الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
نستطيع دراسة القرآن الكريم من زوايا جد مختلفة، ولكنها جميعا يمكن أن تنتهي إلى قطبين أساسيين:
اللغة والفكر. فالقرآن كتاب أدبي وعقيدي في نفس الوقت وبنفس الدرجة.
فباعتباره كتاب لغوي وبلاغي تتطلب دراسته دراية واسعة وعميقة باللغة العربية التي أنزل بها نصه الأصلي. ولما كانت غالبية المجتمع الجامعي الأوروبي الذي نقصده أساسا بهذه الدراسة لم يألف هذه اللغة فسوف لا تتركز جهودنا على هذه النقطة. وإذا وضعناها أحيانا في الاعتبار، فسوف لا يكون ذلك إلا بصفة ثانوية، بوصفها وسيلة لزيادة تأثيره وتقوية سلطان التعاليم التي يتضمنها.
أما جانبه الثاني فلا يتطلب من الدارس أن يكون عربيا أو متحدثا بالعربية ليضطلع بدراسة جدية ومثمرة للقرآن. أقصد بذلك هذا الكنز من الأفكار الذي يتكشف من ثنايا أسلوبه الأدبيّ الرفيع والذي سنعرض هنا لثلاثة مجموعات منه:
الأولى - طبيعة دعوته، أي مجموعة الحلول التي يقدمها للمشكلتين الخالدتين ألا وهما «المعرفة» و «السلوك» . ثم نعرض بعد ذلك أساليب الاقناع التي يستخدمها لإثبات صدق هذه الدعوة. وأخيرا البراهين التي يدلل بها على الطابع الرباني المقدس الذي ينعت به رسالته. فنستطيع إذن دراسة القرآن من هذه النواحي بعيدا عن نصه العربي إذا توفرت لنا ترجمة سليمة
(1)
. وهذه الدراسة المستقلة عن اللغة هي ما تهدف إلى الإسهام به عن طريق هذا البحث.
(1)
رغم أنه لم توجد بعد ترجمة فرنسية للقرآن لا يشوبها خطأ إلا أنه يبدو أننا في سبيلنا للتوصل إليها، وباستخدام وتصحيح ترجمة «كازيمرسكي» وترجمة «بل - تدجاني» بعضهما ببعض يتوفر لدنيا عناصر غالبا ما تكون مطابقة للنص الأصلى، وعليه نحيل القاريء إلى هاتين الترجمتين - إن لم يتوفر له أحسن منهما - مع رجائنا أن يأخذ في اعتباره اختلاف أرقام الآيات بين جميع الترجمات وبين نص القاهرة العربي الذي نشير إليه هنا. (والأرقام الرومانية تشير إلى أرقام السور، والعربية إلى أرقام الآيات) ..
وفي الحقيقة، كان الغرض الأساسي من هذه الدراسة استخلاص قانون الأخلاق القرآني بغض النظر عن كل ما يربط هذا القانون بباقي «الكتاب الرباني» . ولكن قبل أن نستخلص هذه الخلية الحية من نظرية القرآن ونتناولها بالبحث كوحدة مستقلة (وهو العمل الذي خصصنا له مجلدا آخر) رأينا أنه من المفيد عرض الخطوط الرئيسية لهذا البناء الفكري في وحدتها التي لا تتجزأ وأن نوضح المكان الذي يحتله العنصر الأخلاقي من الإطار الكلي.
ولهذا سوف نلقي نظرة سريعة ولكنها عميقة على البناء القرآني لنستخرج الأفكار الرئيسية الموجودة في كل جزء من أجزائه، كما أن هذه النظرة ستكون شاملة بحيث تتضمن المظهر العام للمناهج المتبعة والأهداف المنشودة.
وبعد عرض نقاط تاريخية لا غنى عنها - أضفناها بناءا على اقتراح وجيه من المسيو موريس باترونييه دي جانديّاك الأستاذ بالسوربون - فإن الموضوع الجوهري لبحثنا هو عرض رسالة القرآن في جملتها كما يعرضها القرآن نفسه لا كما وردت خلال الأحكام أو التفسيرات أو التطبيقات التي اختلفت نسبة إخلاصها عبر التاريخ، وسوف نقابل في طريقنا بشأن هذا الكتاب المقدس إما بعض الأحكام القاسية فنصححها أو بعض الاستنتاجات العاجلة فنقّومها، وفي كل هذا سنترك النص القرآني ليتولى الدفاع بنفسه عن نفسه ويقدم الحجة تلو الحجة، وتكاد وساطتنا تنحصر في الربط والتنسيق بطريقة منطقية بين أجزاء هذا الدفاع، تاركين للقارئ الفرصة ليقدر بنفسه قيمة هذه الحجج تاريخيا وفلسفيا.
فالدراسة إذن دراسة موضوعية للقرآن بقدر ما يستطيع أي مفكر أن يتجرد من ظروفه الذاتية الخاصة. على أن ذلك قد لا يمنع أن ينعكس دور الدفاع الذي نقوم به على بعض عباراتنا فيصبغها بصبغة الحماس أو بلهجة الإقناع. ولكن ذلك لا يعدو أن يكون إنعكاس الأصل في المرآه وليس شيئا جديدا نابعا من طريقتنا في التفكير.
وجدير بالملاحظة أن استخلاص فكرة القرآن من غلافها وإخراجها على هذا
النحو من إطارها المحلي لتقريبها إلى الفكر الأوربي البعيد عن اللغة العربية ما هو إلا تحقيق لجزء من رسالته الحقيقية. لأن القرآن يقصد الإنسان حيث يكون وإلى أي جنس ينتمي. وذلك حين يوجه نداءه إلى العقل والذوق السليم والشعور الإنساني النبيل، إنها دعوة عالمية تهدف إلى تطهير العادات وتوضيح العقائد والتقريب بينها وإسقاط الحواجز العنصرية والوطنية وإحلال قانون الحق والعدل محل قانون القوة الغاشمة.
وفضلا عن الإسهام في المجهود الفلسفي العالمي، نرى مدى العون الذي يمكن أن تقدمه دراسة مثل هذه المبادئ السامية، في زحمة هذا التسابق الضاري من أجل السيطرة ومن أجل القوة المدمرة التى تفسد عصرنا الحاضر.
باريس في 21 فبراير 1947 م محمد عبد الله دراز