الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْأَزْمَعِ قَالَ: وُجِدَ قَتِيلٌ بِالْيَمَنِ بَيْنَ وَادِعَةَ وَأَرْحَبَ، فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ قِسْ مَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ فَخُذْهُمْ بِهِ قَالَ: فَقَاسُوهُ فَوَجَدَهُ أَقْرَبَ إِلَى وَدَاعَةَ فَأَخَذَنَا وَأَغْرَمَنَا وَأَحْلَفَنَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُحَلِّفُنَا وَتُغَرِّمُنَا قَالَ: نَعَمْ، فَأَحْلَفَ خَمْسِينَ رَجُلًا بِاللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَلِمْتُ قَاتِلًا لَهُ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنْ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ حَيَّيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقَاسَ إِلَى أَيِّهِمَا أَقْرَبُ فَوُجِدَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَيَّيْنِ بِشِبْرٍ قَالَ الْخُدْرِيُّ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى شِبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَلْقَى دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ الْقَسَامَةَ» وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَهُمُ الَّذِينَ خَطَّ لَهُمُ الْإِمَامُ وَقَسَمَ الْأَرَاضِيَ بِخُطَّةٍ حِينَ فَتَحَهَا دُونَ السُّكَّانِ أَيْ وَلَيْسَتِ الْقَسَامَةُ عَلَى السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْلُ السِّجْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ خِلَافُهُمْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3533 -
عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ". وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ وَالسُّعَاةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ السَّاعِي.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3533 -
(عَنْ عِكْرِمَةَ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ وَتَابِعِيهَا سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ: أُتِيَ) أَيْ جِيءَ (عَلِيٌّ) كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (بِزَنَادِقَةٍ) أَيْ بِقَوْمٍ مُرْتَدِّينَ أَوْ بِجَمْعٍ مُلْحِدِينَ فِي الْقَامُوسِ: الزِّنْدِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ أَوِ الْقَائِلُ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَبِالرُّبُوبِيَّةِ أَوْ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ أَوْ هُوَ مُعَرَّبُ زِنْ دِينَ أَيْ دِينِ الْمَرْأَةِ اهـ. وَسُئِلَ عَنِ الزِّنْدِيقِ مَنْ هُوَ فَأَجَابَ: الزِّنْدِيقُ هُوَ مَنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الدَّهْرِ أَيْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِالْخَالِقِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْحُرَمَ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: هُوَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ إِلَهًا وَلَا حُرْمَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ رِوَايَتَانِ وَالَّذِي يُرَجَّحُ عَدَمُ قَبُولِ تَوْبَتِهِ كَذَا فِي الْفَتَاوَى لِقَارِئِ الْهِدَايَةِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: زِنْدِيقٌ مَعْرُوفٌ وَزَنْدَقَتُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ: لَيْسَ زِنْدِيقٌ وَلَا فَرَزِينُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا يَقُولُ الْعَامَّةَ مُلْحِدٌ دَهْرِيٌّ (فَأَحْرَقَهُمْ) أَيْ أَمَرَ عَلِيٌّ بِإِحْرَاقِهِمْ فَأَحْرَقُوهُمْ (فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا) أَنَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْ كُنْتُ أَنَا بَدَلَهُ لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» ) قَالَ الْقَاضِي: الزِّنْدِيقُ قَوْمٌ مِنَ الْمَجُوسِ وَيُقَالُ لَهُمْ: الثَّنَوِيَّةُ يَقُولُونَ بِمَبْدَأَيْنِ أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْخَيْرَاتِ وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ مَبْدَأُ الشُّرُورِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مُعَرَّبٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّنْدِ وَهُوَ كِتَابٌ بِالْفَهْلَوِيَّةِ كَانَ لِزَرَادِشْتَ الْمَجُوسِيِّ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِكُلِّ مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ، وَالْجَمْعُ زَّنَادِقَةٌ وَالْهَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فَإِنَّ أَصْلَهُ زَنَادِيقُ وَالْمُرَادُ بِهِ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ لِمَا أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنَ السَّابِئَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ابْتِغَاءً لِلْفِتْنَةِ وَتَضْلِيلًا لِلْأُمَّةِ فَسَعَى أَوَّلًا فِي إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى عُثْمَانَ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى ثُمَّ انْضَوَى إِلَى الشِّيعَةِ فَأَخَذَ فِي تَضْلِيلِ جُهَّالِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه هُوَ الْمَعْبُودُ فَعَلِمَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ فَأَخَذَهُمْ وَاسْتَتَابَهُمْ فَلَمْ يَتُوبُوا فَحَفَرَ لَهُمْ حُفَرًا وَأَشْعَلَ النَّارَ فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُرْمَى بِهِمْ فِيهَا، وَالْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّشْدِيدِ بِالْكُفَّارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النِّكَايَةِ وَالنَّكَالِ كَالْمُثْلَةِ (وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَقَتَلْتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ لَوْ وَلَوْ يُؤْتَ بِاللَّامِ فِي الثَّانِي وَعُزِلَ عَنِ الْأَوَّلِ لِمَا أَنَّ الْجَوَابَ مَنْفِيٌّ بِلَمْ وَهِيَ مَانِعَةٌ لِدُخُولِهَا، أَوْ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ لَا مَحَالَةَ فَأُدْخِلُ فِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الْقَتْلَ أَهَمُّ وَأَحْرَى مِنْ غَيْرِهِ لِوُرُودِ النَّصِّ أَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَلِذَلِكَ أَوْعَدَ بِهَا الْكُفَّارَ، وَالِاجْتِهَادُ يَضْمَحِلُّ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ وَاجْتَهَدَ حِينَئِذٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ لَا عَنْ تَوْقِيفٍ وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمُ الْحَدِيثَ قَالَ: وَيْحَ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَرَدَ مَوْرِدَ الْمَدْحِ وَالْإِعْجَابِ بِقَوْلِهِ وَيَنْصُرُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ فِي الْهِدَايَةِ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ
أَبْدَاهَا كُشِفَتْ عَنْهُ لِأَنَّهُ عَسَاءَ اعْتَرَتْهُ أَيْ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ عَنْهُ، وَدَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْقَتْلُ وَالْإِسْلَامُ، وَأَحْسَنُهُمَا الْإِسْلَامُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْعَرْضِ عَلَى مَا قَالَ إِلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا أَيِ الْمَشَايِخُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ، وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَسْلَمَ فَبِهَا وَإِلَّا فَيُقْتَلُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنَ الْقُدُورِيِّ يُوجِبُ وُجُوبَ الِانْتِظَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ أَيْ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ إِنْظَارَهُ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتِ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْرَاءِ الْعُذْرِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ حَيَّانَ بْنِ مُنْقِدٍ فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ضُرِبَتْ لِلتَّأَمُّلِ بِدَفْعِ الْفِتَنِ، وَقِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} [الكهف: 76] وَهِيَ الثَّالِثَةُ إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا لَعَلَّهُ يَتُوبُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَكِنَّ ظَاهِرَ تُبَرِّئُ عُمَرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ طَلَبَ التَّأْجِيلَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِنْظَارٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِنْظَارِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا وَالِاسْتِدْلَالُ مُشْتَرَكٌ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَهَذَا كَافِرٌ حَرْبِيٌّ وَإِنْ كَانَ أُرِيدُ بِهِ نَفْيُ اسْتِحْبَابِ الْإِمْهَالِ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْأَوَامِرُ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ كَوْنُ الْمُرْتَدِّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ قَتْلُهُ إِبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَإِطْلَاقَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ فَقَالَ: يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ عَنِ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ ثُمَّ لَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ثَانِيًا قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ أَيْضًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، إِلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ: فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الْحَالِ، وَلَا يُؤَجَّلُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ وَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الْآيَةَ، قُلْنَا: رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْلِهِ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ فِي الزِّنْدِيقِ: لَنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا صَدَقَ قَبِلَهُ سبحانه وتعالى بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَتُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَاخْتَارَهُ قَاضِيخَانُ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا مُطْلَقٌ يَعُمُّ الْكَافِرَ أَصْلِيًّا وَعَارِضِيًّا فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ مَا رَوَاهُ بَعْدُ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ بَدَّلَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، نَعَمْ لَوْ كَانَتِ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ رَأْيٍ وَتَبَعٍ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا بَلْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ إِذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» . فَضُعِّفَ بِمَعْمَرِ بْنِ بَكَّارٍ وَمُعَارِضٌ بِآخَرَ مِثْلِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْتَتِبْهَا» . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يَعِيبُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عَاصِمٍ بِهِ فَزَالَ انْفِرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّوْرِيُّ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: الْمُرْتَدَّةُ تُسْتَتَابُ وَلَا تُقْتَلُ. وَضُعِّفَ بِخِلَافٍ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرَ الشَّرْعَ فَذَكَرُوا فِيهِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا، وَالْأَصْوَبُ مِنْهَا قَبُولُهَا مُطْلَقًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ لَكِنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالثَّالِثُ ارْتَابَ مَرَّةً وَاحِدَةً قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، وَالرَّابِعُ إِنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ السَّيْفِ فَلَا وَالْخَامِسُ إِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الضَّلَالِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِلَّا قُبِلَ مِنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
3534 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3534 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
3535 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حُدَّاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3535 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ) تَأْكِيدٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ الْمُفَادِ بِالسِّينِ (حُدَّاثُ الْأَسْنَانِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ حَدِيثٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَفِي النِّهَايَةِ: حَدَاثَةُ السِّنِّ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّبَابِ وَأَوَّلِ الْعُمُرِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي رِوَايَةٍ: حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ. جَمْعُ حَدِيثٍ هُوَ نَقِيضُ الْقَدِيمِ كَمَا يُجْمَعُ صَغِيرٌ عَلَى صُغَرَاءَ (سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ) أَيْ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ وَالسَّفَهُ فِي الْأَصْلِ الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَسَفَّهَ فُلَانٌ رَأْيَهُ إِذَا كَانَ مُضْطَرِبًا لَا اسْتِقَامَةَ فِيهِ، وَالْأَحْلَامُ الْعُقُولُ وَاحِدُهَا حِلْمٌ بِالْكَسْرِ (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ) بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَكْثَرُ بِمَعْنَى الْخَلِيقَةِ أَيْ يَنْقُلُونَ مِنْ خَيْرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْخَلَائِقُ وَيَدَّعُونَ التَّخَلُّصَ مِنَ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَتْنَ الْمِشْكَاةِ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ. بِتَقَدُّمِ الْخَيْرِ عَلَى الْقَوْلِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِخَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ الْقُرْآنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى ; لِأَنَّ يَقُولُونَ بِمَعْنَى يُحَدِّثُونَ أَوْ يَأْخُذُونَ أَيْ يَأْخُذُونَ مِنْ خَيْرِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ الْبَرِّيَّةُ، وَيَنْصُرُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِي: الْخَوَارِجُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ» . (لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ) أَيْ حُلُوقَهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الْحَنْجَرَةُ رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ حَيْثُ تَرَاهُ نَاتِئًا مِنْ خَارِجِ الْحَلْقِ وَالْجَمْعُ الْحَنَاجِرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ وَهِيَ الْحُلْقُومُ أَيْ لَا يَتَعَدَّى مِنْهَا إِلَى الْخَارِجِ (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ الدَّابَّةِ الْمَرْمِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، فِي الْفَائِقِ: الْمُرُوقُ الْخُرُوجُ وَمِنْهُ الْمَرَقُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنَ اللَّحْمِ عِنْدَ الطَّبْخِ لِلِائْتِدَامِ بِهِ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِالدِّينِ الطَّاعَةَ أَيْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ وَيَنْسَلِخُونَ مِنْهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّمِيَّةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الرَّمِيَّةُ الصَّيْدُ الَّذِي تَرْمِيهِ وَتَقْصِدُهُ يُرِيدُ أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي الدِّينِ وَخُرُوجَهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ كَالسَّهْمِ الَّذِي دَخَلَ فِي الرَّمِيَّةِ ثُمَّ يَقُدُّهَا وَيَخْرُجُ مِنْهَا وَلَمْ يَعْلَقْ بِهِ بِهَا شَيْءٌ (فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا) أَيْ عَظِيمًا (لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفٌ لَأَجْرًا أَوْ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا نَعْتُ الْخَوَارِجِ الَّذِي لَا يَدِينُونَ لِلْأَئِمَّةِ وَيَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ بِالسَّيْفِ وَأَوَّلُ ظُهُورِهِمْ كَانَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ حَتَّى قَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجَازُوا مُنَاكَحَتَهُمُ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، وَسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَقِيلَ أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، فَقِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، وَهَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3536 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3536 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ) بِالتَّذْكِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ تَكُونُ (أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ) إِشَارَةً إِلَى فِرْقَةِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما (فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ خَارِجَةٌ (يَلِي) أَيْ يَتَوَلَّى وَيُبَاشِرُ (قَتْلَهُمْ) قَالَ الْأَشْرَفُ: قَوْلُهُ يَلِي قَتْلَهُمْ إِلَخْ صِفَةٌ لِلْمَارِقَةِ أَيْ يَلِي قَتْلَ الْمَارِقَةِ وَهِيَ الْخَوَارِجُ (أَوْلَاهُمْ) أَيْ أَوْلَى أُمَّتِي وَأَقْرَبُهُمْ (بِالْحَقِّ) يَعْنِي الصَّوَابَ قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَإِنَّهُ الَّذِي قَتَلَهُمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا بِبِلَادِ حَضْرَمَوْتَ وَالْبَحْرَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ، فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ:" لِمَنْ بَيْنَهُمَا ". يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَارِقَةُ خَارِجَةً مِنْهُمَا مَعًا قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] الْكَشَّافُ لَمَّا الْتَقَيَا وَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: يَخْرُجَانِ مِنْهُمَا كَمَا يُقَالُ: يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ جَمِيعِ الْبَحْرِ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِهِ. وَتَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَلْدَةِ وَإِنَّمَا خَرَجْتَ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّهِ بَلْ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دُورِهِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُ الضَّمِيرَيْنِ فِي الصِّفَةِ إِلَى الْمَارِقَةِ وَالْآخَرُ إِلَى قَوْلِهِ أُمَّتِي اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: شُبِّهَ بِأَهْلِ الْحَقِّ لِغُلُوِّهِمْ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ، وَلِذَا قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3537 -
وَعَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3537 -
(عَنْ جَرِيرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ جَرِيرٌ: أَسَلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُكْسَرُ (لَا تَرْجِعُنَّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ (بَعْدِي) أَيْ بَعْدِ صُحْبَتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي (كُفَّارًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ يُقَرِّبُ مِنَ الْكُفْرِ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفَّارِ، وَخَامِسُهَا حَقِيقَةُ الْكُفْرِ أَيْ لَا تَكْفُرُوا بَلْ دُومُوا مُسْلِمِينَ، وَسَادِسُهَا عَنِ الْخَطَّابِيِّ مَعْنَاهُ الْمُتَكَفِّرُ بِالسِّلَاحِ يُقَالُ تَكَفَّرَ الرَّجُلَ بِسِلَاحِهِ إِذَا لَبِسَهُ، وَسَابِعُهَا عَنْهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ لَا يُكَفِّرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَتَسْتَحِلُّوا قِتَالَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الرَّابِعُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عِيَاضٍ اهـ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ يُقَالُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ وَقَوْلُهُ (يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بِسُكُونِ الْبَاءِ ضَبَطَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ جَوَابُ النَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ أَيْ إِنْ تَرْجِعُوا يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ اسْتِئْنَافٌ وَارِدٌ عَلَى بَيَانِ النَّهْيِ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: كَيْفَ نَرْجِعُ كُفَّارًا فَقِيلَ: يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَهُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ أَوْ يُقَالُ لَمْ نَرْجِعْ كُفَّارًا بَعْدَ كَوْنِنَا مُسْلِمِينَ، قِيلَ: يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَرِيرٍ وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَكِلَاهُمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
3538 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخِيهِ السِّلَاحَ فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَخَلَاهَا جَمِيعًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قُلْتُ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ: " لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3538 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) بِالتَّاءِ هُوَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ يُقَالُ: إِنَّهُ تَدَلَّى يَوْمَ الطَّائِفِ بِبَكْرَةٍ وَأَسْلَمَ فَكَنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي بَكْرَةَ وَأَعْتَقَهُ، فَهُوَ مِنْ مَوَالِيهِ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا) أَيْ سَلَّ (عَلَى أَخِيهِ السِّلَاحَ) الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الشَّرْطِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَامِلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ السِّلَاحَ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ لِيُطَابِقَ الشَّرْطُ الْجَزَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ (فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ) وَالْجُرُفُ مَا تَجْرُفُهُ السُّيُولُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ اهـ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي جَانِبُهَا وَطَرَفُهَا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] (فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَخَلَاهَا) أَيْ جَهَنَّمَ (جَمِيعًا) هَذَا الشَّرْطُ مَعَ جَوَابِهِ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ (وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ وَأَرَادَ كُلٌّ قَتْلَ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ بِسَيْفِهِمَا فَقَتَلَ.
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ (فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قُلْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ (هَذَا الْقَاتِلُ) أَيْ حُكْمُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ (فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ) أَيْ شَأْنُهُ فَإِنَّهُ مَظْلُومٌ (قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَانَ قَتْلَ الْآخَرِ لَا الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَصْدُ أَحَدِهِمَا الدَّفْعَ وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى.
3539 -
ــ
3539 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ يَنْزِلُ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ) بِفَتْحَتَيْنِ قَوْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِيَةَ أَنْفُسٍ (مِنْ عُكْلٍ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ اسْمُ قَبِيلَةٍ ذَكَرَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ أَنَّهُ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ عَلَى الشَّكِّ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُرَيْنَةَ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَهُوَ الصَّوَابُ، رَوَى أَبُو عَوَانَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: كَانُوا أَرْبَعَةً مِنْ عُرَيْنَةَ وَثَلَاثَةً مِنْ عُكْلٍ (فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ) مِنَ الِاجْتِوَاءِ أَيْ كَرِهُوا هَوَاءَ الْمَدِينَةِ وَمَاءَهَا وَاسْتَوْخَمُوهَا وَلَمْ يُوَافِقْهُمُ الْمُقَامُ بِهَا وَأَصَابَهُمُ الْجِوَاءُ وَهُوَ الْمَرَضُ (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الشُّرْبُ مِنْ أَلْبَانِهَا وَجَوَازُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَاسَ بَعْضٌ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُ لِمَيْلِ الطِّبَاعِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ اهـ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنَجِسٌ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: فَبَوْلُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ وَرَوْثَهُ طَاهِرَانِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِمَا بِأَنَّ شُرْبَهُمُ الْأَبْوَالَ كَانَ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ جَائِزٌ بِكُلِّ النَّجَاسَاتِ سِوَى الْمُسْكِرَاتِ، وَإِنَّمَا أَجَازَ شُرْبَهُمْ أَلْبَانَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّهَا لِلْمُحْتَاجِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنْهُمْ (فَفَعَلُوا) أَيْ مَا ذَكَرَ (فَصَحُّوا) بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ فَرَجَعُوا إِلَى صِحَّتِهِمْ (فَارْتَدُّوا) وَكَأَنَّهُمْ تَشَاءَمُوا بِالْإِسْلَامِ (وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا) أَيْ رُعَاةَ الْإِبِلِ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ الرَّاعِي أَيْ طَمَعًا لِلْمَالِ (وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ) أَيْ سَاقُوهَا بِمُبَالَغَةٍ بَلِيغَةٍ وَاهْتِمَامٍ تَامٍّ (فَبَعَثَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَغَيْرَهُ (فِي آثَارِهِمْ) أَيْ عَقِبَهُمْ (فَأُتِيَ بِهِمْ) أَيْ جِيءَ بِهِمْ (فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ) أَيْ أَمَرَ بِقَطْعِهِمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قِيلَ يَعْنِي قَطَعَ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ وَرِجْلَيْهِ لَكِنْ يَرُدُّهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ خِلَافٍ (وَسَمَلَ) بِاللَّامِ أَيْ فَقَأَ (أَعْيُنَهُمْ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ قَوْلُهُ: وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَسَمَلَ بِاللَّامِ وَهُمَا بِمَعْنًى قَالَهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سَمَرَ الْعَيْنَ بِالتَّخْفِيفِ كَحَلَهَا بِالْمِسْمَارِ الْمُحْمَاةِ فَيُطَابِقُ السَّمْلَ فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِأَنْ يُدْنِيَ مِنَ الْعَيْنِ حَدِيدَةً مُحْمَاةً حَتَّى يَذْهَبَ نَظَرُهَا فَيُطَابِقُ الْأَوَّلَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَدِيدَةُ مِسْمَارًا قَالَ: وَضُبِطَا بِالتَّشْدِيدِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَفَسَّرُوا السَّمْلَ بِأَنَّهُ فَقْءُ الْعَيْنِ بِالشَّوْكِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا (ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ لَمْ يَقْطَعْ دِمَاءَهُمْ بِالْكَيِّ مِنَ الْجِسْمِ، الْكَيُّ أَيْ كَيُّ الْعُرُوقِ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ (حَتَّى مَاتُوا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ صلى الله عليه وسلم هَذَا مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الْمُثْلَةِ إِمَّا لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالرُّعَاةِ وَإِمَّا لِعِظَمِ جَرِيمَتِهِمْ فَإِنَّهُمُ ارْتَدُّوا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ فِي سِيَاسَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقِيلَ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ مَعَ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ وَقِيلَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم قِصَاصًا وَقِيلَ: النَّهْيُّ عَنِ الْمُثْلَةِ فِي تَنْزِيهٍ (وَفِي رِوَايَةٍ فَسَمَّرُوا) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ كَحَّلُوا أَعْيُنَهُمْ بِمَسَامِيرِ حَدِيدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّفَرَ فَعَلُوا بِالرُّعَاةِ أَوِ الصَّحَابَةَ بِالنَّفَرِ بِأَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ
(وَفِي رِوَايَةٍ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ بِهَا) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (وَطَرَحَهُمْ) أَيْ رَمَاهُمْ (بِالْحَرَّةِ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ (يَسْتَسْقُونَ) أَيْ يَطْلُبُونَ الْمَاءَ مِنْ شِدَةِ الْعَطَشِ النَّاشِئِ مِنْ حَرَارَةِ الشَّمْسِ (فَمَا يُسْقَوْنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَتَّى مَاتُوا) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَا يُسْقَوْنَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا نَهَى عَنِ السَّقْيِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَاسْتَسْقَى لَا يُمْنَعُ الْمَاءَ قَصْدًا، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابَانِ، وَقِيلَ: كَانَ مَنْعُ الْمَاءِ هَذَا قِصَاصًا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقِيَهُ مُرْتَدًّا يَخَافُ الْمَوْتَ مِنَ الْعَطَشِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ بَهِيمَةً وَجَبَ سَقْيُهُ وَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ حِينَئِذٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
3540 -
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
3540 -
(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ يُحَرِّضُنَا وَيُرَغِّبُنَا (عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ قَطْعِ الْأَطْرَافِ فِي النِّهَايَةِ: مَثَّلْتُ بِالْقَتِيلِ جَدَعْتُ أَنْفَهُ أَوْ أُذُنَهُ أَوْ مَذَاكِيرَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ وَالِاسْمُ الْمُثْلَةُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ عَنْ عِمْرَانَ.
3541 -
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ.
ــ
3541 -
(وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ) .
3542 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمْرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمْرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا قَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3542 -
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عَمَّارٍ الْمَكِّيِّ رَوَى عَنْ جَابِرٍ وَسَمِعَ مُعَاذًا وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِيهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: كُنَّا) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ أَيْ هُوَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ) أَيْ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ إِلَى الْبَرَازِ (فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ وَقَدْ يُخَفَّفُ طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (مَعَهَا فَرْخَانِ) أَيْ فَرُّوجَتَانِ (فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا) أَيْ فِي غَيْبَتِهَا أَوْ فِي حَضْرَتِهَا (فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ) أَيْ شَرَعَتْ (تُفَرِّشُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ تَفْرُشَ جَنَاحَهَا وَتَقْرُبَ مِنَ الْأَرْضِ وَتُرَفْرِفَ وَالتَّفْرِيشُ أَنْ تَفْتَرِقَ وَتُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهَا عَلَى مَنْ تَحْتَهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: فَجَعَلَتْ تَفَرَّشُ أَوْ تُفَرِّشُ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنَ التَّفْرِيشِ وَالتَّفَرُّشِ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ أَنَّ التَّفَرُّشَ مِنْ فَرْشِ الْجَنَاحِ بَسْطُهُ وَالتَّفْرِيشُ أَنْ يَرْتَفِعَ فَوْقَهُمَا فَيُظَلِّلَ عَلَيْهِمَا يَعْنِي عَلَى الْفَرْخَيْنِ وَلَا أَرَى الصَّوَابَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ (تَفَرَّشُ) عَلَى بِنَاءِ الْمُضَارِعِ حُذِفَ تَاؤُهُ لِاجْتِمَاعِ التَّاءَيْنِ (فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ فَرَجَعَ فَرَأَى تَفَرُّشَهَا (فَقَالَ: مَنْ فَجَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ فَزَّعَ (هَذِهِ) أَيِ الْحُمَّرَةَ (بِوَلَدِهَا) أَيْ بِسَبَبِ أَخْذِ أَوْلَادِهَا (رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا) الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ ; لِأَنَّ اصْطِيَادَ فَرْخِ الطَّائِرِ جَائِزٌ (وَرَأَى) عَطْفٌ عَلَى فَانْطَلَقَ أَيْ أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَرْيَةَ نَمْلٍ) أَيْ بَيْتَ نَمْلٍ أَوْ مَوْضِعَ نَمْلٍ (قَدْ حَرَّقْنَاهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أَحْرَقْنَا نَمْلَهَا (قَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ) أَيِ النَّمْلَ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ (فَقُلْنَا: نَحْنُ قَالَ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ
لَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ (أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) وَهَذَا يُرْشِدُكَ إِلَى فَائِدَةِ صُحْبَةِ الْمُرْشِدِ فَإِنَّهُ فِي سَاعَةٍ مِنْ غَيْبَتِهِ مَعَ بَرَكَةِ حُضُورِهِ وَقَعَ مِنَ الْأَصْحَابِ أَمْرَانِ عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ قَالَ الْقَاضِيَ: إِنَّمَا مَنَعَ التَّعْذِيبَ بِالنَّارِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ وَلِذَلِكَ أَوْعَدَ بِهَا الْكُفَّارَ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّارَ فِيهَا لِمَنَافِعِ النَّاسِ وَارْتِفَاقِهِمْ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي الْإِضْرَارِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ رَبُّهَا وَمَالِكُهَا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ التَّعْذِيبِ بِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ رَبُّ النَّارِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] أَيْ تَذْكِيرًا لِنَارِ جَهَنَّمَ لِتَكُونَ حَاضِرَةً لِلنَّاسِ يَذْكُرُونَ مَا أُوعِدُوا بِهِ وَعَلَّقْنَا بِهَا أَسْبَابَ الْمَعَايِشِ كُلَّهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ» وَهُوَ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ ضَخْمُ الرَّأْسِ وَالْمِنْقَارِ لَهُ رِيشٌ عَظِيمٌ نِصْفُهُ أَسْوَدُ وَنِصْفُهُ أَبْيَضُ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ:«نَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِلدَّوَاءِ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَالضُّفْدَعِ وَالنَّمْلَةِ وَالْهُدْهُدِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَّا نَهْيُهُ عَنْ قَتْلِ النَّحْلِ فَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَأَمَّا الْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِمَا لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ وَلَا لِضَرَرٍ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِ لَحْمِهِ.
3543 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَا يَرْجِعُونَ. حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ، مَنْ قَتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ التَّحْلِيقُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3543 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ» ) بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ أَهْلُ اخْتِلَافٍ وَافْتِرَاقٍ وَقَوْلُهُ (قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ) أَيِ الْقَوْلَ يُقَالُ قُلْتُ قَوْلًا وَقَالًا وَقِيلًا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122](وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ) بَدَلٌ مِنْهُ وَمُوَضِّحٌ لَهُ وَقَوْلُهُ (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّاطِبِيِّ وَمَنْ يُجَوِّزُهُ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الِاخْتِلَافِ أَيْ سَيَحْدُثُ فِيهِمُ اخْتِلَافٌ وَتَفَرُّقٌ فَيَفْتَرِقُونَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةَ حَقٍّ وَفِرْقَةَ بَاطِلٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ، فَقَوْمٌ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِمَا بَعْدَهُ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَهُوَ بَيَانٌ لِإِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ وَتُرِكَتِ الثَّانِيَةُ لِلظُّهُورِ اهـ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيَقْرَءُونَ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَهُوَ خَطَأٌ (لَا يُجَاوِزُ) أَيْ قُرْآنُهُمْ أَوْ قِرَاءَتُهُمْ (تَرَاقِيَهُمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَنَصْبِ الْيَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فِي النِّهَايَةِ وَهِيَ جَمْعُ التَّرْقُوَةِ وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ نُقْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ وَهُمَا تَرْقُوَتَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَوَزْنُهَا فَعْلُوَةٌ بِالْفَتْحِ اهـ كَلَامُهُ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ جَنْبَر كُرْدُن قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ أَثَرُ قِرَاءَتِهِمْ عَنْ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ - فَلَا يَعْتَقِدُونَ وَفْقَ مَا يَقْتَضِي اعْتِقَادًا وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يُوجِبُ عَمَلًا، وَثَانِيهَا أَنَّ قِرَاءَتَهُمْ لَا يَرْفَعُهَا اللَّهُ وَلَا يَقْبَلُهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تَتَجَاوَزْ حُلُوقَهُمْ، وَثَالِثُهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُثَابُونَ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ غَيْرُ الْقِرَاءَةِ (يَمْرُقُونَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَخْرُجُونَ (مِنَ الدِّينِ) أَيْ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) بِالنَّصْبِ أَيْ كَمُرُوقِهِ (مِنَ الرَّمِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُرُوقُ السَّهْمِ مَصْدَرٌ أَيْ مِثْلُ مُرُوقِ السَّهْمِ، ضَرَبَ مَثَلَهُمْ فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ بِالسَّهْمِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُلَاقِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ لِسُرْعَةِ نُفُوذِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ الدِّينِ بِشَيْءٍ وَلَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ سَبَقَ الْفَرْثُ وَالدَّمُ (لَا يَرْجِعُونَ) أَيْ إِلَى الدِّينِ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى.
بُطْلَانِهِمْ (حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] وَالْفُوقُ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ وَهُوَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ عَلَّقَ رُجُوعَهُمْ إِلَى الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وَفِيهِ مِنَ اللُّطْفِ أَنَّهُ رَاعَى بَيْنَ التَّمْثِيلَيْنِ الْمُنَاسَبَةَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مَثَّلَ أَوَّلًا خُرُوجَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ وَثَانِيًا فَرْضَ دُخُولِهِمْ فِيهِ وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ بِرُجُوعِ السَّهْمِ عَلَى فُوقِهِ أَيْ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنَ الْوَتَرِ (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) فِي النِّهَايَةِ الْخَلْقُ النَّاسُ وَالْخَلِيقَةُ الْبَهَائِمُ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيُرِيدُ بِهِمَا جَمِيعَ الْخَلَائِقِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْخَلِيقَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وَإِنَّمَا جَاءَ بِاللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَهُوَ اسْتِيعَابُ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَنْ خُلِقَ وَبِالْخَلْقِ مَنْ سَيُخْلَقُ قَالَ الْقَاضِي: هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْمُرَاءَاةِ فَاسْتَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ وَأَشَدُّ تَمَسُّكًا بِالْقُرْآنِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا (طُوبَى) أَيْ طِيبَةً حَالَّةً حَسَنَةً وَصِفَةً مُسْتَحْسَنَةً قِيلَ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ أَيْ هِيَ حَاصِلَةٌ (لِمَنْ قَتَلَهُمْ) فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَازِيًا (وَقَتَلُوهُ) أَيْ وَلِمَنْ قَتَلُوهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَهِيدًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَذْفِ الْمَوْصُولِ أَوِ الْوَاوِ لِمُجَرَّدِ التَّشْرِيكِ وَتَحْصِيلِ الْجَمْعِ وَالتَّقْدِيرُ طُوبَى لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قَتْلُهُ إِيَّاهُمْ وَقَتْلُهُمْ إِيَّاهُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَاتَلُوا وَقُتِلُوا قَالَ الطِّيبِيُّ: فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ فَلَمَّا ضُمَّتِ الطَّاءُ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَالْمَعْنَى أَصَابَ خَيْرًا مَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ (يَدْعُونَ) أَيِ النَّاسَ (إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) أَيْ إِلَى ظَاهِرِهِ (وَيَتْرُكُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحَادِيثَهُ الْمُبَيَّنَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَبِقَوْلِهِ عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7] أَيْ فِي مُخَالَفَةِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ جَادِلْهُمْ بِالْحَدِيثِ. وَفِي الْمَثَلِ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَدْرَى بِمَا فِيهِ وَلِذَا قَالَ (وَلَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ) أَيْ فِي شَيْءٍ مُعْتَدٍّ مِنْ طَرِيقَتِنَا وَهَدْيِنَا الْجَامِعِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ قَوْلِهِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِرْشَادٌ إِلَى شِدَّةِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَّا فَمُقْتَضَى التَّرْكِيبِ وَلَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ قِيلَ وَلَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ لَأَوْهَمَ أَنْ يَكُونُوا جُهَّالًا لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ كَأَكْثَرِ الْعَوَامِّ وَقَوْلُهُ لَيْسُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عِدَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ (مَنْ قَتَلَهُمْ) أَيْ مِنْ أُمَّتِي (كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ بَاقِي أُمَّتِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ مِنْ أَجْلِ قِتَالِهِمْ، قَالَ الْأَشْرَفُ: الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْأُمَّةِ أَيْ مَنْ قَاتَلَهُمْ مِنْ أُمَّتِي أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْ بَاقِي أُمَّتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَلَى تَأْوِيلِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ أَيْ أَهْلُ اخْتِلَافٍ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْقَةِ الْبَاطِلَةِ وَيَكُونُ أَفْعَلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] وَقَوْلُهُمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُقَاتِلَ أَبْلَغُ فِي الْوِلَايَةِ مِنْهُمْ فِي الْعُدْوَانِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ (قَالَ: التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمُ التَّحْلِيقُ وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَلْقِ كَمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ صِيغَةِ التَّفْعِيلِ الَّتِي لِلتَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَذَا الْبِنَاءِ إِمَّا لِتَفْرِيقِ مُتَابَعَتِهِمْ فِي الْحَلْقِ أَوْ لِإِكْثَارِهِمْ مِنْهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ مَذْمُومٌ فَإِنَّ الشِّيَمَ وَالْحُلَى الْمَحْمُودَةَ قَدْ يَتَزَيَّا بِهَا الْخَبِيثُ تَرْوِيجًا لِخُبْثِهِ وَإِفْسَادِهِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ كَوَصْفِهِمْ بِالصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ تَحْلِيقُ الْقَوْمِ وَإِجْلَاسُهُمْ حِلَقًا حِلَقًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3544 -
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3544 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ) أَيْ إِرَاقَةُ دَمِ شَخْصٍ (مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِمُسْلِمٍ لَا كَاشِفَةٌ يَعْنِي إِظْهَارَهُ الشَّهَادَتَيْنِ كَافٍ فِي حَقْنِ دَمِهِ (إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) أَيْ خِصَالٍ (زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ) أَيْ يُقْتَلُ بِرَجْمِ الْحِجَارَةِ (وَرَجُلٌ) أَيْ وَخُرُوجُ رَجُلٍ (خَرَجَ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَالَ كَوْنِهِ (لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) اللَّامُ صِلَةٌ ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ عَمَلُهُ ضَعِيفٌ فَيُؤْتَى بِهَا تَأْكِيدًا، وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ (مُحَارِبًا بِاللَّهِ) فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَالْمُرَادُ بِهِ قَاطِعُ الطَّرِيقِ أَوِ الْبَاغِي (فَإِنَّهُ يُقْتَلُ) أَيْ إِنْ قَتَلَ نَفْسًا بِلَا أَخْذِ مَالٍ (أَوْ يُصْلَبُ) أَيْ حَيًّا وَيُطْعَنُ حَيًّا حَتَّى يَمُوتَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ إِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ (أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ) أَيْ يُخْرَجُ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ لَا يَزَالُ يُطَالَبُ وَهُوَ هَارِبٌ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقِيلَ: يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ وَيُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَهَذَا مُخْتَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُحْبَسُ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْإِخَافَةِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ أَوْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ لِيَكُونَ الْحَدِيثُ عَلَى طِبْقِ الْآيَةِ مُسْتَوْعِبًا وَلَعَلَّ حَذْفَهُ وَقَعَ مِنَ الرَّاوِي نِسْيَانًا أَوِ اخْتِصَارًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَ (أَوْ) فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لِلتَّفْصِيلِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْأَرْبَعِ فِي كُلِّ قَاطِعٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ (أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ عَطْفًا عَلَى رَجُلٍ خَرَجَ وَالتَّقْدِيرُ قَتَلَ رَجُلٌ نَفْسًا (فَلْيُقْتَلْ بِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3545 -
وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ لِأَخْذِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3545 -
(وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي لَيْلَى يَسَارٌ الْأَنْصَارِيُّ وُلِدَ لَسِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَقُتِلَ بِرَخْيَالَ وَقِيلَ غَرِقَ بِنَهْرِ الْبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثُهُ فِي الْكُوفَةِ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ يُقَالُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَاضَى الْكُوفَةِ، إِمَامٌ مَشْهُورٌ فِي الْفِقْهِ صَاحِبُ مَذْهَبٍ وَقَالَ: وَإِذَا أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَبَاهُ وَإِذَا أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّمَا يَعْنُونَ مُحَمَّدًا (قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ وَهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِمْ (أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ) مِنَ السَّيْرِ وَفِي نُسْخَةٍ يَسِيرُونَ مِنَ السَّيْرِ وَهُوَ سَيْرُ اللَّيْلِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ) أَيْ شَرَعَ وَذَهَبَ (إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ مَعَ الْمُنْطَلِقِ (فَأَخَذَهُ) أَيْ رَبَطَ الرَّجُلَ أَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ (فَفَزِعَ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ خَافَ الرَّجُلُ وَارْتَاعَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ) تَشْدِيدُ الْوَاوِ أَيْ يُخَوِّفَ (مُسْلِمًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا أَحْمَدُ.
3546 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِجِزْيَتِهَا فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتَهُ وَمَنْ نَزَعَ صَغَارَ كَافِرٍ مِنْ عُنُقِهِ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3546 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِجِزْيَتِهَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَرْضٍ أَيْ مُلْتَبِسَةٍ بِجِزْيَتِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَزِمًا بِجِزْيَتِهَا يَعْنِي بِخَرَاجِهَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لُزُومَ الْجِزْيَةِ لِلذِّمِّيِّ (فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتَهُ) أَيْ نَقَضَ عِزَّتَهُ وَالْمَعْنَى مَنِ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً لَزِمَهُ الْخَرَاجُ الَّذِي هُوَ جِزْيَةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي أَرْضِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَدَارِهِ وَجَعَلَ صَغَارَ الْكُفْرِ فِي عُنُقِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الذِّمِّيِّ فِي أَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخَرَاجِ صَارَ كَالْمُسْتَقِيلِ أَيْ طَالِبِ الْإِقَالَةِ لِهِجْرَتِهِ (وَمَنْ نَزَعَ صَغَارَ كَافِرٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ ذُلَّهُ مِنْ عُنُقِهِ (فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ) بِأَنْ تَكَفَّلَ جِزْيَةَ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ عَنْهُ صَغَارَهُ (فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ) أَيْ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي جَانِبِ ظَهْرِهِ وَهَذَا كَالْمُبَيِّنِ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ مَنْ تَكَفَّلَ بِجِزْيَةِ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ عَنْهُ ذُلَّهُ فَكَأَنَّهُ بَدَّلَ الْإِسْلَامَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ بَدَّلَ عِزَّهُ بِذُلِّهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الْجِزْيَةِ هُنَا الْخَرَاجُ يَعْنِي الْمُسْلِمُ إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا جِزْيَةٌ وَالْآخَرُ بِمَعْنَى الْكِرَاءِ وَالْأُجْرَةِ فَإِذَا فُتِحَتِ الْأَرْضُ صُلْحًا عَلَى أَنَّ أَرْضَهَا لِأَهْلِهَا فَمَا وُضِعَ عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجٍ فَمَجْرَاهُ الْجِزْيَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ، كَمَا يَسْقُطُ مَا عَلَى رَقَبَتِهِ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَلَزِمَهُ الْعُشْرُ فِيمَا أَخْرَجَتْ أَرْضُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أُرِيدَ بِالْجِزْيَةِ فِي الْحَدِيثِ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تُرِكَتْ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُ عَنْهُ مُتَكَفِّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ يُجْرَى فِي الْمَوْضُوعِ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَتْرُوكَةِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ مَجْرَاهَا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ فَقَدِ اسْتَقَالَ هِجْرَتُهُ ; لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ وَالْقَدَحُ الْمُعَلَّى فِي مَالِ الْفَيْءِ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الذِّمِّيِّ فِي أَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْخَرَاجِ فَقَدْ أَحَلَّ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ مَحَلَّ مَنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ فَصَارَ كَالْمُسْتَقِيلِ عَنْ هِجْرَتِهِ بِبَخْسِ حَقِّ نَفْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ تَكَفَّلَ جِزْيَةَ كَافِرٍ وَتَحَمَّلَ صَغَارَهُ فَكَأَنَّهُ وَلَّى الْإِسْلَامَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ بَدَّلَ إِعْزَازَ الدِّينِ بِالْتِزَامِ ذُلِّ الْكُفْرِ وَتَحَمَّلَ صَغَارَهُ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ ضَمَانِ الْمُسْلِمِ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالْجِزْيَةِ خِلَافٌ وَلِمَنْ مَنَعَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تُعُورِفَ وَاشْتُهِرَ أَنَّ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ فَمَا بَالُ الْهِجْرَةِ كُنِّيَ بِهَا عَنِ الْعِزَّةِ قُلْتُ: لِأَنَّهَا مَبْدَأُ عِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْشَأُ رِفْعَتِهِ حَيْثُ نَصَرَ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْأَنْصَارِ وَأَعَزَّ الدِّينَ بِهِمْ وَفَلَّ شَوْكَةَ الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ شَأْنَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3547 -
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3547 -
(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَعَثَ) أَيْ أَرْسَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً) : وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ (إِلَى خَثْعَمَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ وَفِي الْقَامُوسِ: خَثْعَمٌ كَجَعْفَرٍ جَبَلٌ (فَاعْتَصَمَ) أَيْ تَمَسَّكَ وَشَرَعَ (نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ) أَيْ بِالصَّلَاةِ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَمَّا رَأَوُا الْجَيْشَ أَسْرَعُوا بِالسُّجُودِ (فَأُسْرِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِيهِمُ الْقَتْلُ) أَيْ قَتَلَهُمُ الْجَيْشُ وَلَمْ يُبَالُوا بِسُجُودِهِمْ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْقَتْلِ بِالسُّجُودِ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيْ خَبَرُ قَتْلِهِمْ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُكْمِلْ لَهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ عِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام بِإِسْلَامِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمُقَامِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْكُفَّارِ وَكَانُوا كَمَنْ هَلَكَ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةِ غَيْرِهِ فَتَسْقُطُ حِصَّةُ جِنَايَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ.
(وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَيْنَهُمْ (وَأَظْهُرِ) مُقْحَمٌ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ دَمِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْبَرَاءَةَ مِنْ مُوَالَاتِهِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لِمَ) بِحَذْفِ أَلِفِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، أَيْ لَا شَيْءَ تَكُونُ بَرِيئًا أَوْ أَمَرْتَ بِنِصْفِ الْعَقْلِ (قَالَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ تَعْلِيلٌ، وَإِسْنَادُ التَّرَائِي مَجَازٌ وَالنَّفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ يَتَبَاعَدُ مَنْزِلَاهُمَا حَتَّى لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عِلَّةٌ لِبَرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُسَاكِنَ الْكَافِرَ وَيَقْرُبَ مِنْهُ وَلَكِنْ يَبْعُدُ بِحَيْثُ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُعْدِ الْبَعِيدِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ لَا يَنْزِلُ الْمُسْلِمُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَرَى نَارَهُ الْمُشْرِكُ إِذَا أَوْقَدَ وَلَكِنْ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَمَانَ وَثَانِيهُمَا قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَيْ لَا يَتَّسِمُ الْمُسْلِمُ بِسِمَةِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَتَشَبَّهُ بِهِ فِي هَدْيِهِ وَشَكْلِهِ وَلَا يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِ مِنْ قَوْلِكَ: مَا نَارُ نِعَمِكَ؟ أَيْ: مَا سَمْتُهَا؟ وَثَالِثُهَا قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: أَيْ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْآخِرَةِ لِبُعْدِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَرَابِعُهَا قَالَ الْفَائِقُ: مَعْنَاهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَبَاعَدَ مَنْزِلَاهُمَا بِحَيْثُ إِذَا أُوقِدَتْ فِيهِمَا نَارَانِ لَمْ تَلُحْ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى وَإِسْنَادُ التَّرَائِي إِلَى النَّارِ كَقَوْلِهِمْ دُورُ بَنِي فُلَانٍ مُتَنَاظِرَةٌ، وَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ يُقَالُ تَرَاءَى الْقَوْمُ إِذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء: 61] وَ {تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال: 48] وَخَامِسُهَا قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْكُنَ مُسْلِمٌ حَيْثُ سَكَنَ كَافِرٌ وَلَا يَدْنُو مِنْهُ بِحَيْثُ تَتَقَابَلُ نَارَاهُمَا وَتَقْرُبُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى حَتَّى يَرَى كُلٌّ مِنْهُمَا نَارَ الْآخَرِ فَنَزَّلَ رُؤْيَةَ الْمَوْقِدِ مَنْزِلَةَ رُؤْيَتِهَا إِنْ كَانَ لَهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَادِسُهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ نَارَ الْحَرْبِ أَيْ مَا عَلَى طَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُحَارِبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَعَ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِحِزْبِهِ وَالْكَافِرُ يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَدْعُو إِلَى الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ يَتَّفِقَانِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَجْتَمِعَا قَالَ الْخَطِيبُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ وَأَمْكَنَهُ الْخَلَاصُ وَالِانْفِلَاتُ مِنْهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمَقَامُ مَعَهُمْ وَإِنْ حَلَّفُوهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ كَانَ الْوَاجِبَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْيَمِينِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ قُلْتُ وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3548 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3548 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِيمَانُ قَيَّدَ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ مَنَعَ (الْفَتْكَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَيَقْتُلَهُ أَيِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ قَتْلِ أَحَدٍ بَغْتَةً حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ إِيمَانِهِ كَمَا يَمْنَعُ الْقَيْدُ الْمُقَيَّدَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ فَإِنَّ الْقَيْدَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ إِنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ عَنِ الْفَتْكِ كَمَا يَمْنَعُ الْقَيْدُ عَنِ التَّصَرُّفِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْفَتْكَ مُقَيَّدًا (لَا يَفْتِكُ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَتْكُ مُثَلَّثَةٌ رُكُوبُ مَا هَمَّ مِنَ الْأُمُورِ وَدَعَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ فَتَكَ يَفْتِكُ وَيَفْتُكُ فَهُوَ فَاتِكٌ جَرِيءٌ شُجَاعٌ وَقَوْلُهُ (مُؤْمِنٌ) أَيْ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا مَرُّوا بِكَافِرٍ غَافِلٍ نَبَّهُوهُ فَإِنْ أَبَى بَعْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَتَلُوهُ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ خَيْرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا يَفْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَيَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ عَلَى النَّهْيِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فَيَرْوِيَهُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِقَوِيمِ رِوَايَةٍ وَمَعْنَى فَإِنْ قِيلَ قَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ الْخَزْرَجِيَّ فِي نَفَرٍ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلُوهُ وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ الْأَوْسِيَّ فِي نَفَرٍ إِلَى رَافِعٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدٍ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي أَمَرَ بِهَا قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفَتْكِ كَانَ بَعْدَهَا وَهُوَ
الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ أُولَاهَا كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي الرَّابِعَةِ وَالثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي الْخَامِسَةِ وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ عَامَ خَيْبَرَ فِي السَّابِعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِصِّيصِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا أُيِّدَ بِهِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تِلْكَ الْقَضَايَا كَانَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْمَقْتُولِينَ مِنَ الْغَدْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّعَرُّضِ لَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْأَذِيَّةِ وَالتَّحْرِيشِ عَلَيْهِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَاخْتَارَ الْقَاضِي هَذَا الْوَجْهَ وَلَخَّصَهُ وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَنَعَ ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ نَذِيرٍ وَاسْتِتَابَةٍ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ قَتْلَهُ بَلِ الِاسْتِكْمَالُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا يُمْكِنُ هَذَا إِذَا لَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ دَاعٍ دِينِيٌّ فَإِنْ كَانَ كَمَا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ حَرِيصٌ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ مُنْتَهِزٌ لِلْفُرْصَةِ مِنْهُمْ وَإِنَّ دَفْعَهُ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بِهَذَا فَلَا حَرَجَ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ تُذْكَرَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بَعْدَ الْأُخْرَى فَإِنَّ التَّعْلِيلِيَّ مُؤَخَّرٌ عَنِ الْمُعَلَّلِ لَكِنْ قُدِّمَتِ اعْتِبَارًا لِلرُّتْبَةِ وَبَيَانًا لِشَرَفِ الْإِيمَانِ وَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ وَخَصَائِصِ أَهْلِهِ النَّصِيحَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْكُفَّارِ كَمَا وَرَدَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَعَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا وَيَجْتَنِبَ عَنْ صِفَةِ الْعُتَاةِ وَالْمَرَدَةِ مِنَ الْفَتْكِ " فَإِذَا الْكَلَامُ جَارٍ أَصَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِ تَابِعٌ لَهُ فَلَوْ أُخِّرَ كَانَ بِالْعَكْسِ فَعَلَى هَذَا لَا يُفْتَقَرُ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْتِزَامِ النَّسْخِ وَالتَّكَلُّفِ فِيهِ. اه. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الزُّبَيْرِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ.
3549 -
وَعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَى وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3549 -
(وَعَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي الْمِصْبَاحِ أَبِقَ كَفَرِحَ وَضَرَبَ وَنَصَرَ فَمَاضِيهِ مُثَنًّى وَمُضَارِعُهُ مُثَلَّثٌ وَالْمَعْنَى إِذَا هَرَبَ مَمْلُوكٌ (إِلَى الشِّرْكِ) أَيْ دَارِ الْحَرْبِ (فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ) أَيْ لَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنِ ارْتَدَّ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يُهْدَرُ بِهِ دَمُهُ مِنْ جِوَارِ الْمُشْرِكِينَ وَتَرْكِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَتَرَاءَى نَارَاهُمَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3550 -
وَعَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3550 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتِمُ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ تَسُبُّ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ وَعَدَّاهُ بِفِي لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الطَّعْنِ فِي النِّهَايَةِ. يُقَالُ: وَقَعْتُ فِيهِ إِذَا عِبْتَهُ وَذَمَمْتَهُ (فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهَا) قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفِيهِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا لَمْ يَكُفَّ لِسَانَهُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ مُبَاحُ الدَّمِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3551 -
وَعَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
3551 -
(وَعَنْ جُنْدَبٍ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» ) بِإِضَافَةِ ضَرْبٍ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ بِالتَّاءِ وَالْهَاءِ وَالثَّانِي أَوْلَى وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ
يُقَالُ حَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ فَعَدَلَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ تَصْوِيرًا لَهُ وَأَنْ لَا يُجَاوِزَ مِنْهُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي قَتْلِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقَتَلَتْهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. قَالَ الرَّاوِي: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مَا يَسْحَرُ بِهِ كُفْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ عَمَلُهُ الْكُفْرَ فَلَا يُقْتَلُ وَتَعْلِيمُ السِّحْرِ لَيْسَ كُفْرًا عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ قَلْبَ الْأَعْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: السَّاحِرُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ سِحْرَهُ إِلَّا بِدَعْوَةِ كَوْكَبٍ أَوْ شَيْءٍ يُوجِبُ كُفْرًا يَجِبُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لَا يَتَسَبَّبُ إِلَّا لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ فَإِنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ فِي التَّضَامُنِ وَالتَّعَاوُنِ وَكَذَا يُمَيَّزُ السَّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ حَرَامٍ وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ فِعْلُ السِّحْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُمَا حَرَامَانِ وَالثَّانِي مَكْرُوهَانِ وَالثَّالِثُ مُبَاحَانِ وَقَالَ أَيْضًا اعْلَمْ أَنَّ التَّكَهُّنَ وَإِتْيَانَ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمَ وَالضَّرْبَ بِالرَّمْلِ وَالشَّعِيرِ وَبِالْحَصَى وَتَعْلِيمَهَا حَرَامٌ وَأَخْذَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَاعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عُلُومًا مِنْهَا مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُبَاحٌ فَالْمُحَرَّمُ كَالْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبِيعِيِّينَ وَكَذَا السِّحْرُ عَلَى الصَّحِيحِ وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ تَحْرِيمِهِ، وَالْمُكْرُوهُ كَأَشْعَارِ الْمُوَلِّدِينَ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْغَزَلِ وَالْبِطَالَةِ، وَالْمُبَاحُ كَأَشْعَارِهِمُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ وَلَا مَا يُنَشِّطُ إِلَى الشَّرِّ وَيُثَبِّطُ مِنَ الْخَيْرِ. فِي تَفْسِيرِ الْمَدَارِكِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْقَوْلُ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ بَلْ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَدَّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا، ثُمَّ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ يُقْتَلُ عَلَيْهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا تَابَ وَمَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ فَقَدْ غَلَطَ فَإِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3552 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّتِي فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3552 -
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) أَيِ الذُّبْيَانِيِّ الثَّعْلَبِيِّ رَوَى عَنْهُ زِيَادُ بْنُ عَلَاقَةَ وَغَيْرُهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ) أَيْ عَلَى الْإِمَامِ (يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّتِي) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ أَيْ جَعَلَ يُفَرِّقُ أَوْ هُوَ مُطَاوِعُ خَرَّجْتُهُ فَخَرَجَ أَيْ مَهِرٌ فِي صِيغَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى هَذَا يُفَرِّقُ حَالٌ (فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) أَيْ فَاقْتُلُوهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ إِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى أَوَّلًا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهُ إِلَّا بِقَتْلِهِ كَانَ هَدْرًا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .
3553 -
ــ
3553 -
(وَعَنْ شَرِيكِ بْنِ شِهَابٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثِيُّ الْبَصْرِيُّ يُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَعَنْهُ الْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ وَلَيْسَ بِذَلِكَ مَشْهُورًا (قَالَ كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ أَلْقَى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(أَسْأَلُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ) إِمَّا صِفَةُ أَحَدًا أَوْ حَالٌ مِنْهُ لِوَصْفِهِ (فَلَقِيتُ أَبَا بَرْزَةَ رضي الله عنه بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَهُوَ نَضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ وَلَمْ يَزَلْ يَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ فَتَحَوَّلَ وَنَزَلَ الْبَصْرَةَ ثُمَّ غَزَا خُرَاسَانَ وَمَاتَ بِمَرْوَ سَنَةَ سِتِّينَ (فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي نَفَرٍ) أَيْ كَائِنًا فِي جَمَاعَةٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيْ مِنَ التَّابِعِينَ (فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُزَالٌ عَنْ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَوَارِجَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ثُمَّ جِيءَ بَعْدَهُ بِيَذْكُرُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ دَلَالَةً عَلَى الْمَحْذُوفِ (قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنَيَّ) بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ وَبِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى التَّثْنِيَةِ لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ وَبِتَخْفِيفِهَا عَلَى الْإِفْرَادِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَرَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ) وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِهِ بِأُذُنَيَّ وَبِعَيْنَيَّ مِنَ التَّأْكِيدِ إِذِ السَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأُذُنٍ وَعَيْنٍ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ) إِلَخْ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَيْتُهُ أَيْ رَأَيْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ مَأْتِيًّا بِمَالٍ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِأُذُنَيَّ وَبِعَيْنَيَّ وَتَكْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيذَانٌ بِتَحْقِيقِ الْأَمْرِ وَتَثْبِيتِهِ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَرَابُ فِيهِ (فَقَسَمَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَالَ (فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَلَعَلَّ عَدَمُ إِعْطَائِهِمْ لِيَظْهَرَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا عَدَلْتَ فِي الْقِسْمَةِ رَجُلٌ أَسْوَدُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَارِدٌ عَلَى الذَّمِّ وَالشَّتْمِ ; لِأَنَّ دَمَامَةَ الصُّورَةِ تَدُلُّ عَلَى خَبَاثَةِ السَّرِيرَةِ (مَطْمُومُ الشَّعْرِ) فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ طَمَّ شَعْرَهُ وَجَزَّهُ اسْتَأْصَلَهُ اه وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَجَرُّدِهِ لِلْفَسَادِ وَلَيْسَ فِيهِ شَعْرٌ مِنَ الشُّعُورِ وَالْأَدَبِ فِي الْحُضُورِ (عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ) إِيمَاءٌ إِلَى نِفَاقِهِ مِنْ نَظَافَةِ ظَاهِرِهِ وَكَثَافَةِ بَاطِنِهِ وَبَيَاضِ كُسْوَتِهِ وَسَوَادِ جُثَّتِهِ (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضَبًا شَدِيدًا) أَيْ ثُمَّ حَلُمَ حِلْمًا عَظِيمًا (وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُونَ بَعْدِي) أَيْ غَيْرِي وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُتَجَاوِزًا عَنِّي (رَجُلًا هُوَ عَدْلٌ مِنِّي) أَيْ عَادِلٌ مِثْلِي (ثُمَّ قَالَ: يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَانَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (هَذَا) أَيْ هَذَا الرَّجُلُ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَمُقْتَفِي سِيرَتِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67](يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِسُوءِ حَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ (لَا يُجَاوِزُ) أَيْ قُرْآنُهُمْ أَوْ قِرَاءَتُهُمْ (تَرَاقِيَهُمْ) أَيْ حُلُوقَهُمْ (يَمْرُقُونَ) أَيْ يَخْرُجُونَ (مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ مِنَ الِانْقِيَادِ التَّامِّ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) أَيِ الصَّيْدِ.