان يئس من وجود شرك في جزيرة العرب أبد الآبدين.
ويدل لما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمع إليه جنوده فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم؛ فافشوا فيهم النوح.
وأيضا ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنيا للفاعل لم يقل أيس بالبناء
1 سورة الزخرف آية: 9.
2 سورة المائدة آية: 3.
3 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار "2812"، والترمذي: البر والصلة "1937" ، وأحمد "3/ 313 ،3/ 354 ،3/ 366 ،3/ 384".
للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 1 فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال -تعالى-:{مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} 2 أي من خير وشر، وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله"3 الحديث.
وكانت الشياطين في زمن سليمان بن داود عليهما السلام يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال -تعالى-:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَا دَابَّةُ الأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 5.
ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"6. فكيف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟
[لا دلالة في حديث "يئس الشيطان" على عدم وقوع الشرك]
فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب؛ ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده.
لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك لقوله -تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 7 أي: لا تطيعوه، فعبادته طاعته.
يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
1 سورة الجن آية: 26.
2 سورة لقمان آية: 34.
3 البخاري: التوحيد "7379" ، وأحمد "2/ 24 ،2/ 52 ،2/ 58 ،2/ 85 ،2/ 122".
4 سورة سبأ آية: 14.
5 سورة سبأ آية: 14.
6 البخاري: الرقاق "6576" والفتن "7049"، ومسلم: الفضائل "2297"، وابن ماجه: المناسك "3057" ، وأحمد "1/ 384 ،1/ 402 ،1/ 406 ،1/ 407 ،1/ 425 ،1/ 439 ،1/ 453 ،1/ 455 ،5/ 387 ،5/ 393 ،5/ 400".
7 سورة يس آية: 60.
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 1 الآية، أن طاعتهم في التحريم والتحليل. فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان.
وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى"2، 3، وقال:"لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة"4، 5، وهو صنم كان لهم في الجاهلية بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه جرير بن عبد الله.
[وقوع عبادة الشيطان في هذه الأمة]
فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "6، وقال:"لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك".
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلته الأمم قبلها، وقال: "لا تزال طائفة
1 سورة التوبة آية: 31.
2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة "2907".
3 هو في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله "هو الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" إن ذلك تام. قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله"" إلخ.
4 البخاري: الفتن "7116"، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة "2906" ، وأحمد "2/ 271".
5 رواه مسلم. وذو الخلصة: بيت كان فيه صنم لدوس، وخثعم، وبحيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة: الكعبة اليمانية التي كانت باليمن، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله فخربها، وقيل: ذو الخلصة: الصنم نفسه. والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة فترتج أعجازهن. اهـ من النهاية لابن الأثير.
6 البخاري: أحاديث الأنبياء "3456"، ومسلم: العلم "2669" ، وأحمد "3/ 84 ،3/ 89 ،3/ 94".
من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"1.
نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله، ورحمته، وكرمه.
["يا عباد الله احبسوا" ليس بحديث، ومعناه على فرضه]
وأما الجواب عن الحديث المروي فيمن انفلتت دابته في السفر أن يقول: يا عباد الله: احبسوا، فأجيب بأنه غير صحيح؛ لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله: ابن عدي.
ومن المعلوم -إن كان صحيحًا- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمعه ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه الذين معه في سفره ليردوا دابته. وهذا يدل -إن صح- على أن لله جنودا يسمعون ويقدرون:{مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} 2 وروي زيادة لفظه في الحديث "فإن الله حاضر"، فهذا صريح في أنه إنما ينادي حاضرا يسمع، فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور والغائبين؟
فمَن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح لأن لفظ الحديث "فليناد" وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب أو الإباحة. ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح فقد مرق من الإسلام.
فإذا تحققت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، وكما دل عليه قوله "فإن الله حاضر" تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون، وهل هذا إلا مضادة لقول الله -تعالى-:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} 3، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ
1 مسلم: الإمارة "1920"، والترمذي: الفتن "2229"، وأبو داود: الفتن والملاحم "4252"، وابن ماجه: المقدمة "10" والفتن "3952" ، وأحمد "5/ 279".
2 سورة المدثر آية: 31.
3 سورة يونس آية: 106.
مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1 الآية، وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 3، وقال:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} 4 الآية.
فهذه الآيات وأضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدر له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز.
فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد بقوله:"يا عباد الله: احبسوا"، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة؟ ولله الحمد.
[قول: "لا إله إلا الله" وحده غير كاف في العصمة]
وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله، ولا قتال الطائفة الممتنعة، إذا قالوا هذه الكلمة وإن فعلوا أي ذنب، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ولو طرد هذا القائل أصله لكان كافرا بلا شك.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5 إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} 6 أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 7، فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد. وقال -تعالى-:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 8 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 9.
وأما السنة: فكثير جدا: "منها": ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها"10.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف
1 سورة فاطر آية: 13، 14.
2 سورة الأحقاف آية: 5.
3 سورة الجن آية: 18.
4 سورة الرعد آية: 14.
5 سورة التوبة آية: 5.
6 سورة التوبة آية: 5.
7 سورة التوبة آية: 5.
8 سورة الأنفال آية: 39.
9 سورة الأنفال آية: 39.
10 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".
أبو بكر، وكفر من كفر من العرب. قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "1؟ فقال أبو بكر: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فقال عمر:"فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال: مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقال النووي في شرح مسلم: "باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام"، ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكتاب كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد:
[قتال الصحابة لمن فرق بين الصلاة والزكاة]
قال رحمه الله: مما يجب تقديمه أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله:"وكفر من كفر من العرب".
"والصنف الثاني": فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين من يكاد يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة عند عمر -رضي الله
1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
عنه -، فراجع أبا بكر، وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله"1.
وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها. والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها.
وكان في ذلك من قوله دليل على قتال الممتنع من الصلاة، وإن كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه.
فلما استقر عندهم رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله:"فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. انتهى.
[قول النووي والخطابي في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس"]
وقال النووي أيضا: وقال الخطابي -ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر-: إن عبد الله بن عمر وأنسًا روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة.
ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"2.
وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين"3 انتهى.
"قلت": وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي
1 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
2 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".
3 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 224".
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها"1.
وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولمَا كان احتج بالقياس والعموم. والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله.
وقال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"2.
[معنى قوله عليه السلام: "وحسابه على الله"]
قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. قال: ومعنى "وحسابه على الله"، أي فيما يسرونه ويخفونه، ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل. هذا كلام الخطابي.
وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، ووضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر:"أني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"3 وهذا كلام القاضي.
1 مسلم: الإيمان "21".
2 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224".
3 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".
[قول فقهاء المذاهب فيمن قال لا إله إلا الله وعمل بضدها]
"قلت": ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، كما جاء في الرواية الأخرى عن أبي هريرة:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به"1 انتهى كلام النووي.
ولازم قول من قال: أنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي، إذا كانوا طائفة ممتنعين؛ بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج؛ بل لازم ذلك رد النصوص، بل رد نصوص القرآن -كما قدمنا-، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى.
ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله.
فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع.
ونذكر بعض ما اطلعنا عليه من كلام فقهاء المذاهب:
قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدا على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب كفر، واختاره ابن عبد السلام. وقال: في فضل الأذان معنيان:
"أحدهما": إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال.
"والثاني": الدعاء إلى الصلاة، والإعلام بوقتها.
وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار، وإلا أمسك. وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب؛ لأنهم اختلفوا في التمالؤ
1 مسلم: الإيمان "21"، وابن ماجه: المقدمة "71".
على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالؤ على تركها إماتتها. اهـ.
وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني أهل المصر، قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. اهـ.
وقال الشيخ أحمد بن حمدان الأدرعي الشافعي في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة. فإن تركها كسلا قتل حدّا على الصحيح والمشهور. أما قتله، فلأن الله قال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 1. ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها"3 إلى أن قال في الروضة: تارك الصلاة يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد.
وفي البيان: لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قُتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة.
وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة "في باب حكم تارك الصلاة": إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها قتل، للآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 4، وحديث:"أمرت أن أقاتل الناس"5 الحديث، فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل. اهـ.
1 سورة التوبة آية: 5.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 البخاري: الإيمان "25"، ومسلم: الإيمان "22".
4 سورة التوبة آية: 5.
5 البخاري: الصلاة "393"، والترمذي: الإيمان "2608"، والنسائي: تحريم الدم "3966 ،3967" والإيمان وشرائعه "5003"، وأبو داود: الجهاد "2641" ، وأحمد "3/ 199 ،3/ 224
[مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط القتال]
وأما كلام الحنابلة، فصرحوا بأن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا؛ أي: قاتلهم الإمام، أو نائبه حتى يفعلوهما. وكذا قالوا في صلاة الجماعة يقاتل تاركها، وكذا قالوا في صلاة العيد يقاتل أهل بلد تركوها، وكذا قالوا في قتال مانعي الزكاة، وأن الواجد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قتل بعد الاستتابة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله:"تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط القتال. فالقتل واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة إذا أصروا على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند
1 البخاري: فضائل القرآن "5058"، ومسلم: الزكاة "1064" ، وأحمد "3/ 33 ،3/ 56 ،3/ 60 ،3/ 65".
من لا يقول بوجوبهما، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها"،* انتهى.
وأيضا فالمقصود من لا إله إلا الله البراءة من الشرك، وعبادة غير الله -تعالى-.
ومشركو العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل اللسان، فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك وعبادة غير الله -تعالى-. فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده، لا شريك له"4، وهذا معنى قوله -تعالى-:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} 5 أي: الطاعة وهذا معنى لا إله إلا الله.
نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا، ويتوفانا مسلمين برحمته
فهو أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد
........ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم
............. بإحسان إلى يوم الدين
تمت هذه النسخة الشريفة، المحتوية على الألفاظ المنيفة اللطيفة
.... أسكن الله -تعالى- مؤلفها الغرف العالية الرفيعة. آمين
........ وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله
.................... وصحبه وسلم تسليما
........................... كثيرا
* مجموع الفتاوى 28/ 502 - 503. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
1 سورة الأنفال آية: 39.
2 سورة الأنفال آية: 39.
3 سورة التوبة آية: 5.
4 أحمد "2/ 50".
5 سورة البقرة آية: 193.