الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض السور التمييز بين الفكرة الرئيسية والأفكار الثانوية، أو اكتشاف العلاقة بين هذه الأفكار بعضها وبعض أو بينها وبين النواة المركزية للسورة. وقد نجهل حتى الظروف التي استدعت التجميع بينها في سورة واحدة. ومن المفهوم أن تركيز عبارات القرآن الكريم وجزالة معناها قد تترك بين كل جزء وآخر نقاطا للوصل، وعديدا من الخيوط الإرشادية، مما جعل المفسرين يختلفون في الربط بين هذه الأجزاء. ولكن أيا كانت الطريقة التي نتبعها، وأيا كانت درجة الدقة في معرفتنا، وسواء أكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذاته يعرف ذلك أو لا يعرفه، فإن هذا التصميم كان موجودا بالفعل وأسهم في تحقيق ذلك الترتيب الذي كان موضوعا في زمن سابق على نزول القرآن.
فضلا عن هذا التخطيط المنطقي والإسلوبي فقد اتبع الوحي مسلكا تربويا:
أما الذين لا يهتمون بالكشف عن هذا التخطيط في السور القرآنية فإنهم يستطيعون أن يتأملوا تخطيطا آخر ذا طابع أسلوبي، وبمقتضاه يمكن ملاحظة أن الأجزاء التي ستتجاور مجهزة مقدما بطريقة معينة بحيث يتزاوج بعضها مع بعض بدون تصادم أو ثغرات، كل ذلك مع تنوع الموضوعات واختلاف البعد الزمني الذي يفصل بين كل موضوع وآخر.
ولكن إعجابنا سيصل إلى ذروته إذا أدركنا أن هذه الأجزاء المبعثرة من الآيات القرآنية، قد اتبعت في نزولها تخطيطا آخر مختلفا تماما عن التخطيط الذي تحدثنا عنه في الفقرات السابقة. وما علينا إلا أن نستعرض - من أولها إلى آخرها - المراحل التدريجية للعرض خلال الثلاث والعشرين سنة؛ من النبوة إلى الرسالة (من «اِقْرَأْ» بسورة العلق إلى «قُمْ فَأَنْذِرْ» بسورة المدثر) ومن الدعوة السرية إلى الدعوة الجهرية {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأقاربه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] إلى دعوة مكة بأسرها، {وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} [القصص: 59]، ثم القرى المجاورة {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها}
[الأنعام: 92]، ثم البشرية جمعاء {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}
[الأنبياء: 107]، ومن إرساء القواعد الأساسية للإسلام (فى السور المكية) إلى التطبيق العملي (في السورة المدنية)، ومن التبغيض في شرب الخمر {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}
[البقرة: 219]، إلى تحريمها صراحة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، ومن الدعوة إلى الصبر واحتمال الأذى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [النساء: 77]، إلى المقاومة المسلحة {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] .... الخ.
وقد يكفي أن نسجل هنا تاريخين على جانب من الأهمية، هما تاريخ انطلاق الدعوة وتاريخ اختتامها. فالتاريخ الأول هو يوم غار حراء، حين تلقى محمد صلى الله عليه وسلم الوحي لأول مرة، وأعلن فيه أنه سيتلقى علما من قبل الله {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5]، وسيكلف بمهمة شاقة {إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]. أما التاريخ الثاني فهو يوم حجة الوداع، حين أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن رسالته قد تمت، وأن مهمته على الأرض قد انتهت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}
[المائدة: 3] وبعد ذلك لم يلبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن لحق بالرفيق الأعلى.
إن هذا التطور إذن كان متفقا مع خطة تربوية وتشريعية موضوعة في وقت سابق، في إجمالها وفي تفصيلها، بمعرفة منزل الوحي سبحانه وتعالى. فإذا كانت هذه النصوص ذاتها التي كانت تتبع في نزولها تخطيطا تربويا ممتازا، قد تحولت بمجرد نزولها من شكلها التاريخي لكي تتوزع وتتجمع في شكل آخر على هيئة إطارات محددة ومختلفة الأطوال بحيث يظهر من هذا التوزيع المقصود في النهاية، كتاب يقرأ، مكون من وحدات كاملة، لكل منها نظامها الأدبي والمنطقي، لا يقل روعة عن النظام التربوي العام، فهذا هو التخطيط المزدوج الذي لا يمكن أن يصدر عن علم بشر.
***