الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبمظهرها وجوهرها تشبع حاجة كل من يفهم اللغة العربية. والقرآن - حامل هذه الرسالة - كان وسيظل النموذج الذي لا يبارى في الأدب العربي. فجمال أسلوبه محل إعجاب الجميع في كل العصور. وإذا نظرنا نظرة مجردة إلى الصفات الأدبية التي ينطوي عليها، نستطيع أن نقول إنه يعتبر المثل الأعلى لما يمكن أن يسمى أدبا بوجه عام. إذ أن لغة القرآن تمتاز بالسمو والجلالة، لا بالغواية والتأثير.
إنها تأخذ بالقلوب أكثر مما تغري الأسماع؛ إنها تثير الإعجاب لا المتعة؛ إنها تفحم بالحجة أكثر مما تستثير العواطف وتجلب السرور الهادئ لا الصاخب.
بعض خصائص التركيب القرآني:
ففي العصر الذهبي للغة العربية - حيث بلغت الذروة في الصفاء والقوة، وحيث كانت تخلع ألقاب التشريف والتكريم علانية على الشعراء والخطباء في المسابقات السنوية، ما أن ظهر محكم التنزيل حتى اكتسح الحماس للشعر والنثر، وأنزلت المعلقات السبع من باب الكعبة واتجهت كل الأسماع إلى هذا الإعجاز الجديد في اللغة العربية.
فلغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر. وخشونة لغة أهل البادية، وتجمع - في تناسق حكيم - بين رقة الأولى وجزالة الثانية، وتحقق السحر المنشود. بفضل هذا التوفيق الموسيقي البديع بينهما.
إنها ترتيب في مقاطع الكلمات في نظام أكثر تماسكا من النثر، وأقل نظما من الشعر، يتنوع في خلال الآية الواحدة ليجذب نشاط السامع، ويتجانس في آخر الآيات سجعا، لكي لا يختل الجرس العام للوقفات في كل سورة
(1)
.
أما كلماته، فمنتقاة من بين الكلمات المشهورة، دون أن تهبط إلى مستوى الدارج، ومختارة من بين الكلمات السامية، التي لا توصف بالغريب إلا نادرا.
وتمتاز بالإيجاز العجيب في الكلام. إذ تعبر بأقل عدد من الكلمات عن أفكار
(1)
هناك استثناءات من هذه القاعدة فقد لا ينتظم السجع إلا على مراحل، ويختلف بين مجموعات الآيات في نفس السورة. انظر مثلاسورة الحاقة والسور التالية.
كبيرة يصعب التعبير عنها في العادة إلا بجمل مطولة نسبيا.
ويضاف إلى هذا النقاء في التعبير، وهذا التركيز الشديد في المعنى - حيث لا تقابلنا كلمة زائدة بل اختصار معجز أحيانا - وضوح أخاذ، كأنه تحد سافر بحيث أن رجل الشارع قليل الحظ من المعرفة، يستطيع أن يقول لنفسه: لقد فهمت جيدا. ومع ذلك نجد العمق والمرونة والإيحاء والإشعاع في كل جانب مثل أوجه قطعة الماس البراقة، إلى درجة أن جميع العلوم والفنون الإسلامية تستمد على الدوام من هذا المصدر قواعدها ومبادئها. إنها حقيقة مقررة عرفها الناس جميعا، وهي أن كلا من النبيل والحقير، والسطحي والباحث الدؤوب، يلتقون على فهم القرآن. كأن كل عبارة فيه مفصلة تفصيلا بما يناسب عقلية كل منهم بحسب درجته في العلم والمعرفة.
وكل هذا في موضوعات غير مطروقة في الأدب الجاهلي، ونادرا ما تعرض لها الشعراء والخطباء إلا من بعيد وبصور مبهمة وموجزة، بحيث يحق لنا أن نؤكد بدون تردد أنه من الناحية اللغوية البحتة، كان ظهور القرآن خلقا للغة جديدة، ولأسلوب جديد.
أما ما يبدو أنه فوق طاقة البشر حقا في الأسلوب القرآني، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها نرى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية، بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى. ففي القرآن لا نرى إلا تعاونا دائما في جميع الموضوعات التي يتناولها - بين هاتين النزعتين المتنافرتين.
وبالإضافة إلى الموسيقي الخالدة التي تعلو هذا الأسلوب المتنوع، نرى أن الكلمات ذاتها بمعناها المجازي - سواء أكانت وصفا أو إستدلالا أو سن قاعدة في القانون أو في الأخلاق - تسعى بقوة وتجمع في نفس الوقت بين التعليم والإقناع والتأثير وتمنح القلب والعقل نصيبه المنشود. وعلاوة على ذلك فإن هذا الكلام الرباني وهو يؤثر على هذا النحو، في قوانا المختلفة - يحتفظ دائما وفي أي موضع بهيبة مدهشة وبجلالة قوية لا تتأرجح ولا تضطرب.