الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم الكتاب
هذا البحث هو موضوع الرسالة الفرعيّة من رسالتي الدكتوراه اللتين تقدم بهما فقيد الإسلام والعروبة، العالم الجليل، الدكتور محمد عبد الله دراز، باللغة الفرنسية، إلى جامعة باريس (السوربون)، ونال بهما درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى في صيف عام 1947.
وكان عالمنا الجليل قد سافر في عام 1936 إلى فرنسا في بعثة أزهرية وبعد أن قام بدراسة الفلسفة وتاريخ الأديان وعلم النفس والأخلاق، اشتغل للتحضير لدرجة الدكتوراه. فكتب رسالتين: رسالة رئيسية عن «الفلسفة الأخلاقية في القرآن» ورسالة فرعية بعنوان «المدخل إلى القرآن الكريم» وهي التي نقدمها اليوم بين يدي القارئ، مترجمة إلى اللغة العربية.
ونأمل في تقديم الرسالة الرئيسية في فرصه قريبة، بعد أن نكون قد أتممنا ترجمتها ومراجعتها، وفقا لما كان يتمناه فقيدنا، بحيث تظهر أقرب ما يكون إلى فكره الدقيق، وأسلوبه الرصين، ودقته في مراعاة أصول البحث العلمي.
ويحتوي البحث الذي بين أيدينا على ثلاثة أقسام، قسم تاريخى وقسم تحليلي، وقسم نقدي جدلي. وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة ينقسم بدوره إلى ثلاثة فصول.
ويهتم الفصل الأول: من القسم التاريخي بإلقاء نظرة تاريخية عابرة على طفولة النّبى الكريم صلى الله عليه وسلم وشبابه حتى بداية بعثته صلى الله عليه وسلم، ونستخلص من هذه النظرة طابع الإخلاص المطلق الذي إتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذى كان يوحي بالثقة الكاملة لكل من عرفه سواء من أصدقائه أو من أعدائه صلى الله عليه وسلم. وتعتبر شهادة «أبي سفيان» في هذه النقطة وثيقة تاريخية ثمينة في مظهرها العربي والروماني على السواء
…
وإن كانت مجهولة تماما في الكتب الأوربية. وإنها في صورة حوار قام
فيه «أبو سفيان» بالرد على أسئلة محبوكة وجهها إليه الإمبراطور «هرقل» وكان أبو سفيان في ذلك الوقت، من أشد أعداء محمد صلى الله عليه وسلم ضراوة وحنقا. وقد وصى المؤلف على نقل هذا الحوار بأكمله لأنه يوضح كثيرا من المسائل التي تناولها البحث.
وفي الفصل الثاني: عرض المؤلف الظروف التي نزل فيها القرآن الكريم والظروف التي جمع فيها، ثم انتقل من خلالها حتى وصل إلينا. ويتضح من هذا البحث أن النص القرآني الذي بين أيدينا اليوم لا يرجع إلى الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، كما يقال، ولا إلى الخليفة الأول أبي بكر، وإنما هو مطابق مطابقة حرفية للنص المكتوب بإملاء الرسول صلى الله عليه وسلم والذي حفظ بعناية وتقديس في صدور الصحابة وقرائهم.
وبعد أن حفظ النّص القرآني على هذا النّحو، بعيدا عن أي خلط أو شكوك إنتقل كما هو معلوم من جيل إلى جيل بأمانة وتقديس حتى وصل إلينا والدليل الذي يقطع بصحته يكمن في أنه رغم الخلاف الذي نزع بين المسلمين منكرا بسبب تباعد آرائهم السياسية، فقد ظل القرآن واحدا في العالم الإسلامي كلّه حتى بالنسبة للفرق الإسلامية الحانقة على الخلفاء الثلاثة الأول.
أما الفصل الثالث: فيفند الخطأ الشائع الذي يزعم أن الإسلام يبيح نشر الدعوة بالقوة، واستطاع المؤلف أن يثبت ما يخالف ذلك، ويؤكد أن حرية العقيدة والدين هي من المباديء التي أرساها وعزّزها القرآن الكريم بصراحة ووضوح. فإنه لا يكره الضمائر، وإنما يتصّدى لكل من يحاول قهرها وإجبارها، فالحرب الشرعية المقدسة في نظر القرآن هي الحرب الدفاعية وإذا كانت هناك مخالفات لهذه القاعدة قد وقعت عبر التاريخ، فإنها، في الواقع لا تستند إلى حرفية النّص القرآني ولا إلى روحه فضلا عن أنها لم تكن السبب الرئيسي لانتشار الإسلام.
*** وتقودنا خاتمة القسم الأول التاريخي، إلى القسم الثاني التحليلى حيث يحاول
المؤلف إستخلاص الأفكار الرئيسية في الدعوة القرآنية من جانبها الديني، وجانبها الخلقي.
فالإسلام في معناه الحرفي، هو الإيمان بالله والخضوع للإرادة الإلهية وهو بهذا المعنى لا يتعارض مع اليهودية ولا مع المسيحية، وإنه يدعو للإيمان بجميع الكتب المنزّلة وجميع الأنبياء إيمانا يضمّهم جميعا بتقديس واحد دون التمييز بين أي منهم.
والإسلام من هذه الناحية ليس دعوة جديدة، ولا حتى اصلاحا، وإنما مجرد عودة إلى الوحدة الأصلية. إنه الدين الأوحد الذي لم يأل الرسل عليهم السلام جهدا في الدعوة إليه منذ نوح وإبراهيم حتى موسى وعيسى عليهم السلام.
هذا فيما يتعلق بالحقيقة الدينية. ولا يختلف الأمر عن ذلك فيما يتعلق بالقانون الأخلاقي: فقد أقام جميع الرّسل عليهم السلام ميزان العدل، وكلهم أمروا بأن يفعلوا الخير ويحثوا على الخير. ولقد سن الصلاة والزكاة كل من إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام. كما كتب الصّوم على الأمم السابقة، وشرع إبراهيم عليه السلام فريضة الحج. ولقد أدان كل من هود وصالح عليهما السلام حب قومه للأموال والمتع الدّنيوية والعدوان والفساد. وقاوم لوط عليه السلام انحلال قومه وانغماسهم في الرذيلة، وقاوم شعيب عليه السلام الغش في التجارة. فجميع الناس مرجعهم إلى الله، وستعرض عليه أعمالهم في الدّنيا سواءا في ذلك الرّسل عليهم السلام أم الشّعوب التي أرسلوا إليها.
وفضلا عن إحياء السلوك القديم والتضامن الفكري الذي يجمع بين رسل الله جميعا عليهم السلام، فإن القرآن يذكر دائما في كلا المجالين العقيدي والعملي ما في نفس الإنسان من عنصر مشترك: هو الحكم الفعلي والسليم الذي يميز به الإنسان الخير والشر.
وهكذا نرى أن الدّعوة القرآنية دعوة عالمية في هدفها، وهي عالمية أيضا في أسلوب ووسائل الإقناع التي يتبعها القرآن لتحقيق هذا الهدف السامي.
ولكن القرآن لم يأت فقط لتذكير الناس بالعقل السليم، ولإعادة الخلق القويم بينهم. فليست رسالته الوحيدة هي تعزيز الرسل السابقين عليهم السلام والربط بين دعواتهم بسياج الوحدة والتصديق عليها، بعد أن وفق بين عدد من أحكامهم التي كانت في الظاهر متعارضة. وإنما اضطلع القرآن، كتاب الإسلام، بمهام أخرى جديدة.
أولا: أن يخفف عن الإنسانية بعض الشرائع القاسية التي كانت قد سنت بصفة مؤقتة كتكفير عن معاصي ارتكبت، وإعادة الأمور إلى نظامها الطبيعي الرحيم.
ثانيا: وبصفة خاصة إضافة تكملة ضرورية لكل ما سبق. ولقد اتضح من حصر بعض الأحكام في التوراة وفي القرآن أن كل مرحلة من مراحل الوحي الإلهي تعتبر - مع احتفاظها بما اكتسبته من المرحلة السابقة - تقدما ملموسا عليها. وساق المؤلف كثيرا من الأمثلة لهذه الخاصية التدريجية التقدمية، سواءا في الإنجيل بالنسبة للتوراة، أو في القرآن بالنسبة للكتابين السابقين عليه، ولا يعدو أن يكون هذا الحصر وهذه المقارنة إلا تعزيزا لكلمة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
*** أما القسم الثالث والأخير من هذا الكتاب، فقد كرسه المؤلف لدراسة، طريقة القرآن في إثبات ربانية مصدره. ولقد تركز هذا التدليل، بصفة خاصة، على النقاط التالية:
1 -
طابع الوحي المفاجئ وغير المنتظر. فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يدر بخلده أنه سيبعث رسولا، وبعد أن تلقى الوحي لم يكن يضمن استمراره.
2 -
الجهل الذي كان فيه محمد صلى الله عليه وسلم وشعبه ليس فقط فيما يتعلق بالقصص الديني وإنما في كل ما يتعلق بالإيمان والتشريع والكتب المنزّلة والسلوك الأمثل عند الله.
3 -
حالة الأمية. إذ أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ أو يكتب.
4 -
وكانت اللغة الأجنبية للأديان السابقة أمام النبي صلى الله عليه وسلم حائلا طبيعيا يمنعه من الوصول إلى هذه المصادر، وأن يفهمها من نصوصها الشفهية.
5 -
ومع ذلك: شهد العلماء المتخصصون في الكتب المنزلة السابقة بصدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن كتبهم.
6 -
أما بالنسبة لقومه الذين عاش بينهم عددا من السنين يعادل عمرا فقد أدركوا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأتي بهذا الكتاب من عنده.
7 -
قوة أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه، وشعوره المرهف بمسؤوليته يوم القيامة، كلها حقائق لا تتفق مع إمكانية أن يخترع شيئا وينسبه إلى الله.
8 -
وإذا نظرنا للقرآن في حد ذاته، وافترضنا أنه كان من نتاج بشري وأخذنا في اعتبارنا ضخامة محتواه وطول مدة نزوله، فقد كان من المحتم أن يتضمن بعض التصريحات المتناقضة، أو المتعارضة مع بعض الوقائع السابقة أو اللاحقة له.
9 -
ولكن الحقائق التي يقدمها القرآن - حسب تعبيره - لا يمكن الطعن فيها من بين يديها ولا من خلفها، أي لا في الماضي ولا في المستقبل.
10 -
وأخيرا فليس من المستحيل أن يصدر القرآن عن قلب رجل، أو عن قلب رجال، وإنما إذا اجتمع عالم المنظور وعالم غير المنظور، وتضافرت جهودهم لإتيان شيء مثله، فلن يتمكنوا من ذلك أبدا. هذا التحدي الإلهي لم يهدمه أحد في الماضي، ولن يهدمه أحد في المستقبل. فلسنا نحن الذين نعلنه وإنما هو القرآن الذي يتولى الدفاع عن نفسه بنفسه.
*** ومما يزيد في قوة الحجج والأسانيد التي يوردها الباحث الجليل، أنه لم يكتف
في مناقشته لنقاط البحث المختلفة بالرجوع إلى نصوص القرآن، أو إلى ما أثر عن السلف الصالح وعلماء الفقه، بل وأنه كان - وفقا لطريقته في التعمق - يجهد عقله لكي يتصور ما قد يمكن أن يواجه من اعتراضات على ما يقدمه من حقائق، ويقلب كل مسألة من المسائل على وجوهها المختلفة، المحتملة منها وغير المحتملة، ويورد ما جاء بشأنها في كتب المستشرقين والفلاسفة والمفكرين الغربيين، ثم يرد عليهم بحجج عقلية من نوع حججهم فيكون في ذلك أبلغ الرد عليهم، وخير وسيلة لهدم دعاواهم.
ولا يسعنا في ختام هذا التقديم إلا أن ننوه بالجهد الذي بذله المترجم الأستاذ محمد عبد العظيم، الذي وضع ثقافته الدينية وإيمانه العميق إلى جانب تمكنه من اللغة الفرنسية، وجعل كل هذه العناصر في خدمة النص الفرنسي فجاءت ترجمته موفقه غاية التوفيق. كما أن حرصه على خدمه النص اقتضى منه إثبات الآيات القرآنية في مواضعها من الهوامش بالرغم من كثرتها، ولم ترد هذه الآيات في النص الأصلي إلا بأرقامها ومواضعها من السّور. كما أنه قام بتوثيق النصوص الأخرى التي وردت في الرسالة وذلك بالرجوع إلى مصادرها العربية في كتب الفقه والحديث.
أما مراجعتنا للترجمة فقد كان هدفها الرئيسي أن يخرج الكتاب في صورة أكثر ما تكون مطابقة لفكر أستاذنا وأسلوبه وطريقته في التعبير. وقد كان رحمه الله حريصا على هذا المعنى - يريد أن يقوم بهذه الترجمة بنفسه، أو يعهد بها إلى أقرب الناس إلى فكره.
فلعلنا بهذا العمل نكون قد قمنا بواجب الوفاء نحوه، ووفينا ببعض ما كان يهدف إليه من نشر العلم وخدمة الدين الحنيف.
بنغازي في ربيع الأول 1391 هـ
(مايو 1971 م)
دكتور السيد محمد بدوي
أستاذ علم الاجتماع
بجامعة الإسكندرية - والجامعة الليبية