الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يمكن افتراض وجود مثل هذه العلاقة، وذلك بإتاحة الفرصة لكل حدس وخيال، أما عندما نطالب بالتحديد فإنه يحدث التناقض والتخبط في الحال
(1)
.
الاقتباس من الشعراء ومن الفكر الشعبي:
ولكن إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم لم يحصل على أفكاره الدينية لا من نصوص التوراة مباشرة ولا بفضل أي تعليم منهجي من العلماء ذوي الاختصاص، أليس من المحتمل أن يكون قد جمعها من بعض الشعراء العرب اليهود أو النصارى أو ما شابههم؟
نلاحظ أولا أن القرآن يوضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤلف الشعر بوجه عام، بحيث اعتبره القرآن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم لهوا لا يليق بشخصه {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ونمر على هذه النقطة بسرعة، ونتساءل عن هذا التعليم الذي يمكن أن يخرج من هذا النوع من الأدب؟ وهنا نجد اتجاهين في الأدب الجاهلي: الأول وهو أن بعض الشعراء، مثل الأعشى، كان يهتم بوصف التقاليد والطقوس الكنسية. وهو ما لا نجد له أثرا في القرآن بل لقد كان اهتمام هؤلاء الشعراء ينصب أكثر على شرب الخمر، الذي سيوجه إليه القرآن ضربته القاضية بدلا من تحبيذه. فالقرآن لا ينتمي إذن إلى هذه الفئة. أما النوع الثاني من الشعر، فقد كان يكاد يتخصص تماما في الأفكار الدينية؛ وقصائد أمية بن أبى السلط أصلح نموذج لهذا النوع، حيث نقابل موضوعين أساسيين هما: وصف الحياة الأخروية، وقصص الديانات القديمة، وفي بعض المواضع بنفس عبارات القرآن.
فلماذا لا نرى هنا النموذج الذي أخذ عنه محمد صلى الله عليه وسلم؟.
وإذا حالف التوفيق محاولة إثبات هذه العلاقة، سيكون ذلك أهم اكتشاف علمي، يخفف عنا عبء التفسيرات الغيبية ولو جزئيا. وستكون نظرة الكتاب الذين اعتبروا شعر أمية الحلقة بين القرآن والتوراة
(2)
. نظرة صائبة.
(1)
انظر الفصل الثاني فيما بعد.
(2)
انظر كتاب Das Leben und die Lehre des Moh ومؤلفه سبرنجر المجلد الأول ص 78 الذي أورده هوارت في مقال بعنوان «مصدر جديد للقرآن» ص 133.
ولكي نتمسك بهذه الحجة لا شك أن أول شرط يطلب إثباته أو طرحه هو صحة الشعر موضوع البحث. ولكننا لا ننوي أن نثير أي خلاف على هذه النقطة.
فإذا كان هناك بعض جامعي الشعر. مثل حماد وخلف الأحمر، قد اشتبه في أنهم لفقوا بعض الأشعار ونسبوها إلى القدماء بعد أن خلطوها بشعر هؤلاء، فإن تعميم هذا العمل المشبوه - بحيث يشكل كل الشعر العربي أو الجاهلي على الأقل - سيتضمن نوعا من المبالغة.
إلا أنه لا يكفي أن يكون النص صحيحا لكي يمكن اعتباره مصدرا للنص المشابه له، وإنما يجب أن يكون سابقا له في التاريخ. ولكن قضية أسبقية شعر أمية بالنسبة لآيات القرآن قضية مستحيلة الحل. لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وأمية قد عاصر كل منهما الآخر، وهما أيضا من نفس العمر تقريبا، فضلا عن أن أمية عاش واستمر في قرض الشعر طوال ما يقرب من ثماني سنوات بعد نزول آخرآية من سور القرآن المكية التي يوجد تشابه بينها وبين شعر أمية. بحيث يكون من التعسف الادعاء بأن هذا الشعر كان سابقا للقرآن من حيث التاريخ.
ونضيف أن أمية لم يدّع الأصالة ولا الإلهام، بل إنه كثيرا ما عبر عن خيبة أمله وأسفه في هذا الشأن، مما يحملنا على الإعتقاد بأنه قد اندفع إلى التقليد بروح المنافسة وعلى عكس ذلك، لقد أعلن محمد صلى الله عليه وسلم على مسمع من جميع معاصريه بأنه لم يتلق علمه من بشر. ولنأخذ في اعتبارنا موقف خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع. فلقد كانوا دائما على يقظة لأقل ثغرة ليوجهوا من خلالها ضربتهم، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء. ألم يكن من الأيسر لهم أن يضعوا يده على مسروقاته المفضوحة من شعر أمية الذي لم يكن قد جف مداده، بدلا من أن يوجهوا حججهم في كل اتجاه، وأن يلجأوا إلى كل افتراض، وصل إلى حد وصم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون لتفسير ظاهرة القرآن العجيبة؟.
ومن هذا نخلص - إن لم يكن بتأكيد - فعلى الأقل باحتمال كبير، بأن القرآن هو الذي كان أساس الإنتاج الأدبي في عصر نزوله، كما كان يقينا أساسه في
العصور التالية. ولا يضير فن الشعر في شيء أن نشكك في أصالة مصادره، بعكس ما قد يحدث إذا قلنا نفس الشيء عن مذهب ديني. لأن الشاعر لا يركز اهتمامه في الحقيقة التي يعلنها، بقدر ما يركزه في جمال القالب الذي يقدمها فيه، بغض النظر عن المصدر الذي يبحث فيه عن خاماته سواء في حكمة القدماء أو المعاصرين، في وقائع تجاربه، أو في الرأي العام، في أي شعور أو خيال، مهما كانت درجة هبوطه. ولقد أثبت نقد شعر أمية بصفة خاصة، أنه يرجع إلى عدة مصادر مختلفة - وهذا ما لاحظه هوارت - فعندما يتكلم الشاعر عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة، وعندما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن، وعندما يقص التاريخ الديني يلجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية، وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية (أو أساطير الآلهة اليونانية) حيث يتمثل الشخص أحيانا في صورة إنسان، وأحيانا في صورة حيوان أو نبات.
وتبقي أمامنا مرحلة أخيرة في مجال هذا التنقيب عن المصادر الطبيعية الخارجية للقرآن، ألا وهي: الأفكار الشعبية.
إننا لا ننوي أن ننفي عن محمد صلى الله عليه وسلم وهو في شبابه - أي نوع من العلم المنقول إليه بطريق السمع عن الأديان السابقة. فليس من المقبول عقلا الادعاء بأنه كان يعيش في عزلة تامة تجعله أجهل من شعبه في هذه النقطة. ويبدو لنا هذا الشعب من خلال القرآن الكريم وقد توفرت عنده بعض المعلومات عن الأديان السابقة، مما جعله يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيات ربانية تشبه الآيات التي جاء بها المرسلون من قبل
(1)
، ويعارض دعوة الوحدانية بما كان قد سمعه عن آخر الأديان المنزلة
(2)
، ويقارن ملة عيسى عليه السلام بعقيدة الوثنية
(3)
، ومن السهل
(1)
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5].
(2)
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [سورة ص: 7].
(3)
وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 57 - 58].
أن نتصور أن بعض المعلومات الأخرى عن التوراة قد انتشرت بين طبقات الشعب العربي بفضل تلاقي هذه الأديان في الجزيرة العربية.
ولكن أسبابا كثيرة، تحول بيننا وبين أن نوسع من خيالنا في هذا الشأن منها:
أولا: عدم توفر الدعاية واختفاء الرؤساء الدينيين.
ثانيا: ندرة المعتنقين الجدد وتشتتهم - وبصفة خاصة - جهلهم.
ثالثا: اعتزاز العرب القدماء بجنسهم، وقلة اهتمامهم بالأمور التي لا تتعلق بمصالحهم المباشرة أو تاريخهم القومي.
رابعا: عدم وجود الموضوعات الدينية في أدبهم، فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة. ومن الجدير بالملاحظة هنا، أن نرى أن الاهتمام - حتى من جانب الذين سافروا وتعلموا - كان ينحصر في أشياء أخرى غير الأمور الدينية. فعندما أراد «النضر بن الحارث» منافسة القصص القرآني، شرع يقص على مستمعيه أساطير ملوك فارس القدامى، ومغامرات أبطالها، مثل رستم واسفندار
(1)
…
الخ، بدلا من قصص الأنبياء والمرسلين. وماذا كان ينشد النابغة الذبياني في شعره؟ يقول هوارت
(2)
: تاريخ الملك سليمان. ومعني ذلك أن بريق ومظاهر حياة البذخ هي التي كانت تستهوي العرب وقتئذ.
وإزاء سكوت التاريخ عن الدرجة الفعلية للمعارف المدونة، التي كانت تتوفر عند هذا الشعب الأمّي الغافل، فكل ما نستطيع عقلا أن ننسبه إليه يجب ألا يتعدى بعض المعلومات المبهمة والبدائية التي لا تختلف عما سبق توضيحه، ولا تهدينا إلى مصدر الحقائق القرآنية، بما اتصفت به من اتساع ودقة وعمق. والواقع أن تصور هذا الشعب الذي كان في عصر «الجاهلية» على درجة من العلم تؤهله للمشاركة في العلوم التي اقتصرت معارفها على بعض العلماء المعدودين في ذلك
(1)
سيرة ابن هشام المجلد الأول ص 183.
(2)
المرجع السابق ص 131.
الوقت، تعد فكرة غريبة لا تستقيم مع الحقائق المقررة. فلم يسبق في أي عصر من عصور التاريخ، وعند أكثر الشعوب تحضرا وعلما، أن وجدنا مثل هذا الربط بين الجاهل وبين العالم المتخصص. فهذا الأخير وحده هو الذي يستطيع أن يتحدث عن «القنبلة الذرية» لأنه يعلم أسرارها، بينما الآخر لا يملك أكثر من ترديد اسمها دون أن يدري عن تركيبها شيئا. وكل هذا لا يعدو أن يكون تفكيرا مبنيا على الاستنتاج، لا يجوز الاعتماد عليه إلا في غياب الحقائق اليقينية، وإليك ما يقوله القرآن الكريم الذي لا يلتزم الصمت عن جدّة تعاليمه بالنسبة للعرب، بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مواضع كثيرة لا يفوته - وهو يقص بعض قصص القرآن - أن يؤكد أن محمدا صلى الله عليه وسلم فضلا عن قومه - لم يكونوا يألفون أو يعلمون منها شيئا قبل نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
، فإذا كان الأمر على خلاف ذلك، ماذا كان ينتظر من أعداء الإسلام؟.
وحتى على فرض تسرب بعض التفاصيل إلى معارف العرب البدائية، هل كان يستطيع محمد صلى الله عليه وسلم أن يثق بكل بساطة في علم الجماهير، وهو الذي كان يقف مما يرويه العلماء موقف التحدي؟ ونظرا لأن الأفكار التي كانت رائجة في هذا المجتمع الديني الكبير لم يكن لها اتجاه واحد، بل كان لكل من المشركين والصابئين ورجال الدين والفرس واليهود والنصارى أسلوبهم الخاص في عرض الحقيقة! ففي أي فريق من هؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يضع ثقته؟ وعلى أي دعوة من هذه المتناقضات يعتمد؟ وهب أنه حرص على أن يقص علينا عقيدة كل طائفة، وكل مذهب، وكل فرع، من تلك المذاهب المعاصرة، فأي خليط مخيف كنا
(1)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102].