الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآني يكفي ليوضح لنا ما إذا كان إله الإسلام قد غير وجهه. بحسب ما إذا كان العرض قبل أو بعد الهجرة. فالقرآن يتحدث دائما عن الله بوصفه المجازى للعالمين عما يعملون من الخير أو الشر، والسور المكية تصور كلا من الجانبين في وقت واحد
(1)
. أما السور المدنية فشأنها شأن السور المكية تبدأ بالبسملة. ومن نافلة القول أن نؤكد أن حب الله لعباده يبدو دون ما اختلاف في كل من الفترتين، على أنه نصيب المحسنين والمقسطين والصابرين والمتقين؛ وأن غضبه، من نصيب الظالمين والمختالين والكافرين. ولكن ما يستحق التأكيد حقا، هو عكس الظاهرة التي لاحظها الناقدون: فقد لاحظوا أن صفة الرحمة تبدو أكثر في السور المكية. ولكن الواقع يكذب ذلك فما أكثر ظهور «إله الحرب» في السور المكية، حيث تكثر قصص التاريخ القديم بشره وفساده، والعقاب الأليم الذي نزل بأممه والتهديد فيها ضمني (ولكنه دائم) للقرى التي تسلك نفس الطريق. وأكثر من ذلك أننا إذا بحثنا النص القرآني عن كثب، سنجد أن الحروب التي صدر بها الأمر من المدينة ضد المعتدين لم تكن إلا تنفيذا لإنذار عام وصريح أعلن وتكرر ذكره قبل ذلك في مكة
(2)
.
مصطلح النسخ في القرآن:
ويوجد في أساس هذا الاعتراض الأخير وفي منشأ كثير غيره، خطأ نود أن ننوه
(1)
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (الانعام 165) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (الرعد 6) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ [غافر: 42 - 43].
(2)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يونس: 102] وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ [هود: 121 - 122] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الإسراء: 58].
عنه بكلمة وهو يتصل بالفكرة الشائعة عن مصطلح «النسخ»
(1)
أو «الإلغاء» في الإسلام. فالباحثون في الإسلام من غير المسلمين يفهمونها إما بمعنى الرجوع في أمر صادر، وإما بمعنى اكتشاف حقيقة كانت مجهولة فيما مضى. وكل من المعنيين لا يتفق مع مدلول اللفظ الصحيح. ففي مجال المعرفة النظرية لم ولن يوجد ناسخ أو منسوخ في التعاليم المنزلة. ومعنى النسخ هنا «الحصول على علم جديد» فإذا طبقنا ذلك على علم الله سبحانه وتعالى، يكون ذلك عين الكفر واللامعقول، وعلى العكس في المجال العملي. فقد وجد النسخ بالفعل سواء في تعاليم الدين الواحد، أو في التعاليم من دين إلى دين آخر «لقد قالوا لكم كذا وأنا أقول لكم شيئا آخر» . ولكن ما المقصود بمثل هذا التغيير؟ هل ينسخ القانون لأن التجارب أثبتت أنه كان مجافيا للعدل، أو كان مصاغا صياغة خاطئة منذ البداية؟
(1)
وهو مصطلح ينطوي على اللبس منذ قديم. ويعني عمل نسخة خطية كما يعني «الإلغاء» ويستخدم في القانون والفقه بمعنى «وقف تطبيق قانون مؤقت» ولكن مع توسيع المعنى قصد به بعض المفسرين كل توضيح أو تحديد لمدلول أية عبارة. ولقد أسرف ابن حزم في استخدامه بهذا المعنى. وليس من النادر أن نقابل حتى في نفس الآية عبارة «إلا» أو «ولكن» فيعتبرها نسخا للمدلول العام أو للمدلول المقابل المشار إليه من قبل. وعلى هذا الأساس رأى النسخ في الآيات التالية سورة [البقرة آية 60 - 196 - 229 - 233، وسورة النساءآية 19 - 22 - 23 - 146 وسورة المائدة آية 34، وسورة مريم آية 60، وسورة النورآية 5، وسورة الفرقان آية 70، وسورة الشعراءآية 227، وسورة غافرآية 8 - 9] وفيما يلي نموذج لهذا الاستعمال الغريب الوارد في تفسيره لبداية سورة المزمل يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً.
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [آية 1 - 3] فيقول إن «إِلاّ قَلِيلاً» نسخ «لليل» و «نِصْفَهُ» نسخ «إِلاّ قَلِيلاً» ، و «أَوِ انْقُصْ» نسخ «نِصْفَهُ» ويعد على هذا الأساس ثلاث مواضع للنسخ في آية واحدة ومن المحتمل أن يستمر في الزيادة
…
فهل نندهش إذا ذكر أن في القرآن 224 موضعا منسوخا حسب تقديره؟ ويقول إن من ال 224 موضع 114 ترجع تلك الفكرة العامة التي تتعلق بالحض (ولو من بعيد) على الصبر على أذى المشركين وهى أحكام مؤقتة كما هو معلوم إستبدلت بالتصريح بالمقاومة ومواجهة القوة بالقوة والجدير بالملاحظة هنا هي الطريقة التي نقل بها المستشرقون هذه الأفكار. فقد التقطوا هذا العدد دون أخذ تفسير ابن حزم لمعنى اللفظ في الحسبان وأضافوا إليه مزيدا وقالوا بأن هذا هو عدد المتناقضات الموجودة في القرآن التي اعترف بها المسلمون أنفسهم باعتبارها ناتجة عن التقلبات السياسية (الكتاب السابق تأليف رنان ص 1079) وانظر أيضا س. تسدال في «مصادر القرآن» باللغة الانجليزية ص 278.
إذا كان هذا مقبولا في أمورنا البشرية فلا جدال في أنه غير مقبول على الإطلاق في أمر التشريع الإلهي المنزل لأن الله لا يرجع في قراره ولا يراجع نفسه أبدا. فكل من القاعدة التي يبطل تطبيقها، والقاعدة التي يستحدثها.، تتصف بالقداسة، وكل منهما، إذا وضعت في زمنها، تمثل الحكمة الوحيدة التي تفرض نفسها.
فسواء أكان الأمر يتعلق بالتقدم أو بالارتداد، باللين أو بالشدة، فلا يمكن التغيير في فكر المشرع، وإنما في الأحداث التاريخية ومتطلباتها للحلول المتنوعة. وأحيانا ينص صراحة في صيغة القانون الأول بأنه مؤقت
(1)
والغالب يكون ذلك مستترا ولا نعلمه إلا من القانون التالي له، الذي قد يوحى بأنه حل ارتجالي، بينما في الحقيقة كل شيء كان متوقعا ومرتبا بتسلسل بحسب التواريخ المحددة
(2)
. فمن المتفق عليه أن المشرع الناجح لا يعامل الناس في مرحلة الانتقال بنفس الطريقة التي يعاملهم بها بعد أن وصل نضجهم إلى مرحلته الأخيرة. بل على العكس يجب عليه كالطبيب الماهر، أن يغير من نظمهم حسب تقدم كفاءتهم وقدرتهم على الفهم والإدراك. فهذا المسلك التدريجي في التعليم والتشريع ليس عيبا، وإنما هو أنجح المناهج في تكوين النفوس الواعية المستنيرة المشبعة بالحكمة، والأمم المنظمة، والخلق المتين.
كان الغرض من الملاحظات التي ابداها الكتّاب الغربيون والتي فندناها في هذا الفصل هو أن يثبتوا - بناء على نقد من داخل التعاليم القرآنية - وجود بعض الاقتباسات من الوثائق الدينية «بالمدينة» . فلو أنهم نجحوا في مسعاهم لكان ذلك بمثابة طريقة غير مباشرة لإثبات وجود علاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب تلقّى عن طريقها العلم عنهم. فلماذا إذن لم يتجهوا مباشرة ليضعوا أيدينا على
(1)
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (البقرة 109) وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [النساء: 15].
(2)
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143].
شخص أو الأشخاص الذين تلقى محمد صلى الله عليه وسلم منهم العلم؟ لم يجسر أي مؤرّخ يقدر مسئوليته العلمية أن يفعل ذلك. ولكن كيف يمكن تصور أن محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يعيش وسط حكماء اليهود لم يحاول قط أن يتصل بهم؟ ومن جهة أخرى ماذا كان موقفهم منه؟
إن القرآن يرشدنا في هذا الشأن ويقسمهم إلى فئتين: الغالبية العظمى وكانت تعادي الإسلام حتى من قبل أن يدوس الرسول صلى الله عليه وسلم أرض بلادهم - فقد كانت تخفي علمها عنه، وفي مناسبات عديدة، حاولت بلا جدوى خداعه وبث المكائد في طريقه. وكانوا أحيانا يلقون عليه عن طريق إخوانهم بأسئلة محرجة عن الروح
(1)
، وعن بعض الألغاز التاريخية
(2)
، وأحيانا أخرى يطالبونه بأن ينزل عليهم من السماء كتابا مدونا
(3)
، وأحيانا ينكرون نصوصا أكد الرسول صلى الله عليه وسلم وجودها في كتبهم، ولا يعترفون بها إلا بعد تحديهم وإثبات غشهم
(4)
. وهكذا نرى أن هؤلاء كانوا بعيدين كل البعد عن موقف الملقن المتصف بالترحيب.
وبالعكس كان هناك فريق من علماء بني إسرائيل الذين ضاقوا ذرعا بادعاءات اليهود العنصرية وبغرورهم الذاتي، فحضروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستمعوا إلى تعاليمه وليتفحصوا وجهه. وعندما تعرفوا عليه في الحال - بناء على بعض العلامات الموجودة في كتبهم - شهدوا له بصدق رسالته
(5)
. وأشهر شخصية في هذا الفريق هو عبد الله بن سلام، والظروف التي أعلن فيها إسلامه لها دلالة
(1)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85].
(2)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً والآيات التالية حتى آية 25 [الكهف: 9].
(3)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النساء: 152].
(4)
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ. قُلْ صَدَقَ اللهُ [آل عمران:
93 -
95] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ [المائدة: 43].
(5)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121].