الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأماني والأوهام، يستبيحون الرشوة والكذب
(1)
ويعتقدون أنه ليس عليهم حساب بشأن الطوائف الأخرى، ولا التزام بالعدل
(2)
في معاملاتهم معهم.
المعارضة الشعبية لنظامين مدنيين:
أليس من الغريب أن نفترض أن هذا الشعب الذي يقف القرآن منه هذا الموقف، ويحكم عليه هذا الحكم الصارم، يمكن أن يكون نموذجا يحتذي به محمد صلى الله عليه وسلم ومصدرا لتعاليمه؟ مهما بلغ من تعارض هذا الافتراض مع المنطق. فإن ذلك لا يمنع من بحثه ودراسته فقد تكذب الوقائع أي حكم جزافي مسبق. ولهذا علينا أن نتقبل بالترحيب أي بحث جدّي يكون غرضه كشف أي جانب مجهول من الحقيقة. وإن شك ديكارت المنهجي في نظرنا مبدأ صالح ولا غنى عنه سواء في مجال الإيمان أو في مجال العلم؛ فماذا يفيد بناء الإيمان على رمال متحركة؟ فالأخطاء والأحكام المتحيزة، أمام الضمير المخلص، هما العدو الأول الجدير بالمطاردة حتى عند بحث الحقائق التي تبدو كما لو كانت البراهين قد أجمعت على صحتها.
فعندما نرى القمر يغيّر منازله بحسب موقعه من الشمس، نحكم عن معرفة، بأنه يتلقى نوره من الشمس. ألا يتعين علينا أن نحكم نفس الحكم عندما نرى أن ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم يتطور ويتعدل ويتراجع بحسب اتصاله مع المجتمع المدني المزود بالعلم؟ هذا هو ما حاول بعض الكتاب الأوروبيين إثباته.
الحرب وتعدد الزوجات:
ومن غير أن نبعد كثيرا، فقد تأثر أغلبهم بمظهرين عامين وجدوهما متعارضين مع ربانية الرسالة. وتتركز أكبر حججهم في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم المعادي الذي
(1)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [البقرة: 79 - والآية التالية].
(2)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75].
اتخذه في المدينة، والذي اعتبروه تغييرا مفاجئا بالنسبة لموقفه في مكة. وعند ما نضيف إلى ذلك تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر أيام حياته، يكون ذلك في نظرهم بمثابة هدم نظام الأخلاق الإسلامي في مرحلته الأخيرة. وحتى الذين يقدرون الإسلام حق قدره، وهو في نشأته مضطهدا ومثخنا بالجراح، ويقدرون أيضا مؤسّسه المسالم والمتزوج بامرأة واحدة، ينتابهم الهول عندما يرونه فيما بعد «ملطخ اليدين بالدماء ومحاط بموكب من زوجاته» .
نستطيع أن نكشف بسهولة تحت هذا الأسلوب التصويري لكّتاب مسيحيين، أساسا للاستدلال، لا يمكنهم أخذه مأخذ الجد دون أن يهدموا جزءا من إيمانهم بتعاليم التوراة قبل مجيء المسيح، وهي تلك التي يمكن أن تثير بشأنها حجتهم المزدوجة. وحينئذ لا مناص من القول بأنهم كانوا مدفوعين بشعورهم، أكثر من اعتمادهم على التدليل المنطقي الصارم.
وعلى كل حال لقد أثبتنا فيما تقدم - بما يغنينا عن التكرار - موقف القانون القرآني الحقيقي إزاء النقطة الأولى
(1)
.
أما النقطة الثانية فإنها تكاد تمس من بعيد موضوع دراستنا، وهو القرآن لا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وبما أن القرآن لا يتوانى في إلقاء الضوء على حياة رسوله الخاصة، فسوف نرى كيف تبدو حياته من خلاله:
تبدو شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محددة بخطوط ثلاثة: الشعور والإرادة والإيمان. فهو بطبيعته بشر كما كان حال من سبقه من المرسلين
(2)
، وهو يأكل الطعام ويسعى في كسب رزقه
(3)
، وله مثل - بعض الرسل عليهم السلام
(1)
انظر الجزء الأول من الفصل الثالث من هذا الكتاب.
(2)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ [الأنبياء: 7 - 8].
(3)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20].
زوجات وذرية
(1)
، فضلا عن أنه يقدر الجمال الإنساني
(2)
، ولما كان هناك اتفاق على تحديد الحاسة الخلقية بأنها ليست في انعدام الشعور بل في السيطرة على الأهواء الذاتية، وجب أن نأخذ في اعتبارنا العامل الثاني وهو: الإرادة. وهنا نراه عليه السلام يتمتع بقدرة على الامتناع، بلغت من قوتها أنه يستطيع أن يحرم على نفسه المباح من الطعام لمجرد عدم إثارة سوء تفاهم
(3)
. ولقد قالت عنه عائشة إنه لم يوجد مثله في التحكم في حواسه
(4)
، ثم يأتي أخيرا موضوع خضوعه المطلق لتعاليم الله تبارك وتعالى التي تعلو على نظرته وميوله. ونذكر بهذه المناسبة القاعدة القرآنية التي تحدد له فئات النساء اللاتي يستطيع أن يتزوج منهن
(5)
، والقاعدة الأخرى التي جاءت في وقت آخر لتحرم عليه صراحة عقد أي زواج جديد مهما كانت قوة رغبته فيه، ولا أن يتبدل بزوجاته زوجات أخر
(6)
. ولقد بلغت هذه السلسلة من القواعد ذروتها في حالة مطلّقة زيد (ابنه بالتبني) وهي الزيجة الوحيدة المنصوص عنها في القرآن
(7)
فنراه يحاول بكل جهده أن يمنع إتمام هذا الزواج. ولكن قانون القرآن يفرضه عليه فرضا ليضع حدا (ليس فقط بالنص كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو، وإنما بالتطبيق العملي أيضا) لنظام تبني الأطفال في
(1)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38].
(2)
وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب: 52].
(3)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ [التحريم: 1].
(4)
البخاري كتاب الصوم باب 23.
(5)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً [الأحزاب: 50].
(6)
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب: 52].
(7)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً [الأحزاب: 37].
الوثنية الذي كان يقضي بالتماثل بين الابن المتبني والابن الشرعي. وهو ما يمكن تسميته حرفيا: الزواج بدافع الواجب رغم أي شعور معارض.
وإذا بحثنا الظروف التي عقدت فيها زيجاته الأخرى، نجد أن أغلبها فرضت عليه - ليس بدافع من ضرورة تشريعية مشابهة - وإنما لاعتبارات إنسانية سامية مثل مواساة وتشريف زوجة شهيد أو مهاجر مات بين أصحابه في هجرته أو توثيق بعض الروابط القبلية بين القبائل التي تعاهد معها أو إيجاد جو مناسب لعتق أسرى قبيلة بأكملها (وقد كانوا بالفعل في أيدي المسلمين، وأعتقهم المسلمون في الحال نظرا لقرابتهم الجديدة برسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الخ ولكن هل يجب أن يكون الإنسان مؤرخا لكي يستطيع أن يحكم على الطابع الأخلاقي لرجل عاش شبابه في العفاف المطلق، وبعد زواجه عاش مع زوجته الوحيدة بإخلاص ما يقرب من ثلاثين عاما، وأنه لم يشرع في زواجه الثاني
(1)
إلا وقد بلغ الخامسة والخمسين؟ وإذا أخذنا في اعتبارنا مشاغله وانشغالاته وأعباءه وهمومه المختلفة العامة منها والخاصة: مثل إقامة الصلوات الخمس منذ الفجر حتى العشاء، وتعليم القرآن، وتوزيع الصدقات العامة، والفصل في المنازعات، ومقابلة الوفود، ومراسلة الملوك والحكام، وقيادة المعارك العسكرية وسن التشريع، وتأسيس الدولة
…
الخ. وباختصار العناية بكل شيء، وبكل الناس. ثم بعد ذلك قيام الليل راكعا أو ساجدا أو قائما، متوجها إلى السماء
…
كل هذا يدعونا إلى الاعتقاد بأن الباعث الحقيقي على الزواج هو شيء آخر بعيد كل البعد عن إرضاء الغريزة البهيمية
(2)
.
(1)
الواقع أنها خطبت له قبل الهجرة بقليل وهذا يثبت أن مبدأ تعدد الزوجات يرجع إلى تاريخ قديم ولم يكن نتيجة مبدأ جديد في الأخلاق بزغ في جو المدينة.
(2)
اقرأ أقوال عائشة وأمهات المؤمنين عن استخدامه لوقته بالليل، يقلن إنه كان يهجر النوم كل ليلة ليستغرق في صلواته الطويلة، أحيانا يقوم حتى تتورم قدماه (البخاري كتاب التهجد، الباب السادس)، أو ساجدا حتى يظنّ أنه قبض (البيهقي ورد في أنوار النبهاني ص 522) وأحيانا كان يذهب إلى المقابر ليصلى على أرواح الموتى (مسلم كتاب الجنائز الباب 35). كل هذا يثبت أن تقوى الرسول صلى الله عليه وسلم وورعه واستقامته كانت تزيد وتقوى في المدينة بدلا من أن تنقص. وكان من فضل الله أن أحاطت بالرسول صلى الله عليه وسلم هذه النفوس الورعة التقية، لكي تنقل إلينا جانبا عظيما من سنته، وبصفة خاصة ما يتعلق بتعليم النساء، نصف البشرية، فضلا عن استكمال الدليل على صدقه بشهادتهن عن اخلاقه الحقيقية العميقة في حياته الخاصة، حيث تنهار وتتساقط كل أقنعة النفاق المصطنعة.