الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحتى ذلك الوقت كان كل شيء يمر بسلام وكرامة على الأقل من جانب المسلمين، ولم يكن هناك ما ينبئ عن إمكان الإلتجاء إلى القوة. فبعد أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم على مصير أتباعه ووصولهم إلى بر الأمان، ورغم الأخطار التي كانت تهدد حياته صلى الله عليه وسلم. لم يتعجل في اللحاق بهم لأنه لم يكن ليغادر مكان دعوته دون إذن صريح من الوحي. ولقد اعتقد أن المطلوب منه هو إطالة بقائه بمسقط رأسه، حيث يتحتم عليه الإستمرار في دعوته، ومعه صاحباه أبو بكر وعلى بن أبي طالب. ولكنه في اليوم السابق لتنفيذ مؤامرة متفق عليها للقضاء على حياته، تلقى الأمر الإلهي بالهجرة، وفي اللحظة التي بدأت الخطوات لتنفيذ هذه المؤامرة الخبيثة، غادر الرسول صلى الله عليه وسلم مكة سرا مع أحد صاحبيه، وعهد إلى الثاني بأن يغطي انسحابه. وبعد أن نجا بمعجزة من هذا الخطر، ألم يكن ينبغي عليه أن يفكر في الانتقام من أعدائه الذين كانوا يريدون القضاء عليه؟ كلا .. وإذا تتبعنا مراحل نشاطه في العام الأول بعد الهجرة، وشطرا من العام الثاني نجد أنه كان يوجهه لأعمال سلمية نبيلة وبناءة: منها تشييد مسجده، وتنفيذ فريضة الصيام، ووضع نظام الآذان وتنظيم المجتمع داخليا وسليما. كل شيء كان يبدو في ذلك الوقت وكأن المسلمين قد أداروا ظهورهم عن مكة نهائيا، حتى في قبلة الصلاة، إلى أن حان منتصف العام الثاني، حيث بدأوا يعترضون قوافل تجارة قريش تمهيدا لمنازلتهم.
من أين جاء هذا التغيير المفاجيء
؟
يستحيل علينا - نظرا للأحكام العديدة النزيهة التي اتفق المستشرقون عليها - أن ننسب الباعث إلى نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإجراءات الحربية في الحقيقة ليست من طبعه ولا من عادته، بل العكس هو الصحيح إذ كثيرا ما جلب عليه تسامحه وعفوه عن المشركين لوما من القرآن
(1)
، فقد نقل إلينا الأثر كثيرا من عفوه
(1)
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (الأنفال - 67) إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة: 80] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى
…
[التوبة: 113].
ومغفرته تجاه جرائم ارتكبت ضد شخصه أو ضد ذويه
(1)
.
ولقد حاول البعض أن يعلل هذا الاتجاه الجديد بضغط جماعة المسلمين عليه، وهم من هذا الشعب الذي يتميز بالروح الحربية كطبع أصيل فيه. ولكن العلماء الذين تعمقوا في دراسة الغريزة العربية، لا يؤيدون مثل هذا الافتراض، بل إنهم أثبتوا أن الدماء تثير الفزع في نفوس العرب، ولا سيما أعراب الصحراء، ويؤكدون أن البدو لا يحرصون علي الحروب. ولكنها عندما تفرض نفسها عليهم يقبلونها بدلا من تحمل الذل والعار.
وحتى بالنسبة لعمليات الغزو التي كانت تقوم بها بعض القبائل على بعض، فإن القبائل الرحل كانت تحرص دائما على عدم سفك الدماء
(2)
.
فلا يمكن إذن تفسير هذا التحول الجديد عن طريق تحليل نفسية الشعب ولا بتحليل نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يتعين البحث عن دوافعه في حدث تاريخي ولا بد أن شيئا ما قد حدث في تلك الفترة فأدى إلى هذا الموقف الجديد، والواقع أن القرآن يجسد أمامنا مشهدا مثيرا للغاية، فقد رأينا من سياق العرض السابق كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة كان يطيل بقاءه بمكة بعد رحيل أتباعه ليكون آخر المهاجرين. ومن هذا نستطيع أن نؤكد أنه لم يترك خلفه ما ينشغل به. بل ويمكننا التخلي عن أي أمل في أن يسلم أحد بعده في هذا البلد الوثني. ولكن الأمر في الحقيقة كان على خلاف ذلك وها هو القرآن ينقل إلى أسماعنا صوت استغاثة من بين أناس {مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ} أسلموا وهم بمكة ولا سند لهم يعينهم على الهجرة أو على دفع الظلم عنهم، ويتعذبون بإيمانهم ويطلبون
(1)
ومنها عفوه عن مبعوث قريش الذي جاء بعد موقعة بدر لاغتياله، وعن اليهودية التي دست السم له في الطعام بخيبر، والأخرى التى دفعت ابنته زينب بعنف أثناء الهجرة وهى حامل فأجهضتها. وكذلك عفوه عن الذين جاءوا بالأفك ضد زوجته عائشة البريئة. وكم يستحق من إعجاب مسلكه السلمي الكريم وقت فتح مكة وبعده (انظر محمد والقرآن «لمؤلفه ج. ب، سان هيلير» ص 125 - 130).
(2)
«مهد الإسلام» لامنز ص 247 Lammens،Berceau de l'Ialam
العون الإلهي لنجدتهم
(1)
، فلقد كان الغرس القديم - الدرس والقدوة - مثمرا وهو بعيد على أية دعاية جديدة. وكلما خفق الإيمان تحركت العداوة والقسوة لإخماده بدون رحمة أو شفقة تاركة عددا من الضحايا لا يستطيعون دفع الضر عن أنفسهم.
ماذا يكون الحال إذن .. ؟ ألا أن المهاجرين والأنصار وهم في معزلهم الأمين الآن يتمتعون بحريتهم الكاملة في الإيمان والعبادة، يحق لهم أن ينطووا في أنانيتهم ولا يعيروا لمصير إخوانهم بمكة أي اهتمام؟ هل يجوز منطقيا وبدون تحامل، أن تحرم «الحقيقة» و «الفضيلة» من حقهما في تلقي العون، وأن نترك الاستبداد يشهر سلاحه ضدهما؟
ومع ذلك فهذا العون المادي المطلوب عن حق لم يقدمه المسلمون بسهولة على الأقل في صورته الحربية. وهنا أيضا يكفي أن نرجع إلى القرآن الكريم - وهو المصدر الممتاز الذي لم يعد أحد من العلماء يشك في صدقه وصحته تاريخيا - لكي نرى التردد والتراجع من جانب «الأحرار» أما المشروع العسكري الذي كان غرضه تحرير «الأسرى» . ولقد تدخلت في هذا الموقف - بالإضافة إلي كراهية الحرب
(2)
، وإلى غريزة حفظ النفس
(3)
- ظروف خاصة جعلت - الحرب في نظرهم غير معقولة، فقد فكر المسلمون وهم فى معسكرهم على هذا النحو: كيف نلقي بأنفسنا على غرة أمام عدو يفوقنا عدة وعددا وهو يهاجمنا؟
(4)
أليس من الأفضل القيام ببعض الأعمال الانتقامية غير المباشرة
(5)
بحيث تشعر قريش بقوتنا
(1)
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً [النساء 75].
(2)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة - 216].
(3)
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء - 77 - 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء - 4].
(4)
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ [النساء - 13].
(5)
من المعلوم أن المسلمين عندما هاجروا تركوا أموالهم وممتلكاتهم لقريش الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج - 40] فمن حقهم على الأقل أن يعوضوا ولو جزءا من بضائعهم وهذا هو ما يسميه «الدكتور سنكلير تسدال» حملات السلب والنهب (مصادر القرآن ص 276).
فتترك إخواننا وشأنهم؟ قد يكون من الأفضل اعتراض طريق العير وعدم الاصطدام بجيش قريش
(1)
ولكن فريضة التضحية العظمى كان قد حان وقتها، وأراد الله أن يفصل في الصراع القائم بين الحق والباطل
(2)
. فليس على الإنسان إلا أن يضطلع بواجبه ويصمد ليعرف كل لماذا يموت ولماذا يعيش
(3)
: هؤلاء من أجل مثلهم الأعلى، وأولئك من أجل أوثانهم ومعبوداتهم
(4)
.
تلك هذه الظروف التي انطلقت فيها شرارة الحرب المسلحة الأولى. فبقدر ما ظلت الإضطهادات ذات طابع فردي وخاص، إلتزم المسلمون مدة إقامتهم بمكة، بالامتناع عن أي رد فعل عنيف، وتحملوا جراحهم ببسالة
(5)
. أما الآن وقد اصطبغت كراهية المشركين بصبغة العمومية. وتحولت إلى حرب ضارية
(6)
. فقد أذن للمؤمنين بعد أكثر من عشر سنوات من الصبر الجميل
(7)
، بأن يجندوا أنفسهم
(8)
(،9) للدفاع الجماعي عن كيانهم، وللذود عن إخوانهم الذين لا سند
(1)
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال - 7].
(2)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال - 8].
(3)
وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال 42].
(4)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ [النساء 76].
(5)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
…
[النساء - 77].
(6)
وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ..... [البقرة - 217].
(7)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج - 39].
(8)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة - 216].
(9)
لقد كان تحول هذا الإذن بالقتال إلى أمر عام في ظروف غير مواتية على الإطلاق، بحيث لا يمكننا أن نوافق «الدكتور سنكلير» بأن القانون القرآني كان يتعدل تدريجيا حسب انتصارات محمد (ص 279).
ولقد وقع هذا الكاتب أيضا في أخطاء أخرى في نفس الموضوع - أولا - عندما قلب معنى الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة - 217] التي تدين أعمال العدوان في الأشهر الحرم (ص 276) ثانيا - عندما اعتبر وسائل قمع الارهابيين إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة - 33] صورة جديدة للحرب تعد مرحلة ثالثة في هذا التطور (ص 277).