المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

3785 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: 3785 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ

3785 -

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ:«ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» .

ــ

3785 -

(وَعَنْ بَهْزٍ رضي الله عنه : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ هَاءٍ، ثُمَّ زَايٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا (ابْنِ حَكِيمٍ) : أَيِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي صُحْبَتِهِ نَظَرٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، وَقَتَادَةُ، عَنْ جَدِّهِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» ) . ; أَيْ فِي أَدَاءِ شَهَادَةٍ بِأَنْ كَذَبَ فِيهَا، أَوْ بِأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ ذَنْبًا، أَوْ دَيْنًا، فَحَبَسَهُ صلى الله عليه وسلم لِيَعْلَمَ صِدْقَ الدَّعْوَى بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ خَلَّى عَنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ) . ; أَيْ: تَرَكَهُ عَنِ الْحَبْسِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى خَلَّى سَبِيلَهُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

ص: 2452

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3786 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، قَالَ:«قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3786 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ حَكَمَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: أَيْ أَوْجَبَ (أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرٌ أَشَقُّ، وَلَا أَخْوَفُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2452

[كِتَابُ الْجِهَادِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3787 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ ; كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا. قَالُوا: أَفَلَا نُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[18]

كِتَابُ الْجِهَادِ

الْجِهَادُ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ لُغَةً الْمَشَقَّةُ، وَشَرْعًا بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ مُبَاشَرَةً، أَوْ مُعَاوَنَةً بِالْمَالِ، أَوْ بِالرَّأْيِ، أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الْمُغْرِبِ: جَهَدَهُ حَمَّلَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَالْجِهَادُ مَصْدَرُ جَاهَدْتُ الْعَدُوَّ إِذَا قَابَلْتَهُ فِي تَحَمُّلِ الْجَهْدِ، أَوْ بَذَلَ كُلٌّ مِنْكُمَا جُهْدَهُ ; أَيْ: طَاقَتَهُ فِي دَفْعِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ غَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَقِتَالُهُمْ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا، وَفَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ وَحَاصِلُهُ بَذْلُ أَعَزِّ الْمَحْبُوبَاتِ؟ وَإِدْخَالُ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَشَقُّ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي النَّشَاطِ، وَدَفْعُ الْكَسَلِ عَلَى الدَّوَامِ، وَمُجَانَبَةُ أَهَوِيَتِهَا. وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَجَعَ مِنْ غُزَاةٍ:" «رَجَعْنَا مِنِ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» " وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ; أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ". قُلْتُ: ثُمَّ ; أَيُّ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَفْضَلَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " ; إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ مُعَارَضَةٍ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِ السَّائِلِ، فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ يَلِيقُ بِهِ الْجِهَادُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَهْيِئَتِهِ لَهُ وَاسْتِعْدَادِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْجِهَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا لَيْسَ مِثْلِهِ فِي الْجَلَادَةِ وَالْغِنَى، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، وَتِلْكَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَفِي هَذَا لَا يَتَرَدَّدُ أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَأَخْذَ النَّفْسِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:«الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنِ الْجِهَادِ» ; لِأَنَّ هَذِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَتَتَكَرَّرُ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ افْتِرَاضَ الْجِهَادِ لَيْسَ إِلَّا لِلْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مَقْصُودًا وَحَسَنًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ طُولٌ إِلَى أَنْ

ص: 2452

قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شُجَّتْ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ وَيُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " وَبِهَذِهِ يَنْتَفِي مَا نُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ. لِلنَّدْبِ، وَكَذَا:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". فَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الِافْتِرَاضَ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ: إِذَا تَأَيَّدَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ مَمْنُوعٌ، بَلِ الْمُفِيدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ، وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى وَفْقِهِمَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ، " «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ تُقَاتِلَ آخَرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ. لَا يَطُلْهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ» ". وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُنْسَخْ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ أَنَّ بِقِتَالِ آخَرِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ، يَنْتَهِي وُجُوبُ الْجِهَادِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ إِغْرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبُغْضِ سَقَطَ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ تَمَسُّكًا بِعَيْنِ الْأَدِلَّةِ إِذْ بِمِثْلِهَا تَثْبُتُ فُرُوضُ الْأَعْيَانِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] ، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا لَاشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهِ، فَيَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بِالزِّرَاعَةِ وَالْجَلْبِ بِالتِّجَارَاتِ، وَيَسْتَلْزِمَ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَقْوَاتَ فَيُؤَدِّي ; إِيجَابُهُ عَلَى الْكُلِّ إِلَى تَرْكِهِ لِلْعَجْزِ، فَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَزِمَ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَخْرُجَ الْكُلُّ عَنِ الْأَمْصَارِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا بَلْ يَكُونُ كَالْحَجِّ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْرُجَ، فَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ، وَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَطُّلَ الْمَعَاشِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصُّ:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95] ، ثُمَّ هَذَا إِذَا يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنْ كَانَ كَأَنْ هَجَمُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْفِرُ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا، فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ النَّفَرُ، وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا كِفَايَةٌ، أَوْ تَكَاسَلُوا وَعَصَوْا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا، كَجِهَازِ الْمَيِّتِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَوَّلًا عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَعَجَزُوا وَجَبَ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا ذَكَرُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ إِذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَقِيلَ شُبَّانًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ عُزَّابًا وَمُتَزَوِّجِينَ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ ; أَيِ: انْفِرُوا مَعَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَحَاصِلُهُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فَأَفَادَ الْعَيْنِيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يُفِيدُ تَعْيِينَهَا الْعَيْنِيَّةَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا، لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تُعْرَفُ الْكِفَايَةُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ فَالْإِجْمَاعُ، مَعَ أَنَّهُ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ الْمَظْلُومِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ وَأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَيْهِمْ، هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ الْمُذْنِفُ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الدَّفْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ إِرْهَابًا.

ص: 2453

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3787 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، يَعْنِي وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمَا مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) : أَيْ فِي مَوَاقِيتِهَا (وَصَامَ رَمَضَانَ) ; خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِمَا وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِمَا لِصُعُوبَةِ مَوْقِعِهِمَا عَلَى الطِّبَاعِ، وَمَنْ رَاعَاهُمَا مَعَ كَوْنِهِمَا أَشَقَّ لَا يَتْرُكُ غَيْرَهُمَا غَالِبًا، وَيُمْكِنُ أَنَّ وُرُودَ هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، أَوْ عَدَمَ ذِكْرِهِمَا لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْأَغْنِيَاءِ (كَانَ حَقًّا) : أَيْ: ثَابِتًا بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ (عَلَى اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) : أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَانِ كَافٍ لِمُطْلَقِ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اللَّازِمِ، وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ ; لِأَنَّ رَفْعَهَا يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ الدُّخُولَ بِالْفَضْلِ وَالرَّفْعَ بِالْأَعْمَالِ (جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وَرُوِيَ: هَاجَرَ (أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا) أَيْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَالتَّسْوِيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ صَدَرَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ قَبْلَهُ كَانَتْ فَرِيضَةً لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فِي الِابْتِدَاءِ. (قَالُوا: أَفَلَا نُبَشِّرُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِهِ (النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْقَائِلُ فِي قَالُوا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَزَادَ بَعْدَهُ قَالَ:" ذَرِ النَّاسَ يَعْمَلُونَ فَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ "(مِائَةَ دَرَجَةٍ) : زَادَ التِّرْمِذِيُّ: لَوْ أَنَّ الْعَالَمِينَ اجْتَمَعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ (أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، هُمُ الْغُزَاةُ، أَوِ الْحُجَّاجُ، أَوِ الَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ (مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وَرَدَ فِي حَدِيثٍ: إِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، (فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ) : أَيْ عَلَى الْجِهَادِ دَرَجَةً عَالِيَةً (فَسَلُوهُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلِ ; أَيْ: فَاطْلُبُوا مِنْهُ (الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ) : أَيِ الْفِرْدَوْسَ (أَوْسَطُ الْجَنَّةِ) : أَيْ أَعْدَلُهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَوْسَعُهَا وَخَيْرُهَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (وَأَعْلَى الْجَنَّةِ)، قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ كُرِّيَّةٌ، فَإِنَّ الْوَسَطَ لَا يَكُونُ أَعْلَى إِلَّا إِذَا كَانَ كُرِّيًّا. قَالَ الطِّيبِيُّ: النُّكْتَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَوْسَطِ أَنَّهُ أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا الْحِسِّيَّ وَبِالْآخَرِ الْمَعْنَوِيَّ، فَإِنَّ وَسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُهُ وَخِيَارُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ، وَالْأَوْسَاطَ مَحْمِيَّةٌ مَحْفُوظَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ، فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرْفًا. (وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) ، فَهُوَ سَقْفُ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَفَوْقَ بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِضَمِّ الْقَافِ ; أَيْ أَعْلَاهُ، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ. (وَمِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْفِرْدَوْسِ (تُفَجَّرُ) : أَيْ تَتَفَجَّرُ (أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) . ; أَيْ أُصُولُ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا؟ قُلْتُ: هُوَ مُطْلَقٌ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، أَوْ تَفْسِيرٌ لِلْمُجَاهِدِينَ بِالْعُمُومِ دَرَجَةً وَالدَّرَجَاتُ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْجِهَادِ، فَيَكُونُ الْفِرْدَوْسُ لِمَنْ جَاهَدَ حَقَّ جِهَادِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تُجْرَى الدَّرَجَاتُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَحْسُوسًا كَمَا جَاءَ فِي أَهْلِ الْغُرَفِ أَنَّهُمْ يُتَرَاءَوْنَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَأَنْ تُجْرَى عَلَى الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ النَّعِيمِ وَعَظِيمُ الْإِحْسَانِ مِمَّا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2454

3788 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3788 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» ) : أَيْ بِالصَّلَاةِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْوَاقِفُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْقَاعِدِ (الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ) ; أَيِ الْقَارِئِ بِهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمُرَادُ بِهِ الْقَارِئُ لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْقُنُوتُ فِي الْحَدِيثِ يَرِدُ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ وَطُولِ الْقِيَامِ وَالسُّكُوتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هُنَا بِالْقَانِتِ الْقَائِمُ، فَيَكُونُ تَعَلُّقُ الْبَاءِ بِهِ كَتَعَلُّقِهِ فِي قَوْلِكَ: قَامَ بِالْأَمْرِ إِذَا جَدَّ فِيهِ وَتَجَلَّدَ لَهُ، فَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ طُولُ الْقِيَامِ فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْقَائِمِ ; أَيِ الْمُصَلِّي الَّذِي يَطُولُ قِيَامُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَكْثُرُ قِرَاءَتُهُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي قَوْلُهُ:(لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ) . وَيَفْتُرُ كَيَنْصُرُ ; أَيْ: لَا يَسْأَمُ وَلَا يَمَلُّ مِنَ الْعِبَادَةِ (حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . أَيْ: إِلَى بَيْتِهِ، أَوْ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْ جِهَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فِيمَا شُبِّهَتْ حَالُ الْمُجَاهِدِ بِحَالِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ؟ قُلْتُ: فِي نَيْلِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ مَنْ لَا يَفْتُرُ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مِنْ صِيَامِهِ وَصَلَاتِهِ، شَبَّهَ الْمُجَاهِدَ الَّذِي لَا يُضَيِّعُ لَمْحَةً مِنْ لَمَحَاتِهِ مِنْ أَجْرٍ وَثَوَابٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ نَائِمًا يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ أَمْ لَا. بِالصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، فَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي الْمُشَبَّهُ بِهِ مَفْرُوضٌ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] الْآيَتَيْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ " لَا تَسْتَطِيعُونَهُ ". فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: " لَا تَسْتَطِيعُونَهُ ".، ثُمَّ قَالَ: " مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَلَا صِيَامِهِ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ص: 2455

3789 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي ; أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3789 -

(وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْتَدَبَ اللَّهُ) : أَيْ ضَمِنَ (لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ) : أَيِ الْجِهَادِ (لَا يُخْرِجُهُ) : أَيْ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ بَاعِثُ خُرُوجِهِ (إِلَّا ; إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي) ، فِيهِ الْتِفَاتٌ وَفِي جَمْعِ الرُّسُلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَصْدِيقَ وَاحِدٍ تَصْدِيقٌ لِلْكُلِّ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِهِ فَإِنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ (أَنْ أَرْجِعَهُ) : بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ جِيمٍ ; أَيْ أَرُدَّهُ (بِمَا نَالَ) : أَيْ أَدْرَكَ (مَنْ أَجْرٍ) : أَيْ فَقَطْ إِنْ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا (أَوْ غَنِيمَةٍ) ; أَيْ مَعَهَا أَجْرٌ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ:(أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)، عَطْفًا عَلَى أَرْجِعَهُ ; أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَفِي النِّهَايَةِ: انْتَدَبَ اللَّهُ ; أَيْ أَجَابَهُ إِلَى غُفْرَانِهِ، يُقَالُ: نَدَبْتُهُ فَانْتَدَبَ ; أَيْ بَغَيْتُهُ وَدَعَوْتُهُ، فَأَجَابَ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ تَضَمَّنَ اللَّهُ، وَفِي بَعْضِهَا تَكَفَّلَ اللَّهُ، وَكِلَاهَا أَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: انْتَدَبَ اللَّهُ وَكُلُّ ذَلِكَ صِحَاحٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: أَنْ أَرْجِعَ مُتَعَلِّقٌ بِانْتَدَبَ بِحِرَفِ الْجَارِّ عَلَى تَضْمِينِ تَكَفَّلَ ; أَيْ: تَكَفَّلَ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعَهُ، فَأَرْجِعَهُ حِكَايَةُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ انْتَدَبَ اشْبَهُ وَأَبْلَغُ، وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِدَعْوَةِ الدَّاعِي مِثْلَ صُورَةِ خُرُوجِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالدَّاعِي الَّذِي يَدْعُو لِلَّهِ، وَيَنْدِبُهُ لِنُصْرَتِهِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ وَقَهْرِهِ أَحْزَابَ الشَّيَاطِينِ، وَنَيْلِ أُجُورِهِ وَالْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَكَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي لَا غَرَضَ لَهُ فِي جِهَادِهِ سِوَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَصْلَةٍ يَنَالُ

ص: 2455

بِهَا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى تَعَرَّضَ بِجِهَادِهِ لِطَلَبِ النَّصْرِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِبُغْيَتِهِ وَوَعَدَ لَهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا السَّلَامَةَ وَالرُّجُوعَ بِالْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ. وَإِمَّا الْوَصْلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْفَوْزَ بِمَرْتَبَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَوْلُهُ:(بِمَا نَالَ) عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي ; وَارِدٌ عَلَى تَحَقُّقِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُصُولِهِ، وَقَوْلُهُ:(إِلَّا ; إِيمَانٌ بِي) بِالرَّفْعِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ:(إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا) بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ ; أَيْ: لَا يُخْرِجُهُ مُخْرِجٌ وَلَا يُحَرِّكُهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمَّ عَامَّ الْفَاعِلِ ; أَيْ لَا يُخْرِجُهُ مُخْرِجٌ وَلَا يُحَرِّكُهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا إِيمَانٌ وَتَصْدِيقٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمَّ عَامَّ الْمَفْعُولِ لَهُ ; أَيْ: لَا يُخْرِجُهُ الْمُخْرِجُ وَلَا يُحَرِّكُهُ الْمُحَرِّكُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِلْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ ; أَيِ انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ قَائِلًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي. قُلْتُ: فَالْجُمْلَةُ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَهُوَ حَالٌ عَنِ اللَّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَقَلَ كَلَامَهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِالْمَعْنَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَقْلِ نَظْمِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْتَدَبْتُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِي إِلَخْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوْفَقُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا إِذْ لَوْ قِيلَ لَا إِيمَانَ بِهِ لَكَانَ مُجْرًى عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَعُدِلَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْمُخْرِجِ وَمَزِيدًا لِاخْتِصَاصِهِ وَقُرْبِهِ، وَالْجَارُّ مِنْ أَنْ أَرْجِعَهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِأَنْ قَالَ: إِمَّا أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرْوَى، أَوْ غَنِيمَةٍ وَهُوَ لَفْظُ الْكِتَابِ، وَيُرْوَى بِالْوَاوِ وَهُوَ أَوْجَهُ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَسَدُّهُمَا مَعْنًى. قُلْتُ: فِيهِ بَحَثٌ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَهِيَ قَدْ تَحْصُلُ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ، فَالرِّوَايَةُ بَأَوْ هِيَ الْأَصْلُ وَالْأَوْلَى، وَتُحْمَلُ الْوَاوُ عَلَى مَعْنَاهَا لِيَتِمَّ الْمَعْنَى عَلَى الْمَبْنَى، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِلَا غَنِيمَةٍ إِنْ لَمْ يَغْنَمُوا، أَوْ مَعَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا إِنْ غَنِمُوا، وَقِيلَ: إِنَّ (أَوْ) هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ ; أَيْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ إِذْ وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى.

قَالَ الطِّيبِيُّ: (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] كَذَا ذَكَرَهُ الْقُتَيْبِيُّ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إِيرَادِهِ هَاهُنَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ ; أَيْضًا إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُلْقِيَاتِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَوْ غَنِيمَةٍ عَطْفٌ عَلَى أَجْرٍ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى أَرْجِعَهُ فَيَكُونُ صِلَةَ أَنْ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ الْخَارِجَ فِي سَبِيلِهِ إِمَّا بِأَنْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ أَجْرٍ بِلَا غَنِيمَةٍ، أَوْ أَجْرٍ مَعَ غَنِيمَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَدَ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُدْخِلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وَأَنْ يُرَادَ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُكَفِّرَةً لِذُنُوبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2456

3790 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ; مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3790 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا) : أَيْ فُقَرَاءَ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ) : أَيْ لَا تَرْضَى (أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي) ، لِعَدَمِ مَرْكُوبِهِمْ (وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ) : أَيْ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ (تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ)، بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ تَمَنَّيْتُ (أَنْ أُقْتَلَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ ; أَيْ أُسْتَشْهَدَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْإِحْيَاءِ (ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا) ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (ثُمَّ أُقْتَلَ) . وَفِي تَرْكِهِ، ثُمَّ أُحْيَا مُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ لَا تَخْفَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنَ الْعَيْنِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ إِذْ قَدْ يَصِيرُ عَيْنًا، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ مَا يَخْتَارُهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ يَعْنِي الَّذِينَ لَا مَرْكُوبَ لَهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصَالِحُ يُؤْثَرُ أَهَمُّهَا اه. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا التَّمَنِّي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2456

3791 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3791 -

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنه ; أَيِ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ) . وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا فِيهَا ; أَيْ مِنَ الْمَالِ الْمُنْفَقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَزَاؤُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَ (لَرِبَاطٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ هُوَ الْإِقَامَةُ فِي مَكَانٍ يُتَوَقَّعُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهِ لِقَصْدِ دَفْعِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَزَادَ الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ:" «وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ، أَوِ الْغَدْوَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عُثْمَانَ وَلَفْظُهُ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " «رِبَاطُ شَهْرٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ دَهْرٍ، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَغُدِيَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ وَرِيحٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُجْرَى عَلَيْهِ أَجْرُ الْمُرَابِطِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ» ".

ص: 2457

3792 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3792 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَغَدْوَةٌ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ ; أَيْ ذَهَابٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: ذَهَابٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (خَيْرٌ) : أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا (مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ، أَوِ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى فَضْلُ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا ; لِأَنَّهَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعَمُ الْآخِرَةُ كَامِلَةٌ بَاقِيَةٌ، وَمُحْتَمَلٌ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:" «وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ، أَوْ مَوْضِعُ قِدِّهِ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَالْقِدُّ بِالْكَسْرِ وَتَرُ الْقَوْسِ، وَالنَّصِيفُ الْخِمَارُ نِصْفَ الْمُقَنَّعَةِ.

ص: 2457

3793 -

وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3793 -

(وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه : بِكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ» )، فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: الرِّبَاطُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ مُلَازَمَةُ الْمَكَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: الرِّبَاطُ الْمُرَابَطَةُ، وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِهِمْ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُعِدًّا لِصَاحِبِهِ مُتَرَصِّدًا لِمَقْصِدِهِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا، فَأُطْلِقَتْ عَلَى رَبْطِ الْخَيْلِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِغَزْوِ الْعَدُوِّ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ اه. وَكَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] الْآيَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:" «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوَثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". وَفِي النِّهَايَةِ: الرِّبَاطُ فِي الْأَصْلِ الْإِقَامَةُ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ بِالْحَرْبِ وَارْتِبَاطُ الْخَيْلِ وَإِعْدَادُهَا، وَالْمُرَابَطَةُ أَنْ يَرْبِطَ الْفَرِيقَانِ خُيُولَهُمْ فِي ثَغْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُعِدًّا لِصَاحِبِهِ، وَسُمِّيَ الْمَقَامُ فِي الثُّغُورِ رِبَاطًا، فَيَكُونُ الرِّبَاطُ مَصْدَرَ رَابَطْتُ ; أَيْ لَازَمْتُ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثَّغْرِ لِلْجِهَادِ، وَأَصْلُهُ الْحَبْسُ ; كَأَنَّ الْمُرَابِطَ حَبَسَ نَفْسَهُ

ص: 2457

فِيهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالثَّغْرُ مَا يَلِي دَارَ الْعَدُوِّ. (وَإِنْ مَاتَ) : أَيِ الْمُرَابِطُ بِدَلَالَةِ الرِّبَاطِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ) : أَيْ ثَوَابُ عَمَلِهِ (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ) : أَيْ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِهِ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ فَضِيلَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرَابِطِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ:«كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُوصِلَ إِلَيْهِ (رِزْقُهُ) ; أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ كَقَوْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ; أَيْ: يُقَدَّرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَرَى مِنْهُ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَجَرَى هُنَا. بِمَعْنَى قُدِّرَ، وَنَحْوُهُ فِي الْمَرِيضِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا» ". قُلْتُ: وَكَذَا وَرَدَ فِي الْمُسَافِرِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ. قَالَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ " تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرْزَقُونَ) أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) . بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ ; أَيْ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَتَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، أَوِ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: الشَّيْطَانَ فَإِنَّهُ يَفْتِنُ النَّاسَ بِخَدْعِهِ إِيَّاهُمْ وَبِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي لَهُمْ. وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ.

وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَيُرْوَى الْفُتَّانُ جَمْعُ فَاتِنٍ ; أَيْ نَارٌ مُحْرِقَةٌ، أَوِ الزَّبَانِيَةُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ الْكُفَّارَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثَّانِي أُومِنَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَالْفُتَّانُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاءِ جَمْعُ فَاتِنٍ، وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بِالْفَتْحِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَأُمِنَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا رُوِيَ بِالْفَتْحِ فَالْوَجْهُ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" فَيُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ " وَإِنْ رُوِيَ بِالضَّمِّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفِتَنِ بَعْدَ الْإِقْبَارِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّعْذِيبِ فِي الْقَبْرِ، وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِ ثِقَاتٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ " «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» " وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ:" وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ " وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وَنَفَقَتُهُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» ". وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَفِي النَّوَازِلِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِسْلَامٌ ; لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُرَابِطُونَ، وَيُؤَيِّدُهَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنهما، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام:" «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تبارك وتعالى مُتَطَوِّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] » . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، لَكِنْ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا سِوَى الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلِتُخْتَمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» " زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " «وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَعَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثُ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٌ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ) .

ص: 2458

3794 -

وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3794 -

(وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ رضي الله عنه : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ. هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ) : وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ: اغْبَرَّتَا، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَالْمَعْنَى صَارَتَا ذَاتَيْ غُبَارٍ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ سَبِيلٍ يُطْلَبُ فِيهِ رِضَاهُ،

ص: 2458

فَيَتَنَاوَلُ سَبِيلَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَحُضُورِ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَشُهُودِ جِنَازَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْجِهَادِ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْحَجِّ لِخَبَرِ: إِنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ، وَمِنْ هُنَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مَصْرُوفِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] هَلْ هُوَ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، أَوْ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. (فَتَمَسَّهُ النَّارُ) : بِنَصْبِ تَمَسَّهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُ ; أَيْ: إِنَّ الْمَسَّ مُنْتَفٍ بِوُجُودِ الْغُبَارِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ عَدَمِ الِاغْبِرَارِ ; أَيْ عَدَمِ الْجِهَادِ فِيمَا إِذَا كَانَ فَرْضُ عَيْنٍ سَبَبٌ لِلْمَسِّ ; لِأَنَّ سَبَبِيَّةَ الْكُلِّ تَسْتَلْزِمُ سَبَبِيَّةَ الْجُزْءِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ ; أَيْ لَيْسَ فِي شَأْنِ الْمُجَاهِدِ سَبَبٌ لِلْمَسِّ إِلَّا أَنْ يُفْرَضَ أَنَّ جِهَادَهُ سَبَبٌ لَهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَهُ، فَالِاغْبِرَارُ لَيْسَ سَبَبًا لَهُ. قَالَ الْبَرْمَاوِيُّ: أَيْ أَنَّ الِاغْبِرَارَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الْمَسُّ مُنْتَفٍ بِانْتِفَاءِ الْمَسِّ فَقَطْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: فَتَمَسَّهُ النَّارُ مُسَبَّبٌ عَنْ قَوْلِهِ: اغْبَرَّتْ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْقَبِيلَيْنِ مَعًا، وَفَائِدَتُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِ مُحَالٌ حُصُولُهُ، فَإِذَا كَانَ مَسُّ الْغُبَارِ قَدَمَيْهِ دَافِعًا لِمَسِّ النَّارِ إِيَّاهُ، فَكَيْفَ إِذَا سَعَى فِيهَا وَاسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ، وَأَلْقَى النَّفْسَ النَّفِيسَ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِهِ فَقَتَلَ وَقُتِلَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 2459

3795 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3795 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ» ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَتَلَ كَافِرًا فِي الْجِهَادِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ عِقَابُهُ بِغَيْرِ النَّارِ، أَوْ يُعَاقَبَ فِي غَيْرِ مَكَانِ عِقَابِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِدْرَاكِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ نَفَى الِاجْتِمَاعَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمُجَاهِدُ النَّارَ أَبَدًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا لَسَاوَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: أَبَدًا بِمَعْنَى قَطُّ فِي الْمَاضِي، وَعِوَضٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي. الْجَوْهَرِيُّ، يُقَالُ: لَا أَفْعَلُهُ أَبَدَ الْأَبَدِ وَأَبَدَ الْآبِدِينَ كَمَا يُقَالُ: دَهْرَ الدَّاهِرِينَ وَعِوَضَ الْعَائِضِينَ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّهُ تَرْغِيبٌ فِي الْجِهَادِ وَحَثٌّ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ:«مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

ص: 2459

3796 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً، أَوْ فَزْعَةً، طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ ; لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3796 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) : قَالَ الْقَاضِي: الْمَعَاشُ الْمُتَعَيَّشُ بِهِ يُقَالُ: عَاشَ الرَّجُلُ مَعَاشًا وَمَعِيشًا وَمَا يُعَاشُ بِهِ، فَيُقَالُ لَهُ مَعَاشٌ وَمُعِيشٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِمَا ; أَيْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَرَجُلٌ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ; أَيْ مَعَاشِ رَجُلٍ هَذَا شَأْنُهُ مِنْ خَيْرِ مَعَاشِهِمُ النَّافِعِ لَهُمْ. (يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ) : أَيْ يُسْرِعُ رَاكِبًا عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَيَرَانِ الطَّائِرِ (كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً) : بِفَتْحِ هَاءٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ ; أَيْ صَيْحَةً يَفْزَعُ مِنْهَا وَيَجْبُنُ، مِنْ: هَاعَ يَهِيعُ إِذَا جَبُنَ (أَوْ فَزْعَةً) : أَيْ مَرَّةً مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَزْعَةُ فُسِّرَ هُنَا بِالِاسْتِغَاثَةِ مِنْ فَزِعَ إِذَا اسْتَغَاثَ، وَأَصْلُ الْفَزَعِ شِدَّةُ الْخَوْفِ (وَطَارَ عَلَيْهِ) : أَيْ أَسْرَعَ رَاكِبًا عَلَى فَرَسِهِ طَائِرًا إِلَى الْهَيْعَةِ، أَوِ الْفَزْعَةِ (يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ) ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفُ يَبْتَغِي وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحَالِهِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ طَارَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يُبَالِي وَلَا يَحْتَرِزُ مِنْهُ، بَلْ يَطْلُبُهُ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَظَانِّهِ جَمْعُ مَظِنَّةٍ، وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْهَدُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَيُظَنُّ أَنَّهُ فِيهِ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي مَظَانِّهِ إِمَّا لِأَنَّهُ الْحَاصِلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا وَاحِدٌ، أَوْ لِأَنَّهُ اكْتَفَى بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ، كَمَا اكْتَفَى بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (

ص: 2459

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قُلْتُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَأَوْ فَإِفْرَادُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ لِتَجْتَمِعَ الرِّوَايَاتُ. (أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ) : أَيْ فِي مَعَاشِهِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إِنْ جُعِلَ مَصْدَرًا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، وَغُنَيْمَةٌ تَصْغِيرُ غُنْمٍ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيُّ، وَلِذَلِكَ صُغِّرَتْ بِالتَّاءِ، وَالْمُرَادُ قِطْعَةُ غُنْمٍ (فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) . بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ رَأْسِ جَبَلٍ (مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ)، يُرِيدُ بِهِ الْجَنْيَ لَا الْعَهْدَ (أَوْ بَطْنِ وَادٍ) : أَيْ فِي بَطْنِ وَادٍ (مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ) : أَيْ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ (وَيَعْبُدُ رَبَّهُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ) ; أَيِ الْمَوْتُ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَوْتُ يَقِينٌ يُشْبِهُ الشَّكَّ (لَيْسَ) : أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، أَوِ الثَّانِي، وَهُوَ أَقْرَبُ (مِنَ النَّاسِ) : أَيْ مِنْ أُمُورِهِمْ (إِلَّا فِي خَيْرٍ) ; أَيْ فِي أَمْرِ خَيْرٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: هَذِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّحْقِيرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] وَمِنْ ثَمَّ صَغَّرَ غُنَيْمَةً وَصْفًا لِقَنَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَسْكُنُ فِي أَحْقَرِ مَكَانٍ، وَيَجْتَزِئُ بِأَدْنَى قُوتٍ وَيَعْتَزِلُ النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَسْتَكْفِي شَرَّهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ حَتَّى يَجِيئَهُ الْمَوْتُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ بِالْيَقِينِ لِيَكُونَ نَصْبَ عَيْنِهِ مَزِيدًا لِلتَّسَلِّي، فَإِنَّ فِي ذِكْرِهَا ذَمَّ اللَّذَّاتِ مَا يُعْرِضُهُ عَنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا وَيَشْغَلُهُ مِنْ مَلَاذِّهَا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ سَلَّى حَبِيبَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حِينَ لَقِيَ مَا لَقِيَ عَنْ أَذَى الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَةِ عَلَى الْخُلْطَةِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنِ الْفِتَنِ، وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنَ الزُّهَّادِ أَنَّ الِاعْتِزَالَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ، أَوْ فِيمَنْ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ مُخْتَلِطِينَ، وَيُحَصِّلُونَ مَنَافِعَ الِاخْتِلَاطِ بِشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَحِلَقِ الذَّكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ ذِكْرِ الْمَعَاشِ تَلْمِيحٌ، فَإِنَّ الْعَيْشَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ أَنْبَاءِ الدَّهْرِ هُوَ اسْتِيفَاءُ اللَّذَّاتِ وَالِانْهِمَاكُ فِي الشَّهَوَاتِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْمُهْلِكَةَ بِالْمَفَازَةِ وَالْمَنْجَاةِ وَاللَّدِيغُ بِالسَّلِيمِ، وَتَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» " وَفِيهِ أَنْ لَا عَيْشَ أَلَذُّ وَأَمَرُّ، أَوْ أَشْهَى وَأَهْنَأُ مِمَّا يَجِدُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَيْهَا حَتَّى يَرْفَعَ تَكَالِيفَهَا وَمَشَاقَّهَا عَنْهُ، بَلْ إِذَا فَقَدَ مَا كَانَ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِمَّا إِذَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" أَرِحْنَا يَا بِلَالُ " وَقَوْلُهُ: " «وَجَعَلَ قُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " وَتَعْرِيضٌ بِذَمِّ عَيْشِ الدُّنْيَا، وَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَعَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2460

3797 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ ; فَقَدْ غَزَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3797 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ جَهَّزَ) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ (غَازِيًا) ; أَيْ هَيَّأَ أَسْبَابَ سَفَرِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ فِي الْجِهَادِ (فَقَدْ غَزَا) ; أَيْ حُكْمًا وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ الْغَزَاةِ (وَمَنْ خَلَفَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ (غَازِيًا) : أَيْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَهُ وَصَارَ خَلَفًا لَهُ بِرِعَايَةِ أُمُورِهِ (فِي أَهْلِهِ ; فَقَدْ غَزَا) . قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِي إِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَمُحَافَظَةِ أَمْرِهِمْ ; أَيْ: مَنْ تَوَلَّى أَمْرَ الْغَازِي.

ص: 2460

وَنَابَ مَنَابَهُ فِي مُرَاعَاةِ أَهْلِهِ زَمَانَ غَيْبَتِهِ شَارَكَهُ فِي الثَّوَابِ ; لِأَنَّ فَرَاغَ الْغَازِي لَهُ وَاشْتِغَالَهُ بِهِ بِسَبَبِ قِيَامِهِ بِأَمْرِ عِيَالِهِ، فَكَأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:" «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حَتَّى يَسْتَقِلَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يَرْجِعَ» ".

ص: 2461

3798 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ ; إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ؟» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3798 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ» )، مُبَالَغَةٌ فِي اجْتِنَابِ نِسَائِهِمْ وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِهِنَّ (وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ) : بِضَمِّ اللَّامِ ; أَيْ يَعْقُبُ (رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ) : أَيِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ، أَوْ قَرَابَتِهِ فِي بَيْتِهِ (فَيَخُونُهُ فَهُمْ) ; أَيْ فَيَخُونُ الرَّجُلَ فِيهِنَّ وَأَهْلِهِنَّ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ عَائِدٌ إِلَى (رَجُلًا)، وَفِي (فِيهِمْ) إِلَى الْأَهْلِ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِنَّ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمَتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

وَإِنَّهُنَّ مِمَّنْ يَجِبُ مُرَاعَاتُهُنَّ وَتَوْقِيرُهُنَّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:" كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ "(إِلَّا وُقِفَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْوُقُوفِ ; أَيْ جُعِلَ الْخَائِنُ (وَاقِفًا لَهُ) : أَيْ لِلرَّجُلِ، وَلِأَجْلِ مَا فَعَلَ مِنْ سُوءِ الْخِلَافَةِ لِلْغَازِي (فِي أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قِيلَ لَهُ قَدْ خَلَفَكَ فِي أَهْلِكَ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ (فَيَأْخُذُ) : أَيِ الرَّجُلُ (مِنْ عَمَلِهِ) : أَيِ أَعْمَالِ الْخَائِنِ (مَا شَاءَ) ; أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا شَاءَ مِنْ عَمَلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْغَازِي (فَمَا ظَنُّكُمْ) ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ فَمَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَةِ الْمُجَاهِدِ فِي أَخْذِ حَسَنَاتِهِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ؟ ; أَيْ لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا أَخَذَهُ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ ; أَيْ: مَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ مَعَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ؟ هَلْ تَشُكُّونَ فِي هَذِهِ الْمُجَازَاةِ أَمْ لَا؟ يَعْنِي فَإِذَا عَلِمْتُمْ صِدْقَ مَا أَقُولُ فَاحْذَرُوا مِنَ الْخِيَانَةِ فِي نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَخَصَّهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 2461

3799 -

وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3799 -

(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه : مَرُّ ذِكْرُهُ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ) : أَيْ فِيهَا خِطَامٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الزِّمَامِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: خِطَامُ الْبَعِيرِ أَنْ يُؤْخَذَ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ، أَوْ شَعْرٍ، أَوْ كَتَّانٍ، فَيُجْعَلَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ حَلْقَهٌ، ثُمَّ يُشَدُّ بِهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ حَتَّى يَصِيرَ كَالْحَلْقَةِ، ثُمَّ يُقَلَّدُ الْبَعِيرُ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى مَخْطِمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْأَنْفِ دَقِيقًا فَهُوَ الزِّمَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَا زِمَامَ أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ عُبَّادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَفْعَلُونَهُ مِنْ زَمِّ الْأُنُوفِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرَقَ الْأَنْفُ وَيُعْمَلَ فِيهِ زِمَامٌ كَزِمَامِ النَّاقَةِ لِتُقَادَ بِهِ، وَالْخَطْمُ الْأَنْفُ وَالْخِطَامُ كَكِتَابٍ الَّذِي يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ، وَخَطَمَ الْبَعِيرَ وَضَعَ الْخِطَامَ فِي رَأْسِهِ. (فَقَالَ: هَذِهِ) : أَيْ صَدَقَةٌ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ سَبْعَمِائَةِ نَاقَةٍ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ بِهَا سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ يَرْكَبُهَا حَيْثُ شَاءَ لِلتَّنَزُّهِ، كَمَا جَاءَ فِي خَيْلِ الْجَنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.

ص: 2461

3800 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ. فَقَالَ: " لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَالْأَخَرُ بَيْنَهُمَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3800 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا) : أَيْ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ جَيْشًا (إِلَى بَنِي لِحْيَانَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا (مِنْ هُذَيْلٍ) : بِالتَّصْغِيرِ ; أَيْ لِيَغْزُوَهُمْ (فَقَالَ: لِيَنْبَعِثْ) : أَيْ لِيَنْتَهِضْ إِلَى الْعَدُوِّ (مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا) : بِأَنْ يَتَخَلَّفَ الْآخَرُ عَنْ صَاحِبِهِ لِمَصَالِحِهِ (وَالْأَجْرُ) : أَيْ ثَوَابُ الْغَزْوِ (بَيْنَهُمَا) : أَيْ بَيْنَ الْغَازِي وَالْقَاعِدِ الْمُقِيمِ الْقَائِمِ فِي أَهْلِ الْغَازِي بِأُمُورِهِمْ، وَالْمَعْنَى: لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ نِصْفُ عَدَدِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2462

3801 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3801 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَنْ يَبْرَحَ) : أَيْ لَا يَزَالُ (هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ ; أَيْ يُجَاهِدُ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الدِّينِ (عِصَابَةٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ جَمَاعَةٌ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وَالْمَعْنَى لَا يَخْلُو وَجْهُ الْأَرْضِ مِنَ الْجِهَادِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ يَكُونُ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) : يَقْرُبَ قِيَامُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةُ يُقَاتِلُ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَعَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يُظَاهِرُ ; أَيْ يُظَاهِرُونَ بِالْمُقَاتَلَةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ يَعْنِي: إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِسَبَبِ مُقَاتَلَةِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَمَا أَظُنُّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ إِلَّا الْفِئَةَ الْمَنْصُورَةَ بِالشَّامِ، وَفِي نُسَخِهٍ زِيَادَةُ بِالْمَغْرِبِ قُلْتُ: وَالْأَغْلَبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالرُّومِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. قُلْتُ: فِيهِ بَحَثٌ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَغْرِبِ ; أَيْضًا وَغَيْرَهُمْ يُحَارِبُونَ الْكُفَّارَ ; أَيَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْجَمَاعَةُ الْمُجَاهِدَةُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِنَّ فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ; أَيْضًا طَائِفَةٌ يُقَاتِلُونَ الْكَفَرَةَ قَوَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَزَى الْمُجَاهِدِينَ عَنَّا خَيْرًا حَيْثُ قَامُوا بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَأُعْطُوا التَّوْفِيقَ وَالْعِنَايَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمْ يَزَلْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْآنَ، وَلَا يَزَالُ حَتَّى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى اه. وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَإِنَّا مَأْمُورُونَ وُجُوبًا أَنْ نَحْفَظَ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : كَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ:" «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَدِيثُ:" «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَحَدِيثُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ، نَعَمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ شَامِلَةٌ لِلْعُلَمَاءِ أَيْضًا حَتَّى قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2462

3802 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُكَلَّمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3802 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يُكَلَّمُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْكَلِمِ وَهُوَ الْجُرْحُ ; أَيْ يُجْرَحُ (أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيْ سَوَاءٌ مَاتَ صَاحِبُهُ مِنْهُ أَمْ لَا. كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ( «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ» ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُؤَكِّدَةً مُقَرِّرَةً لِمَعْنَى الْمُعْتَرَضِ فِيهِ، وَتَفْخِيمِ شَأْنِ مَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِهِ، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِظَمِ شَأْنِ مَنْ يُكَلَّمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْ أَمِّ مَرْيَمَ تَعْظِيمًا لِمَوْضُوعِهَا وَتَجْهِيلًا لَهَا بِقَدْرِ مَا وُهِبَ لَهَا، وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي وَضَعَتْ، وَمَا عَلَّقَ بِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَتْمِيمًا لِلصِّيَانَةِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.

ص: 2462

قُلْتُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الْأَوَّلُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى كَوْنُهُ تَنْظِيرًا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وُضِعَتْ بِصِيغَةِ الْغَائِبَةِ لَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ، وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَصَ فِيهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ جُرِحَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (يَثْعَبُ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَةٍ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ; أَيْ يَجْرِي مُنْفَجِرًا ; أَيْ كَثِيرًا، وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَتَفَجَّرُ (دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ) : وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَوْنُ دَمٍ (وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي مَجِيئِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدٌ فِي فَضِيلَتِهِ وَبَذَلِ نَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ثَعَبْتُ الْمَاءَ فَجَّرَتُهُ فَانْثَعَبَ، إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْجُرْحِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي فَجْرِ الدَّمِ وَدَمًا يَكُونُ مَفْعُولًا، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: يَنْثَعِبُ دَمًا، أَوْ يُثْعَبُ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَلَمْ أَجِدْهُ رِوَايَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجِيئُهُ مُتَعَدِّيًا نُقِلَ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنَّهُ لَازِمٌ حَيْثُ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَجْرِي، وَلِأَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَجُرْحُهُ يَشْخُبُ دَمًا، وَالشَّخْبُ السَّيَلَانُ، وَقَدْ شَخَبَ يَشْخُبُ وَيَشْخَبُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الدَّمْعَ يَفِيضُ مِنَ الْعَيْنِ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ فَائِضَةً مُبَالَغَةً، وَكَذَلِكَ الدَّمُ السَّائِلُ مِنَ الْجُرْحِ لَا الْجُرْحُ سَائِلٌ اه. وَيُؤَيِّدُ الشَّيْخَ مَا فِي الْقَامُوسِ: ثَعَبَ الْمَاءَ وَالدَّمَ ; أَيْ كَمَنَعَ فَجَّرَهُ فَانْثَعَبَ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ التَّاجِ أَنَّهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، كَذَا فِي دُسْتُورِ اللُّغَةِ: ثَعَبَ الدَّمُ ; أَيْ سَالَ وَأَسَالَ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ: ثَعَبَ تَفَجَّرَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَثْعَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَجِيئِهِ لَازِمًا، وَأَمَّا حَدِيثُ يَشْخَبُ فَغَيْرُ حُجَّةٍ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 2463

3803 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3803 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ) : أَيْ يَصِيرَ (إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ) : فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَنَّ لَهُ (مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَازَ كَوْنُهُ عَظِيمًا عَلَى أَنْ يُرْجَعَ ; أَيْ مَا يُحِبُّ أَنْ يُرْجَعَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُهُ حَالًا ; أَيْ: لَا يُحِبُّ الرُّجُوعَ حَالَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِكَثِيرٍ مِنْ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا وَالْبَسَاتِينِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرِّقَابِ اه. وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي، وَأَنَّ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَا فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ (إِلَّا الشَّهِيدُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَّلٌ مِنْ أَحَدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (يَتَمَنَّى) : أَيْ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى (أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ (لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) : أَيْ كَرَامَةَ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَنَّى شَيْئًا مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا إِلَّا الشَّهَادَةَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْهَا فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 2463

3804 -

وَعَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ:«سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الْآيَةَ. قَالَ: إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبُّ! نُرِيدُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3804 -

(وَعَنْ مَسْرُوقٍ رضي الله عنه : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ) بِالْخِطَابِ وَفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَفِي رِوَايَةٍ بِالْغَيْبَةِ وَفَتَحِ السِّينِ (الَّذِينَ قُتِلُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْقَتْلِ وَفِي قِرَاءَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]

ص: 2463

وَفِي نُسْخَةٍ: (الْآيَةَ، قَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا) : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ (عَنْ ذَلِكَ) : أَيْ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ. (فَقَالَ) : يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَسْئُولُ وَالْمُجِيبُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَفِي فَقَالَ ضَمِيرٌ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْحَالِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ حَالُ الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ وَاسْتِكْشَافُهُ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا سِيَّمَا فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَمَا هِيَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ، فَإِنَّهُ غَيْبٌ صِرْفٌ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَلِكَوْنِهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ التَّعْيِينِ أُضْمِرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ ذِكْرُهُ.

قُلْتُ: أَيْضًا: جَلَالَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَأْبَيْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَهُ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: (أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ) : أَيْ يُخْلَقُ لِأَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ مَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهُمْ هَيَاكِلُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَتَكُونُ خَلَفًا عَنْ أَبْدَانِهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى نَيْلِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ اللَّذَائِذِ الْحِسِّيَّةِ، وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170] وَالطَّيْرُ جَمْعُ طَائِرٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَخُضْرٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَخْضَرَ (لَهَا) : أَيْ لِلطَّيْرِ، أَوْ لِلْأَرْوَاحِ (قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ) : بِمَنْزِلَةِ أَوْكَارِ الطَّيْرِ (تَسْرَحُ) : أَيْ تَسِيرُ وَتَرْعَى وَتَتَنَاوَلُ (مِنَ الْجَنَّةِ) : أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا (حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي) : أَيْ تَرْجِعُ (إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ) : أَيْ فَسَتُقِرُّ فِيهَا، ثُمَّ تَسْرَحُ، وَهَكَذَا (فَاطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ ; أَيْ نَظَرَ (إِلَيْهِمْ) : وَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ (رَبُّهُمْ) : وَإِنَّمَا قَالَ (اطِّلَاعَةً) : لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ اطِّلَاعِنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَدَّاهُ بِإِلَى، وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ. (فَقَالَ) : أَيْ رَبُّهُمْ ( «هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا» : يَعْنِي: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] (فَفَعَلَ) : أَيْ رَبُّهُمْ (ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الِاطِّلَاعِ وَالْقَوْلِ لَهُمْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : قَالَ الْقَاضِي: اطِّلَاعُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِفْهَامُهُ عَمَّا يَشْتَهُونَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَجَازٌ عَنْ مَزِيدِ تَلَطُّفِهِ بِهِمْ وَتَضَاعُفِ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ هِيَ أَحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، (فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ ; أَيْ لَنْ يَخْلُوَا (مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَنْ يَسْأَلُوا بَدَلٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ يُتْرَكُوا ; أَيْ: لَنْ يُتْرَكَ سُؤَالُهُمْ (قَالُوا «يَا رَبُّ! نُرِيدُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا» ) : أَيِ الْأَوَّلِيَّةِ (حَتَّى نُقْتَلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ نُسْتَشْهَدَ (فِي سَبِيلِكِ مَرَّةً أُخْرَى؟) : قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَمَنًّى وَلَا مَطْلَبٌ أَصْلًا غَيْرَ أَنْ يُرْجَعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَيُسْتَشْهَدُوا ثَانِيًا لِمَا رَأَوْا بِسَبَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ (فَلَمَّا رَأَى) : أَيْ عَلِمَ اللَّهُ عِلْمًا تَنْجِيزِيًّا مُطَابِقًا لِمَا عَلِمَ عِلْمًا غَيْبِيًّا تَعْلِيقِيًّا (أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ) : أَيْ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ; لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا هُوَ خِلَافُ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (تُرِكُوا) : أَيْ مِنْ سُؤَالِ هَلْ تَشْتَهُونَ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُؤْيَةُ اللَّهِ كَانَتْ أَعْظَمَ النِّعَمِ، فَلِمَ لَمْ يَطْلُبُونَهَا؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفَةً فِي ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ اسْتِعْدَادٍ يَلِيقُ بِهَا، فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ حُصُولِ الِاسْتِعْدَادِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِعَادَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ إِنْ كَانَ لِطَلَبِ مَا هُمْ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَهَلَّا اشْتَهْواهُ أَوْ لَا؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْقِيَامَ بِمُوجِبِ الشُّكْرِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ شَبَّهَ لَطَافَتَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَمَكُّنَهُمْ مِنَ التَّلَذُّذِ بِأَنْوَاعِ الْمُشْتَهِيَاتِ وَالتَّبَوُّءِ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْخِرَاطِهِمْ فِي غَارِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ بِمَا إِذَا كَانُوا فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ إِلَى الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ، وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي اسْتِجْمَاعِ اللَّذَائِذِ وَحُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ بِحَالِ مَنْ يُبَالِغُ وَيَسْرُدُ عَلَيْهِ رَبُّهُ الْمُتَفَضِّلُ الْمُشْفِقُ عَلَيْهِ غَايَةَ التَّفَضُّلِ وَالْإِشْفَاقِ الْقَادِرُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ يُسْأَلَ مِنْهُ مَطْلُوبًا، وَيُكَرِّرَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَيْثُ لَا يَرَى بُدًّا مِنَ السُّؤَالِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 2464

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِيهِ قِيلَ: لَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِي هَذَا حُكْمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الرُّوحَ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ، أَوِ الشَّهِيدِ فِي قَنَادِيلَ، أَوْ أَجْوَافِ طَيْرٍ، أَوْ حَيْثُ شَاءَ كَانَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ وَلَمْ يَبْعُدْ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُصَوَّرَ جُزْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ طَائِرًا، أَوْ يُجْعَلَ فِي جَوْفِ طَائِرٍ فِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَانِي، وَعِلْمِ الْبَاطِنِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ وَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ، وَهُوَ مِمَّا جَهِلَ الْعِبَادُ عِلْمَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ شُيُوخِنَا: هُوَ الْحَيَاةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابِكَةٌ لِلْجِسْمِ يَحْيَا بِحَيَاتِهِ، وَأَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَوْتِ الْجِسْمِ بَعْدَ فِرَاقِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالتَّنَاسُخِ وَانْتِقَالِ الْأَرْوَاحِ وَتَنْعِيمِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسَانِ الْمُرَفَّهَةِ، وَتَعْذِيبِهَا فِي الصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ الْمُسَخَّرَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لَا يُطَابِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ مِنْ إِثَابَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ بَعْثَةِ الْأَجْسَادَ. قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَجَرُّدِ الرُّوحِ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ، كَمَا أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] اه.

وَفِي بَعْضِ حَوَاشِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُخَ عِنْدَ أَهْلِهِ هُوَ رَدُّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَبْدَانِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَا فِي الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ الْآخِرَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلِذَا كَفَرُوا اه. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ وَيَتَنَعَّمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مُجَازَاةَ الْأَمْوَاتِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى، فَيَتَنَعَّمُ الْمُحْسِنُ وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبِهِ نَطَقَ التَّنْزِيلُ وَالْآثَارُ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2465

3805 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِيهِمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ " أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُكَفَّرُ عَنَى خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، إِنْ قُلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌّ غَيْرُ مُدْبِرٍ.، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَيُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ

مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3805 -

(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ) ; أَيْ وَاعِظًا (فِيهِمْ) : أَيْ فِي أَصْحَابِهِ (فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) : بِالْوَاوِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَعَ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ، وَلَا يُشْكَلُ بِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِاخْتِلَافِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ، فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهَا، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ لِمَشَقَّتِهِ، لَا سِيَّمَا الْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ الصَّلَاةَ، وَإِلَّا فَلَا فَضِيلَةَ لَهُ. (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) : أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ إِنِ اسْتُشْهِدْتُ (يُكَفَّرُ؟) : بِالتَّذْكِيرِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ ; أَيْ يَمْحُو اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ) : أَيْ غَيْرُ جَزِعٍ (مُحْتَسِبٌ) : أَيْ طَالِبٌ لِلْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُقْبِلٌ) : أَيْ عَلَى الْعَدُوِّ (غَيْرُ مُدْبِرٍ) : أَيْ عَنْهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: احْتِرَازٌ مِمَّنْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ، وَالْمُحْتَسِبُ هُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ، أَوْ لِأَخْذِ غَنِيمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ الثَّوَابُ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ) : أَيْ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ، أَوْ مَعْنَاهُ كَيْفَ قُلْتَ أَعِدِ الْقَوْلَ وَالسُّؤَالَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ (إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَيُكَفَّرُ) : هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا ; أَيْ يُمْحَى (عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ) : أَيْ نَعَمْ إِنْ

ص: 2465

قُتِلْتَ وَالْحَالُ أَنَّكَ صَابِرٌ (مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ) : اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَيَحُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا ; أَيِ الدِّينُ الَّذِي لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالدَّيْنِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَيْسَ الدَّائِنُ أَحَقَّ بِالْوَعِيدِ وَالْمُطَالَبَةِ مِنْهُ مِنَ الْجَانِي وَالْغَاصِبِ وَالْخَائِنِ وَالسَّارِقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٍ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّ الْجِهَادَ وَالشَّهَادَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ قَلْتُ: إِلَّا شَهِيدَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ. وَوَرَدَ ; أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبِضُ أَرْوَاحَ شُهَدَاءِ الْبَحْرِ لَا يَكِلُ ذَلِكَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. (فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ) : أَيْ إِلَّا الدَّيْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ قُلْتَ " وَقَدْ أَحَاطَ بِسُؤَالِهِ عِلْمًا، وَأَجَابَهُ بِذَلِكَ الْجَوَابِ؟ قُلْتُ: لِيَسْأَلَ ثَانِيًا وَيُجِيبَهُ بِذَلِكَ الْجَوَابِ، وَيُعَلِّقَ بِهِ إِلَّا الدَّيْنَ اسْتِدْرَاكًا بَعْدَ إِعْلَامِ جِبْرِيلَ عليه السلام ; أَيَّاهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2466

3806 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3806 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْقَتْلُ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) : يَكُونُ سَبَبًا لِتَكْفِيرِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْخَطَايَا عَنِ الْمَقْتُولِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: كُلَّ خَطِيئَةٍ (إِلَّا الدَّيْنَ) : أَيْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ:" «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ» ". وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ اه. فَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ الْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أُمُورِ الدَّيْنِ.

ص: 2466

3807 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «يَضْحَكُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3807 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَضْحَكُ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ يَرْضَى مُقْبِلًا (إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أُحُدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ) : أَيْ مَعًا (يُقَاتِلُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ ; أَيْ: يُجَاهِدُ (هَذَا) : أَيْ أَحَدُهُمَا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ) : أَيْ: فَيَرْحَمُهُ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ) : أَيِ الْكَافِرِ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِيمَانِ فَيُؤْمِنَ (فَيُسْتَشْهَدُ) : فَيُقْتَلُ شَهِيدًا فَيَرْحَمُهُ بِفَضْلِهِ ; لِأَنَّهُ مَاتَ سَعِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ يَضْحَكُ بِإِلَى لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الِانْبِسَاطِ وَالْإِقْبَالِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَحِكْتُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا انْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، وَتَوَجَّهْتَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ طَلِقٍ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ ضَحِكُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَوَجِّهِينَ لَقَبْضِ رُوحِهِ، كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ السُّلْطَانُ فُلَانًا إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ اه. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ يُنَزَّهُ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَيُوكَلُ عِلْمُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ص: 2466

3808 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ ; بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3808 -

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَفَاءٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ) : أَيْ بِإِخْلَاصٍ (بَلَّغَهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ أَوْصَلَهُ (اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ: وَلَوْ مَاتَ غَيْرَ شَهِيدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الشُّهَدَاءِ وَلَهُ ثَوَابُهُمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

ص: 2466

3809 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ الْبَرَاءِ، وَهِيَ أَمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَلَى حَارِثَةَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ: يَا أَمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3809 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ الرُّبَيِّعَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، صَحَابِيَّةٌ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، (بِنْتَ الْبَرَاءِ) : أَيِ ابْنِ عَازِبٍ صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ (وَهِيَ) : أَيِ الرُّبَيِّعَ (أَمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ فِيهَا شَهِيدًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ اسْمَهَا أَمُّ الرَّبِيعِ، وَالَّذِي فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا الرُّبَيِّعُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. ( «أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ» ) : أَيْ عَنْ حَالِهِ وَمَآلِهِ (وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) : يَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ، وَالصِّفَةِ، وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا ; أَيْ لَا يُدْرَى رَامِيهِ، وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ إِذَا أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُدْرَى رَامِيهِ، وَبِالْفَتْحِ إِذَا رَمَاهُ فَأَصَابَ غَيْرَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: بِالْوَصْفِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ رَامِيهِ، وَبِالْإِضَافَةِ هُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ (فَإِنْ كَانَ) : أَيْ حَارِثَةُ (فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ) : أَيْ عَنْ إِظْهَارِ الْبُكَاءِ شُكْرًا لِمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةً، أَوْ نَاقِصَةً (اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى حَارِثَةَ (فِي الْبُكَاءِ) : أَيْ كَمَا هُوَ دَأْبُ النِّسَاءِ. (فَقَالَ: يَا أَمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِمْ: هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرُهَا، أَوْ هِيَ (جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ) : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهَا دَرَجَاتٌ فِيهَا لِمَا وَرَدَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا» ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2467

3810 -

وَعَنْهُ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ " قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: بَخْ بَخْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخْ بَخْ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: " فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ". قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ.، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3810 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ أَنَسٍ رضي الله عنه (قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ) : أَيْ ذَهَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ (حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَزَلُوا بَدْرًا قَبْلَ الْكُفَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَدْرٌ مَوْضِعٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: بِئْرُ بَدْرٍ كَانَتْ لِرَجُلٍ يُدْعَى بَدْرًا وَمِنْهُ يَوْمُ بَدْرٍ (وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ) : أَيْ بَعْدَ الْمُسْلِمِينَ وَتَصَافُّوا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ) : أَيْ عَمَلٍ هُوَ سَبَبُ دُخُولِهَا، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَمَا وَرَدَ:" «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى. (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) : تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ ; أَيْ كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي أَيَّةٍ أُخْرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ الْقِيَامُ بِإِلَى لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] وَوَصْفُ الْجَنَّةِ بِالْعَرْضِ مُبَالَغَةٌ عُرْفًا، وَتَخْصِيصُ الْعَرْضِ بِهَا دُونَ الطُّولِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُ الطُّولِ؟ . (قَالَ عُمَيْرُ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ الْحُمَامِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَهُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْإِسْلَامِ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ. (بَخْ بَخْ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الْمَدْحِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ وَتُكَرَّرُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ فَإِنْ وُصِلَتْ جَرَتْ وَنُوِّنَتْ فَقُلْتَ: بَخٍ بَخٍ، وَرُبَّمَا شُدِّدَتْ. وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَهَا بِالسُّكُونِ وَقْفًا وَوَصْلًا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَفَى الْقَامُوسُ: بَخْ ; أَيْ عَظُمَ الْأَمْرُ تُقَالُ وَحْدُهَا وَيُكَرَّرُ: بَخٍ بَخْ الْأَوَّلُ مُنَوَّنٌ، وَالثَّانِي مُسَكَّنٌ، وَيُقَالُ: بَخْ بَخْ مُسَكَّنَيْنِ وَمُنَوَّنَيْنِ وَمُشَدَّدَيْنِ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الرِّضَا وَالْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ، أَوِ الْمَدْحِ، أَوِ الْفَخْرِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَحْمِلُكَ) :

ص: 2467

قَالَ: أَيْ مَا بَاعِثُكَ؟ (عَلَى قَوْلِكَ: بَخْ بَخْ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : قَالَ بَعْضُهُمْ: فَهِمَ عُمَيْرٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَرَوِيَّةٍ شَبِيهًا بِقَوْلِ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْهَزْلِ وَالْمِزَاحِ، فَنَفَى عُمَيْرٌ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ (إِلَّا رَجَاءَ) : بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَفِي نُسْخَةٍ رَجَاءَةَ بِالتَّاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: إِلَّا رَجَاءَةَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْمَدِّ وَنَصْبِ التَّاءِ، وَفِي بَعْضِهَا رَجَاءَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالتَّنْوِينِ مَمْدُودَانِ بِحَذْفِ التَّاءِ كُلُّهَا صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمَعْنَى إِلَّا لِطَمَعِ (أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا) : أَيْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا قَالَ (قُومُوا إِلَى الْجَنَّةِ بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ) . قَالَ عُمَيْرٌ: بَخْ بَخْ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَفْخِيمًا لَهُ، فَقَالَ عليه السلام:" مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا التَّعْظِيمِ أَخَوْفًا قُلْتَ هَذَا أَمْ رَجَاءً؟ " فَقَالَ: لَا بَلْ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. (قَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا) : خَبَّرٌ، أَوْ دُعَاءٌ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ وَفِي نُسْخَةٍ تُمَيْرَاتٍ بِالتَّصْغِيرِ لِلتَّقْلِيلِ (مِنْ قَرْنِهِ) : بِقَافٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ جَعْبَةُ النِّشَابِ (فَجَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يَأْكُلُ مِنْهُنَّ) : تَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ عَلَى الْجِهَادِ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهَا (لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ; أَيْ عِشْتُ وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَا فَاعِلُ فِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ (حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي) : أَيْ جَمِيعَهَا (إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ) : يَعْنِي وَالْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ شَوْقًا إِلَى الشَّهَادَةِ وَذَوْقًا إِلَى الشُّهُودِ، وَهِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَاكْتُفِيَ بِهِ عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ ; أَيْ طَرَحَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ (مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْمَعَانِي، فَيُقَالُ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ قُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] فَكَأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ مُخْتَارَةً لِلْحَيَاةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْإِنْكَارَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لِلِانْتِدَابِ بِمَا نُدِبَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ ". ; أَيْ سَارِعُوا إِلَيْهَا وَمِمَّا ارْتَجَزَ بِهِ عُمَيْرٌ يَوْمَئِذٍ قَوْلُهُ:

رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ

إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ

وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ

فَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ

غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ

أَيِ: ارْكُضْ رَكْضًا وَأَسْرِعْ إِسْرَاعًا مِثْلَ إِسْرَاعِ الْخَيْلِ وَرَكْضِهِ، خَفَّفَ فِي الْقَوْلِ كَمَا خَفَّفَ فِي الْأَكْلِ مُبَادَرَةً إِلَى مَا انْتُدِبَ إِلَيْهِ رضي الله عنه، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2468

3811 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ:

إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لِقَلِيلٌ: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3811 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَعُدُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ ; أَيْ مَا تَحْسَبُونَ (الشَّهِيدَ مِنْكُمْ؟) : قِيلَ: عَدٌّ مُلْحَقٌ بِظَنِّ مَعْنًى وَعَمَلًا عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالشَّهِيدُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنِ الْوَصْفِ ; أَيْ بِأَيِّ وَصْفٍ تُنَالُ مَرْتَبَةُ الشَّهَادَةِ؟ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ:(مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَيُسْأَلُ بِكَلِمَةِ مَا عَنْ جِنْسِ ذَاتِ الشَّيْءِ وَنَوْعِهِ، وَعَنْ صِفَاتِ جِنْسِ الشَّيْءِ وَنَوْعِهِ، وَقَدْ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْأَشْخَاصِ النَّاطِقِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا السُّؤَالَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْمُؤْمِنُ رُتْبَةَ الشَّهَادَةِ اسْتُفْهِمَ عَنْهَا بِكَلِمَةِ (مَا) لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وَصْفِهَا، وَعَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ تَسُدُّ مَسَدَّ (مَنْ) ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: (مَا) هُنَا سُؤَالٌ عَنْ وَصْفِ مَنْ لَهُ كَرَامَةٌ وَقُرْبٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] فَيَشْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ

ص: 2468

وَسَلَامُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ) : وَكَانَ يَكْفِي عَلَى ظَنِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطْنَبُوا وَأَتَوْا فِي الْخَبَرِ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى أَنِ أَصْلَهُ الْمَوْصُولَ عِلَّةٌ لِلْخَبَرِ، فَخَصُّوا مَا أُرِيدُ الْعُمُومُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ السُّؤَالَ عَنْ أَصْنَافِ الشَّهِيدِ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظَةُ تَعُدُّونَ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ فِي الْحَقِيقِيِّ قَالَ:(إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لِقَلِيلٌ) . (مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ حَقِيقَةً لَا شُبْهَةَ فِيهِ (وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ ; أَيْضًا لَكِنْ حُكْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَأَيْضًا «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، «وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» . وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ:" «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» ". ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : لِأَنَّهُ مَقْتُولُ الْجِنِّ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمَبْطُونُ صَاحِبُ دَاءِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْإِسْهَالُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: وَقِيلَ هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ وَانْتِفَاخُ الْبَطْنِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَمُوتُ بِدَاءِ بَطْنِهِ مُطْلَقًا اه. وَلَعَلَّ كَوْنَهُ شَهِيدًا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنْ يَمُوتَ حَاضِرَ الْقَلْبِ مُنْكَشِفًا عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ مِنَ الشُّهُودِ. بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُهُ وَتُبَشِّرُهُ بِالْفَوْزِ وَالْكَرَامَةِ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَلْقَى رَبَّهُ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] ، أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ صِدْقَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصَ فِي الطَّاعَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ تِلْوَ الرُّسُلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعٍ فِي الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ اه.

وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ الْحُكْمِيَّةِ فِي كُرَّاسَةٍ مِنْهُمُ: الْغَرِيقُ وَالْحَرِيقُ وَالْمَهْدُومُ وَالْغَرِيبُ وَالْمُرَابِطُ، وَمَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَتَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الشُّهَدَاءَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمِئَوِيَّاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشُّهَدَاءُ لَا الْمُسَاوَاةُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: الَّذِي يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: " إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ. الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ، وَالْحَرْقُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ، وَالسَّلُّ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ» .

ص: 2469

3812 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو وَتَسْلَمُ، إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ. وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَخْفُقُ وَتُصَابُ إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3812 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ غَازِيَةٍ) : أَيْ: قِطْعَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ جَمَاعَةٍ تَغْزُو (أَوْ سَرِيَّةٍ) : هِيَ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ، وَفِي ذِكْرِهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْغَزَاةِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقِيلَ، أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (تَغْزُو فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ غَزَا الْكُفَّارَ فَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا فَقَدْ تَعَجَّلَ، فَاسْتَوْفَى ثُلُثَيْ أَجْرِهِ، وَهُمَا السَّلَامَةُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَبَقِيَ لَهُ ثُلُثُ الْأَجْرِ يَنَالُهُ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ مَا قَصَدَ بِغَزْوِهِ مُحَارَبَةَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَخْفُقُ) : مِنَ الْإِخْفَاقِ ; أَيْ: تَغْزُو وَلَا تَغْنَمُ (وَتُصَابُ) : أَيْ: بِجُرْحٍ، أَوْ بِقَتْلٍ، أَوْ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ (إِلَّا تَمَّ أُجُورُهُمْ) : قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى مَنْ غَزَا فِي نَفْسِهِ بِقَتْلٍ، أَوْ جُرْحٍ وَلَمْ يُصَادِفْ غَنِيمَةً فَأَجْرُهُ بَاقٍ بِكَمَالِهِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ شَيْئًا فَيُوَفَّرَ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَفْظُ تَعَجَّلُوا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ غَازٍ فِي نَزَوَاتِهِ ثَوَابٌ، فَمَنْ أَصَابَ السَّلَامَةَ وَالْغَنِيمَةَ اسْتَوْفَى ثُلُثَيْ ثَوَابِهِ فِي الدُّنْيَا بَدَلَ مَا كَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَجَّلَ وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ وَقُتِلَ أَتَمَّ أَجْرَهُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَجَّلْ بِشَيْءٍ بَقِيَ قِسْمَانِ مِنْ سَلَمٍ، وَأَخْفَقَ فَقَدْ تَعَجَّلَ بِثُلُثِهِ وَبَقِيَ لَهُ ثُلْثَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَجَعَ مَجْرُوحًا يُقَسَّمُ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ بِحَسَبِ جُرْحِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيِعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ اه.

ص: 2469

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ سَالِمًا رُجُوعَهُ حَيًّا، فَلَا يَحْتَاجُ إِذًا إِلَى التَّقْسِيمِ بِحَسَبِ الْجِرَاحَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْغَازِي إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً وَسَلِمَ، فَقَدْ أَصَابَهُ شَيْئَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْغَزْوِ، وَبَقِيَ لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ ثُلُثَيِ الْأَجْرِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ سَلَامَةُ النَّفْسِ وَحُصُولُ الْمَغْنَمِ مِنْ أَجْزَاءِ أَجْرِ الْغَزْوِ اه. وَفِي كَوْنِ السَّلَامَةِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّوَابِ مَحَلُّ بَحْثٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَصْدُ الْغَازِي فِي مَسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: إِمَّا الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا الْغَنِيمَةُ، وَإِمَّا السَّلَامَةُ فَقَطْ، فَقَوْلُهُ وَتَسْلَمُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَغْنَمُ قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وَجُودُهُ، وَلِهَذَا وَرَدَ بِحَذْفِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ:" «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» "(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2470

3813 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3813 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَهُوَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ (وَلَمْ يُحَدِّثْ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: لَمْ يُكَلِّمْ (بِهِ) : أَيْ: بِالْغَزْوِ (نَفْسَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْجِهَادِ وَلَمْ يَقُلْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مُجَاهِدًا، وَقِيلَ وَلَمْ يُرِدِ الْخُرُوجَ، وَعَلَامَتُهُ فِي الظَّاهِرِ إِعْدَادُ آلَتِهِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ) : أَيْ: نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ ; أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا فَقَدَ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: هَذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِزَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَنْوِيَ الْجِهَادَ إِمَّا بِطْرِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْعَيْنِ، إِذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، وَيُسْتَدَلُّ بِظَاهِرِهِ لِمَنْ قَالَ: الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ مُطْلَقًا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: نَرَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ إِنَّهُ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ فِي هَذَا الْوَصْفِ، فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ أَحَدُ شُعَبِ النِّفَاقِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْلَ عِبَادَةٍ فَمَاتَ قَبْلَ فِعْلِهَا لَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الذَّمِّ مَا يُتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُنْوِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَأَخَّرَهَا بِنِيَّةِ أَنْ يَفْعَلَهَا وَمَاتَ، أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ كَذَلِكَ، قِيلَ: يَأْثَمُ فِيهِمَا، وَقِيلَ لَا يَأْثَمُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يَأْثَمُ فِي الْحَجِّ دُونَ الصَّلَاةِ اه. وَالْأَخِيرُ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2470

3814 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3814 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) : أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ (الرَّجُلُ) : أَيْ: جِنْسُ الرَّجُلِ بِمَعْنَى الشَّخْصِ (يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ) : أَيِ: الْآخَرُ (يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ) : أَيْ: لِلصِّيتِ وَالشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: لِيُذْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُوصَفَ بِالشَّجَاعَةِ وَالذِّكْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالصِّيتِ (وَالرَّجُلُ) : أَيِ: الْآخَرُ (يُقْتَلُ لِيُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لِيُعْلَمَ، أَوْ يُبْصَرَ بَيْنَ النَّاسِ (مَكَانُهُ) : بِالرَّفْعِ ; أَيْ مَرْتَبَتُهُ فِي الشَّجَاعَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِرَاءَةِ وَنَصْبِ (مَكَانَهُ) . قَالَ الْأَشْرَفُ: هُوَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ قُرِئَ مَعْلُومًا فَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ ; أَيْ: يُقَاتِلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِيَرَى هُوَ مَكَانَهُ ; أَيْ: مَنْزِلَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ النَّاسَ، فَالْفَرْقُ عَلَى هَذَا بَيْنَ قَوْلِهِ: يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الْأَوَّلَ سُمْعَةٌ، وَالثَّانِي رِيَاءٌ ; أَيْ: مِنَ الْغُزَاةِ مَنْ سَمَّعَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَاءَى. وَإِنْ قُرِئَ مَجْهُولًا، فَالَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَمَكَانُهُ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي ; أَيْ: قَاتَلَ ذَلِكَ لِيُبْصِرَ هُوَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قَاتَلَ لِلْجَنَّةِ لَا لِإِعْلَاءِ

ص: 2470

كَلِمَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ ; أَيْ: لِيَرَى مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ; أَيْ: لِيَحْصُلَ لَهُ الْجَنَّةُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ) : أَيْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ: لَا غَيْرَ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ إِرَادَةَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُزَاحِمَةٍ إِرَادَةَ كَوْنِ كَلِمَةِ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «قُومُوا إِلَى الْجَنَّةِ» " كَمَا سَبَقَ، فَالْمُرَادُ بِهِمَا وَاحِدٌ وَالْمَآلُ مُتَّحِدٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: فَالَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الرَّجُلِ وَمَكَانُهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ مَضْبُوطٌ بِالرَّفْعِ ; أَيْ: لِيَرَى النَّاسُ مَنْزِلَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قُلْتُ: مَبْنَى كَلَامِ الْأَشْرَفِ عَلَى نَصْبِ مَكَانِهِ لَا عَلَى رَفْعِهِ. فَقَوْلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ غَيْرُ صَحِيحٍ قَالَ: وَأَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ. الْمُغْرِبُ: يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ سُمْعَةً لِيُرِيَهُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِهِ التَّحْقِيقَ، وَسَمِعَ بِكَذَا أَشْهَرَهُ، تَسْمِيعًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ أَسَامِعَ خَلْقِهِ وَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ وَنَوَّهَ اللَّهُ لِرِيَائِهِ وَبَلَائِهِ أَسْمَاعَ خَلْقِهِ فَيُفْتَضَحَ» " قُلْتُ: كَلَامُ الْأَشْرَفِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْقِيقِ الْأَصْلِيِّ، وَالتَّدْقِيقِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الرِّيَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا أَنَّ السَّمْعَ هُوَ مَا أُخِذَ السُّمْعَةَ، نَعَمْ، اتُّسِعَ فِيهِمَا فَتُطْلَقُ إِحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَصْلِ فَيُقَالُ: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ. قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ الصِّيتُ وَالسُّمْعَةُ وَبِالرُّؤْيَةِ عِلْمُ اللَّهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ لِلْغَنِيمَةِ وَالذِّكْرِ، وَالْمُجَاهِدُ الصَّابِرُ الَّذِي يَسْتَفْرِغُ جُهْدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

قُلْتُ: هُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقِيَامَةِ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي حَدِيثِ فَضَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الشُّهَدَاءَ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " هَكَذَا الْحَدِيثُ. فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُجَاهِدِينَ بِأَسْرِهَا وَمُقَاتَلَتِهِمْ، إِمَّا لِلْغَنِيمَةِ، أَوْ لِلذِّكْرِ وَالصِّيتِ وَالْفَخْرِ رِيَاءً، أَوْ لِيَحْمَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَنَّى صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ عَنِ الثَّالِثِ:" «مَنْ قُتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» " إِحْمَادًا عَلَيْهِ وَشُكْرًا لِصَنِيعِهِ وَإِلَّا كَانَ يَكْفِيهِ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ يُقَاتِلْ لِيُرَى مَكَانُهُ.

قُلْتُ: وَوَجْهُ الْعُدُولِ أَنَّ هَذَا مُبْهَمٌ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْمَقْصُودِ صَرِيحًا، أَوْ صَحِيحًا. قَالَ: وَالْمَكَانُ هَاهُنَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135] الْكَشَّافُ: الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا يُقَالُ: مَكَنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ، بِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمَقَامٌ وَمَقَامَةٌ ; أَيِ: اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ، أَوِ اعْمَلُوا عَلَى جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا وَكَلِمَةُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا إِلَيْهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ كَمَا قِيلَ لِعِيسَى:(كَلِمَةُ اللَّهِ) وَهِيَ فَصْلٌ وَالْخَبَرُ الْعُلْيَا فَأَفَادَ الِاخْتِصَاصَ ; أَيْ: لَمْ يُقَاتِلْ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا لِإِظْهَارِ الدِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2471

3815 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3815 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ (فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ) : أَيْ: قَارَبَهُمْ (فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا) : أَيْ: جَمَاعَاتٍ مِمَّنْ يَتَمَنَّوْنَ الْغَزْوَ، وَيُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْخُرُوجِ، وَلَهُمْ مَانِعٌ ضَرُورِيٌّ (مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا) : أَيْ: سَيْرًا، أَوْ مَكَانًا (وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا) : تَخْصِيصٌ لِكَوْنِ قَطْعِ الْوَادِي أَشَقَّ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ (إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ) : أَيْ: بِالْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالنِّيَّةِ (وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا شَرِكُوكُمْ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ فَفِي الْقَامُوسِ شَرِكَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ كَعَلِمَهُ يُشْرِكُهُ

ص: 2471

بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى شَارَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ) : وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْمُقْتَضِي زِيَادَةَ الثَّوَابِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءَ يُشَارِكُونَ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْأَجْرِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ، وَالدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] دَرَجَاتٍ ; أَيْ عَلَى غَيْرِ الْأَضِرَّاءِ، أَوْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ وَالْأَضِرَّاءِ دَرَجَةً وَهِيَ الْغَنِيمَةُ وَنُصْرَةُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَاتٍ فِي الْعُقْبَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ النِّيَّةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ مَنْ نَوَى غَزْوًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ فَعَرَضَ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ نِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ التَّأَسُّفَ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ، أَوْ تَمَنَّى كَوْنَهُ مِنَ الْغُزَاةِ وَنَحْوِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

ص: 2472

3816 -

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ.

ــ

3816 -

(وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ) : رضي الله عنهم.

ص: 2472

3817 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» ".

ــ

3817 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالْوَاوِ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا) : أَيْ: فَفِي خِدْمَتِهِمَا (فَجَاهِدْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْرِ قُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَالْفَاءُ الْأُولَى جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَالثَّانِيَةُ جَزَائِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ ; أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ فَاخْتَصَّ الْمُجَاهَدَةَ فِي خِدْمَةِ الْوَالِدَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] ; أَيْ: إِذَا لَمْ تُخْلِصُوا لِي فِي الْعِبَادَةِ فِي أَرْضٍ فَأَخْلِصُوهَا فِي غَيْرِهَا فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَعُوِّضَ عَنْهُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ الْمُفِيدِ لِلِاخْتِصَاصِ ضِمْنًا، وَقَوْلُهُ: فَجَاهِدْ جِيءَ بِهِ مُشَاكَلَةً يَعْنِي حَيْثُ قَالَ: فَجَاهِدْ فِي مَوْضِعِ فَاخْدِمْهُمَا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي الْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ. قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

(وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِمُسْلِمٍ (فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا فِي جِهَادِ التَّطَوُّعِ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَالِدَيْنِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِهِمَا وَإِنْ مَنَعَاهُ عَصَاهُمَا وَخَرَجَ، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَيَخْرُجُ بِدُونِ إِذْنِهِمَا فَرْضًا كَانَ الْجِهَادُ، أَوْ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ، وَلَا يَصُومُ التَّطَوُّعَ إِذَا كَرِهَ الْوَالِدَانِ الْمُسْلِمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِإِذْنِهِمَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالْجِهَادُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَايَ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» ، وَفِيهِ عَنِ الْخُدْرِيِّ:«أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: " هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ " قَالَ: أَبَوَايَ. قَالَ: " أَذِنَا لَكَ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَارْجِعْ وَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» ".

ص: 2472

3818 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ:" «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3818 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ) : أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) : يَعْنِي الْهِجْرَةَ الْمَفْرُوضَةَ ; أَيْ: بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ ; أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَقِيَتِ الْمَنْدُوبَةُ وَهِيَ الْهِجْرَةُ مَنْ أَرْضٍ يُهْجَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ وَيَشِيعُ بِهِ الْمُنْكَرُ، أَوْ مِنْ أَرْضٍ أَصَابَ فِيهَا الذَّنْبَ وَارْتَكَبَ الْأَمْرَ الْفَظِيعَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَتِ الْهِجْرَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْهُمْ لِيَسْلَمَ دِينُهُمْ وَلِيَزُولَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يُفْتَتَنُوا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الدِّينِ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا قَلِيلِينَ ضَعِيفِينِ يَوْمَئِذٍ، فَوَجَبَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ لِيَسْتَعِينَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ إِنْ حَدَثَ حَادِثٌ، وَلِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَيُعَلِّمُوا أَقْوَامَهُمْ أَمْرَ الدِّينِ وَأَحْكَامَهُ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَسْلَمُوا اسْتَغْنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مُعْظَمُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا أَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقَرُّوا فِي قَعْرِ دَارِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَقِيمُوا فِي أَوْطَانِكُمْ وَقَرُّوا عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» ) : أَيْ: قَصْدُ جِهَادٍ، أَوْ إِخْلَاصُ عَمَلٍ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَانْفِرُوا) : بِكَسْرِ الْفَاءِ ; أَيْ: إِذَا اسْتُخْرِجْتُمْ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ فَاخْرُجُوا، فَالْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ، أَوْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ فَانْطَلِقُوا، فَالْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إِلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ، أَوْ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دِيَارِ الْكُفْرِ، أَوِ الْبِدْعَةِ، أَوِ الْجَهْلِ، أَوْ مِنَ الْفِتَنِ، أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنْ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا، فَالْمَعْنَى أَمْ مُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي هِيَ الْهِجْرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ الْفَاضِلَةُ الْمُمَيِّزَةُ لِأَهْلِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا انْقَطَعَتْ، لَكِنَّ الْمُفَارَقَةَ مِنَ الْأَوْطَانِ بِسَبَبِ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَمِمَّا لَا يُقَامُ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَزِيَارَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَحَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهَا، أَوْ بِسَبَبِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاقِيَةٌ مَدَى الدَّهْرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ قَدِ انْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، لَكِنْ حَصِّلُوهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَفِيهِ حَثٌ عَلَى نِيَّةِ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَكُمُ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ فَاخْرُجُوا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، بَلْ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ يَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا أَجْمَعِينَ اه.

وَفِيهِ أَنْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى كَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، بَلْ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ عَيْنٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَلْيَنْفِرْ بَعْضُكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَمَا دَلَّ صَرِيحًا عَلَى نَفْيِ فَرْضِ الْعَيْنِ إِذْ كَانَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَخْرُجُوا كُلُّهُمْ مَعًا، فَيَصِيعَ الْعِبَادُ وَتَخْرُبَ الْبِلَادُ وَيَفُوتَ عِلْمُ الْمَعَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي كَلَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ خَصَّ الِاسْتِنْفَارَ بِالْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ أَيْضًا ; أَيْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فَانْفِرُوا، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَشِبْهِهِ فَانْفِرُوا. قَالَ تَعَالَى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] ; أَيْ: هَلَّا نَفَرُوا حِينَ اسْتُنْفِرُوا. قُلْتُ: وَإِنَّمَا خَصَّ الِاسْتِنْفَارَ بِالْجِهَادِ لِقَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] الْآيَاتِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَغَفْلَةٌ عَنْ صَدْرِهَا وَمَعْنَاهَا ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: بَعْدَ وَصْفِ الْمُجَاهِدِينَ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ; أَيْ: جَمِيعًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادُوا ذَلِكَ {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ; أَيْ: لِلْغَزْوِ {لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] ; أَيْ: بَقِيَّةُ الْفِرْقَةِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى خُرُوجِ طَائِفَةٍ لِلْغَزْوِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ: أَيْ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2473

الْفَصْلُ الثَّانِي

3819 -

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3819 -

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ» ) : أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَإِظْهَارِهِ (ظَاهِرِينَ) : أَيْ: غَالِبِينَ مَنْصُورِينَ، أَوْ مَعْرُوفِينَ مَشْهُورِينَ (عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: غَالِبِينَ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْمُنَاوَأَةُ الْمُعَادَاةُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْهَمْزُ ; لِأَنَّهُ مِنَ النَّوْءِ وَهُوَ النُّهُوضُ، وَرُبَّمَا يُتْرَكُ هَمْزُهُ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَادَاةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَنْهَضُ إِلَى قِتَالِ صَاحِبِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، هُوَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَاءَ إِلَيْهِمْ وَنَاءُوا إِلَيْهِ ; أَيْ: نَهَضُوا لِلْقِتَالِ. وَفَى النِّهَايَةِ: النِّوَاءُ وَالْمُنَاوَاةُ الْمُعَادَاةُ. وَفِي الْقَامُوسِ: نَاءَ نَهَضَ بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ وَنَاوَاهُ مُنَاوَاةً فَاخَرَهُ وَعَادَاهُ اه. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرَأَ لَفْظُ الْحَدِيثِ بِالْهَمْزِ، وَلَا يُلْتَفَتَ إِلَى أَكْثَرِ النُّسَخِ حَيْثُ لَمْ يَضْبِطُوا بِهِ، فَإِنَّ الرَّسْمَ وَاحِدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ تَنْزِيلَ أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى اه. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مِنْ جِهَةِ الشَّامِ لِيَدْخُلَ أَهْلُ الرُّومِ فِي الْمُرَادِ، فَإِنَّهُمُ الْقَائِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ الشَّرِيفَةِ حَقَّ الْقِيَامِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُمُ اللِّئَامَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ) : أَيِ: الْمَهْدِيُّ وَعِيسَى عليه السلام وَأَتْبَاعُهُمَا (الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ) : وَيَقْتُلُهُ عِيسَى عليه السلام بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بِبَابٍ لَهُ مِنْ بَيَتِ الْمَقْدِسِ حِينَ حَاصَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمُ الْمَهْدِيُّ، وَبَعْدَ قَتْلِهِ لَا يَكُونُ الْجِهَادُ بَاقِيًا، أَمَّا عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالطَّاقَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ مَا دَامَ عِيسَى عليه السلام حَيًّا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام وَكُفْرِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَهُ، فَلِمَوْتِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَنْ قَرِيبٍ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَبَقَاءِ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفَى الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ. فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، يُحْمَلُ عَلَى قُرْبِهَا، فَإِنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2474

3820 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3820 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَمْ يَغْزُ) : أَيْ: حَقِيقَةً (وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا) : أَيْ: لَمْ يُهَيِّءْ أَسْبَابَ غَازٍ (أَوْ يَخْلُفْ) : بِالْجَزْمِ وَضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَنْفِيِّ ; أَيْ: لَمْ يَخْلُفْ (غَازِيًا فِي أَهْلِهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَزْوِ الْحُكْمِيِّ، وَقَوْلُهُ:(بِخَيْرٍ) : قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْلُفْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ أُتِيَ بِهِ صِيَانَةً عَمَّا عَسَى أَنْ يَنْوِيَ الْخِيَانَةَ فِيهِمْ اه. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْكُلِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ نِيَّةُ الْخَيْرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِخْلَاصِ قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَوْ يَخْلُفْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى يُجَهِّزْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعِدِ الْجَازِمَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اسْتِقْلَالُهُ، وَلِيُؤْذَنَ بِأَنَّ تَجْهِيزَ الْغَازِي وَكَوْنَ تَخْلِيفِ الْغَازِي فِي أَهْلِهِ لَيْسَ بِمَثَابَةِ الشُّخُوصِ بِنَفْسِهِ إِلَى الْغَزْوِ، ثُمَّ جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ:(أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ) : أَيْ: بِشِدَّةٍ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ ; أَيْ: بِبَلِيَّةٍ تَقْرَعُهُ وَتُهْلِكُهُ وَتَصْرَعُهُ وَتَدُقُّهُ، وَلِذَا سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِالْقَارِعَةِ (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَيَقُولَ: رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُؤَلِّفِ هَذَا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:" «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» " وَهِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ النَّقْصُ وَالْعَيْبُ.

ص: 2474

3821 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

3821 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ» ) : أَيْ: قَاتِلُوهُمْ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَشْمَلُ الْحَرَمَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَالْبَدْءَ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقِتَالُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا وَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَؤُونَا ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ لَمْ تُقَيِّدِ الْوُجُوبَ بِبَدْئِهِمْ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَالزَّمَانُ الْخَاصُّ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ خِلَافًا لِعَطَاءَ، وَلَقَدِ اسْتُبْعِدَ مَا عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَتَمَسُّكُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ نَسْخُهُ وَصَرِيحُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " الْحَدِيثَ. تُوجِبُ ابْتِدَاءَهُمْ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَحَاصَرَ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ إِلَى شَهْرٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى نَسْخِ الْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى التَّحَرُّزِ بِلَفْظِ: حَيْثُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَقَوْلُهُ:(بِأَمْوَالِكُمْ) : أَيْ: بِالتَّجْهِيزِ (وَأَنْفُسِكُمْ) : أَيْ: بِالْمُبَاشَرَةِ (وَأَلْسِنَتِكُمْ) : أَيْ: بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: جَاهِدُوهُمْ بِهَا ; أَيْ: بِأَنْ تَذُمُّوهُمْ وَتَعِيبُوهُمْ وَتَسُبُّوا أَصْنَامَهُمْ وَدِينَهُمُ الْبَاطِلَ، وَبِأَنْ تُخَوِّفُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَخْذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] قُلْتُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ آلِهَتَهُمْ فَنُهُوا، لِئَلَّا يَكُونَ سَبُّهُمْ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّهَيُ مُنْصَبٌّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ السَّبُّ إِلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ اه.

وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَبٌ غَالِبِيٌّ، وَعَدَمُ كَوْنِهِ سَبَبًا أَمْرٌ مَوْهُومٌ فَيَتَعَيَّنَ النَّهْيُ، لَا سِيَّمَا مَبْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أُمُورِ الْغَالِبِيَّةِ، مَعَ أَنَّ حَالَةَ الِاسْتِوَاءِ، بَلْ وَقْتُ الِاحْتِمَالِ يُرَجِّحُ النَّهْيَ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسَبِّهِمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنْهُمْ فَلَيْسَ كَذَا ; لِأَنَّ هَذَا الْخَوْفَ فِي الَّذِينَ غَلَبَ الْجَهْلُ وَالسَّفَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَيُعَظِّمُونَ اللَّهَ! وَيَقُولُونَ:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 18 - 25](رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

ص: 2475

3822 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَاضْرِبُوا الْهَامَ ; تُوَرَّثُوا الْجِنَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

3822 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْشُوا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; أَيْ: أَشِيعُوا وَعَمِّمُوا (السَّلَامَ) : أَيْ: رُدُّوهُ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، فَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَامُ وَفَرْضِيَّةُ الْجَوَابِ مَفْهُومَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] الْآيَةَ. وَهَذِهِ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ إِظْهَارُهُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ، أَوْ إِشَاعَتُهُ بِأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ تَرَاهُ عَرَفْتَهُ أَوْ لَمْ تَعْرِفْ اه. وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي ; لِأَنَّ السَّلَامَ مَعَ عَدَمِ إِظْهَارِهِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ لَا يُسَمَّى سَلَامًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إِفْشَاءً لِلسَّلَامِ. (وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ) : فَإِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْكِرَامِ، لَا سِيَّمَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ (وَاضْرِبُوا الْهَامَ) : جَمْعُ هَامَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ الثَّانِي ; أَيِ: اقْطَعُوا رُءُوسَ الْكُفَّارِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ (تُورَثُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنِ الْإِيرَاثِ ; أَيْ: تُعْطَوْا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ الْعِظَامِ (الْجِنَانَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ ; أَيْ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي دَارِ السَّلَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِضَرْبِ الْهَامِ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ هَذِهِ تَخْلُفُ عَلَيْهِمُ الْجِنَانَ فَكَأَنَّهُمْ وَرِثُوهَا مِنْهَا. قُلْتُ: وَفِيهِ

ص: 2475

إِشَارَةٌ إِلَى ارْتِكَابِ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَرْكِ الْمُشْتَهَيَاتِ لِكَوْنِهَا مِنَ التَّكْلِيفَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ تُعَدُّ مِنَ الْمُصِيبَاتِ الَّتِي تُورِثُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ وَالثَّمَرَاتِ الطَّيِّبَاتِ، تَشْبِيهًا بِمَنْ فَاتَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَحَصَلَ لَهُ مَنْ إِرْثِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجَانِبِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه:" «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى. وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ فَإِنَّ السَّلَامَ تَعَالَى رِضًا» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:" «أَفْشُوا السَّلَامَ كَيْ تَعْلُوا» ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى» ؟) . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ " أَفْشِ السَّلَامَ وَابْذُلِ الطَّعَامَ وَاسْتَحِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا ; أَيْ: مِنْ رَهْطِكَ ذَا هَيْئَةٍ، وَلْتُحْسِنْ خُلُقَكَ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ".

ص: 2476

3823 -

وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

3823 -

(وَعَنْ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَمَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهِ وَيُطْبَعُ (عَلَى عَمَلِهِ) : وَالْمَعْنَى لَا يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابٌ جَدِيدٌ (إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى) : أَيْ يُزَادُ لَهُ (عَمَلُهُ) بِأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كُلَّ لَحْظَةٍ أَجْرٌ جَدِيدٌ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : فَإِنَّهُ فَدَى نَفْسَهُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الدِّينِ بِدَفْعِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ) : أَيْ مَعَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ بِهَذَا امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ عَنْ فَضَالَةَ.

ص: 2476

3824 -

وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.

ــ

3824 -

(وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ فَضَالَةَ. وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ. وَأَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.

ص: 2476

3825 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ ; فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً، فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَرِيحُهَا الْمِسْكُ. وَمَنْ خَرَجَ بِهِ خُرَاجٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

3825 -

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ. اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ) : هُوَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ. فِي الْفَائِقِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ رُجُوعُ اللَّبَنِ إِلَى الضَّرْعِ بَعْدَ الْحَلْبِ، وَسُمِّيَ فَوَاقًا ; لِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ فَوْقٍ اه. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَشَاءِ ; لِأَنَّ النَّاقَةَ تُحْلَبُ فِيهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرَ مُدَّتَيِ الضَّرْعِ مِنَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تَتَوَلَّى سُوَيْعَةً يَرْضَعُهَا الْفَصِيلُ لِتَدِرَّ، ثُمَّ تَحْلِبُ ثَانِيَةً، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ أَلْيَقُ بِالتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ ; أَيْ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَحْظَةً. (فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) : أَيِ ابْتِدَاءً، أَوِ اسْتَحَقَّهَا (وَمَنْ جُرِحَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (جُرْحًا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالْفَتْحِ هُوَ الْمَصْدَرُ ; أَيْ جِرَاحَةً كَائِنَةً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : بِسِلَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ (أَوْ نُكِبَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: أُصِيبَ نَكْبَةً بِالْفَتْحِ ; أَيْ حَادِثَةً فِيهَا جِرَاحَةٌ مِنْ غَيْرِ الْعَدُوِّ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، قِيلَ: الْجُرْحُ وَالنَّكْبَةُ كِلَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: الْجُرْحُ مَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ، وَالنَّكْبَةُ الْجِرَاحَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُقُوعِ سِلَاحٍ عَلَيْهِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

«هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» ،

ص: 2476

وَفِي النِّهَايَةِ: نَكْتُبُ أُصْبُعَهُ ; أَيْ نَالَتْهَا الْحِجَارَةُ، وَالنَّكْبَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ (فَإِنَّهَا) : أَيِ النَّكْبَةُ الَّتِي فِيهَا الْجِرَاحَةُ (تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ شَيْئَانِ الْجَرْحُ وَالنَّكْبَةُ، وَهِيَ مَا أَصَابَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنِ الْحِجَارَةِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى النَّكْبَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّكْبَةِ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجُرْحِ بِالسِّنَانِ وَالسَّيْفِ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] اه.، أَوْ يُقَالُ: إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ وَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْحَادِثَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ تَظْهَرُ وَتُتَصَوَّرُ (كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ) : أَيْ كَأَكْثَرِ أَوْقَاتِ أَكْوَانِهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ زَائِدَةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ يَعْنِي حِينَئِذٍ تَكُونُ غَزَارَةُ دَمِهِ أَبْلَغَ مِنْ سَائِرِ أَوْقَاتِهِ اه.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ غَيْرُ زَائِدَةٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ وَالنَّكْبَةَ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ أَكْثَرِ مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا. (لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَرِيحُهَا الْمِسْكُ) : كُلٌّ مِنْهُمَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ (وَمَنْ خَرَجَ بِهِ) : الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ ; أَيْ: ظَهَرَ بِهِ (خُرَاجٌ) : وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ مَا يَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِيلِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى نَفْسِ الْخُرَاجِ، أَوْ عَلَى صَاحِبِهِ (طَابَعُ الشُّهَدَاءِ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ: خَتْمُهُمْ يَعْنِي عَلَامَةَ الشُّهَدَاءِ وَأَمَارَتَهُمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ سَعَى فِي إِعْلَاءِ الدِّينِ وَيُجَازَى جَزَاءَ الْمُجَاهِدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنِسْبَةُ هَذِهِ الْقَرِينَةِ مَعَ الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ التَّرَقِّي فِي الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْإِصَابَةِ بِآثَارِ مَا يُصِيبُ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْعَدُوِّ تَارَةً، وَمَنْ غَيْرِهِ أُخْرَى، وَطَوْرًا مِنْ نَفْسِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ النَّارَ» ".

ص: 2477

3826 -

وَعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

3826 -

(وَعَنْ خُرَيْمِ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ رضي الله عنه (ابْنِ فَاتِكٍ) : بِالْفَاءِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خُرَيْمُ بْنُ الْأَخْرَمِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَاتِكٍ، عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، وَقِيلَ: فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً) : أَيْ صَرَفَ نَفَقَةً صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ) : أَيْ مِثْلٍ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

ص: 2477

3827 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْحَةُ خَادِمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3827 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ خَيْمَةٍ كَبِيرَةٍ، أَوْ صَغِيرَةٍ. وَفِي الْفَائِقِ: ضَرْبٌ مِنَ الْأَبْنِيَةِ فِي السَّفَرِ دُونَ السُّرَادِقِ، وَفِي التَّهْذِيبِ الْفُسْطَاطُ بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ وَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ فُسْطَاطٌ وَفُسْتَاطٌ وَفُسَاطٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا فِيهِنَّ، وَالضَّمُّ أَجْوَدُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى لِلْغَازِي، أَوِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ عَارِيَةً، أَوِ اسْتِظْلَالًا عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ (وَمِنْحَةُ خَادِمٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: أَوْ مِنْحَةُ خَادِمٍ ; أَيْ عَطِيَّةُ خَادِمٍ مِلْكًا، أَوْ إِعَارَةً، وَمِنْهُ يُعْلَمُ خِدْمَتُهُ بِنَفْسِهِ بِالْأَوْلَى (أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ ; أَيْ: إِعْطَاءُ مَرْكُوبٍ كَذَلِكَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : طَرُوقَةُ الْفَحْلِ هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ أَوَانَ ضِرَابِ الْفَحْلِ وَالتَّقْيِيدُ بِهِ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ قُيِّدَتِ

ص: 2477

الْمِنْحَةُ بِالْمِلْكِيَّةِ فَفِي النِّهَايَةِ: مِنْحَةُ اللَّبَنِ أَنْ يُعْطِيَهُ نَاقَةً، أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا زَمَانًا وَيُعِيدُهَا، وَقَدْ تَقَعُ الْمِنْحَةُ عَلَى الْهِبَةِ مُطْلَقًا لَا قَرْضًا وَلَا عَارِيَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَوْلُهُ: أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ عَطْفٌ عَلَى مِنْحَةِ خَادِمٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ; أَيْ مِنْحَةُ نَاقَةٍ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مِنْحَةُ فُسْطَاطٍ كَمَا فِي الْغَرِيبَيْنِ، فَوَضَعَ الظِّلَّ مَوْضِعَهَا ; لِأَنَّ غَايَةَ مَنْفَعَتِهَا الِاسْتِظْلَالُ بِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَنْحُ أَنْ تَمْنَحَ الدِّرْهَمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ.

ص: 2478

3828 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعَ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أُخْرَى: (فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا. وَفِي أُخْرَى: ( «فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» ) .

ــ

3828 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلِجُ النَّارَ) ; أَيْ لَا يَدْخُلُهَا (مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْخَشْيَةِ امْتِثَالُ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ (حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ) : هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]( «وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» ) : فَكَأَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَقِيضَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ (وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أُخْرَى) : أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَفْصَحُ، فَفِي الصَّحَّاحِ: الْمَنْخِرُ ثُقْبُ الْأَنْفِ وَقَدْ تُكْسَرُ الْمِيمُ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَنْخَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْخَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَكَمَجْلِسٍ خَرْقُ الْأَنْفِ، وَفِي الضِّيَاءِ: حَقِيقَتُهُ مَوْضِعُ النَّخْرِ وَهُوَ مَدُّ النَّفَسِ فِي الْخَيَاشِيمِ، وَالْمَعْنَى لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي خَرْقَيْ أَنْفِ مُسْلِمٍ (أَبَدًا) : أَيْ فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمَانِ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) : أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ (فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا) : أَيْ حَيْثُ دَخَلَ فِيهِ الْغُبَارُ، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُ الدُّخَانِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ (وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ) : أَيِ الْبُخْلُ الَّذِي يُوجِبُ مَنْعَ الْوَاجِبِ، أَوْ يَجُرُّ إِلَى ظُلْمِ الْعِبَادِ (وَالْإِيمَانُ) : أَيِ الْكَامِلُ (فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا) : الْكَشَّافُ: الشُّحُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ اللَّوْمُ، وَأَنْ تَكُونَ نَفْسُ الرَّجُلِ كَزَّةً حَرِيصَةً عَلَى الْمَنْعِ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ; لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ: " «لَوْكَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مَنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَنْ يَمْلَأَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» "، وَأَمَّا الْبُخْلُ فَهُوَ الْمَنْعُ نَفْسُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَنِ الْبُخْلُ أَعَمُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْبُخْلُ وَلَا شُحَّ ثَمَّةَ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَعَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ فَقَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9] ; أَيْ يَحْفَظُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ يَدِي شَيْءٌ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا وَلَكِنْ ذَاكَ الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِدْخَالُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَرَوَيْنَا عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «اتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمْلَهُمْ أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَيَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَهُمْ» ".

وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ رُوحٍ وَنَفْسٍ وَقَلْبٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا ; لِأَنَّهُ تَارَةً يَمِيلُ إِلَى الرُّوحِ وَيَتَّصِفُ بِصِفَتِهَا فَيَتَنَوَّرُ وَيُفْلِحُ، وَأُخْرَى إِلَى النَّفْسِ

ص: 2478

فَيَصِيرُ مُظْلِمًا، فَإِذَا اتَّصَفَ بِصِفَةِ الرُّوحِ تَنَوَّرَ، وَكَانَ مَقَرًّا لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَفَازَ وَأَفْلَحَ. قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَإِذَا اتَّصَفَ بِصِفَةِ النَّفْسِ أَظْلَمَ وَكَانَ مَقَرًّا لِلشُّحِّ الْهَالِعِ فَخَابَ وَخَسِرَ وَلَمْ يُفْلِحْ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ اه. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ الْمُخْلِطَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى الرُّوحِ تَارَةً فَتَزُولُ عَنْهُ الْخَصَائِلُ الذَّمِيمَةُ، وَقَدْ يَمِيلُ إِلَى النَّفْسِ فَيَعُودُ إِلَيْهَا الْأَحْوَالُ الدِّينِيَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي آنٍ وَاحِدٍ لَهُ جَوَلَانُ وَمَيَلَانُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ، كَجَوَلَانِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، فَيَنْطَعُ وَيَنْعَكِسُ فِيهَا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ «أَنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ:«مَثَلُ الْقُلُوبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الشُّهُودِ، وَلِذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:" «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةً فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضِعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْأَحْيَاءِ.

ص: 2479

3829 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3829 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ) : وَفِي رِوَايَةٍ أَبَدًا ; أَيْ: لَا يُصِيبُهُمَا أَدَقُّ إِصَابَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَرَيَانِ النَّارَ. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: أَبَدًا (عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّفْسِ التَّائِبِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ (وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ) : وَفِي رِوَايَةٍ تَكْلَأُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَهِيَ شَامِلَةٌ ; لِأَنْ تَكُونَ فِي الْحَجِّ، أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوِ الْجِهَادِ، أَوِ الْعِبَادَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَارِسُ لِلْمُجَاهِدِينَ لِحِفْظِهِمْ عَنِ الْكُفَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَيْنٌ بَكَتْ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْمُجَاهِدِ مَعَ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] حَيْثُ حَصْرُ الْخَشْيَةِ فِيهِمْ غَيْرُ مُتَجَاوَزٍ عَنْهُمْ، فَحَصَلَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ عَيْنِ مُجَاهِدٍ مَعَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَعَيْنِ مُجَاهِدٍ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ مُتَرَادِفَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: الْخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ تَعَالَى يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، لِيَنَالُوا بِهِمَا رُتْبَةَ الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اه. فَكُلُّ خَوْفٍ لَا يُورِثُ مَا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا حَقِيقِيًّا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَشْيَةَ خَوْفٌ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا جُرِّدَ عَنْ مَعْنَى الْخَوْفِ، وَأُرِيدَ التَّعْظِيمُ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظُهُ: " «عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» ". وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ، بِتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

ص: 2479

3830 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ:

لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3830 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا انْفَرَجَ مِنَ الْجَبَلَيْنِ وَغَيْرُهُ (فِيهِ عُيَيْنَةٌ) : تَصْغِيرُ عَيْنٍ بِمَعْنَى الْمَنْبَعِ (مِنْ مَاءٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ عُيَيْنَةٍ جِيءَ بِهَا مَادِحَةً ; لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعِ مَاءٍ صَافٍ تَرُوقُ بِهِ الْأَعْيُنُ وَتَبْهَجُ بِهِ الْأَنْفُسُ (عَذْبَةٌ) : بِالرَّفْعِ صِفَةُ عُيَيْنَةٍ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ ; أَيْ طَيِّبَةً، أَوْ طَيِّبٌ مَاؤُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعَذْبَةٌ صِفَةٌ أُخْرَى مُمَيِّزَةٌ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الْأَلَذَّ سَائِغٌ فِي الْمَرِّيءِ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْجَبَ الرَّجُلَ وَتَمَنَّى الِاعْتِزَالَ عَنِ النَّاسِ فَقَالَ ; أَيِ الرَّاوِي (فَأَعْجَبَتْهُ) : أَيِ الْعُيَيْنَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَكَانِ (فَقَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ) : لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَوِ امْتِنَاعِيَّةً، قَوْلُهُ:

ص: 2479

(فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ) : عَطْفٌ عَلَى اعْتَزَلْتُ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ ; أَيْ لَكَانَ خَيْرًا لِي. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ: فِيهِ غَيْضَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ رِوَايَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ غَيْضَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا فَالْمَعْنَى غَيْضَةٌ كَانَتْ مِنْ مَاءٍ، وَهِيَ الْأَجَمَةُ مِنْ غَاضَ الْمَاءُ، إِذَا نَضَبَ، فَإِنَّهَا مَغِيضُ مَاءٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الشَّجَرُ، وَالْجَمْعُ غِيَاضٌ وَأَغْيَاضٌ (فَذُكِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ ذَكَرُوا (ذَلِكَ) : أَيْ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُلِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاعِلِ ; أَيْ ذَكَرَ بِنَفْسِهِ اسْتِئْذَانًا لِمَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ (فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ) : نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغَزْوُ فَكَانَ اعْتِزَالُهُ لِلتَّطَوُّعِ مَعْصِيَةً لِاسْتِلْزَامِهِ تَرْكَ الْوَاجِبِ، ذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ رحمه الله، وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ الِاعْتِزَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْجِهَادِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ مِنَ الْعِبَادِ (فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ ; أَيْ قِيَامَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَهِيَ الْإِقَامَةُ بِمَعْنَى ثَبَاتِ أَحَدِكُمْ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ خُصُوصًا فِي خِدْمَةِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ) : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَهُ كَانَ مَفْضُولًا لَا مُحَرَّمًا (سَبْعِينَ عَامًا) : الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " «مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيِّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم وَلَفْظُهُ " قِيَامُ أَحَدِكُمْ ". (أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ ; أَيْ: أَمَا (تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) : أَيْ مَغْفِرَةً تَامَّةً (وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ) : أَيْ إِدْخَالًا أَوَّلِيًّا (اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ دُومُوا عَلَى الْغَزْوِ فِي دِينِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2480

3831 -

وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

3831 -

(وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ سِوَاهُ» ) : أَيْ فِيمَا سِوَى الرِّبَاطِ،، أَوْ فِيمَا سِوَى سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (مِنَ الْمَنَازِلِ) : وَخَصَّ مِنْهَا الْمُجَاهِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ، وَهُوَ يُنَافِي تَفْسِيرَ الرِّبَاطِ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" فَذَلِكَ الرِّبَاطُ، فَذَلِكَ الرِّبَاطُ " ; لِأَنَّهُ رِبَاطٌ دُونَ رِبَاطٍ، بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِالرِّبَاطِ لِلْجِهَادِ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِيهِ،، أَوْ هَذَا رِبَاطٌ لِلْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاكَ رِبَاطٌ لِلْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَتَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فَإِنَّ الرِّبَاطَ الْجِهَادِيَّ قَدْ فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَابِطُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُجَاهِدِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ:" فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ " وَقَدْ شَرَحْنَاهُ ثَمَّةَ. قُلْتُ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْمُرَابَطَةُ، وَتَعَيَّنَ بِنَصْبِ الْإِمَامِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ. قُلْتُ: فِي الْفَرْضِ الْعَيْنِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ، ; لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا يُتَصَوَّرُ خِلَافُهُ إِذِ اشْتِغَالُهُ بِغَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَاتٌ أُخَرُ تُفِيدُهُ وَتُقَوِّيهِ.

ص: 2480

3832 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَعَبَدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3832 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَرَضَ عَلَيَّ) : أَيْ ظَهَرَ لَدَيَّ (أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَافَ أَفْعَلَ إِلَى النَّكِرَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ; أَيْ أَوَّلُ كُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْآخَرِينَ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إِلَّا التَّنْسِيقُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي اه. وَقَوْلُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَأَنَّهُ صِفَةُ النَّكِرَةِ ; أَيِ النَّكِرَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ تَعُمُّ، فَالْمَعْنَى أَوَّلُ كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثَلَاثَةُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ تَقْدِيمَ الذِّكْرَى يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «ابْدَأُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ» ". وَرُوِيَ (ثَلَاثَةٌ) بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ; أَيْ أَوَّلُ جَمَاعَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَرُوِيَ بِرَفْعِ (ثَلَاثَةٌ) فَضَمُّ أَوَّلَ لِلْبِنَاءِ كَضَمِّ: قَبْلُ وَبَعْدُ وَهُوَ ظَرْفُ عَرَضَ ; أَيْ عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْعَرْضِ ثَلَاثَةٌ، أَوْ ثَلَاثَةٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ (شَهِيدٌ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا ; لِأَنَّهُ حَيٌّ، فَكَأَنَّ رُوحَهُ شَاهِدَةٌ ; أَيْ حَاضِرَةٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشْهَدُ لَهُ بِالْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ (وَعَفِيفٌ) : أَيْ عَمَّا لَا يَحِلُّ (مُتَعَفِّفٌ) : أَيْ عَنِ السُّؤَالِ مُكْتَفٍ بِالْيَسِيرِ عَنْ طَلَبِ الْفُضُولِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، وَقِيلَ: أَيْ مُنَزَّهٌ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ صَابِرٌ عَلَى مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ (وَعَبْدٌ) : أَيْ مَمْلُوكٌ (أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ) : بِأَنْ قَامَ بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَخْلَصَ عِبَادَتَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ". وَلَا يَخْفَى عَدَمُ مُلَاءَمَتِهِ لِلْمَقَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَامَ بِحَقِّ خَالِقِهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ (وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ) : أَيْ أَرَادَ الْخَيْرَ لَهُمْ وَقَامَ بِحُقُوقِهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «عَرَضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَأَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةِ الْجَنَّةِ ; فَالشَّهِيدُ، وَمَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ. وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» ".

ص: 2481

3833 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقِيَامِ. قِيلَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ. قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَيْمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ. قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ،» ثُمَّ اتَّفَقَا فِي الْبَاقِي.

ــ

3833 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ رضي الله عنه : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وُفِي آخِرِهِ يَاءُ النِّسْبَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَثْعَمِيٌّ لَهُ رِوَايَةٌ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، سَكَنَ مَكَّةَ رَوَى عَنْهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مُصَغَّرَانِ وَغَيْرُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ) : أَيْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقِيَامِ) : لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ وَإِطَالَةُ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ إِطَالَةَ السُّجُودِ أَفْضَلُ، فَلِكَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَسْكَنَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ) : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ طَاقَةُ الْفَقِيرِ وَمَجْهُودُهُ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَلِهَذَا وَرَدَ: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ أَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ مِنْ عَرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِجُهْدِ الْمُقِلِّ مَا أَعْطَاهُ الْفَقِيرُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فَيُقَيَّدُ بِمَا إِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ تَضِيعُ بِإِنْفَاقِهِ (قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَصْنَافِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ) : أَيْ هِجْرَةُ مَنْ هَجَرَ، أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ فَأَيُّ صَاحِبِ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ (مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) : وَكَذَا قَوْلُهُ (قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ) : وَلِتَوَقُّفِ هَذَا الْجِهَادِ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَرَدَ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ يُجَاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ، رَوَاهُ ابْنُ النَّجَّارِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ،

ص: 2481

وَلِهَذَا سُمِّيَ جِهَادًا أَكْبَرَ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْأَفْضَلِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ. (قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ ; أَيْ أُرِيقَ وَسُفِكَ (دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ) : أَيْ جُرِحَ فَرَسُهُ الْجَيِّدُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَفِي الْكَلَامِ كِنَايَتَانِ عَنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ مَرْكُوبِهِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْجِهَادِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَمَالًا وَنَفْسًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ تَغْيِيرَ الْعِبَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ إِنَّمَا كَانَ لِاهْتِمَامِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرَفِ هُوَ الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ وَالرِّفْعَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْزِلَةَ دَرَجَةِ الشَّهِيدِ الَّذِي نَالَ مِنْ دَرَجَاتِ الشَّهَادَةِ أَقْصَاهَا وَغَايَتَهَا هُوَ الْفِرْدَوْسُ الْأَعْلَى، وَهَذَا الشَّهِيدُ هُوَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَجَوَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَطْعُ عَقِبِ الْجَوَادِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ شَجَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا يُطَاقُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ إِلَّا بِعَقْرِ جَوَادِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ) : أَيْ بَعْدَهُ إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ (وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ) : وَالْغُلُولُ بِضَمٍّ أَوَّلِهُ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، وَوَرَدَ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَعَلَّهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ سَائِلِهَا، أَوْ بَعْضُهَا إِضَافِيَّةٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِهَا (وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ) : وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمَبْرُورِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمَبْرُورَ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ، وَقِيلَ: الْمُتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ وَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ بَعْدَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْعُقْبَى. (قِيلَ. فَأَيُّ الصَّلَاةِ) : أَيْ مِنْ أَحْوَالِهَا (أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ) : أَيِ الْقِيَامِ، أَوِ السُّكُونِ وَالْخُشُوعِ فِي السُّجُودِ (ثُمَّ اتَّفَقَا) : أَيْ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (فِي الْبَاقِي) : أَيْ بَاقِي الْحَدِيثِ.

ص: 2482

3834 -

وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3834 -

(وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ) : لَا يُوجَدُ مَجْمُوعُهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ (يُغْفَرُ لَهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ تُمْحَى ذُنُوبُهُ (فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. الْجَوْهَرِيُّ: الدُّفْقَةُ مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ بِالضَّمِّ مِثْلُ الدُّفْعَةِ وَبِالْفَتْحِ الْوَاحِدَةُ ; أَيْ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْقَةٍ وَصَبَّةٍ مِنْ دَمِهِ (وَيَرَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنَّ الْإِرَاءَةِ وَيُفْتَحُ وَقَوْلُهُ: (مَقْعَدَهُ) : بِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَكِنٌّ فِي يَرَى وَقَوْلُهُ:(مِنَ الْجَنَّةِ) : مُتَعَلِّقٌ بِهِ، هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ: وَيَرَى مَقْعَدَهُ عَلَى أَنَّهُ عَطَفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: يُغْفَرُ لَهُ لِئَلَّا تَزِيدَ الْخِصَالُ عَلَى سِتٍّ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ:(وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) : أَيْ يُحْفَظُ وَيُؤَمَّنُ إِذِ الْإِجَارَةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ إِذَا حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا (وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] قِيلَ: هُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَقِيلَ: الْعَرْضُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: هُوَ وَقْتُ يُؤْمَرُ أَهْلُ النَّارِ بِدُخُولِهَا، وَقِيلَ: ذَبْحُ الْمَوْتِ فَيَيْأَسَ الْكُفَّارُ عَنِ التَّخَلُّصِ مِنَ النَّارِ بِالْمَوْتِ، وَقِيلَ: وَقْتُ إِطْبَاقِ النَّارِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87](وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ) : أَيِ الْمَعَزَّةُ. وَفَى النِّهَايَةِ: التَّاجُ مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ (الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا) : أَيْ مِنَ التَّاجِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ

ص: 2482

أَنَّهُ عَلَامَةُ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا. (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ) : أَيْ يُعْطَى بِطَرِيقِ الزَّوْجِيَّةِ (اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً) : فِي التَّقْيِيدِ بِالثِّنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّحْدِيدُ، لَا التَّكْثِيرُ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يُعْطَى، وَلَا مَانِعَ مِنَ التَّفَضُّلِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا (مِنَ الْحُورِ الْعِينِ) : أَيْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ وَاحِدَتُهَا حَوْرَاءُ، وَهِيَ الشَّدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ سَوَادِهَا، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ (وَيُشَفَّعُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ ; أَيْ يُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ (فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ) : أَيْ أَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2483

3835 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3835 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ) : الْأَثَرُ بِفَتْحَتَيْنِ مَا لَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ دَالًّا عَلَيْهِ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَلَامَةُ ; أَيْ مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْغَزْوِ مِنْ جِرَاحَةٍ، أَوْ غُبَارِ طَرِيقٍ، أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ، أَوْ صَرْفِ مَالٍ، أَوْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابٍ وَتَعْبِيَةِ أَسْلِحَةٍ (لَقِيَ اللَّهَ) : أَيْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَفِيهِ ثُلْمَةٌ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ ; أَيْ: خَلَلٌ وَنُقْصَانٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُجَاهَدَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُقَيَّدًا بِمَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ الشُّرُوعِ فِي تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمُرَادِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مِنْ جِهَادٍ صِفَةُ أَثَرٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمُّ كُلَّ جِهَادٍ مَعَ الْعَدُوِّ وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجَاهَدَةِ قَالَ تَعَالَى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] الثُّلْمَةُ هَاهُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلنُّقْصَانِ، وَأَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي نَحْوِ الْجِدَارِ، وَلَمَّا شُبِّهَ الْإِسْلَامُ بِالْبِنَاءِ فِي قَوْلِهِ:" بُنِيَ «الْإِسْلَامُ عَلَى خُمْسٍ» " جُعِلَ كُلُّ خَلَلٍ فِيهِ وَنُقْصَانٍ ثُلْمَةً عَلَى سَبِيلِ التَّرْشِيحِ، وَهَذَا ; أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَيَنْصُرُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ يَعْنِي الْآتِي، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

ص: 2483

3836 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ الْقَرْصَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

3836 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشَّهِيدُ) : أَيِ الْحَقِيقِيُّ وَفِي مَعْنَاهُ الْحُكْمِيُّ (لَا يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ) : وَفِي رِوَايَةٍ مَسَّ الْقَتْلِ ; أَيْ شِدَّةَ الْمَوْتِ (إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ الْقَرْصَةِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مَسَّ الْقَرْصَةِ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ هِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَرْصِ، وَهُوَ عَضُّ النَّمْلَةِ الْإِنْسَانَ. وَقِيلَ أَخْذُ الْجِلْدِ بِنَحْوِ ظُفْرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَرْصُ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَأَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَصَوَّرُ أَنَّ أَلَمَهُ يَفْضُلُ عَلَى أَلَمِهَا، وَذَلِكَ فِي شَهِيدٍ دُونَ شَهِيدٍ، شَهِيدٌ يَتَلَذَّذُ بِذُلِّ مُهْجَتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ كَعُمَيْرِ بْنِ الْحُطَامِ وَإِلْفَاءِ ثَمَرَاتِهِ وَلِقَائِهِ الْمَوْتَ كَمَا مَرَّ وَأَنْشَدَ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارَ حِينَ قُتِلَ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

شَارَكَ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

اه. وَالْمَعْنَى يُبَارِكُ عَلَى أَعْضَاءِ جِسْمٍ مُقَطَّعِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صُلِبَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَأُسِرَ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ أَبُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ قَدْ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَاشْتَرَاهُ بَنُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، ثُمَّ صَلَبُوهُ بِالتَّنْعِيمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: لَمَّا خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَنْشَدَ خُبَيْبٌ يَقُولُ: الْبَيْتَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.

ص: 2483

3837 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ، وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ يُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

3837 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ، وَأَثَرَيْنِ) : أَيْ خُطْوَتَيْنِ (قَطْرَةِ دُمُوعٍ) : بِجَرِّهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهَا وَنَصْبُهَا ; أَيْ: قَطْرَةِ بُكَاءٍ حَاصِلَةٍ (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) : أَيْ خَوْفِهِ وَعَظَمَتِهِ الْمُورِثَةِ لِمَحَبَّتِهِ (وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ، وَهُوَ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ قَطْرَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ دَمٍ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْجِهَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ أَنَّ الدَّمْعَ غَالِبًا يَتَقَاطَرُ وَيَتَكَاثَرُ بِخِلَافِ الدَّمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِقَطْرَةِ الدَّمِ قَطَرَاتُهَا، فَلَمَّا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَمْعِ أُفْرِدَتْ ثِقَةً بِذِهْنِ السَّامِعِ، وَفِي إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ ; إِيذَانٌّ بِتَفْضِيلِ إِهْرَاقِ الدَّمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى تَقَاطُرِ الدَّمْعِ بُكَاءً اه. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْقَطْرَتَانِ فَكَذَا وَكَذَا عَطَفٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ:(وَأَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : كَخُطْوَةٍ، أَوْ غُبَارٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي الْجِهَادِ، أَوْ سَوَادِ حِبْرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ (وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى) : كَإِشْقَاقِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ فِي الْبَرْدِ، وَبَقَاءِ بَلَلِ الْوُضُوءِ فِي الْحَرِّ، وَاحْتِرَاقِ الْجَبْهَةِ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَخُلُوفِ فَمِهِ فِي الصَّوْمِ، وَاغْبِرَارِ قَدَمِهِ فِي الْحَجِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

ص: 2484

3838 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْكَبِ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3838 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَرْكَبِ الْبَحْرَ) بِصِيغَةِ النَّهْيِ لِلْمُخَاطَبِ خِطَابًا عَامًّا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّفْيِ وَهُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ (إِلَّا حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَهَالِكِ، وَبِوَقْعِهِ مَوَاقِعَ الْأَخْطَارِ، إِلَّا لِأَمْرِ دِينٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْسِنُ بَذْلَ النَّفْسِ فِيهِ، وَإِيثَارَهُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَحْرَ عُذْرٌ لِتَرْكِ الْحَجِّ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ فَفَرَضَ عَلَيْهِ يَعْنِي وَإِلَّا فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ; أَيْ لَا تُوقِعُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْهَلَاكِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ وَأَمْرٌ دِينِيٌّ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ; أَيْ بِالْإِسْرَافِ وَتَضْيِيعِ وَجْهِ الْمَعَاشِ، أَوْ بِالْكَفِّ عَنِ الْغَزْوِ وَالْإِنْفَاقِ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْعَدُوَّ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَكَثَّرَ اللَّهُ أَهْلَهُ رَجَعْنَا إِلَى أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا نُقِيمُ فِيهَا فَنَزَلَتْ، أَوْ بِالْإِمْسَاكِ وَحُبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ الْمُؤَبَّدِ. وَقَوْلُهُ:( «فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» ) : يُرِيدُ بِهِ تَهْوِيلَ شَأْنِ الْبَحْرِ وَتَعْظِيمَ الْخَطَرِ فِي رُكُوبِهِ، فَإِنَّ رَاكِبَهُ مُتَعَرِّضٌ لِلْآفَاتِ الْمُهْلِكَةِ كَالنَّارِ وَالْفِتَنِ الْمُغْرِقَةِ كَالْبَحْرِ إِحْدَاهُمَا وَرَاءَ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَخْطَأَتْ وَرْطَةٌ مِنْهَا جَذَبَتْهُ أُخْرَى بِمَخَالِبِهَا، فَمَهَالِكُهَا مُتَرَاكِمَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَا يُؤَمَنُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ، وَقَدِ احْتَرَقَتْ سَفِينَةٌ فِي زَمَانِنَا وَاحْتَرَقَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَغَرِقَ بَعْضٌ مِنْهُمْ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ نَجَوْا بِمِحَنٍ شَدِيدَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:«الْبَحْرُ مِنْ جَهَنَّمَ» عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] ; أَيْ أُحْمِيَتْ وَأُوقِدَتْ، أَوْ مُلِئَتْ بِتَفْجِيرِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَعُودَ بَحْرًا وَاحِدًا وَتَصِيرَ نَارًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2484

3839 -

وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَالْغَرِيقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3839 -

(وَعَنْ أُمِّ حَرَامٍ) : ضِدُّ الْحَلَالِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ بِكَسْرِ الْمِيمِ ابْنِ خَالِدٍ النَّجَّارِيَّةُ، وَهِيَ أُخْتُ أَمِّ سُلَيْمٍ أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقِيلُ فِي بَيْتِهَا زَوْجَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، مَاتَتْ غَازِيَةً مَعَ زَوْجِهَا بِأَرْضِ الرُّومِ وَقَبْرُهَا بِقُبْرُصَ، رَوَى عَنْهَا ابْنُ أُخْتِهَا أَنَسٌ، وَزَوْجُهَا عُبَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَقِفُ لَهَا عَلَى اسْمٍ صَحِيحٍ غَيْرَ كُنْيَتِهَا، وَكَانَ مَوْتُهَا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا مَالَ وَتَحَرَّكَ، وَهُوَ الَّذِي يَدُورُ رَأْسُهُ مِنْ رِيحِ الْبَحْرِ، وَاضْطِرَابِ السَّفِينَةِ بِالْأَمْوَاجِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُخَصِّصَةٌ (لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ وَأَصَابَهُ دَوَرَانٌ، فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ إِنْ رَكِبَهُ لِطَاعَةٍ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَلَمْ يَتَّجِرْ لِطَلَبِ زِيَادَةِ الْمَالِ، بَلْ لِلْقُوتِ (وَالْغَرِيقُ) : أَيْ فِي الْبَحْرِ لِمَا ذُكِرَ (لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ) : أَحَدُهُمَا لِقُعُودِ الطَّاعَةِ وَالْآخَرُ لِلْغَرَقِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْهَا بِلَفْظِ: " «لِلْمَائِدِ أَجْرُ شَهِيدٍ وَلِلْغَرِيقِ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ» ".

ص: 2485

3840 -

وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3840 -

(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو مَالِكٍ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيُّ كَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْهُ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، أَوْ أَبُو عَامِرٍ بِالشَّكِّ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَأَبُو مَالِكٍ هُوَ الصَّوَابُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ فَصَلَ، أَيْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] الْكَشَّافُ: فَصَلَ عَنْ مَوْضِعِ كَذَا إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَجَاوَزَهُ، وَأَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ مَحْذُوفًا بِهِ الْمَفْعُولُ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي كَانْفَصَلَ، وَقِيلَ فَصَلَ عَنِ الْبَلَدِ فُصُولًا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ لِلْجِهَادِ وَنَحْوِهِ (فَمَاتَ) : أَيْ بِجِرَاحَةٍ (أَوْ قَتْلٍ، أَوْ وَقَصَهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ صَرَعَهُ وَدَقَّ عُنُقَهُ (فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ: لَسَعَتْهُ (هَامَّةٌ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ ذَاتُ سُمٍّ تَقْتُلُ، أَمَّا مَا يَسُمُّ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ السَّامَّةُ كَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ: أَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْهَلَاكِ (شَاءَ اللَّهُ) : أَيْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ (فَإِنَّهُ شَهِيدٌ) : أَيْ إِمَّا حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ) : أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا مَعَ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى حُصُولِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْمُقَاتَلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ لَهُ بَدَلَهُ الْجَنَّةَ، فَهُوَ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ص: 2485

3841 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3841 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (قَفْلَةٌ كَغَزْوَةٍ) : فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْمَرَّةُ مِنَ الْقُفُولِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْ سَفَرِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّ أَجْرَ الْمُجَاهِدِ انْصِرَافُهُ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ غَزْوِهِ كَأَجْرِهِ فِي إِقْبَالِهِ إِلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّ فِي قُفُولِهِ إِرَاحَةً لِلنَّفْسِ وَاسْتِعْدَادًا بِالْقُوَّةِ لِلْعَوْدِ وَحِفْظًا لِأَهْلِهِ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ أَنَّ الْحَاجَّ فِي ضَمَانِ اللَّهِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَثَانِيهَا: إِرَادَتُهُ التَّعْقِيبَ، وَهُوَ رُجُوعُهُ ثَانِيًا فِي الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ مُنْصَرِفًا، وَإِنْ لَمْ يَلْقَ عَدُوًّا وَلَمْ يَشْهَدْ قِتَالًا، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَيْشُ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ مَغْزَاهُمْ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ

ص: 2485

الْعَدُوَّ إِذَا رَآهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ أَمِنُوهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ أَمْكِنَتِهِمْ، فَإِذَا قَفَلَ الْجَيْشُ إِلَى دَارِ الْعَدُوِّ نَالُوا الْفُرْصَةَ مِنْهُمْ فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ إِذَا انْصَرَفُوا ظَاهِرِينَ لَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَقْفُوا الْعَدُوُّ أَثَرَهُمْ فَيُوقِعُوا بِهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَرُبَّمَا اسْتَظْهَرَ الْجَيْشُ، أَوْ بَعْضُهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى أَدْرَاجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ طَلَبٌ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَائِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ سَلِمُوا وَأَحْرَزُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَثَالِثُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ قَفَلُوا لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَدْهَمَهُمْ مِنْ عَدُّوِهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهُمْ، فَقَفَلُوا لِيَسْتَضِيفُوا إِلَيْهِمْ عَدَدًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ يَكُرُّوا عَلَى عَدُوِّهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَقْوَمُ ; لِأَنَّ الْقُفُولَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَيُرِيدُهُ أَنَّ الْقَفْلَةَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِيهَا أَنَّهَا غَزْوَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ: كَغَزْوَةٍ فَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى يُثَابُ الْغَازِي بِقُفُولِهِ وَرُجُوعِهِ، كَمَا يُثَابُ بِتَوَجُّهِهِ إِلَى الْعَدُوِّ وَغَزْوِهِ ; لِأَنَّ حَرَكَاتِ الْقُفُولِ مِنْ تَوَابِعِ الْغَزْوِ فَتَكُونُ فِي حُكْمِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ إِمَّا لِإِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ، أَوْ لِبَيَانِ الْمُسَاوَاةِ، فَالتَّنْكِيرُ إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: رُبَّ قَفْلَةٍ تُسَاوِي الْغَزْوَةَ لِمَصْلَحَةٍ مَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقَفْلَةُ أَرْجَحَ مِنَ الْغَزْوَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْغَزْوَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْقَفْلَةِ مَصْلِحَةٌ لَهُمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُسْتَعَارَ الْقَفْلَةُ لِلْكُرَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

ص: 2486

3842 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3842 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِلْغَازِي أَجْرُهُ) : أَيْ ثَوَابُهُ الْكَامِلُ الْمُخْتَصُّ بِهِ (وَلِلْجَاعِلِ) : أَيْ لِلْمُعِينِ لِلْغَازِي بِبَذْلِ جَعْلٍ لَهُ، أَوْ بِتَجْهِيزِ أَسْبَابِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ (أَجْرُهُ) : أَيْ أَجْرُ نَفَقَتِهِ (وَأَجْرُ الْغَازِي) : أَيِ الَّذِي يَغْزُو بِسَبَبِ أُجْرَتِهِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجَاعِلُ مَنْ يَدْفَعُ جَعْلًا ; أَيْ أُجْرَةً إِلَى غَازٍ لِيَغْزُوَ، وَهَذَا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فَيَكُونُ لِلْغَازِي أَجْرُ سَعْيِهِ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرَانِ أَجْرُ إِعْطَاءِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَجْرُ كَوْنِهِ سَبَبًا لِغَزْوِ ذَلِكَ الْغَازِي، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَوْجَبَ رَدَّهُ أَنْ أَخَذَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ كَانَ الثَّانِي عَيْنَ أَوَّلٍ، فَالْمُرَادُ بِالْغَازِي الْأَوَّلِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ جَعَالَةً، فَمَنْ شَرَطَ لِلْغَازِي جَعْلًا فَلَهُ أَجْرُ بَذْلِ الْمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ جَعْلًا، وَأَجْرُ غِزَاءِ الْمَجْعُولِ لَهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا» " الْحَدِيثَ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ". وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ تَرْغِيبٌ لِلْجَاعِلِ وَرُخْصَةٌ لِلْمَجْعُولِ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجَعْلِ عَلَى الْجِهَادِ، فَرَخَّصَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ قَوْمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِجَعْلٍ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنْ يُحْمَلَ الْجَاعِلُ عَلَى الْمُجَهِّزِ لِلْغَازِي، وَالْمُعِينِ لَهُ بِبَذْلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الْغَزْوِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ وَشَرْطٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا جَعْلُهُ غَازِيًا لَا أَجِيرًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2486

3843 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الْأَمْصَارُ، وَسَتَكُونُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، يُقْطَعُ عَلَيْكُمْ فِيهَا بُعُوثٌ، فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ الْبَعْثَ، فَيَتَخَلَّصُ مَنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ يَتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا أَلَا وَذَلِكَ الْأَجِيرُ إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3843 -

(وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الْأَمْصَارُ) : أَيِ الْبُلْدَانُ الْكِبَارُ وَخُصَّتْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مَدَارُ الدِّيَارِ (وَسَتَكُونُ) : أَيْ تُوجَدُ وَتَقَعُ (جُنُودٌ) : جَمْعُ جُنْدٍ ; أَيْ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ (مُجَنَّدَةٌ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ; أَيْ مُجْتَمَعَةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ ; أَيْ مَجْمُوعَةٌ كَمَا يُقَالُ: أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَقَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ (يُقْطَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يُعَيَّنُ (عَلَيْكُمْ فِيهَا) : أَيْ فِي تِلْكَ الْجُنُودِ (بُعُوثٌ) : جَمْعُ بَعْثٍ بِمَعْنَى الْجَيْشِ، يَعْنِي يُلْزَمُونَ أَنْ يُخْرِجُوا بُعُوثًا تَنْبَعِثُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ إِلَى الْجِهَادِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِذَا بَلَغَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ يَحْتَاجُ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ يُرْسِلَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ جَيْشًا لِيُحَارِبَ مَنْ يَلِي تِلْكَ النَّاحِيَةَ الْكُفَّارَ كَيْلَا

ص: 2486

يَغْلِبَ كُفَّارُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى مَنْ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فَيَكْرَهُ الرَّجُلُ الْبَعْثَ) : أَيِ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَعْثِ إِلَى الْغَزْوِ بِلَا أَجْرِهِ (فَيَتَخَلَّصُ مِنْ قَوْمِهِ) : أَيْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَيَفِرُّ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْغَزْوِ (ثُمَّ يَتَصَفَّحُ الْقَبَائِلَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ) : أَيْ يَتَفَحَّصُ عَنْهَا وَيَتَسَاءَلُ فِيهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَارَقَ هَذَا الْكَسْلَانُ قَوْمَهُ كَرَاهِيَةَ الْغَزْوِ وَيَتَتَبَّعُ الْقَبَائِلَ طَالِبًا مِنْهُمْ أَنْ يَشْرُطُوا لَهُ شَيْئًا وَيُعْطُوهُ (قَائِلًا مَنْ أَكْفِيهِ بَعْثَ كَذَا) : أَيْ مِنْ يَأْخُذُنِي أَجِيرًا أَكْفِيهِ جَيْشَ كَذَا، وَيَكْفِينِي هُوَ مُؤْنَتِي وَعَيْشَ كَذَا (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَذَلِكَ) : أَيِ الرَّجُلُ إِلَى كُرْهِ الْبَعْثِ تَطَوُّعًا (الْأَجِيرُ) : أَيْ لَا أَجْرَ لَهُ (إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ) : فَالْأَجْرُ خَبَرُ ذَلِكَ ; أَيْ: وَذَلِكَ الْأَجِيرُ أَجِيرٌ وَلَيْسَ بِغَازٍ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ رَغْبَةً فِيمَا عُقِدَ لَهُ مِنَ الْمَالِ لَا رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ أَجِيرًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَفَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَادٌ كَسَائِرِ الْأَجِيرِ إِذَا لَمْ يَقْصِدُ بِغَزْوِهِ إِلَّا الْجَعْلَ الْمَشْرُوطَ، وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ ثَوَابِ الْغَزْوِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ اه. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2487

3844 -

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه، قَالَ:«آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا سَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ، أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ، فَجِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ. فَقَالَ: " مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي تُسَمِّي» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3844 -

(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: آذَنَ) : بِالْمَدِّ ; أَيْ أَعْلَمَ، أَوْ نَادَى (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَزْوِ: أَيْ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ (وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: (لَيْسَ لِي خَادِمٌ) صِفَةُ (شَيْخٌ) ; أَيْ: لَيْسَ لِي مَنْ يَخْدِمُنِي فِي الْغَزْوِ وَيُعَاوِنُنِي اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ، وَلَوْ كَانَ صِفَةَ شَيْخٍ لَقَالَ: لَيْسَ لِي خَادِمٌ (فَالْتَمَسْتُ) : أَيْ طَلَبْتُ (أَجِيرًا يَكْفِينِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا سَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ: وَفِي نُسْخَةٍ: سُمِّيَ ; أَيْ عُيِّنَ لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَلَعَلَّهَا مَا عَدَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَتَوَابِعَهَا (فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ) : أَيْ وَقَعَتْ وَحَصَلَتْ (أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ) : مِنِ الْإِجْرَاءِ ; أَيْ أُمْضِيَ (لَهُ سَهْمَهُ) : أَيْ رَاكِبًا، أَوْ مَاشِيًا كَسَائِرِ الْغُزَاةِ. فَتَرَدَّدْتُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ (فَجِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ) : أَيِ الْقَضِيَّةَ (قَالَ: مَا أَجِدُ) : أَيْ مَا أَعْرِفُ (لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي تُسَمَّى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ تُعَيَّنُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَتَقْبِيحِ حَالِهِ فِي مَيْلِهِ إِلَى الْمَالِ وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الْمَآلِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي الْأَجِيرِ لِلْعَمَلِ وَحِفْظِ الدَّوَابِّ يَحْضُرُ الْوَاقِعَةَ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ؟ فَقِيلَ: لَا سَهْمَ لَهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ إِنَّمَا لَهُ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُسْهَمُ لَهُ كَانَ لَمْ يُقَاتِلْ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَالسَّهْمِ اه. وَيَظْهَرُ لِي قَوْلٌ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ - أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي إِجَارَتِهِ الْقِتَالَ يُجْمَعُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ وَالسَّهْمِ ; لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ مُتَعَاضِدَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَاعِدَةِ مَذْهَبِنَا السَّابِقِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَجْتَمِعَانِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2487

3845 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَا أَجْرَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3845 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ) ; أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَهُوَ) : أَيْ: وَالْحَالُ (أَنَّهُ يَبْتَغِي عَرَضًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ قِيلَ: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا كَانَ مِنْ مَالٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَالْعَرْضُ بِالتَّسْكِينِ الْمَتَاعُ، وَكِلَاهُمَا هُنَا جَائِزٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرَضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا عَيْنٌ ; أَيْ: يَطْلُبُ شَيْئًا (مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا) : أَيْ: مِنْ أَعْرَاضِهَا مِنَ الْمَالِ بِالْأُجْرَةِ، أَوِ الْجَاهِ بِالسُّمْعَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَجْرَ لَهُ) : إِذَا لَمْ يَغْزُ لِلَّهِ، وَأَمَّا إِذَا غَزَا لِلَّهِ وَلَمْ يَقْصِدِ الْغَنِيمَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] ; أَيِ: الْغَنِيمَةَ أَيْضًا {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] أَيِ: الْأَجْرَ فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثٍ:«أَنَّ الْغَازِيَ يَرْجِعُ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ الْأَخْصَرُ أَنْ يَجْمَعَ الْمُؤَلَّفُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الثَّمَانِيَةِ وَيَقُولَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ.

ص: 2487

3846 -

وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الْإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ ; فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنَبَهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ. وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا، وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، وَعَصَى الْإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

3846 -

(وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْغَزْوُ: أَيْ: جِنْسُهُ لَا الْغَزْوُ الْمَعْهُودُ (غَزْوَانِ) : أَيْ: نَوْعَانِ، أَوْ قِسْمَانِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: غَزْوٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَغَزْوٌ لَا عَلَى مَا يَنْبَغِي، فَاقْتَصَرَ الْكَلَامُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْغُزَاةِ، وَعَدِّ أَصْنَافِهَا وَشَرْحِ حَالِهِمْ، وَبَيَانِ أَحْكَامِهِمْ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ، وَشَرْحِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفَصَّلًا حَيْثُ قَالَ:(فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ) : أَيْ: طَلَبَ رِضَا مَوْلَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَّا مَنْ غَزَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَطَاعَ الْإِمَامَ) : أَيْ: فِي غَزْوَةٍ فَأَتَى بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أَمَرَهُ (وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ) : أَيِ: الْمُخْتَارَةَ مِنْ مَالِهِ وَقَتْلِ نَفْسِهِ، وَالتَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ (وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ) : مِنَ الْمُيَاسَرَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاهَلَةِ ; أَيْ: سَاهَلَ الرَّفِيقَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَعْمَلَ الْيُسْرَ مَعَهُ نَفْعًا بِالْمَعُونَةِ وَكِفَايَةً بِالْمُؤْنَةِ (وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ) : أَيِ: التَّجَاوُزَ عَنِ الْمَشْرُوعِ قَتْلًا وَضَرْبًا وَتَخْرِيبًا وَنَهْبًا عَلَى قَصْدِ الْفَسَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ; أَيْ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ قَاصِدِينَ الْفَسَادَ، بَلْ مُرِيدِينَ صَلَاحَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ (فَإِنَّ نَوْمَهُ) : أَيْ: حِينَئِذٍ (وَنَبَهَهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِسُكُونِهَا ; أَيْ: يَقَظَتَهُ، وَفِي مَعْنَاهَا غَفْلَتَهُ، وَذِكْرَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ وَحَرَكَتَهُ وَسُكُونَهُ (أَجْرٌ) : أَيْ: ذُو أَجْرٍ وَثَوَابٍ (كُلُّهُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ ; أَيْ: كُلُّ مَا ذُكِرَ أَجْرٌ مُبَالَغَةً، كَرَجُلِ عَدْلٍ، أَوْ مُقْتَضٍ لِلْأَجْرِ جَالِبٌ لِلثَّوَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِاسْمِ إِنَّ أُتِيَ بِهِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَفِي جَوَازِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ تَأْكِيدًا لِلْأَجْرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى ; أَيْ: لِمُضِيِّ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا تَظْهَرُ قَبْلَ إِيقَاعِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ أَعْنِي كُلَّهُ فَيَكُونُ جُمْلَةً مُؤَكِّدَةً قَالَ: وَالْمَعْنَى كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ أَجْرٌ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مُشْعِرٌ بِاهْتِمَامِ حَمْلِ الْأَجْرِ عَلَى النَّوْمِ وَالنَّبَهِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ كَوْنِهِمَا شَيْئَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ غَايَةَ الِاسْتِقْلَالِ (وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا) : أَيْ: مُفَاخَرَةً، أَوْ لِلْفَخْرِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْهُ:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " ; أَيْ: لَا أَقُولُ تَبَجُّحًا، وَلَكِنْ شُكْرًا لِلَّهِ وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَتِهِ (وَرِيَاءً وَسُمْعَةً) : أَيْ: لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوا صِيتَهُ فِي جَلَادَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ (وَعَصَى الْإِمَامَ) : أَيْ: فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ (وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ) : أَيْ: قَصَدَ الْفَسَادَ فِيهَا بِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. (فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا فَفِي الْقَامُوسِ: كَفَافُ الشَّيْءِ كَسَحَابٍ مُثَلَّثَةٌ، وَمِنَ الرِّزْقِ مَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ، وَكِفَافُ الشَّيْءِ بِالْكَسْرِ خِيَارُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّوَابِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَفَافِ الشَّيْءِ وَهُوَ خِيَارُهُ، أَوْ مِنَ الرِّزْقِ ; أَيْ لَمْ يَرْجِعْ بِخَيْرٍ، أَوْ بِثَوَابٍ يُغْنِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَوْلُهُ: الْأَوَّلُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكِفَافَ بِالْكَسْرِ، وَالثَّانِي إِلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: لَمْ يَعُدْ مِنَ الْغَزْوِ رَأْسًا بِرَأْسٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَلَا عَلَيْهِ وِزْرٌ، بَلْ وِزْرُهُ أَكْثَرُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَغْزُ لِلَّهِ وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، يُقَالُ: دَعْنِي كَفَافًا ; أَيْ: تَكُفَّ عَنِّي وَأَكُفَّ عَنْكَ اه.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى كَسْرِ الْكَافِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجْهُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْكَفَافَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابٌ أَيْضًا وَإِثْمٌ، وَيَزِيدُ إِثْمُهُ عَلَى ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَدِدْتُ أَنِّي سَلِمْتُ مِنَ الْخِلَافَةِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ، وَالْمُرَائِي الْمُفْسِدُ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ الْبَتَّةَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْمُرَائِي الَّذِي لَا يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، بَلْ يَعْمَلُ فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً: تَبْطُلُ عِبَادَتُهُ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَهَذَا لَيْسَ يَقْصِدُ الْعِبَادَةَ، ثُمَّ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِحْبَاطِ عِبَادَتِهِ حَتَّى يُقَالَ: صَارَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِبَادَةِ، بَلْ يَعْصِي بِذَلِكَ وَيَأْثَمُ اه.

ص: 2488

وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ قَيَّدَ الْمُرَائِيَ بِالَّذِي لَا يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَمَعَ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ النِّيَّتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ أَنَّ الرِّيَاءَ ضَرْبَانِ: رِيَاءٌ مَحْضٌ وَرِيَاءُ تَخْلِيطٍ، فَالْمَحْضُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْعَ الدُّنْيَا لَا غَيْرَ، وَالتَّخْلِيطُ أَنْ يُرِيدَهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا أَحَدُهُمَا، وَأَمَّا تَأْثِيرُهُمَا فَإِنَّ إِخْلَاصَ الْعَمَلِ أَنْ يَجْعَلَ الْفِعْلَ قُرْبَةً، وَإِخْلَاصَ طَلَبِ الْأَجْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَقْبُولًا وَافِرَ الْأَجْرِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيَاءِ رَفْعَ الْقَبُولِ وَالنُّقْصَانَ فِي الثَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَقَالَ فِي عَيْنِ الْعِلْمِ: إِلَّا فُحْشٌ فِي الرِّيَاءِ أَنْ لَا يُرِيدَ الثَّوَابَ أَصْلًا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَقْتِ، ثُمَّ مَا فِيهِ إِرَادَتَانِ، وَالرِّيَاءُ غَالِبٌ فَهُوَ بِقُرْبِهِ، ثُمَّ مَا اسْتَوَيَا فِيهِ، فَالْمَرْجُوُّ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَا تَرَجَّحَ فِيهِ قَصْدُ الثَّوَابِ، فَالْمَظْنُونُ أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ النُّقْصَانُ لَا الْبُطْلَانُ، أَوِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِحَسَبِ الْقَصْدَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقُرْبَ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ الذُّهُولُ، وَمَا وَرَدَ أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ وَنَحْوُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُرِيدَ الثَّوَابَ أَصْلًا، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَسَاوَيَا، أَوْ تَرَجَّحَ الرِّيَاءُ. قَالَ الْأَشْرَفُ: وَلَا بُدَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ غَزَا مِنْ إِضْمَارِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَأَمَّا غَزْوُ مَنِ ابْتَغَى، وَأَمَّا غَزْوُ مَنْ غَزَا فَإِنَّهُمَا قَسَمَانِ لِمَوْرِدِ الْقِسْمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا يَسْتَتِبُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ الْغَزْوُ غَزْوَانِ: غَزْوُ مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَغَزْوُ مَنْ لَمْ يَبْتَغِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، فَحُكْمُهُ كَذَا، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا فَحُكْمُهُ كَذَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ مَعَ التَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} [هود: 105 - 106] الْآيَتَيْنِ فَحُذِفَ التَّفْرِيقُ لِدَلَالَةِ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي، فَاقْتَصَرَ الْكَلَامُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْغُزَاةِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

ص: 2489

3847 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو! إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ; بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا. وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا ; بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا. يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو! عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ، أَوْ قُتِلْتَ ; بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3847 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ) ; أَيْ: تَفْضِيلِهِ وَتَفْصِيلِهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَعَنْ ثَوَابِهِ وَعَنْ كَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ وَغَيْرَ مَقْبُولٍ، وَالْجَوَابُ يُنْبِئُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الثَّالِثِ (فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَمْرٍو) : لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالنِّدَاءِ إِظْهَارُ خُصُوصِيَّتِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى إِقْبَالِهِ بِكُلِّيَّتِهِ (إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا) ; أَيْ: خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُمَا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَانِ (بَعَثَكَ اللَّهُ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا) ; أَيْ: مُتَّصِفًا بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، لِمَا رُوِي: كَمَا تَعِيشُونَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تَمُوتُونَ تُحْشَرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَعَادَهُ فِي الْجَزَاءِ لِيُؤْذِنَ بِالتَّنْكِيرِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَجْرًا وَثَوَابًا لَا يُقَادِرُ قَدْرَهُ ; أَيْ: بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا كَامِلًا فِيهِ، فَيُوَفَّى أَجْرًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمُحْتَسِبًا ; أَيْ: مُخْلِصًا مُتَنَاهِيًا فِي إِخْلَاصِهِ رَاضِيًا وَمَرْضِيًّا وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، (وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا) ; أَيْ: فِي نِيَّةِ الْأَعْمَالِ (مُكْثِرًا) : أَيْ: فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ (بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكْثِرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكَاثُرُ التَّبَارِي فِي الْكَرَّةِ وَالتَّبَاهِي بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ. قَالَ تَعَالَى:{وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] فَالرَّجُلُ يُجَاهِدُ لِلْغَنِيمَةِ وَإِكْثَارِ الْمَالِ لِيُبَاهِيَ بِهِ، وَلِأَنْ يَكْثُرَ رِجَالُهُ وَأَعْوَانُهُ وَأَجْنَادُهُ وَلِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ قَوْلُهُ: مُكَاثِرًا ; أَيْ: مُفَاخِرًا، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَعَدَدًا ; أَيْ: غَزَوْتَ لِيُقَالَ: إِنَّكَ أَكْثَرُ جَيْشًا وَأَشْجَعُ ; أَيْ: يُنَادَى عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ هَذَا غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً لَا مُحْتَسِبًا بِأَعْمَالِهِ (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) ; أَيْ: كُنْ حَاضِرًا يَقِظًا مُتَأَمِّلًا مُتَفَكِّرًا (عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ، أَوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ) : وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2489

3848 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أَعَجَزْتُمْ إِذَا بَعَثْتُ رَجُلًا فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي» ؟ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ فَضَالَةَ: " «وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ» ". فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

ــ

3848 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَعَجَزْتُمْ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ ; أَيْ أَمَا قَدَرْتُمْ (إِذَا بَعَثْتُ رَجُلًا) : أَيْ: أَمِيرًا، وَالْمَعْنَى إِذَا جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ أَمِيرًا (فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي) : بِأَنْ خَالَفَ أَمْرِي، أَوْ نَهْيِي (أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي) : مَفْعُولُ أَعَجَزْتُمْ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِذَا أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ، فَأَقِيمُوا مَكَانَهُ غَيْرَهُ، أَوْ إِذَا بَعَثْتُهُ لِأَمْرٍ وَلَمْ يَمْضِ لِإِمْضَاءِ أَمْرِي وَعَصَانِي فَاعْزِلُوهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: فَاعْزِلُوهُ وَاجْعَلُوا مَكَانَهُ أَمِيرًا آخَرَ يَمْتَثِلُ أَمْرِي) وَعَلَى هَذَا إِذَا ظَلَمَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّ حِفْظِهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْزِلُوهُ وَيُقِيمُوا غَيْرَهُ مَكَانَهُ، وَقِيلَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَزْلِهِ إِثَارَةُ فِتْنَةٍ وَإِرَاقَةُ دَمٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فِي الْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ ظُلْمًا، فَإِنْ كَانَ حُصُولُ الْقَتْلِ فِي عَزْلِهِ أَقَلَّ مِنَ الْقَتْلِ فِي بَقَائِهِ عَلَى الْعَمَلِ جَازَ لَهُمْ قَتْلُهُ وَقَتْلُ مُتَعَصِّبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(وَذَكَرَ حَدِيثَ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ) : أَيْ: فِي طَاعَةِ اللَّهِ (فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ) : أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، فَلِتَكْرَارِهِ عَلَى وَضْعِ الْمَصَابِيحِ أَسْقَطَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ هَاهُنَا.

ص: 2490

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3849 -

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَمَرَّ رَجُلٌ بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ وَبَقْلٍ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ، وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكَنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ، أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ، خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3849 -

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ) : بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ وَهِيَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْجَيْشِ، يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ، سُمُّوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةَ الْعَسْكَرِ وَخِيَارَهُمْ مِنَ السَّرَى، وَهُوَ الشَّيْءُ النَّفِيسُ. وَفِي الْمُغْرِبِ: سَرَى بِاللَّيْلِ يَسْرِي مِنْ بَابِ ضَرَبَ بِمَعْنَى سَارَ لَيْلًا، وَأَسْرَى مِثْلُهُ، وَمِنْهُ السَّرِيَّةُ لِوَاحِدَةِ السَّرَايَا ; لِأَنَّهَا تَسْرِي خُفْيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ سَرَاةٌ ; أَيْ مُخْتَارَةٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي تَحْدِيدِهَا نَصٌّ، وَمَحْصُولُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي السِّيَرِ أَنَّ التِّسْعَةَ فَمَا فَوْقَهَا سَرِيَّةٌ، وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ طَلِيعَةٌ لَا سَرِيَّةٌ، وَمَا رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أُنَيْسًا وَحْدَهُ سَرِيَّةً يُخَالِفُ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابِ، مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْغَزْوَ فِي اصْطِلَاحِ أَهَّلِ السِّيَرِ وَالْمُحَدِّثِينَ، هُوَ الَّذِي حَضَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ الْأَنْفَسِ، وَغَيْرُهُ يُسَمَّى بَعْثًا وَسَرِيَّةً، فَعَلَى هَذَا يُشْكَلُ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُشَيِّعًا لَهُمْ، أَوْ يُرَادَ بِالسَّرِيَّةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ تَسْرِي بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَيُرَادُ بِهِ الْأَخَصُّ وَهُوَ عَلَنًا، أَوْ جُرِّدَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَيْدِ خُفْيَةٍ. (فَمَرَّ رَجُلٌ) : أَيْ: مِنْ رِجَالِ السَّرِيَّةِ (بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ) : أَيْ: قَلِيلٌ (مِنْ مَاءٍ) : أَيْ: يَكْفِي لِطَهَارَةِ السَّالِكِ وَشُرْبِهِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا أَمْ لَا. (وَبَقْلٍ) : بِالْجَرِّ عَطَفٌ عَلَى مَاءٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ بَقْلٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الطَّالِبُ، أَوْ يَتَنَزَّهُ مِنْهُ النَّاظِرُ (فَحَدَّثَ) : أَيْ: كَلَّمَ الرَّجُلُ (نَفْسَهُ) : عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوْ حَدَّثَ فِي نَفْسِهِ (بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ) : أَيْ: بَعْدَ الْجِهَادِ، أَوْ قَبْلَهُ بِحَسَبِ الْجَذْبَةِ (وَيَتَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا) : أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَيَكُونُ مُتَجَرِّدًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَثَمَرَاتِهِ (فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَوْ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَمْ أُرْسَلْ وَلَمْ أُؤْمَرْ (بِالْيَهُودِيَّةِ

ص: 2490

وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ) : أَيْ: بِالْمِلَّةِ الَّتِي فِيهَا أُمُورٌ شَاقَّةٌ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَنَتِيجَتُهَا قَاصِرَةٌ عَلَى سُلَّاكِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ (وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ) : أَيِ: الْمِلَّةِ الْمَائِلَةِ عَنِ السُّبُلِ الزَّائِغَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَسَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ (السَّمْحَةِ) : أَيِ: السَّهْلَةِ لَيْسَ فِيهَا حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ، وَمَنْفَعَتُهَا إِلَى الْغَيْرِ مُتَعَدِّيَةٌ، كَالْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَتَعَلُّمٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَحْصِيلِ كَمَالٍ، ثُمَّ تَكْمِيلٍ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: لَكِنْ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ ; أَيْ: مَا بُعِثْتُ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الشَّاقَّةِ، بَلْ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ مَوْضِعَ الرَّهْبَانِيَّةِ الشَّاقَّةِ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) : أَيْ: بِتَصَرُّفِهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ النُّفُوسِ (لَغَدْوَةٌ، أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيِ: الْجِهَادُ، أَوِ الْحَجُّ، أَوِ الْعِلْمُ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالْغَدْوَةُ مَرَّةٌ مِنْ ذَهَابِ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالرَّوْحَةُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، أَوْ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ الْعَادِيِّ (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْغَدْوَةَ وَالرَّوْحَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّتَيْنِ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، بَلْ كُلُّ لَمْحَةٍ وَسَاعَةٍ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ مَلَكَهَا وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمَهُ فِيهَا ; لِأَنَّهُ زَائِلٌ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بَاقٍ. وَقِيلَ: لَوْ مَلَكَهَا وَأَنْفَقَهَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ (وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ ; أَيْ لَوُقُوفُهُ وَثَبَاتُهُ (فِي الصَّفِّ) : أَيْ: صَفِّ الْقِتَالِ، أَوْ صَفِّ الْجَمَاعَةِ (خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ) : أَيْ: عَلَى انْفِرَادِهِ (سِتِّينَ سَنَةً) : أَرَادَ بِهِ التَّكْثِيرَ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ سَبْعِينَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 2491

3850 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

3850 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: مَنْ أَرَادَ الْجِهَادَ (وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ ; أَيْ: تَحْصِيلَهُ، وَهُوَ حَبْلٌ صَغِيرٌ يُشَدُّ بِهِ رُكْبَةُ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يِفِرَّ (فَلَهُ مَا نَوَى) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي قَطْعِ الطَّمَعِ عَنِ الْغَنِيمَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَشُوبٍ بِأَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى " انْتَهَى. وَسَبَقَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَازُ قَصْدِ الْغَنِيمَةِ، لَكِنْ لَا بِخُصُوصِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَأَيْضًا سَبَقَ أَنَّ الرِّيَاءَ الْمُخْلَطَ لَا يُبْطِلُ الثَّوَابَ بِالْكُلِّيَّةِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ.

ص: 2491

3851 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ". فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ. فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:" وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ". قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3851 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا) : تَمْيِيزٌ ; أَيْ: مَنْ رَضِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ عَلَى وَفْقِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مِنْ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ (وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا) ; أَيْ: بِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ - (وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) ; أَيْ: وَبِرِسَالَتِهِ الْمُورَثَةِ لِمُتَابَعَتِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ (وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) ; أَيْ: ثَبَتَتْ وَتَحَقَّقَتْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْغَيْبَةُ عَنِ السِّوَى وَالْحُضُورُ مَعَ الْمَوْلَى، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ; أَيْ: جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَأُخْرَى فِي الْأُخْرَى (فَعَجِبَ لَهَا) : أَيْ: لِأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، أَوْ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ (أَبُو سَعِيدٍ: فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَأُخْرَى) : أَيْ:

ص: 2491

وَكَلِمَةٌ، أَوْ فَائِدَةٌ، أَوْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى مِمَّا يُتَعَجَّبُ لَهَا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَرْغَبَ فِيهَا وَهِيَ (يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَمَا هِيَ) : أَيْ: تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْأُخْرَى (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ) ; أَيْ: هِيَ الْجِهَادُ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَيْثُ عُطِفَ عَلَى لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْكَلَامِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أُخْرَى صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ يَرْفَعُ اللَّهُ خَبَرُهُ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ ; أَيْ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِشَارَةً أُخْرَى؟ وَقَوْلُهُ: يَرْفَعُ اللَّهُ صِفَةٌ، أَوْ حَالٌ، وَقِيلَ هُنَاكَ خَصْلَةٌ أُخْرَى، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ تَفْخِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَمِنْهُ الْجِهَادُ، وَكَذَا إِبْهَامُهُ بِقَوْلِهِ: وَأُخْرَى وَإِبْرَازُهُ فِي صُورَةِ الْبِشَارَةِ لِيَسْأَلَ عَنْهَا فَيُجَابَ بِمَا يُجَابُ ; لِأَنَّ التَّبْيِينَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَكَذَا تَكْرَارُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَنَظِيرُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ قَيْدٌ وَرَدَ: ( «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ كُلٌّ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ» " الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ أَعْظَمُ أَجْرًا. وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْأَثْقَلِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْأَخَفِّ، وَبِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ أَعَمُّ مِنَ الْجِهَادِ فَيَدْخُلَ فِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ الرَّاكِبَ وَمَرْكُوبَهُ، وَإِنْفَاقُهُمَا إِهْلَاكُهُمَا، فَصَارَ الْحَدِيثَانِ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ عَمِلَ عَمَلًا قَلِيلًا، أَجْرًا جَزِيلًا، وَقَدْرًا جَلِيلًا، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى وَجْهِ التَّكَلُّفِ اه. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ التَّنَافِي بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ مِنْ أَصْلِهِ فِي الْبَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2492

3852 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ". فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى! أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3852 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) : يَعْنِي كَوْنَ الْمُجَاهِدِ فِي الْقِتَالِ بِحَيْثُ يَعْلُوهُ سُيُوفُ الْأَعْدَاءِ سَبَبُ الْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّ أَبْوَابَهَا حَاضِرَةٌ مَعَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالسُّيُوفِ سُيُوفُ الْمُجَاهِدِينَ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنُوِّ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ سِلَاحِ الْجِهَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهَا مُشْهَرَةً غَيْرَ مُغْمَدَةٍ، ثُمَّ هُوَ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فَوْقَ رُءُوسِ الْمُجَاهِدِينَ كَالظِّلَالِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى التَّسَايُفِ وَالتَّضَارُبِ فِي الْمَعَارِكِ، ثُمَّ هُوَ إِعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا وَنُصْرَةُ دِينِهِ الْقَوِيمِ الْمُوجِبَةِ لِأَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِهَا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا، وَيُدْعَى أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ اه. وَأَرَادَ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِمَّا وَرَدَ أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَفِي كَوْنِهِ أَبْلَغَ نَظَرٌ لِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ، إِذْ لَا خَفَاءَ أَنَّ نَفْسَ شَيْءٍ تَحْتَ ظِلِّ شَيْءٍ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ ظِلِّهِ بَابُهُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهِ لِكَمَالِ قُرْبِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ ; مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِهَادَ وَحُضُورَ مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبَبٌ لِدُخُولِهَا، أَقُولُ: هُوَ كَذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمُبَالَغَةَ أَنَّهُ فِي حَالِ جِهَادِهِ كَأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ، (قَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ) ; أَيْ: فَقِيرُ الْحَالِ كَسِيرُ الْبَالِ فِي النِّهَايَةِ: مَتَاعٌ رَثٌّ ; أَيْ: خَلَقٌ بَالٍ (قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى! أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟) ; أَيْ: سَمَاعُكَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ (قَالَ: نَعَمْ فَرَجَعَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (إِلَى أَصْحَابِهِ) ; أَيْ: مِنْ أَهْلِ رَحْلِهِ (قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ) ; أَيْ: سَلَامَ مُوَدِّعٍ (ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ ; أَيْ: غِلَافَهُ (فَأَلْقَاهُ) ; أَيِ: الْغِلَافَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى الْعُقْبَى، (ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : كَانَ الْأَخْصَرَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَيَقُولَ: رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 2492

3853 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ:" إِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ وَمَآثِرَهُمْ، وَمُقِيلَهُمْ. قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3853 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ) ; أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ فِي بَابِهِ (إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنَ (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ) : أَيْ: مِنْ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ (يَوْمَ أُحُدٍ) : أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا ثَانِيَ لَهُ (جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ) : أَيْ: فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ عَلَى أَشْبَاهٍ مُصَوَّرَةٍ بِصُوَرِ الطُّيُورِ حَتَّى تَتَلَذَّذَ الْأَرْوَاحُ بِنِسَبِ الْأَشْبَاحِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَذَابَ الْبَرْزَخِ وَنَعِيمَهُ بِمَا هُوَ رُوحَانِيٌّ فَقَطْ (تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ) : مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالشَّرَابِ الطَّهُورِ (تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِمْ) : اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ، أَوْ بَدَلٌ (وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ: أَيْ: بِمَنْزِلَةِ أَوْكَارِ الطُّيُورِ (فَلَمَّا وَجَدُوا) : أَيِ: الشُّهَدَاءُ (طِيِبَ مَأْكَلِهِمْ، وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَقِيلِهِمْ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ ; أَيْ: مَأْوَاهُمْ وَمُسْتَقَرِّهِمْ، وَالثَّلَاثَةُ مَصَادِرُ مِيمِيَّةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ، ثُمَّ أَصْلُ الْمَقِيلِ الْمَكَانُ الَّذِي يُؤْوَى إِلَيْهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ وَالنَّوْمِ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهُوَ هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْعِيمِ وَالتَّرَفُّهِ ; لِأَنَّ الْمُتَنَزِّهِينَ فِي الدُّنْيَا يَعِيشُونَ مُنَعَّمِينَ اه. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (قَالُوا) : جَوَابُ لَمَّا (مَنْ يَبَلِّغُ: بِتَشْدِيدِ اللَّامِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا ; أَيْ: مَنْ يُوَصِّلُ (إِخْوَانَنَا) : أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ (عَنَّا) : أَيْ: عَنْ قَيْلِنَا (أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ) : أَيْ: مَرْزُوقُونَ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّذَّةِ (لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجَنَّةِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهَا، بَلْ لِيَرْغَبُوا فِي تَحْصِيلِ دَرَجَاتِهَا (وَلَا يَنْكُلُوا) : بِضَمِّ الْكَافِ ; أَيْ: لَا يَجْبُنُوا (عِنْدَ الْحَرْبِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 169] بِالْخِطَابِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْغَيْبَةِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ ; أَيْ: لَا تَظُنُّوا {الَّذِينَ قُتِلُوا} [آل عمران: 169] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] : مَفْعُولٌ ثَانٍ {بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] ; أَيْ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ وَفِي نُسْخَةٍ: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ; أَيْ مِنْ ثَمَرَاتِ الْجَنَّةِ (إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ) : يَعْنِي: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 170 - 171] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2493

3854 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،، ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عز وجل» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

3854 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ) : أَيْ: أَصْنَافٍ، وَمِنْهُ أَجْزَاءُ الْمَرْكَبَاتِ كَالسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِهِ، وَسُمُّوا أَجْزَاءً لِلِاخْتِلَاطِ الْوَاقِعِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَعَدَمِ تَمَايُزِهِمْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الضَّمَائِرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَجْزَاءُ إِنَّمَا تُقَالُ فِيمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّعَاطُفِ فِي التَّوَادِّ، كَمَا جُعِلُوا يَدًا وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» (الَّذِينَ) ; أَيْ: مِنْهَا، أَوْ أَحَدُهَا، أَوْ أَوَّلُهَا الَّذِينَ (آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) : أَيْ: لَمْ يَشُكُّوا، وَلَعَلَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ ; إِيذَانًا بِنَفْيِ الِارْتِيَابِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَلَوْ بِمُهْلَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَلَا يَضُرُّ تَقَدُّمُ الِارْتِيَابِ، أَوْ مَعْنَى لَمْ يَرْتَابُوا أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ; لِأَنَّ الْمُقَسَّمَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِي {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ ; لِأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَعَلَى عَدَمِ الِارْتِيَابِ أَشْرَفُ وَأَبْلَغُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، (وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) : لَعَلَّ اخْتِيَارَ الْإِفْرَادِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَلِيلُ الْوُجُودِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عز وجل : وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثُمَّ هَاهُنَا لِلتَّرَقِّي، وَأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ أَفْضَلُ مِمَّا قَبْلَهُ

ص: 2493

وَكَذَا مَا قَبْلَهُ أَفْضَلُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَأَخِّرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ مَعَ زِيَادَةِ صِفَةٍ جَلِيلَةٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ أَيْضًا، وَالطَّمَعُ هَاهُنَا يُرَادُ بِهِ انْبِعَاثُ هَوَى النَّفْسِ إِلَى مَا تَشْتَهِيهِ، فَتُؤْثِرُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، فَتَرْكُ مِثْلِهِ مُنْتَهَى غَايَةِ الْمُجَاهَدَةِ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّمَعِ هُنَا الْمَيْلُ إِلَى مَالٍ، أَوْ جَاهٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ تَرْكَهُ هُوَ الْكَمَالُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوِصَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 2494

3855 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَا مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا، تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، غَيْرُ الشَّهِيدِ ". قَالَ ابْنُ أَبِي عَمِيرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَأَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

3855 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ قُرَشِيٌّ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ فِي الصَّحَابَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَهُوَ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقْبِضُهَا رَبُّهَا) : قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حَقِيقَةً وَيَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ مَجَازًا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ خُصُوصِيَّةً لِبَعْضٍ (تُحِبُّ) : خَبَرُ مَا ; أَيْ تَوَدُّ وَتَتَمَنَّى (أَنْ تَرْجِعَ) ; أَيْ: تَنْقَلِبَ (إِلَيْكُمْ، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) : بِفَتْحِ أَنَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا إِنْ رُوِيَ بِكَسْرِ إِنَّ، وَقَوْلُهُ (غَيْرُ الشَّهِيدِ) : بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ تُحِبُّ اه. وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ (غَيْرَ) عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ ابْنُ أَبِي عَمِيرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَأَنْ أُقْتَلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: لَكَوْنِي مَقْتُولًا (فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي) : أَيْ: مِلْكًا (أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ) : بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْوَبَرِ سُكَّانُ الْبَوَادِي ; لِأَنَّ خِبَاءَهُمْ مِنَ الْوَبَرِ غَالِبًا، وَبِأَهْلِ الْمَدَرِ سُكَّانُ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَأَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، كَمَا سَبَقَ فَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ، وَأَسْنَدَ الْمَحَبَّةَ إِلَى نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم اه. وَلَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَهُ زِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلَى نِيَّتِهِ وَتَمَنِّيهِ وَمَوَدَّتِهِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 2494

3856 -

وَعَنْ حَسْنَاءَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، قَالَتْ - حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ:«قَلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْوَئِيدُ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3856 -

(وَعَنْ حَسْنَاءَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَمْدُودًا (بِنْتِ مُعَاوِيَةَ) : أَيِ: ابْنِ سُلَيْمٍ قَالَ الْمُؤَلِّفُ، فِي التَّابِعِيَّاتِ: هِيَ حَسْنَاءُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ الصَّرِمِيَّةُ، رَوَتْ عَنْ عَمِّهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى عَنْهَا عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ حَدِيثَهَا فِي الْبَصْرِيِّينَ هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ مَاكُولَا فِي حَسْنَاءَ، وَذَكَرَهَا الْحَازِمِيُّ يُقَالُ: خَنْسَاءُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ: حَسْنَاءُ الصَّرِمِيَّةُ، وَعَمَّاهَا الْحَارِثُ وَأَسْلَمُ، وَالصَّرِمِيَّةُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَحَسْنَاءُ فَعَلَاءُ مِنَ الْحُسْنِ، وَخَنْسَاءُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَقْدِيمِ النُّونِ عَلَى السِّينِ (قَالَتْ: حَدَّثَنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنِي (عَمِّي، قَالَ: قَلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (النَّبِيُّ) : أَيْ: جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ (فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ) : يَعْنِي الْمُؤْمِنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّهِيدَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَوْلُودُ هُوَ الطِّفْلُ وَالسِّقْطُ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحِنْثَ ; أَيِ الذَّنْبَ (وَالْوَئِيدُ) : أَيِ: الْمَدْفُونُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ (فِي الْجَنَّةِ) : وَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنِينَ ; أَيْضًا عِنْدَ الْمَجَاعَةِ وَالضِّيقِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَوْلُودِ جِنْسَ مَنْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ مِنَ الْوِلَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْوَئِيدُ الْمَوْءُودُ، وَهُوَ الَّذِي يُدْفَنُ حَيًّا مِنَ الْبَنَاتِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، عَنْ رَجُلٍ. كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

ص: 2494

3857 -

وَعَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «مَنْ أَرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيَتْهِ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ ; فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ "، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3857 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ) : الْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كُلٍّ ; أَيْ: يُحَدِّثُونَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ» ) : وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261](وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ) : أَيْ فِي جِهَتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا وَهِيَ الْجِهَادُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي جِهَتِهِ وَقَصْدِهِ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الْمُغْرِبُ: أَيْ جِهَتِهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا تَعَالَى وَرَضِيَهَا. (فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ) . لِلْجَمْعِ بَيْنَ إِتْعَابِ الْبَدَنِ، وَبَذْلِ الْمَالِ (ثُمَّ تَلَا) : الظَّاهِرُ ; أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتِشْهَادًا، أَوِ اعْتِضَادًا {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] : أَوْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ أَقَلُّ الْمَوْعُودِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2495

3858 -

وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا " وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ، فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةَ عُمَرَ أَرَادَ، أَمْ قَلَنْسُوَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ، كَأَنَّمَا ضَرَبَ جِلْدَهُ بِشَوْكٍ طَلْحٍ، مِنَ الْجُبْنِ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ ; فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

3858 -

(وَعَنْ فَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهُ، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، رَوَى عَنْهُ مَيْسَرَةُ مَوْلَاهُ وَغَيْرُهُ. (قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ) ; أَيْ: أَنْوَاعٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ) ; أَيْ: خَالِصُهُ، أَوْ كَامِلُهُ بِمَعْنَى صَالِحِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِيمَا سَيَأْتِي (لَقِيَ الْعَدُوَّ) ; أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَصَدَقَ اللَّهَ) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ ; أَيْ: صَدَقَ بِشَجَاعَتِهِ مَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ: صَدَّقَهُ فِيمَا وَعَدَ عَلَى الشَّهَادَةِ (حَتَّى قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ: حَتَّى قَاتَلَ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِوَجْهِهِ صَابِرِينَ مُحْتَسِبِينَ فَتَحَرَّى هَذَا الرَّجُلُ بِفِعْلِهِ، وَقَاتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَكَأَنَّهُ صَدَّقَ اللَّهَ تَعَالَى بِفِعْلِهِ قَالَ تَعَالَى:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23](فَذَلِكَ) ; أَيِ: الْمُؤْمِنُ (هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ) ; أَيْ: عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ (إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا) : مَصْدَرُ قَوْلِهِ: يَرْفَعُ ; أَيْ: رَفْعًا مِثْلَ رَفْعِ رَأْسِي هَكَذَا كَمَا تُشَاهِدُونَ، (وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ ; أَيْ: طَاقِيَّتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَاهِي رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ (فَمَا أَدْرِي) : هَذَا قَوْلُ الرَّاوِي عَنْ فَضَالَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى سَقَطَتْ كَلَامُ فَضَالَةَ، أَوْ كَلَامُ عُمَرَ، وَالْمَعْنَى فَمَا أَعْلَمُ (أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ) ; أَيْ: فَضَالَةَ (أَمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ (قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ) ; أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِعَادَتُهُ لِلْفَصْلِ (وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ) : يَعْنِي لَكِنْ دُونَ الْأَوَّلِ فِي مَرْتَبَةِ الشَّجَاعَةِ (لَقِيَ الْعَدُوَّ كَأَنَّمَا ضَرَبَ) ; أَيْ: مُشَبَّهًا بِمَنْ طَعَنَ (جِلْدَهُ بِشَوْكٍ طَلْحٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ شَجَّرٌ عَظِيمٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ، أَوْ عَنِ ارْتِعَادِ فَرَائِصِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَقَوْلُهُ:

ص: 2495

(مِنَ الْجُبْنِ) : بَيَانُ التَّشْبِيهِ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْجُبْنُ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ، وَهُمَا خَصْلَتَانِ جِبْلِيَّتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْإِنْسَانِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْغَرَائِزَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ بِهَا زِيَادَةَ دَرَجَةٍ (أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) ; أَيْ: مَثَلًا، وَالتَّرْكِيبُ تَوْصِيفِيٌّ، وَجُوِّزَ الْإِضَافَةُ وَالْمَعْنَى لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ (قَتَلَهُ) ; أَيْ: ذَلِكَ السَّهْمُ مَجَازًا (فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ) : وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، كَمَا رُوِيَ (وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) : الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ بِالْآخَرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] : الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ بِالْآخَرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102](لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ) : أَيْ: بِوَصْفِ الشَّجَاعَةِ (فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ) : أَيْ: بِكَثْرَةِ الْمَعَاصِي، وَفِيهِ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ (لَقِيَ الْعَدُوَّ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ) : أَيْ: بِوَصْفِ الشَّجَاعَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ فَصَدَقَ اللَّهَ (فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَذَلِكَ وَهُوَ يُنَاسِبُ الْمَرَاتِبَ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُعَبَّرٌ بِذَاكَ وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ، وَمَا قَبْلَهُ مُعَبَّرٌ بَهُوَ الْمُنَاسِبِ لِلْقَرِيبِ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ الْمُعَبَّرُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِلْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا جَيِّدُ الْإِيمَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ صَدَقَ اللَّهَ فِي إِيمَانِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَهَذَا بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَصْدُقْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّانِي وَالرَّابِعِ أَنَّ الثَّانِيَ جَيِّدُ الْإِيمَانِ غَيْرُ صَادِقٍ بِفِعْلِهِ، وَالرَّابِعَ عَكْسُهُ فَعُلِمَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ وَأَنَّ مَبْنَى الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِخْلَاصِ اه.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ مَرَاتِبِ الِاخْتِصَاصِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ بِالشَّجَاعَةِ وَضِدِّهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْإِيمَانِ وَصَلَاحِ الْعَمَلِ، ثُمَّ دُونَهُمَا الْمُخْلِطُ، ثُمَّ دُونَهُمُ الْمُسْرِفُ مَعَ اتِّصَافِهِمَا بِالْإِيمَانِ أَيْضًا، وَلَعَلَّ الطِّيبِيَّ أَرَادَ بِالْمُخْلِطِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ نِيَّةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْمُسْرِفِ مَنْ نَوَى بِمُجَاهَدَتِهِ الْغَنِيمَةَ، أَوِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : أَيْ: إِسْنَادًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ ; أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ: فَمَا أَدْرِي إِلَخِ فِي الْبَيْنِ.

ص: 2496

3859 -

وَعَنْ عَتَبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ". قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: " فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ، لَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. وَمُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ " قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: " مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ. وَمُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ; فَذَاكَ فِي النَّارِ، إِنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النِّفَاقَ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

3859 -

(وَعَنْ عُتْبَةَ رضي الله عنه : بِضَمٍّ فَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ (ابْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ) : بِضَمٍّ فَفَتَحَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعُتْبَةُ هَذَا كَانَ اسْمُهُ عَتَلَةَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُتْبَةَ، شَهِدَ خَيْبَرَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ بِحِمْصَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالشَّامِ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَتْلَى) : جَمْعُ قَتِيلٍ (ثَلَاثَةٌ) ; أَيْ: أَصْنَافٍ (مُؤْمِنٌ) ; أَيْ: أَحَدُهُمْ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ صَالِحٌ فِي الْعَمَلِ (جَاهَدَ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ ; أَيْ: مُجْتَهِدٌ (بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيْنَ الْقَتْلَى بِقَوْلِهِ مُؤْمِنٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ) : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ وَحُسْنِ الْمَآلِ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ (فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ) ; أَيِ: الْمَشْرُوحُ صَدْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلتَّقْوَى (فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: الشَّهِيدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ذَلِكَ، وَالْمُمْتَحَنُ صِفَةُ الشَّهِيدِ،

ص: 2496

وَقَوْلُهُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ صِفَةَ ذَلِكَ، وَكَذَا الْمُمْتَحَنُ صِفَةٌ لِذَلِكَ، وَفِي خَيْمَةِ اللَّهِ خَبَرٌ، وَالْمُمْتَحَنُ الْمُجَرِّبُ مِنْ قَوْلِهِمُ: امْتُحِنَ فُلَانٌ لِأَمْرِ كَذَا جُرِّبَ لَهُ وَدُرِّبَ لِلنُّهُوضِ بِهِ، فَهُوَ مُضْطَلِعٌ غَيْرُ وَانٍ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَابِرٌ عَلَى الْجِهَادِ قَوِيٌّ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ (لَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ) : لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَزِيَادَةِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ يُشَارِكُونَ أُمَمَهُمْ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنَ (وَمُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذَا) : كَذَا فِي النُّسَخِ وَالظَّاهِرُ: (فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ) ; أَيْ: فِي حَقِّهِ مُمَصْمَصَةٌ) : بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَصْمَصَةُ الْمَضْمَضَةُ بِطَرَفِ اللِّسَانِ، وَمَصْمَصَةُ الذُّنُوبِ تَمْحِيصُهَا، وَالْمَضْمَضَةُ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ. وَفِي الْفَائِقِ: مُمَصْمَصَةٌ ; أَيْ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ دَنَسِ الْخَطَايَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَصْمَصْتُ الْإِنَاءَ بِالْمَاءِ إِذَا حَرَّكْتَهُ حَتَّى يَطْهُرَ، وَمِنْهُ مَصْمَصَةُ الْفَمِ وَهُوَ غَسْلُهُ بِتَحْرِيكِ الْمَاءِ فِيهِ كَالْمَضْمَضَةِ، وَقِيلَ: هِيَ بِالصَّادِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ بِطَرَفِ اللِّسَانِ، وَبِالضَّادِ بِالْفَمِ كُلِّهِ وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ، أَوْ أَرَادَ مَصْمَصَةً فَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ (مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ) ; أَيْ: كَثِيرُ الْمَحْوِ (لِلْخَطَايَا) : أَيِ: الصَّغَائِرِ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَتَحْتَ الْمَشِيئَةِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إِلَّا الدَّيْنَ. (وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ) : تَعْظِيمًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ احْتِيَاطًا لِئَلَّا يَلْتَبِسَ نَصُّ النَّبِيِّ بِرَاوِيَتِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَقُولِ اه. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُعْتَرِضَتَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّاوِي غَيْرُ حَالِ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَدْرَجَهُمَا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ فِيمَا بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بَيَانًا بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمَا، أَوْ تِبْيَانًا لِتَفَاوُتِ مَنْزِلَتِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ:(وَمُنَافِقٌ) ; أَيْ: وَمِنَ الْقَتْلَى مُنَافِقٌ (جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِذَا لَقِيَ الْعَدُوُّ قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ; فَذَاكَ فِي النَّارِ) : وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُشْتَرِكٌ فِي وَصْفِ الْمُقَاتَلَةِ إِلَى أَنْ يُقْتَلُوا، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّمَايُزِ بَيْنَهُمْ لِحُصُولِ الْمَرَامِ فِي الْكَلَامِ (إِنَّ السَّيْفَ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ أَنْ (لَا يَمْحُو النِّفَاقَ) : فَهُوَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» " عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، فِي عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ:«فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ» " وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ "«إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» ". (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 2497

3860 -

وَعَنِ ابْنِ عَائِذٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا وُضِعَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَا تُصَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ رَآهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلِ الْإِسْلَامِ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَرَسَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: " أَصْحَابُكَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " وَقَالَ: " يَا عُمَرُ! إِنَّكَ لَا تُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِ النَّاسِ ; وَلَكِنْ تُسْأَلُ عَنِ الْفِطْرَةِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

ــ

3860 -

(وَعَنِ ابْنِ عَائِذٍ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ رضي الله عنه : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ) : بِفَتْحٍ، أَوْ كَسْرٍ (فَلَمَّا وُضِعَ) : أَيِ: الْمَيِّتُ، أَوِ النَّعْشُ، وَأَرَادَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَيْهِ (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ) : أَيْ: مُنَافِقٌ، أَوْ فَاسِقٌ، لِيَكُونَ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِمْ وَرَدْعًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ (فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ رَآهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلِ الْإِسْلَامِ؟) ; أَيْ: عَلَى عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ الْحَقِيقِيِّ (فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَرَسَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَاعِثٌ مِنَ الرِّيَاءِ، بَلْ كَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ. (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ) : أَيْ: بِيَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ

ص: 2497