المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاقتباس من الشعراء ومن الفكر الشعبي: - مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول حقائق تاريخية أولية

- ‌الفصل الأول حياة الرسول قبل البعثة

- ‌نسبه ومولده:

- ‌طفولته وشبابه:

- ‌رحلته الأولى إلى سوريا واتصاله بالراهب بحيرى:

- ‌مشاغله الأساسية:

- ‌صفاته الخلقية:

- ‌حلف الفضول:

- ‌رحلته الثانية:

- ‌زواجه من خديجة:

- ‌أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌مشاعره الأبوية:

- ‌ترميم الكعبة:

- ‌صورته الخلقية والخلقية:

- ‌أول مظاهر بعثته:

- ‌أول اتصاله بروح القدس:

- ‌بداية الوحي:

- ‌تأثيره على الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌مواساة خديجة ورأي ورقة بن نوفل:

- ‌فتور الوحي وانقطاعه مؤقتا:

- ‌استئناف الوحي بوصفه رسولا بالإضافة إلى وصفه نبيّا:

- ‌التوافق بين التقويم الهجري والتقويم الميلادي:

- ‌الفصل الثاني كيف جمع نصّ التنزيل الحكيم

- ‌مظهر التجزؤ من الأهمية التي كان يثيرها كل جزء منزل بين الخصوم وبين الأتباع:

- ‌القرآن (المقروء) والكتاب (المدون):

- ‌كتبة الوحي:

- ‌لم توجد نسخة عند الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌عند بعض الأفراد أوراق متفرقة:

- ‌بقاء بعض السور غير تامة:

- ‌كل جزء منزل كان له مكانه في التلاوة:

- ‌القراء أو حملة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتجمع الشفوي للقرآن:

- ‌أول مصحف منظم في عهد الخليفة الأول:

- ‌خصائصه:

- ‌اختلافه بمعرفة عثمان:

- ‌مآخذ بعض الشيعة:

- ‌اعتراف الإمامية (أبو جعفر):

- ‌شهادة الغربيين عن صحة القرآن في عصور الإسلام كلها:

- ‌تصحيح:

- ‌منشأ القراءات المختلفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والقراءات السبعة:

- ‌هل ألغى عثمان جميع القراءات

- ‌الهدف المزدوج لنشر عثمان المصاحف:

- ‌مصحف عثمان لا يحمل أية قراءة للآحاد وإنما اقتصر على القراءات الصحيحة:

- ‌ما مدى صحة القراءات غير العثمانية:

- ‌تفنيد حجة الدكتور جيفري:

- ‌ضعف القراءات المخالفة:

- ‌محاولة ترتيب القراءات المخالفة:

- ‌ابن مسعود لم يخرج على الإجماع:

- ‌إعدام المخطوطات المشكوك فيها أنقذ وحدة النص:

- ‌الفصل الثالث كيف تم تبليغ المبدأ القرآني إلى العالم

- ‌سرعة انتشاره واستقراره:

- ‌مقارنة مع فتوحات الإسكندر الأكبر:

- ‌خطأ رأي علماء الغرب عن عوامل التوسعات الإسلامية:

- ‌نظرة تاريخية وتحليلية عن منشأ الصراع الحزبي في الإسلام:

- ‌من أين جاء هذا التغيير المفاجيء

- ‌القرآن يحدد الحرب الشرعية:

- ‌السنة النبوية تفصل الأهداف العسكرية من الحرب:

- ‌الغرض الحقيقي من الحرب:

- ‌خطأ جوتييه في معنى التسامح الإسلامي:

- ‌الجهاد في الدعوة يخضع لقواعد:

- ‌المبدأ الإسلامي الذي ينظم العلاقات الدولية:

- ‌اعتراف جوتييه:

- ‌مقارنة بين الحروب الإسلامية وحروب حركة الإصلاح البروتستانتية:

- ‌متانة البناء الإسلامي:

- ‌الباب الثاني القرآن من خلال مظاهره الثلاثة الدّيني والخلقي والأدبي

- ‌الفصل الأول الحق أو العنصر الديني

- ‌المظاهر الخارجية للحقيقة: اتفاق ذوي الاختصاص:

- ‌تعريف القرآن للإسلام باعتباره الإيمان بجميع الأديان المنزلة السابقة:

- ‌العودة إلى الوحدة الأولى:

- ‌الجزء الأول من المبادئ الدينية في القرآن: فكرة عالمية وغالبا مغمورة:

- ‌وصف الوثنية العربية من وحدانية الله الخالق إلى وحدانية الله المعبود:

- ‌العلاج القرآني:

- ‌فكرة الأسباب والمسببات:

- ‌العلم والدين: تفسير الكون عن طريق الدين نابع من عقل أكمل من عقل العلم:

- ‌فكرة المعجزات في القرآن:

- ‌الجزء الثاني من نظرية القرآن الدينية:

- ‌خلود الروح:

- ‌بعث الأجساد:

- ‌ماذا تضمنه أصالة التعاليم القرآنية

- ‌الفصل الثاني الخير أو العنصر الأخلاقي في القرآن

- ‌الدين عقيدة وتشريع اعتقاد وطاعة:

- ‌مقام العنصر العملي في القرآن وفي العقيدة:

- ‌نبدأ بالمنهج:

- ‌اعتماد القرآن على غريزة الإنسان في معرفة العدل والظلم والخير والشر:

- ‌مقارنة بين المبادئ الأخلاقية في التوراة والقرآن:

- ‌مقارنة بين المبادئ الأخلاقية في الإنجيل والقرآن:

- ‌الاختلاف الظاهري بين التوراة والإنجيل بشأن الطلاق والقصاص:

- ‌حقيقة أن العدل والمحبة هما مظهران لقانون خالد واحد:

- ‌المستتر في كل من جزئي التوراة:

- ‌التركيب القرآني:

- ‌1 - في مجال الفضيلة الشخصية

- ‌2).2 -الفضيلة في العلاقات بين الأفراد

- ‌3، 4 - الفضائل الجماعية والفضائل العامة:

- ‌5 - الفضيلة في المعاملات الدولية وبين الأديان:

- ‌الفصل الثالث الجمال أو الجانب الأدبي

- ‌القرآن نموذج ممتاز في الأدب العربي:

- ‌بعض خصائص التركيب القرآني:

- ‌السمو الفريد حتى بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌خطأ كثير من العلماء بشأن وحدة السور القرآنية:

- ‌تجربة خاصة:

- ‌هذه الوحدة من العجائب نظرا للظروف التي تتم فيها وتجعلها مستحيلة بالنسبة للقوى البشرية:

- ‌انفراد في تجميع الأجزاء القرآنية مما يثبت وجود خطة سابقة:

- ‌تصميم يتحدى الطبيعة ونجاحه معجزة المعجزات:

- ‌فضلا عن هذا التخطيط المنطقي والإسلوبي فقد اتبع الوحي مسلكا تربويا:

- ‌الباب الثالث المصدر الحقيقي للقرآن

- ‌الفصل الأول البحث عن مصدر القرآن في الفترة المكية

- ‌البيئة الوثنية: صورتان من حياة العرب في الجاهلية:

- ‌الحنفاء:

- ‌الصابئون:

- ‌البيئة اليهودية والمسيحية:

- ‌رحلات الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهداته (فرضان لا يعول عليهما):

- ‌الإتصال بالجموع المسيحية في سوريا:

- ‌وصف المسيحية في ذلك الوقت بمعرفة الكتاب المسيحيين:

- ‌الاتصال بالكتب المقدسة:

- ‌هل كان محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ

- ‌عدم وجود توراة باللغة العربية في تلك الفترة:

- ‌الاقتباس من الشعراء ومن الفكر الشعبي:

- ‌تأملاته الفكرية الشخصية:

- ‌ثمار تأملاته الشخصية:

- ‌الفصل الثاني البحث عن مصدر القرآن في الفترة المدنية

- ‌هل أثر إنتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيئة جديدة واتصاله بأهل الكتاب في سلوكه ومصدر علمه

- ‌تغيير الموطن:

- ‌أخلاق اليهود في نظر القرآن:

- ‌المعارضة الشعبية لنظامين مدنيين:

- ‌الحرب وتعدد الزوجات:

- ‌الادعاء باختلاف الأساس بين التعاليم المكية والمدنية في القرآن:

- ‌القصص الديني اليهودي والمسيحي في القرآن:

- ‌علاقة الأنساب بين العرب وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:

- ‌موقف الإسلام من الأديان السابقة:

- ‌عدد صلوات المسلمين:

- ‌سن عاشوراء وتحويل القبلة:

- ‌فكرة الله في مكة وفي المدينة:

- ‌مصطلح النسخ في القرآن:

- ‌علاقة ابن سلام وسلمان الفارسي ومريم القبطية:

- ‌تطابق وليس اقتباس:

- ‌خاتمة

- ‌نتيجة البحث السلبية عن مصادر طبيعية:

- ‌الوحي نقطة تحول في علم الرسول صلى الله عليه وسلم لا في خلقه:

- ‌شهادة خصومه عن صدقه وإخلاصه:

- ‌خصائص الوحي المتقطعة:

- ‌من أين ينبع إذن هذا الوحي؟ أليس من أعماق نفسه

- ‌الوقائع تثبت العكس:

- ‌القرآن لا يعكس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌التعارض بين موقف محمد صلى الله عليه وسلم قبل وبعد كل تنزيل:

- ‌اعتراف العلماء المسيحيين عن الإخلاص الشخصي للنبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌هل هي أوهام لا شعورية

- ‌افتراض تعارضه مع الواقع:

- ‌طريقة التحقق من صحة الوحي:

- ‌التطابق الكامل لتعاليمه مع الحقيقة:

- ‌وإليك ثلاث عينات:

- ‌1 - في الماضي: حقائق دينية وأخلاقية وتاريخية:

- ‌2 - في الحاضر: حقائق علمية:

- ‌3 - في المستقبل: في التأكيد وفي النفي وفي الإغفال:

- ‌منهج القرآن الكامل ينهض دليلا كافيا على مصدره الرباني:

- ‌ملحوظة

- ‌المراجع

- ‌ أ - المراجع العربية

- ‌ ب - المراجع الأوروبية

الفصل: ‌الاقتباس من الشعراء ومن الفكر الشعبي:

يمكن افتراض وجود مثل هذه العلاقة، وذلك بإتاحة الفرصة لكل حدس وخيال، أما عندما نطالب بالتحديد فإنه يحدث التناقض والتخبط في الحال

(1)

.

‌الاقتباس من الشعراء ومن الفكر الشعبي:

ولكن إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم لم يحصل على أفكاره الدينية لا من نصوص التوراة مباشرة ولا بفضل أي تعليم منهجي من العلماء ذوي الاختصاص، أليس من المحتمل أن يكون قد جمعها من بعض الشعراء العرب اليهود أو النصارى أو ما شابههم؟

نلاحظ أولا أن القرآن يوضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤلف الشعر بوجه عام، بحيث اعتبره القرآن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم لهوا لا يليق بشخصه {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ونمر على هذه النقطة بسرعة، ونتساءل عن هذا التعليم الذي يمكن أن يخرج من هذا النوع من الأدب؟ وهنا نجد اتجاهين في الأدب الجاهلي: الأول وهو أن بعض الشعراء، مثل الأعشى، كان يهتم بوصف التقاليد والطقوس الكنسية. وهو ما لا نجد له أثرا في القرآن بل لقد كان اهتمام هؤلاء الشعراء ينصب أكثر على شرب الخمر، الذي سيوجه إليه القرآن ضربته القاضية بدلا من تحبيذه. فالقرآن لا ينتمي إذن إلى هذه الفئة. أما النوع الثاني من الشعر، فقد كان يكاد يتخصص تماما في الأفكار الدينية؛ وقصائد أمية بن أبى السلط أصلح نموذج لهذا النوع، حيث نقابل موضوعين أساسيين هما: وصف الحياة الأخروية، وقصص الديانات القديمة، وفي بعض المواضع بنفس عبارات القرآن.

فلماذا لا نرى هنا النموذج الذي أخذ عنه محمد صلى الله عليه وسلم؟.

وإذا حالف التوفيق محاولة إثبات هذه العلاقة، سيكون ذلك أهم اكتشاف علمي، يخفف عنا عبء التفسيرات الغيبية ولو جزئيا. وستكون نظرة الكتاب الذين اعتبروا شعر أمية الحلقة بين القرآن والتوراة

(2)

. نظرة صائبة.

(1)

انظر الفصل الثاني فيما بعد.

(2)

انظر كتاب Das Leben und die Lehre des Moh ومؤلفه سبرنجر المجلد الأول ص 78 الذي أورده هوارت في مقال بعنوان «مصدر جديد للقرآن» ص 133.

ص: 151

ولكي نتمسك بهذه الحجة لا شك أن أول شرط يطلب إثباته أو طرحه هو صحة الشعر موضوع البحث. ولكننا لا ننوي أن نثير أي خلاف على هذه النقطة.

فإذا كان هناك بعض جامعي الشعر. مثل حماد وخلف الأحمر، قد اشتبه في أنهم لفقوا بعض الأشعار ونسبوها إلى القدماء بعد أن خلطوها بشعر هؤلاء، فإن تعميم هذا العمل المشبوه - بحيث يشكل كل الشعر العربي أو الجاهلي على الأقل - سيتضمن نوعا من المبالغة.

إلا أنه لا يكفي أن يكون النص صحيحا لكي يمكن اعتباره مصدرا للنص المشابه له، وإنما يجب أن يكون سابقا له في التاريخ. ولكن قضية أسبقية شعر أمية بالنسبة لآيات القرآن قضية مستحيلة الحل. لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وأمية قد عاصر كل منهما الآخر، وهما أيضا من نفس العمر تقريبا، فضلا عن أن أمية عاش واستمر في قرض الشعر طوال ما يقرب من ثماني سنوات بعد نزول آخرآية من سور القرآن المكية التي يوجد تشابه بينها وبين شعر أمية. بحيث يكون من التعسف الادعاء بأن هذا الشعر كان سابقا للقرآن من حيث التاريخ.

ونضيف أن أمية لم يدّع الأصالة ولا الإلهام، بل إنه كثيرا ما عبر عن خيبة أمله وأسفه في هذا الشأن، مما يحملنا على الإعتقاد بأنه قد اندفع إلى التقليد بروح المنافسة وعلى عكس ذلك، لقد أعلن محمد صلى الله عليه وسلم على مسمع من جميع معاصريه بأنه لم يتلق علمه من بشر. ولنأخذ في اعتبارنا موقف خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع. فلقد كانوا دائما على يقظة لأقل ثغرة ليوجهوا من خلالها ضربتهم، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء. ألم يكن من الأيسر لهم أن يضعوا يده على مسروقاته المفضوحة من شعر أمية الذي لم يكن قد جف مداده، بدلا من أن يوجهوا حججهم في كل اتجاه، وأن يلجأوا إلى كل افتراض، وصل إلى حد وصم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون لتفسير ظاهرة القرآن العجيبة؟.

ومن هذا نخلص - إن لم يكن بتأكيد - فعلى الأقل باحتمال كبير، بأن القرآن هو الذي كان أساس الإنتاج الأدبي في عصر نزوله، كما كان يقينا أساسه في

ص: 152

العصور التالية. ولا يضير فن الشعر في شيء أن نشكك في أصالة مصادره، بعكس ما قد يحدث إذا قلنا نفس الشيء عن مذهب ديني. لأن الشاعر لا يركز اهتمامه في الحقيقة التي يعلنها، بقدر ما يركزه في جمال القالب الذي يقدمها فيه، بغض النظر عن المصدر الذي يبحث فيه عن خاماته سواء في حكمة القدماء أو المعاصرين، في وقائع تجاربه، أو في الرأي العام، في أي شعور أو خيال، مهما كانت درجة هبوطه. ولقد أثبت نقد شعر أمية بصفة خاصة، أنه يرجع إلى عدة مصادر مختلفة - وهذا ما لاحظه هوارت - فعندما يتكلم الشاعر عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة، وعندما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن، وعندما يقص التاريخ الديني يلجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية، وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية (أو أساطير الآلهة اليونانية) حيث يتمثل الشخص أحيانا في صورة إنسان، وأحيانا في صورة حيوان أو نبات.

وتبقي أمامنا مرحلة أخيرة في مجال هذا التنقيب عن المصادر الطبيعية الخارجية للقرآن، ألا وهي: الأفكار الشعبية.

إننا لا ننوي أن ننفي عن محمد صلى الله عليه وسلم وهو في شبابه - أي نوع من العلم المنقول إليه بطريق السمع عن الأديان السابقة. فليس من المقبول عقلا الادعاء بأنه كان يعيش في عزلة تامة تجعله أجهل من شعبه في هذه النقطة. ويبدو لنا هذا الشعب من خلال القرآن الكريم وقد توفرت عنده بعض المعلومات عن الأديان السابقة، مما جعله يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيات ربانية تشبه الآيات التي جاء بها المرسلون من قبل

(1)

، ويعارض دعوة الوحدانية بما كان قد سمعه عن آخر الأديان المنزلة

(2)

، ويقارن ملة عيسى عليه السلام بعقيدة الوثنية

(3)

، ومن السهل

(1)

فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5].

(2)

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [سورة ص: 7].

(3)

وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 57 - 58].

ص: 153

أن نتصور أن بعض المعلومات الأخرى عن التوراة قد انتشرت بين طبقات الشعب العربي بفضل تلاقي هذه الأديان في الجزيرة العربية.

ولكن أسبابا كثيرة، تحول بيننا وبين أن نوسع من خيالنا في هذا الشأن منها:

أولا: عدم توفر الدعاية واختفاء الرؤساء الدينيين.

ثانيا: ندرة المعتنقين الجدد وتشتتهم - وبصفة خاصة - جهلهم.

ثالثا: اعتزاز العرب القدماء بجنسهم، وقلة اهتمامهم بالأمور التي لا تتعلق بمصالحهم المباشرة أو تاريخهم القومي.

رابعا: عدم وجود الموضوعات الدينية في أدبهم، فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة. ومن الجدير بالملاحظة هنا، أن نرى أن الاهتمام - حتى من جانب الذين سافروا وتعلموا - كان ينحصر في أشياء أخرى غير الأمور الدينية. فعندما أراد «النضر بن الحارث» منافسة القصص القرآني، شرع يقص على مستمعيه أساطير ملوك فارس القدامى، ومغامرات أبطالها، مثل رستم واسفندار

(1)

الخ، بدلا من قصص الأنبياء والمرسلين. وماذا كان ينشد النابغة الذبياني في شعره؟ يقول هوارت

(2)

: تاريخ الملك سليمان. ومعني ذلك أن بريق ومظاهر حياة البذخ هي التي كانت تستهوي العرب وقتئذ.

وإزاء سكوت التاريخ عن الدرجة الفعلية للمعارف المدونة، التي كانت تتوفر عند هذا الشعب الأمّي الغافل، فكل ما نستطيع عقلا أن ننسبه إليه يجب ألا يتعدى بعض المعلومات المبهمة والبدائية التي لا تختلف عما سبق توضيحه، ولا تهدينا إلى مصدر الحقائق القرآنية، بما اتصفت به من اتساع ودقة وعمق. والواقع أن تصور هذا الشعب الذي كان في عصر «الجاهلية» على درجة من العلم تؤهله للمشاركة في العلوم التي اقتصرت معارفها على بعض العلماء المعدودين في ذلك

(1)

سيرة ابن هشام المجلد الأول ص 183.

(2)

المرجع السابق ص 131.

ص: 154

الوقت، تعد فكرة غريبة لا تستقيم مع الحقائق المقررة. فلم يسبق في أي عصر من عصور التاريخ، وعند أكثر الشعوب تحضرا وعلما، أن وجدنا مثل هذا الربط بين الجاهل وبين العالم المتخصص. فهذا الأخير وحده هو الذي يستطيع أن يتحدث عن «القنبلة الذرية» لأنه يعلم أسرارها، بينما الآخر لا يملك أكثر من ترديد اسمها دون أن يدري عن تركيبها شيئا. وكل هذا لا يعدو أن يكون تفكيرا مبنيا على الاستنتاج، لا يجوز الاعتماد عليه إلا في غياب الحقائق اليقينية، وإليك ما يقوله القرآن الكريم الذي لا يلتزم الصمت عن جدّة تعاليمه بالنسبة للعرب، بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مواضع كثيرة لا يفوته - وهو يقص بعض قصص القرآن - أن يؤكد أن محمدا صلى الله عليه وسلم فضلا عن قومه - لم يكونوا يألفون أو يعلمون منها شيئا قبل نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

، فإذا كان الأمر على خلاف ذلك، ماذا كان ينتظر من أعداء الإسلام؟.

وحتى على فرض تسرب بعض التفاصيل إلى معارف العرب البدائية، هل كان يستطيع محمد صلى الله عليه وسلم أن يثق بكل بساطة في علم الجماهير، وهو الذي كان يقف مما يرويه العلماء موقف التحدي؟ ونظرا لأن الأفكار التي كانت رائجة في هذا المجتمع الديني الكبير لم يكن لها اتجاه واحد، بل كان لكل من المشركين والصابئين ورجال الدين والفرس واليهود والنصارى أسلوبهم الخاص في عرض الحقيقة! ففي أي فريق من هؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يضع ثقته؟ وعلى أي دعوة من هذه المتناقضات يعتمد؟ وهب أنه حرص على أن يقص علينا عقيدة كل طائفة، وكل مذهب، وكل فرع، من تلك المذاهب المعاصرة، فأي خليط مخيف كنا

(1)

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102].

ص: 155