الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشرع في نزول الجبل من الجانب المطل على مكة سمع صوتا يناديه فالتفت يمينه ويساره وخلفه فلم ير شيئا، فرفع بصره إلى السماء فرأى الملك الذي رآه من قبل على جبل حراء ولكن مفاجأة ظهور الملك والضخامة العظيمة لهذا المخلوق السماوي أذهلته حتى لم تقو رجلاه على حمله، فارتعد من الخوف (وقد يكون أيضا من برد شهر يناير وأسرع عائدا إلى خديجة يطلب منها الرعاية السابقة. إلا أن زائره الكريم لحق به إلى البيت حاملا إليه الحكم الذي يكلفه بمهمته الثانية:
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر: 1 - 2]. منذ ذلك الوقت لم يقتصر دور محمد صلى الله عليه وسلم على أن يتلقى تعاليم ربه فحسب وإنما عليه أيضا أن يبلغها إلى الناس كافة، فدور الرسول صلى الله عليه وسلم قد أضيف إلى دور النبوة.
لقد رأينا كيف أنه في خلال هذين التكليفين كان الوحي منقطعا وبطيئا بل وقليلا، ولكن ما أن بدأ التكليف بالرسالة، حتى أصبح الوحي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لا أقول بصفة منتظمة وفي فترات متقاربة وإنما بنوع من الاتصال ومن غير أن ينقطع مثل الإنقطاع السابق.
التوافق بين التقويم الهجري والتقويم الميلادي:
فعام 612 الميلادي هو نقطة انطلاق رسالة الإسلام، ويجيء تاريخ الهجرة
(1)
ليقسم فترة الرسالة إلى قسمين متساويين تقريبا منها عشر سنوات في مكة مسقط رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وعشر سنوات في المدينة محل إقامته الجديد حيث توفي في
(1)
الهجرة معناها قطع العلاقات والابتعاد عن اختبار، وإن كانت أسباب ذلك غير اختيارية، فمن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يبلغ رسالته - اضطر إلى أن يرحل عن وطنه في اليوم السابق لمؤامرة كانت تهدف القضاء عليه، واستقر به المقام بالمدينة حيث وصل في بداية شهر ربيع الأول (يوم 2 أو 8 أو 12 لاختلاف المؤرخين) ولقد حدد الفلكي المصري السابق ذكره اعتمادا على وثائق عديدة - يوم الهجرة بيوم الاثنين 8 من ربيع الأول الموافق 20 سبتمبر عام 622 بعد الميلاد إلا أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن التقويم الإسلامي بدأ من السنة القمرية التي تمت فيها الهجرة وليس في يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه بدأ قبل ذلك بشهرين وعدة أيام أي في يوم أول محرم الموافق 15 أو 16 يوليه عام 622 ميلادية ولما كانت السنة القمرية الكبيسة تساوي 355 يوما فقط وأن مجموع 33 سنة قمرية يعادل 32 سنة شمسية تقريبا فيمكن تحويل التاريخ الهجري (هـ) إلى تاريخ ميلادي (م) أو العكس باستخدام إحدى المعادلتين التاليتين: م - (هـ + 622 - هـ / 33 هـ - م - 622 + م - 622 32/ 33).
12 أو 13 من ربيع الأول عام 11 هجرية (7 أو 8 يونيو 632 ميلادية) بعد أن بلغ من العمر ثلاثة وستين عاما قمريا بالكامل أي أكثر قليلا من واحد وستين عاما شمسيا
(1)
.
ولا شك أن من الأمور الطريفة حقا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في نشاطه الدؤوب وفي رسالته الهادية طوال العشرين سنة والتي نتج عنها ثورة من أكبر الثورات الحضارية التي عرفتها البشرية. ولكن لما كان الهدف الرئيسي من هذا الكتاب هو دراسة تحليلية للبناء القرآني ذاته ونظرا لأننا قد تناولنا بالدراسة حياة محمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغنا نقطة التقاء الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته، نستطيع الآن أن نتناول بالبحث الكتاب الذي تركه لنا، وسوف نتناول في الفصل التالي كيفية تكوين هذا الكتاب الكريم وتنظيمه وحفظه وتناقله عبر التاريخ.
***
(1)
في مقال بعنوان «عمر محمد صلى الله عليه وسلم» (بالجريدة Journal Asiatique عدد مارس/إبريل 1911) حاول H.Lammens أن يخفض سن النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنوات دون أن يأتي على ذلك بدليل قوي فقد بدا له أنه خارق للعادة أن يتوفر لرجل تجاوز الخمسين من عمره من النشاط والقوة ما يلزمه ليخلق لنفسه وضعا جديدا في الحياة. فرغم اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه «ولدت في زمن الملك العادل كسرى» «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» ورغم شهادة الصحابة الصحيحة: معاوية وابن عباس وعائشة
…
ورغم الوقائع التاريخية المتفقة مع المراجع الأوروبية والفارسية والعبرية المختلفة يحلو لهذا الكاتب أن يعارض ذلك كله ببعض المعلومات المستقاة من كتاب مجهول مؤلفه وبعض الروايات المشبوهة والمتناقضة فيما بينها
ويحاول أن يضع بعض علامات الاستفهام ليس فقط عن سن الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما عن حياته برمتها وكل ما يتعلق بها. فيدعي أن التواريخ والوقائع والشخصيات وكل ما ورد في الأثر الصحيح مشكوك فيها ومسوقة بتقدير سابق وبتلفيق في التفسيرات والنصوص وموفقة بطريقة مقصودة وإن علم الاستشراق ذاته يكون قد ضل في طريق خاطئ بفعل المؤرخين العرب. هل يكترث العلم بمثل هذه المشاركة السلبية أو الهدامة على الوجه الأرجح؟ ولا يكمن الخطر في لهجة الكاتب الساخرة فحسب، حيث تغمر السخرية كل خطوة من خطواته وراء نزعته إلى الشك المريض الواهي من أساسه وإنما أخطر من ذلك تحيزه في تطبيق نزعته في الشك، فبمجرد أن يجد رأيا في غير صف الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان تافها أو مصادما للمعقول ينقلب شكه فجأه إلى يقين وتأييد. إنه تحامل حقود لا يخجل من التحدث باسم النقد العلمى بما يناقض المنطق ذاته.