المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ

نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ يُقَاسِمُنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: (يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ حَاصِلُهَا، أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَوَى الْحَدِيثَ: وَلَفْظُهُ: «سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: (اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) . فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: (هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) . فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ» ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الطَّلَاقِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ، فَجَاءَ بِابْنٍ لَهُمَا - ابْنٍ لَهُ - صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هَنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ:(اللَّهُمَّ اهْدِهِ لِأَبِيهِ) . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَتِ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَهَا نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا:(ادْعُوَاهَا) فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أُمِّهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: (اللَّهُمَّ اهْدِهَا) فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحَدُهُمَا كَافِرٌ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَافِرِ فَقَالَ:(اللَّهُمَّ اهْدِهِ) . فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُسْلِمِ، فَقَضَى لَهُ بِهِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَنْ هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إِلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَتَحَجُّزِهِ عَنْهُ غَالِبًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسَّكَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا، فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا مَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا فَاخْتَارَ أُمَّهُ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إِلَى أُمِّهِ، وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ، فَأَحَبَّ تَطْيِبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا حَكَمَ بِهِ رَأْيُهُ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.

ص: 2212

[كِتَابُ الْعِتْقِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3382 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: " «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(13)

كِتَابُ الْعِتْقِ

فِي الْمُغْرِبِ: الْعِتْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ، يُقَالُ: أُعْتِقَ الْعَبْدُ عِتْقًا وَعَتَاقًا وَعَتَاقَةً وَهُوَ عَتِيقٌ وَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، ثُمَّ جُعِلَ عِبَارَةً عَنِ الْكَرَمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ كَالْحُرِّيَّةِ فَقِيلَ: فَرَسٌ عَتِيقٌ رَابِعٌ، وَعِتَاقُ الْحَمْلِ وَالطَّيْرِ كَرَائِمُهَا، وَقِيلَ: مَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى التَّقَدُّمِ، وَمِنْهُ الْعَاتِقُ لِمَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ لِتَقَدُّمِهِ، وَالْعَتِيقُ وَالْقَدِيمُ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يَخْفَى مَا فِي الْإِعْتَاقِ مِنَ الْمَحَاسِنِ، فَإِنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، فَالْعِتْقُ إِزَالَةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَهُوَ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مَيِّتٌ مَعْنًى، فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ وَلَمْ يَذُقْ حَلَاوَتَهُ الْعُلْيَا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُوحٌ قَالَ تَعَالَى جل جلاله:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، ثُمَّ أَثَرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ سَلْبُ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا تَأَهَّلَ لَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ إِنْكَاحِ الْبَنَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَاتِ، وَامْتِنَاعِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ

ص: 2212

وَنَحْوِهَا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْأَمْوَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ، فَكَانَ الْعِتْقُ إِحْيَاءً لَهُ مَعْنًى، وَلِذَا كَانَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - جَزَاؤُهُ - عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ الْعِتْقُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ - الْإِعْتَاقَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَيِّدِ الْأَخْيَارِ، وَالْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ لُغَةً عِبَارَتَانِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ عَنْ مِلْكِ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ: لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ لِقُوَّةِ سَبْقِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَقِيلَ: لِقِدَمِهِ فِي الْخَيْرِ، وَقِيلَ: لِعِتْقِهِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِشَرَفِهِ، فَإِنَّهُ قُوَّةٌ فِي الْحَسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ بِمَعْنَى الْحَسِيبِ، وَقِيلَ: قَالَتْ أُمُّهُ لَمَّا وَضَعَتْهُ: هَذَا عَتِيقُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُهُ الْعَلَمُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وَصْفِهِ لَهُ الْجَمَالَ أَوْ تَفَاؤُلًا بِالْحَسَبِ الْمُنِيفِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعْهُودَاتِ تَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي مَعَانِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ لُغَةً الْقُوَّةَ فَالْإِعْتَاقُ إِثْبَاتُ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْعِتْقُ فِي الشَّرْعِ خُلُوصٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ فِي الْآدَمِيِّ عَمَّا بَيَّنَاهُ سَابِقًا بِالرِّقِّ، وَلَا يَخْفَى ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ حُرًّا بَالِغًا مَالِكًا، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ عَنْهُ، وَصِفَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ غَالِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَمَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ، أَوْ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْعِتْقِ لِزَيْدٍ، وَالْقُرْبَةُ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عِتْقُهُ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ الْمُسْلِمِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:(أَفْضَلُهَا أَغْلَاهَا) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَغْلَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَمْكِينٌ لِلْمُسْلِمِ مِنْ مَقَاصِدِهِ وَتَفْرِيغِهِ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الْكَافِرِ تَحْصِيلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَفْرِيغُهُ لِلتَّأَمُّلِ فَيُسْلِمُ فَهُوَ احْتِمَالٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3382 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً) : الرَّقَبَةُ عُضْوٌ خَاصٌّ مِمَّا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، فِي النِّهَايَةِ: الرَّقَبَةُ فِي الْأَصْلِ الْعِتْقُ، فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَعْتَقَ رَقَبَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَالْمَعْنَى مَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مَمْلُوكَةً (مُسْلِمَةً) : وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ (أَعْتَقَ اللَّهُ) : ذَكَرَ أَعْتَقَ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمَعْنَى أَنْجَاهُ (بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُعْتِقِ (عُضْوًا) : أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ أَيْ عُضْوًا كَائِنًا مِنَ الْمُعْتِقِ (مِنَ النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَقَ الثَّانِي أَيْ أَنْقَذَهُ مِنْهَا (حَتَّى فَرْجَهُ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى (عُضْوًا) وَمَا بَعْدَ حَتَّى هُنَا أَدْوَنُ مِمَّا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِمْ: حَجَّ النَّاسُ حَتَّى الْمُشَاةُ، أَيْ حَتَّى أَعْتَقَ اللَّهُ فَرْجَهُ (بِفَرْجِهِ) : أَيْ سَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. قَالَ الْأَشْرَفُ رحمه الله: إِنَّمَا خَصَّ الْفَرْجَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْكِرَامُ، فَيُفِيدُ قُوَّةً. قَالَ الْمُظْهِرَ: ذِكْرُ الْفَرْجِ تَحْقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَعْضَاءِ اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ الْإِعْتَاقِ بِجَمِيعِ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ:( «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جل جلاله جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جل جلاله جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهَا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعْتَقُ خَصِيًّا كَيْلَا يَكُونَ نَاقِصَ الْعُضْوِ، لِيَكُونَ مُعْتِقُهُ قَدْ نَالَ الْمَوْعُودَ فِي عِتْقِ أَعْضَائِهِ كُلِّهَا مِنَ

ص: 2213

النَّارِ، بِإِعْتَاقِهِ إِيَّاهُ مِنَ الرِّقِّ فِي الدُّنْيَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي لَفْظٍ: " «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْبَاقُونَ فِي الْعِتْقِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ» ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ: " «وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ مَكَانُ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ» ". وَهَذَا يَسْتَقِلُّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ مِنِ اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ بِعِتْقِ الْمَرْأَتَيْنِ بِخِلَافِ عِتْقِهِ رَجُلًا اهـ.

لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ: وَالْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ حَدِيثُ الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:( «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا فَهُوَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْهُ عَظْمًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَهِيَ فِكَاكُهَا مِنَ النَّارِ، تُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمٍ مِنْهَا عَظْمًا مِنْهَا، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ فَهُمَا فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ بِكُلِّ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْهُ» ) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

ص: 2214

3383 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ) قَالَ: قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ) . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ ; فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3383 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ) أَيْ: أَيُّ أَنْوَاعِهِ مِنْ عَمَلِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ (أَفْضَلُ) أَيْ وَفِي الثَّوَابِ أَكْمَلُ (قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ) ، أَيِ ابْتِدَاؤُهُ لِكَوْنِهِ شَرْطَ صِحَّةِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ، أَوْ تَجْدِيدُهُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَبَقَاؤُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ (وَجِهَادٌ) : أَيْ مُجَاهَدَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ (فِي سَبِيلِهِ) . أَيْ فِي طَرِيقِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْجِهَادِ الشَّامِلِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ الْمُسَمَّى بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ. قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُجَاهَدَةُ مَعَ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّهِ، وَ " سُبُلَنَا " شَرْعُهُ الْمُسْتَقِيمُ وَدِينُهُ الْقَوِيمُ مِنِ امْتِثَالِ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَانْتِهَاءِ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: (قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ)(قَالَ) : أَيْ أَبُو ذَرٍّ (فَقُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ) : أَيْ مِنْ جِهَةِ عِتْقِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلَاهَا ثَمَنًا) ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُرْوَى بِالْمُهْمَلَةِ كَذَا فِي التَّنْقِيحِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالنَّسَفِيِّ بِمُعْجَمَةٍ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ اهـ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، كَمَا رُوِيَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَزُّهَا أَيْ: أَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا عَلَى النَّفْسِ. (وَأَنْفَسُهَا) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لِلنَّفِيسِ أَيْ: أَحَبُّهَا وَأَكْرَمُهَا (عِنْدَ أَهْلِهَا) . أَيْ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ) أَيْ عَجْزًا لَا كَسَلًا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى فِعْلِهِ (قَالَ: (تُعِينُ) : بِالرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ أَيَّ شَيْءٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فَقَالَ: أَنْ تُعِينَ (صَانِعًا) : مِنَ الصَّنْعَةِ أَيْ مَا بِهِ مَعَاشُ الرَّجُلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحِرْفَةُ وَالتِّجَارَةُ أَيْ صَانِعًا لَمْ يَتِمَّ كَسْبُهُ لِعِيَالِهِ، أَوْ ضَعِيفًا عَاجِزًا فِي صُنْعِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَائِعًا أَيْ ذَا ضَيَاعٍ مِنَ الضَّيَاعِ أَيْ: إِعَانَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَهِّدًا

ص: 2214

بِتَعَهُّدٍ مِنْ فَقْرٍ أَوْ عِيَالٍ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ: قَوْلُهُ: تُعِينُ ضَائِعًا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَضَبْطُ مَنْ قَالَ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ هِشَامًا إِنَّمَا رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ، وَقَدْ نَسَبَهُ الزُّهْرِيُّ إِلَى التَّصْحِيفِ، وَوَافَقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْأَخْرَقِ اهـ.

وَقَوْلُهُ بَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ مَحْمُولَانِ عَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ قَبْلَ الْإِعْلَالِ، إِذْ يَجِبُ قَلْبُهَا هَمْزَةً كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي نَحْوِ: قَائِلٍ وَبَائِعٍ وَعَائِشٍ وَأَمْثَالِهَا.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّنْقِيحِ: قَوْلُهُ: ضَائِعًا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ هَكَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ مِنْ جِهَتِهِ، أَيْ: ذَا ضَيَاعٍ مِنْ فَقْرٍ أَوْ عِيَالٍ أَوْ حَالٍ قَصَّرَ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، وَرُوِيَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ الصَّوَابُ لِمُقَابَلَتِهِ الْأَخْرَقَ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: صَحَّفَ هِشَامٌ، إِنَّمَا هُوَ الصَّانِعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (أَوْ تَصْنَعُ) : بِالْإِعْرَابَيْنِ (لِأَخْرَقَ) . أَيْ مَنْ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ مِنْ خَرِقَ كَفَرِحَ خَرَقًا بِالتَّحْرِيكِ جَهِلَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ:" أَخْرَقَ " أَيِ الْجَاهِلِ بِمَا يَعْمَلُهُ أَوْ لَيْسَ فِي يَدِهِ صَنْعَةٌ يَتَكَسَّبُ بِهَا. قَالَ الْقَاضِي: الْأَخْرَقُ هُنَا الَّذِي لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ أَخْرَقُ لَا صَنْعَةَ لَهُ، وَالْجَمْعُ خُرْقٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ) : بِالضَّبْطَيْنِ أَيْ تَتْرُكُ (النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ) ، أَيْ مِنْ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَتْرُكُهُمْ مِنْ أَجْلِ شَرِّهِمْ، (فَإِنَّهَا) : أَيْ تَرْكُ النَّاسِ مِنَ الشَّرِّ (صَدَقَةٌ) ، فَالضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْفَعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ (تَصَدَّقُ) : أَصْلُهُ تَتَصَدَّقُ (بِهَا) : أَيْ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ (عَلَى نَفْسِكَ) . أَيْ: تَحْفَظُهَا عَمَّا يُرْدِيهَا وَيَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2215

الْفَصْلُ الثَّانِي

3384 -

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: " لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةِ) . قَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ: " لَا ; عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا. وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، وَالْمِنْحَةَ الْوَكُوفَ، وَالْفَيْءَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3384 -

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ)، صَحَابِيَّانِ (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ) . بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ " عَمَلًا "، وَجُوِّزَ جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهُ، وَالْمُرَادُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً مَعَ النَّاجِينَ قَالَ:(لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ) . اللَّامُ الْأُولَى مُوَطِّأَةٌ لِلْقَسَمِ، وَمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ أَنَّكَ إِنْ أَقْصَرْتَ فِي الْعِبَارَةِ بِأَنْ جِئْتَ بِعِبَارَةٍ قَصِيرَةٍ فَقَدْ أَطْنَبْتَ فِي الطَّلَبِ حَيْثُ مِلْتَ إِلَى مَرْتَبَةٍ كَبِيرَةٍ، أَوْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ ذِي طُولٍ وَعَرْضٍ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَالْجَوَابُ (أَعْتِقِ النَّسَمَةَ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ، أَيْ أَعْتِقْ ذَا نَسَمَةٍ (وَفُكَّ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ أَيْ وَأَخْلِصِ (الرَّقَبَةَ) : أَيْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَفَنُّنٌ، وَلِذَا أَظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ (قَالَ) : أَيِ الْأَعْرَابِيُّ (أَوَلَيْسَا) : أَيِ الْإِعْتَاقُ وَالْفَكُّ (وَاحِدًا) : أَيْ فِي الْمَعْنَى (قَالَ: لَا) : أَيْ بَلْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا (عِتْقُ النَّسَمَةَ) : أَيْ أَعْتِقْهَا فَعَبَّرَ بِحَاصِلِ الْمَصْدَرِ عَنِ الْمَصْدَرِ (أَنْ تَفَرَّدَ) : أَصْلُهُ أَنْ تَتَفَرَّدَ مِنَ

ص: 2215

التَّفَرُّدِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّفْرِيدِ، وَفِي أُخْرَى مِنَ الْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَنْفَرِدَ وَتَسْتَقِلَّ (بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَوَجْهُ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ الرِّقِّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَالِكِ الَّذِي يُعْتِقُ، وَأَمَّا الْفَكُّ فَهُوَ السَّعْيُ فِي التَّخْلِيصِ، فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَنْ أَدَّى النَّجْمَ عَنِ الْمُكَاتَبِ أَوْ أَعَانَهُ. (وَالْمِنْحَةَ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ هِيَ الْعَطِيَّةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَاقَةٌ أَوْ شَاةٌ يُعْطِيهَا صَاحِبُهَا لِيُنْتَفَعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مَادَامَتْ تَدِرُّ، وَقَوْلُهُ:(الْوَكُوفَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ صِفَةٌ لَهَا وَهِيَ الْكَثِيرَةُ اللَّبَنِ مِنْ وَكَفَ الْبَيْتُ إِذَا قَطَرَ (وَالْفَيْءَ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ أَيِ التَّعَطُّفَ وَالرُّجُوعَ بِالْبِرِّ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِمَا النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَامْنَحِ الْمِنْحَةَ وَآثِرِ الْفَيْءَ لِيَحْسُنَ الْعَطْفُ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمِمَّا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ الْمِنْحَةُ وَالْفَيْءُ (عَلَى ذِي الرَّحِمِ) : أَيْ عَلَى الْقَرِيبِ (الظَّالِمِ)، أَيْ عَلَيْكَ بِقَطْعِ الصِّلَةِ وَغَيْرِهِ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذُكِرَ (فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ وَاسْقِ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَهُوَ أَنْسَبُ هُنَا (الظَّمْآنَ) : أَيِ الْعَطْشَانَ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، أَيِ اجْمَعْ بَيْنَ الْإِحْسَانِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ) : أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَمْرِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (فَكُفَّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ وَكَسْرُهُ أَيْ: فَامْنَعْ لِسَانَكَ (إِلَّا مِنْ خَيْرٍ) . وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ: ( «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» ) . قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَالْمُبَاحُ لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ هُنَا مَا يُقَابِلُ الشَّرَّ فَيَشْمَلُ الْمُبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ أَوْ يَنْقَلِبُ الْمُبَاحُ مَنْدُوبًا، وَهَذَا فَذْلَكَةُ الْحَدِيثِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ أَيْ حَالُهُ أَوْ زَمَانُهُ، كَمَا هُوَ فِي عَصْرِنَا، وَلِذَا قِيلَ: وَقَتُنَا وَقْتُ السُّكُوتِ، وَلُزُومِ الْبُيُوتِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 2216

3385 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: ( «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسْلِمَةً كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

3385 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِفَتَحَاتٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ، قِيلَ: كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا) : أَيْ مَوْضِعًا يُصَلَّى فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا (لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ)، أَيْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (بُنِيَ لَهُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بَيْتٌ) : أَيْ قَصْرٌ عَظِيمٌ (فِي الْجَنَّةِ) . فَالْمُضَاعَفَةُ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْكَمِّيَّةِ أَيْضًا بِأَنْ بُنِيَ فِيهَا بَيْتٌ كَبِيرٌ أَضْعَافَ قَدْرِ مِسَاحَةِ مَسْجِدِهِ (وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسْلِمَةً، كَانَتْ) : أَيْ هِيَ (فِدْيَتَهُ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ فِدَاءَهُ وَفِكَاكَهُ (مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً) : أَيِ ابْيَضَّ فِي لِحْيَتِهِ أَوْ بَدَنِهِ شَعَرَةٌ بَيْضَاءُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أَيْ فِي الْغَزْوِ أَوِ الْحَجِّ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ. أَوْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (كَانَتْ) : أَيْ صَارَتْ شَيْبَتُهُ (لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ يَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ (رَوَاهُ) :

ص: 2216

أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي: (شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَعْنِي صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ مَا وَجَدَ الْحَدِيثَ فِي غَيْرِ شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْحَدِيثَ بِمَجْمُوعِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَإِلَّا فَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ مُفَرَّقًا، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُثْمَانَ، وَلَفْظُهُ:( «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» ) .

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: ( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَوْسَعَ مِنْهُ» ) . وَرَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:( «مَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ» ) . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْحَدِيثِ، فَنَظَائِرُهُ تَقَدَّمَتْ أَوَّلَ الْبَابِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ:( «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِلَفْظِ:( «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا» ) .

ص: 2217

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3386 -

عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. فَقُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. فَقَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ يَعْنِي: النَّارَ بِالْقَتْلِ. فَقَالَ: (أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3386 -

(عَنِ الْغَرِيفِ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَفَاءٍ (الدَّيْلَمِيِّ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: الْغَرِيفُ هَذَا لَقَبٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي التَّقْرِيبِ: الْغَرِيفُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ابْنُ عَيَّاشٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ ابْنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيُّ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، مَقْبُولٌ مِنَ الْخَامِسَةِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: هُوَ الْغَرِيفُ ابْنُ عَيَّاشٍ الدَّيْلَمِيُّ، وَكَذَا الْمُصَنَّفُ فِي أَسْمَاءِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ) كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ سِنِينَ (فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا) : بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ)، بِزِيَادَةِ (لَا) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ (فَغَضِبَ) : أَيْ تَغَيَّرَ وَظَهَرَ عَلَيْهِ أَثَارُ الْغَضَبِ (وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ) : أَيِ الْقُرْآنَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يَغِيبُ عَنْهُ سَاعَةً (وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّرَدُّدِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا سَبَقَ (فَيَزِيدُ) : أَيْ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ يَزِيدُ (وَيَنْقُصُ) . أَيْ فِي قِرَاءَتِهِ سَهْوًا وَغَلَطًا، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِ مُبَالَغَةٌ، لَا أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَقْرُوءِ، وَفِيهِ جَوَازُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَنُقْصَانِ الْأَلْفَاظِ وَزِيَادَتِهَا مَعَ رِعَايَةِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصِدِ مِنْهُ (فَقُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ) : أَيْ مَا أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ مَا عَنَيْتَ بِهِ مِنِ اتِّقَاءِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ. (مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) . يَعْنُونَ، وَحَدِيثُهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أَوْ يَنْقُصَهُ عَمْدًا، أَوْ لَا زِيَادَةَ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا نُقْصَانَ فِي حُكْمِهِ أَبَدًا، (فَقَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي صَاحِبٍ) : أَيْ جِئْنَاهُ فِي شَأْنِ صَاحِبٍ (لَنَا) : مِنْ شَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (أَوْجَبَ) : أَيْ مِنْ وَصْفِهِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ لَوْلَا الْغُفْرَانُ (يَعْنِي) : هَذَا كَلَامُ الْغَرِيفِ، يُرِيدُ أَنْ وَاثِلَةَ يُرِيدُ بِالْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ فِي أَوْجَبَ (النَّارَ) : وَقَوْلُهُ (بِالْقَتْلِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَوْجَبَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ وَاثِلَةَ، فَجُمْلَةُ (يَعْنِي النَّارَ) مُعْتَرِضَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي: أَوْجَبَ بِالْقَتْلِ يَعْنِي النَّارَ لَكَانَ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، (فَقَالَ:(أَعْتِقُوا) : أَيْ: يَا أَقَارِبَ الْقَاتِلِ أَوْ أَصْحَابَهُ أَوِ الْخِطَابُ لِلْقَاتِلِ، وَجُمِعَ تَغْلِيبًا أَوْ تَعْمِيمًا لِلْحُكْمِ فِي مِثْلِ فِعْلِهِ (عَنْهُ) : أَيْ عَنْ قَتْلِهِ وَعِوَضِهِ (يُعْتِقِ اللَّهُ) : بِالْجَزْمِ

ص: 2217