المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: ‌[باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام]

3923 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَغَدَا أَصْحَابُهُ، وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ وَأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ، فَقَالَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ " فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. فَقَالَ: " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3923 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ» ) : قَالَ. الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا إِلَّا الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا فِيهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمُحْسِنِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. (فَوَافَقَ ذَلِكَ) : أَيْ: زَمَنُ الْبَعْثِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَغَدَا) : أَيْ ذَهَبَ (أَصْحَابُهُ) : مِنَ الْغَدَاةِ (وَقَالَ) : أَيْ: فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ. (أَتَخَلَّفُ) : أَيْ أَتَأَخَّرُ (وَأُصْلِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; أَيِ: الْجُمُعَةَ (ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ) مِنْ لَحِقَ بِهِ إِذَا اتَّصَلَ (فَلَمَّا صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ فَقَالَ: مَا مَنْعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ، ثُمَّ أَلْحَقَهُمْ) : بِالنَّصْبِ ( «قَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ» ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا ; أَيْ فَضِيلَةَ إِسْرَاعِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى الْجِهَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ غَدْوَتُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ هَذِهِ، فَعَدَلَ إِلَى الْمَذْكُورِ مُبَالَغَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأَخُّرَهُ ذَاكَ رُبَّمَا يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ كَثِيرَةً، وَلِذَلِكَ وَرَدَ: لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2523

3924 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3924 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَنَّهَا مُثَلَّثَةٌ ; أَيْ جَمَاعَةً بَيْنَهُمْ تَرَافُقٌ (فِيهِ جِلْدُ نَمِرٍ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فِي النِّهَايَةِ. نَهَى عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ ; أَيْ جُلُودِهَا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ اسْتِعْمَالِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ، وَلِأَنَّهُ زِيُّ الْعَجَمِ، أَوْ ; لِأَنَّ شَعْرَهُ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ ذَكِيٍّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ جُلُودُ النِّمَارِ إِذَا مَاتَتْ ; لِأَنَّ اصْطِيَادَهَا عَسِرٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ» قِيلَ: أَرَادَ بِهَا السِّبَاعَ الْمَعْرُوفَةَ.

ص: 2523

3925 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «سَيِّدُ الْقَوْمِ فِي السَّفَرِ خَادِمُهُمْ، فَمَنْ سَبَقَهُمْ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَسْبِقُوهُ بِعَمَلٍ إِلَّا الشَّهَادَةَ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "

ــ

3925 -

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) : أَيِ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنهما (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «سَيِّدُ الْقَوْمِ فِي السَّفَرِ خَادِمُهُمْ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ كَذَلِكَ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقَامَةِ بِمَصَالِحِهِمْ وَرِعَايَةِ أَحْوَالِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ صَحِبَهُ أَبُو عَلِيٍّ الرِّبَاطِيُّ فَقَالَ لِأَبِي عَلِيٍّ: أَتَكُونُ أَنْتَ الْأَمِيرَ أَمْ أَنَا؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ فَلَمْ يَزَلْ يَحْمِلُ الزَّادَ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي عَلِيٍّ عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ لَيْلَةً فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ طُولَ اللَّيْلِ عَلَى رَأْسِ رَفِيقِهِ، وَفِي يَدِهِ كِسَاءٌ يَمْنَعُ الْمَطَرَ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا قَالَ اللَّهَ اللَّهَ لَا تَفْعَلْ، يَقُولُ: أَلَمْ تَقُلْ إِنَّ الْإِمَارَةَ مُسْلَمَّةٌ لَكَ فَلَا تَتَحَكَّمْ عَلَيَّ، حَتَّى قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ وَلَمْ أُؤَمِّرْهُ كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ. وَثَانِيهِمَا: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْدِمُهُمْ وَإِنْ كَانَ أَدْنَاهُمْ ظَاهِرًا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَيِّدُهُمْ، وَأَنَّهُ يُثَابُ بِعَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «فَمَنْ سَبَقَهُمْ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَسْبِقُوهُ بِعَمَلٍ إِلَّا الشَّهَادَةَ» ) : أَيِ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ شَرِيكُهُمْ فِيمَا يُزَاوِلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ "، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ، وَزَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْأَرْبَعِينَ الصُّوفِيَّةِ عَنْ أَنَسٍ: وَسَاقِيهِمْ آخِرُهُمْ شُرْبًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

ص: 2523

[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

ص: 2523

[3]

بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3926 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ. وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] » ) " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " وَقَالَ: " إِثْمُ الْيَرِيسِيِّنَ " وَقَالَ: " بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ".

ــ

[3]

بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ

الْكِتَابُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، رَوَى أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ، وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْكُتُبَ إِلَّا مَخْتُومَةً خَوْفًا مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَعْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ: كَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ خَتْمَ كِتَابِ السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3926 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ) : أَيْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ مَنْهِيًّا (إِلَى قَيْصَرَ) : وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، وَكِسْرَى لَقَبٌ لِمَلِكِ الْفُرْسِ، وَالنَّجَاشِيُّ لِلْحَبَشَةِ، وَالْخَاقَانُ لِلتُّرْكِ، وَفِرْعَوْنُ لِلْقِبْطِ، وَعَزِيزٌ لِمِصْرَ، وَتُبَّعٌ لِحِمْيَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَيْصَرَ فِي الْهُدْنَةِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ، فَآمَنَ بِهِ قَيْصَرُ وَأَبَتْ بَطَارِقَتُهُ فَلَمْ تُؤْمِنْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ ; أَيْ غَالِبًا نَزَلَ الشَّامَ، وَبَقِيَ ; أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَدِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ كَذَا يَرْوِي أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاجِحَةِ مِنْهُمَا ادَّعَى ابْنُ السِّكِّيتِ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ اهـ. وَفِي الْمَعْنَى دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا بِفَتْحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَفِي الْقَامُوسِ دِحْيَةُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ. (وَأَمَرَهُ) : أَيْ دِحْيَةَ (أَنْ يَدْفَعَهُ) : أَيْ كِتَابَهُ (إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مَقْصُورَةٍ ; أَيْ أَمِيرِهَا وَهِيَ مَدِينَةُ جُورَانَ، ذَاتُ قَلْعَةٍ وَأَعْمَالٍ، قَرِيبَةٌ مِنْ طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ (لِيَدْفَعَهُ) : أَيْ لِيُعْطِيَ هُوَ الْكِتَابَ (إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهِ) : أَيْ فِي الْكِتَابِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ) : أَيْ هَذَا الْمَكْتُوبُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ سَلَامٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ مُحَمَّدٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ صَدَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ: (عَبْدِ اللَّهِ) : صِفَتُهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ عَطْفَ بَيَانٍ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَشْهَرُ مِنْهُ قُلْتُ: فِي قَوْلِهِ (عَبْدِ اللَّهِ)، ثُمَّ قَوْلِهِ:(وَرَسُولِهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ اتِّصَافِهِ بِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَجَمَالِ الرِّسَالَةِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، وَأَنَّهُ دَاعٍ لِلْخَلْقِ إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى التَّعْرِيضِ لِلنَّصَارَى فِي غُلُوِّهِمْ فِي حَقِّ نَبِيِّهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْمُكَاتَبَةِ تَصْدِيرُ الْمَكْتُوبِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِاسْمِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ، قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي الْعُنْوَانِ، وَالْبَسْمَلَةُ فِي دَاخِلِ الرُّقْعَةِ (إِلَى هِرَقْلَ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرَتَيْنِ، وَحَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِمِلْكِ الرُّومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَيْصَرُ لَقَبٌ لِجَمِيعِ مَلِكِ الرُّومِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا وَاحِدٌ. (عَظِيمِ الرُّومِ) : بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ وَ " لَمْ " يَكْتُبْ " مِلْكِ الرُّومِ "، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيمِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحُكْمِ الدِّينِ مَعْزُولٌ عَنْهُ وَلَمْ يُخْلِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ إِلَى الْإِسْلَامِ (سَلَامٌ) : أَيْ عَظِيمٌ، أَوْ مِنَّا، أَوْ مِنَ اللَّهِ (عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) : أَيِ الْهِدَايَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالدِّيَانَةِ،

ص: 2524

وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ (أَمَّا بَعْدُ) : أَيْ: بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهِدَايَةَ (فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَيُرْوَى بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ; أَيْ بِدَعْوَتِهِ. وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الْكَافِرَةِ. (أَسْلِمْ) : أَمْرٌ بِالْإِسْلَامِ (تَسْلَمُ) : مِنَ السَّلَامَةِ ; أَيْ لِكَيْ تَسْلَمَ مِنَ الْعَقَائِدِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ (وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: أَجْرَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا مُحِقًّا قَبْلَ بَعْثَتِي، وَأَجْرَ الْإِيمَانِ بِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ مَرَّتَيْنِ بِـ " تَسْلَمْ " أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ ; أَيْ تَسْلَمْ مَرَّةً فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ، أَوْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَمَرَّةً مِنْ عِقَابِ الْعُقْبَى، وَتَكْرِيرُ أَسْلِمْ مُبَالَغَةٌ وَإِيذَانٌ بِشَفَقَتِهِ وَحِرْصِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِسْلَامِهِ، لِكَوْنِهِ سَبَبَ إِسْلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ وَفِيهِ نَفْعٌ كَبِيرٌ. (وَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ أَعْرَضْتَ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ (فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَسِينٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، ثُمَّ سَاكِنَةٍ ; أَيْ: إِثْمَ أَتْبَاعِكَ فِي إِعْرَاضِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ يَكُونُ لَكَ أَجْرُ أَصْحَابِكَ إِنْ أَسْلَمُوا، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ عَلَيْكَ مَعَ إِثْمِكَ إِثْمَ الْأَتْبَاعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوكَ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ عَلَى أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: بِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَالثَّالِثُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي مُسْلِمٍ، وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمُ الْأَكَّارُونَ ; أَيِ: الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ رَعَايَاكَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَكَ وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِكَ، وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيعِ الرَّعَايَا ; لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا، فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا، وَإِذَا امْتَنَعَ امْتَنَعُوا. قُلْتُ: لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. قَالَ: عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَكَّارِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ النَّصَارَى، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَرِيسَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْأَرُوسِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى اهـ.

وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرِيسِيُّ وَالْإِرِّيسُ كَجَلِيسٍ وَسِكِّيتٍ الْأَكَّارِ وَكَسِكِّيتِ الْأَمِيرِ. وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] : يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ وَالْآيَةُ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعَطْفِ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ إِلَخْ. (تَعَالَوْا) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنَ التَّعَالِي وَأَصْلُهُ يَقُولُهُ مَنْ كَانَ فِي عُلُوٍّ لِمَنْ كَانَ فِي سُفْلٍ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ بِالتَّعْمِيمِ وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى النَّقْلِ وَالْحَذْفِ {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] : مَصْدَرٌ ; أَيْ مُسْتَوِيَةٍ {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] : لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَتَفْسِيرِهَا مَا بَعْدَهَا وَالتَّقْدِيرُ هِيَ {وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64] : أَيْ نُوَحِّدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنُخْلِصَ فِيهَا {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] : أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْمَعْنَى لَا نَجْعَلَ غَيْرَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَلَا نَرَاهُ أَهْلًا ; لِأَنْ يُعْبَدَ {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] : أَيْ وَلَا نَقُولَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَلَا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَا نُطِيعَ الْأَحْبَارَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: 64] : أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَقُولُوا) الْخِطَابُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عليه السلام (اشْهَدُوا) ; أَيْ ; أَيُّهَا الْكُفَّارُ {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] : وَالْمَعْنَى لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دُونَكُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ) : بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ; أَيْضًا الْيَرِيسِيِّينَ (وَقَالَ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ) .

قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الْكِتَابِ جُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا: قَوْلُهُ: " سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى " وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ. قُلْتُ مَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا، وَمِنْهَا دُعَاءُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْقِتَالُ قَبْلَهُ حَرَامٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنْ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ الْآتِي، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَفِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ شَهِيرَةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ عِيَالِهِمْ، فَرُبَّمَا يُجِيبُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ،

ص: 2525

فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِعْلَامِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ قَالَ:«مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الْمُحِيطِ: بُلُوغُ الدَّعْوَةِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا بِأَنِ اسْتَفَاضَ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إِلَى مَاذَا يَدْعُونَ، وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَيَجِبُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَإِذَا كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ لَا تَجِبُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَدْ «أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تَسْقِي عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ» . حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُجْدِي الْمَقْصُودَ فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ، وَقُيِّدَ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ، أَوْ يَحْتَالُونَ، أَوْ يَتَحَصَّنُونَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ تَظْهَرُ مِنْ حَالِهِمْ كَالْعِلْمِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ إِذْ حَقِيقَتُهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ.

قَالَ: وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكَلَامِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا جَوَازُ الْمُسَافَرَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِآيَةٍ، أَوْ آيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي ; أَيْدِي الْكُفَّارِ وَجَوَازُ مَسِّ الْمُحْدِثِ وَالْكَافِرِ آيَةً أَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةً مَعَ غَيْرِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: (تَعَالَوْا) : لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ بِدَلِيلِ حَذْفِ (قُلْ) مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيَزِيدُ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ أَنَّهُ عليه السلام كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَهَا لَمَّا نَزَلَتْ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِصَّةُ أَبَى سُفْيَانَ هَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ نُزُولَهَا مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُكَاتَبَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ فَيَقُولَ: مِنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، سَوَاءٌ فِيهِ تَصْدِيرُ الْكِتَابِ بِهِ أَوِ الْعُنْوَانِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] وَقِيلَ: الصَّوَابُ فِي الْكُتُبِ فِي الْعُنْوَانِ إِلَى فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ بِفُلَانٍ ; لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ. قُلْتُ: تَأْتِي اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، ثُمَّ فِي قَوْلِ بِلْقِيسَ:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] إِلَخْ. لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَلَا الْعُنْوَانَ مَصْدَرٌ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْخَتْمِ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، فَإِنَّ الْوَاوَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لَا يُفْرِطَ وَلَا يُفَرِّطَ فِي الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، وَلَمْ يَقُلْ مَلِكِ الرُّومِ ; لِأَنَّهُ لَا مُلْكَ لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ مَا فِيهَا الضَّرُورَةُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى هِرَقْلَ فَحَسْبُ، بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ فَقَالَ: عَظِيمِ الرُّومِ ; أَيِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] . وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظِ الْجَزْلَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَّاغَةِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ التَّجْنِيسِ، فَإِنَّ " تَسْلَمْ " شَامِلٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبَ ضَلَالٍ وَمَنْعِ هِدَايَةٍ كَانَ أَكْثَرَ إِثْمًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ أَمَّا بَعْدُ فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: تَقْدِيمُ لَفْظِ الْعَبْدِ عَلَى الرَّسُولِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ طُرُقِ الْعِبَادِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا إِذْ مَا خُلِقُوا إِلَّا لِأَجْلِهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَقَالَ عز وجل لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ; أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى، وَقَوْلُهُمْ فِي عِيسَى بِالْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] وَصَدْرُ هَذَا الْحَدِيثِ سَيُذْكَرُ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

ص: 2526

3927 -

وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ مَزَّقَهُ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3927 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَيُفْتَحُ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُمَالَ مِلْكُ الْفُرْسِ مُعْرِبٌ خِسْرُو ; أَيْ: وَاسْعُ الْمُلْكِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. (مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (السَّهْمِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَزْءٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَبُو الْحَارِثِ سَكَنَ مِصْرَ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ بِمِصْرَ. (فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ) وَهُوَ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ قَرَيْبَ الْبَصْرَةِ (فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْفَاءُ فِي فَدَفَعَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرَاتٍ مَعْدُودَةٍ) ; أَيْ: فَذَهَبَ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَهُ الْعَظِيمُ إِلَى كِسْرَى فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ (فَلَمَّا قَرَأَ) : أَيْ: قَرَأَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (مَزَّقَهُ) : أَيْ: قَطَّعَهُ (قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ) : فِي الْبُخَارِيِّ، قَالَ الرَّاوِي: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: (فَدَعَا عَلَيْهِمْ) : أَيْ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ مِمَّنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّمْزِيقِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: يُفَرَّقُوا كُلَّ نَوْعٍ مِنَ التَّفْرِيقِ، وَأَنْ يُبَدَّدُوا كُلَّ وَجْهٍ، وَالْمُمَزَّقُ مَصْدَرٌ كَالتَّمَزُّقِ، وَالَّذِي مَزَّقَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ، قَتَلَهُ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ قَتْلِهِ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يُقَالُ: إِنَّ أَبْرَوِيزَ لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَكَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِ فَتَحَ خِزَانَةَ الْأَدْوِيَةِ وَكَتَبَ عَلَى حُقَّةٍ: السُّمُّ الدَّوَاءُ النَّافِعُ لِلْجِمَاعِ، وَكَانَ ابْنُهُ مُولَعًا بِذَلِكَ فَاحْتَالَ فِي هَلَاكِهِ، فَلَمَّا قَتَلَ أَبَاهُ فَتَحَ الْخِزَانَةَ، فَرَأَى الْحُقَّةَ حَاوَلَ مِنْهَا، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، وَيَزْعُمُ الْفُرْسُ أَنَّهُ مَاتَ أَسَفًا عَلَى قَتْلِهِ أَبَاهُ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالتَّمْزِيقِ أَمْرٌ نَافِذٌ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهُمُ الْإِقْبَالُ وَمَالَتْ عَنْهُمُ الدَّوْلَةُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمُ النُّحُوسَةُ حَتَّى انْقَرَضُوا عَنْ آخِرِهِمْ اهـ. وَكَانَ فَتْحُ بِلَادِ الْعَجَمِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَكَانَ مِلْكُهُمْ فِي ذَلِكَ فِي يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ شِيرَوَيْهِ بْنِ أَبْرَوِيزَ، وَتَزَوَّجَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما بِنْتَ يَزْدَجِرْدَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وَفِي الْمَوَاهِبَ: «كَتَبَ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ; أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْمَجُوسِ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ مَزَّقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَزَّقَ مُلْكَهُ» ، قِيلَ: بَعَثَهُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَمَّا كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ مَزَّقَهُ. وَأَمَّا قَيْصَرُ ; فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ طَوَاهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَيَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّةٌ. رَوَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ كِسْرَى قَالَ: مَزَّقَ مُلْكَهُ، وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ هِرَقْلَ قَالَ: ثَبَّتَ مُلْكَهُ.

وَذُكِرَ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْ سَيْفِ الدِّينِ الْمَنْصُورِيِّ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مَلِكِ الْغَرْبِ بِهَدِيَّةٍ مِنَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، فَأَرْسَلَهُ مَلِكُ الْغَرْبِ إِلَى الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ، وَأَنَّهُ قَبِلَهُ وَكَرَّمَهُ، وَقَالَ: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ لَهُ صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ لَهُ مِقْلَمَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ، وَقَدْ أُلْصِقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَةُ حَرِيرٍ فَقَالَ: هُنَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ لِجَدِّي قَيْصَرَ مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنِ، وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا عَنْ آبَائِهِمْ إِلَى قَيْصَرَ، أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَنَا لَا يَزَالُ الْمُلْكُ فِينَا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ غَايَةَ الْحِفْظِ وَنُعَظِّمُهُ وَنَكْتُمُهُ عَنِ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْكُ فِيمَا قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ: هَمَّ قَيْصَرُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمْ تُوَافِقْهُ الرُّومُ فَخَافَهُمْ عَلَى مُلْكِهِ فَأَمْسَكَ.

ص: 2527

3928 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3928 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ) : فِي إِعَادَةِ الْعَامِلِ إِفَادَةُ الِاسْتِقْلَالِ (وَإِلَى النَّجَاشِيِّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَبِتَخْفِيفِهَا أَفْصَحُ وَكَسْرُ نُونِهَا وَهُوَ أَفْصَحُ، أَصْحَمَةَ مَلِكِ الْحَبَشَةِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ) : أَتَى بِهِ اخْتِصَارًا ; أَيْ: كِسْرَى وَأَمْثَالِهِ (يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ) : فِي الْمَوَاهِبِ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَإِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، وَإِلَى مَلِكِ عُمَانَ، وَإِلَى صَاحِبِ الْيَمَامَةِ، الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ، وَلِأَهْلِ جَرْبَا وَأَذْرُجَ، وَإِلَى أَهْلِ وَجٍّ وَلِأُكَيْدِرٍ، وَصُورَةُ الْمَكَاتِيبِ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ (وَلَيْسَ) : أَيِ: النَّجَاشِيُّ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ (بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، يَعْنِي وَقَدْ وَهِمَ مِنْ قَالَ: إِنَّهُ النَّجَاشِيُّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَلَطَ رَاوِيهِ، فَإِنَّهُمَا اثْنَانِ وَكِلَاهُمَا مُسْلِمَانِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2527

3929 -

وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: " اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوَا فَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -، أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتَهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يُجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3929 -

(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) : بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ: جَعَلَ أَحَدًا (أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ) : أَيْ: ذَلِكَ الْأَمِيرَ (فِي خَاصَّتِهِ) : أَيْ: فِي حَقِّ نَفْسِهِ خُصُوصًا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (بِتَقْوَى اللَّهِ) : وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْصَاهُ، وَقَوْلُهُ:(وَمَنْ مَعَهُ) : مَعْطُوفٌ عَلَى خَاصَّتِهِ ; أَيْ: وَفِيمَنْ مَعَهُ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وَقَوْلُهُ: (خَيْرًا) : نُصِبَ عَلَى انْتِزَاعِ الْخَافِضِ ; أَيْ: بِخَيْرٍ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْ مَحَلِّ الْجَرِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْصَى بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَوْصَى بِخَيْرٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي اخْتِصَاصِ التَّقْوَى بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَالْخَيْرِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُشَدِّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، وَأَنْ يُسَهِّلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرْفُقَ بِهِمْ، كَمَا وَرَدَ:«يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» . (ثُمَّ قَالَ: اغْزُوَا بِسْمِ اللَّهِ) : أَيْ: مُسْتَعِينِينَ بِذِكْرِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : أَيْ: لِأَجْلِ مَرْضَاتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ (قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) : جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِاغْزُوا، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: اغْزُوَا لِيُعْقِبَهُ بِالْمَذْكُورَاتِ بَعْدَهُ، (فَلَا تَغُلُّوا) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ: لَا تَخُونُوا فِي الْغَنِيمَةِ (وَلَا تَغْدِرُوا) : بِكَسْرِ الدَّالِ ; أَيْ: لَا تَنْقُضُوا الْعَهْدَ، وَقِيلَ: لَا تُحَارِبُوهُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ (وَلَا تَمْثُلُوا) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، فَفِي تَهْذِيبِ النَّوَوِيِّ مَثَلَ بِهِ يَمْثُلُ كَقَتَلَ إِذَا قَطَعَ أَطْرَافَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَثُلَ بِفُلَانٍ مُثْلَةً بِالضَّمِّ، نَكَّلَ كَمَثَّلَ تَمْثِيلًا، وَفِي الْفَائِقِ: إِذَا سَوَّدْتَ وَجْهَهُ، أَوْ قَطَعْتَ أَنْفَهُ وَنَحْوَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:«مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ خُطْبَةً إِلَّا وَنَهَى فِيهَا عَنِ الْمُثْلَةِ» ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ. ( «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ) : أَيْ: طِفْلًا صَغِيرًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُقْتَلَانِ فِي حَالِ قِتَالِهِمَا، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمَلِكُ وَالْمَعْتُوهُ الْمَلِكُ ; لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْمَلِكِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ، (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : الْخِطَابُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ نَظِيرُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ خَاطَبَ أَوَّلًا عَامًّا، فَدَخَلَ فِيهِ الْأَمِيرُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، ثُمَّ خَصَّ الْخِطَابَ بِهِ، فَدَخَلُوا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] خَصَّ النِّسَاءَ بِالنِّدَاءِ. (فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ) : أَيْ: مُرَتَّبَةٍ (-، أَوْ خِلَالٍ -) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْخِصَالُ وَالْخِلَالُ بِكَسْرِهَا جَمْعُ الْخَصْلَةِ وَالْخَلَّةِ بِفَتْحِهِمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، (فَأَيَّتُهُنَّ) : بِالرَّفْعِ وَالضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الْمَدْعُوَّةِ (مِمَّا أَجَابُوكَ) : أَيْ: قَبِلُوهَا مِنْكَ، وَمَا: زَائِدَةٌ (فَاقْبَلْ مِنْهُمْ) : جَزَاءُ الشَّرْطِ (وَكُفَّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا ; أَيِ: امْتَنِعْ (عَنْهُمْ) : أَيْ: فِي الْأُولَيَيْنِ (ثُمَّ ادْعُهُمْ) : أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، فَاعْلَمْ حُكْمَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ فَادْعُهُمْ ; أَيْ: أَوَّلًا (إِلَى الْإِسْلَامِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ ادْعُهُمْ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّوَابُ رِوَايَةُ ادْعُهُمْ بِإِسْقَاطِ، ثُمَّ، وَقَدْ جَاءَ بِإِسْقَاطِهَا عَلَى الصَّوَابِ فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا: لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ثُمَّ هُنَا زَائِدَةٌ وَرَدَتْ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ وَالْأَخْذِ فِيهِ. (فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ) : أَيْ: الِانْتِقَالُ (مِنْ دَارِهِمْ) : أَيْ: مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ (إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ) : أَيْ: إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْخَصْلَةِ

ص: 2528

الْأُولَى، بَلْ قِيلَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، (وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) : أَيِ: التَّحَوُّلَ (فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حِينِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَمْرَهُمُ الْإِمَامُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ كَافِيًا أَوْ لَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ بِهِ الْكِفَايَةُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ: أَيْ: مِنَ الْغَزْوِ (فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا) : أَيْ: مِنْ دَارِهِمْ (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ) : أَيِ: الَّذِينَ لَازَمُوا أَوْطَانَهُمْ فِي الْبَادِيَةِ لَا فِي دَارِ الْكُفْرِ (يُجْرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ ; أَيْ: يُمْضَى (عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يُجْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ: مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : مِنْ بَابِ مَا أُضْمِرَ عَامِلُهُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّقْدِيرُ لِتَكْرِيرِ الْإِسْنَادِ فِي التَّعْبِيرِ ; أَيْ: فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَسَلْهُمْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ ; أَيْ: فَاطْلُبْ مِنْهُمُ (الْجِزْيَةَ) : وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُعْطَى الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَوَّلُوا وَكَانُوا فُقَرَاءَ مَسَاكِينَ، وَلَا تُعْطَى الصَّدَقَاتُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْمَالَانِ سَوَاءٌ يَجُوزُ صَرْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا، كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَجُوسِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ أَعْرَابًا كَانُوا أَوْ أَعَاجِمَ، وَيَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ، وَبِحَدِيثِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ تَخْصِيصُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ، (فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ) : أَيْ: قَبِلُوا بَذْلَ الْجِزْيَةِ، وَكَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ (فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ) : فِي الْهِدَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا.

قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّتُنَا فَدَمُهُ كَدَمِنَا وَدِيَتُهُ كَدِيَتِنَا، وَضَعَّفَ الطَّبَرَانِيُّ أَبَا الْجَنُوبِ، (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) : أَيْ: عَنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ (فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ) : إِشَارَةٌ إِلَى الْخَصْلَةِ الثَّالِثَةِ (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ) : أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (فَأَرَادُوكَ) ; أَيْ طَلَبُوا مِنْكَ (أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ) ; أَيْ: عَهْدَهُمَا وَأَيْمَانَهُمَا (فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ) : أَيْ: بِالِاجْتِمَاعِ وَلَا بِالِانْفِرَادِ (وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ) : وَهُوَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّهُمْ بِالْغَيْبَةِ (أَنْ تُخْفِرُوا) : مِنَ الْإِخْفَارِ ; أَيْ: تَنْقُضُوا (ذِمَمِكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَأَنَّ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَخَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ:(أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ) : وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ " إِنْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَهْوَنُ بِتَقْدِيرِ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ لَازِمَهُ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الشُّذُوذِ كَقَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا.

ص: 2529

ثُمَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ تَدْرِ مَا تَصْنَعُ بِهِمْ، حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بِوَحْيٍ وَنَحْوِهِ فِيهِمْ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَيْكَ لِسَبَبِ غَيْبَتِكَ وَبُعْدِكَ مِنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَقَضُوا عَهْدَكَ، فَإِنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ عَلَيْهِمْ فَعَلْتَ بِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ، أَوِ الْفِدَاءِ بِحَسَبَ مَا تَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّهِمْ. ( «وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ» ) : أَيْ: وَلَا عَلَى حُكْمِ رَسُولِهِ لِمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِهِ: ( «وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا؟» ) : زَادَ ابْنُ الْهُمَامِ وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقُضُهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّهَا وَيَنْتَهِكُ حُرْمَتَهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ وَسَوَادُ الْجَيْشِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ. أَنَّكَ لَا تَأْمَنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى وَحْيٍ بِخِلَافٍ مَا حَكَمْتَ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ:" لَقَدْ حَكَمْتَ لَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ " وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ، وَأَلْفَاظُ بَعْضِهِمْ تَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ.

ص: 2530

3930 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ "، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3930 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ) : أَيِ: الْكُفَّارَ فِي الْغَزْوِ (انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: لِيُطْلُبَ الْوَقْتُ، وَيُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ (ثُمَّ قَامَ) : أَيْ: خَطِيبًا (فِي النَّاسِ) : أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ لِأَحَدِهِمْ (فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ) : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِيَعُمَّ الْمُنَافِقِينَ ( «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» ) : أَيِ: اطْلُبُوهُ كِفَايَةَ شَرِّ الْأَعْدَاءِ (فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا) : أَيْ: عَلَى الْبَلَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ، وَأَيْضًا هُوَ يُخَالِفُ الْحَزْمَ وَالِاحْتِيَاطَ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَةِ فِي الْقِتَالِ، وَيُمْكِنُ حُصُولُ ضَرَرٍ، وَإِلَّا فَالْقِتَالُ كُلُّهُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ. ( «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» ) : أَيْ: كَوْنُ الْمُجَاهِدِ بِحَيْثُ تَعْلُوهُ سُيُوفُ الْأَعْدَاءِ سَبَبٌ لِلْجَنَّةِ، أَوِ الْمُرَادُ سُيُوفُ الْمُجَاهِدِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ السُّيُوفَ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ آلَاتِ الْحُرُوبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنُوِّ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى يَعْلُوَهُ السَّيْفُ وَيَصِيرَ ظِلُّهُ عَلَيْهِ، وَالظِّلُّ الْفَيْءُ الْحَاصِلُ مِنَ الْحَاجِزِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ; أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مِنْهُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ الْفَيْءُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ ثَوَابُ اللَّهِ، وَالسَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ، وَمَشْيِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاحْضُرُوا فِيهِ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَاثْبُتُوا.

(ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ) : أَيْ: جِنْسَهُ، أَوِ الْقُرْآنِ (وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ) : أَيْ: أَصْنَافِ الْكُفَّارِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَثَمُودَ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمُ (اهْزِمْهُمْ) : أَيْ: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِحَوْلِكَ وَنَصْرِكَ (وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ) : أَيْ: لِيَكُونَ لَنَا أَجْرُ الْغَزْوِ بِسَبَبِ الْمُبَاشَرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنَشَاطِ النُّفُوسِ، وَقَالُوا سَبَبُهُ فَضِيلَةُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا، وَالْوَجْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ:«شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْيَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» " وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عِنْدَ الْقِتَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ:" «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» ".

ص: 2530

3931 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بَمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا فِي الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3931 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا) : الْبَاءُ بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ ; أَيْ: إِذَا غَزَوْنَا وَهُوَ مَعَنَا (لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا) : بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ ; أَيْ: لَمْ يَكُنْ غَازِيًا بِنَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَمْ يَكُنْ يَغْزُ بِنَا، هَكَذَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَرَى الْوَاوَ قَدْ سَقَطَ عَنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ وَصَوَابُهُ إِثْبَاتُهَا، وَلَوْ جُعِلَ مِنْ الِاغْتِرَاءِ عَلَى زِنَةِ يُلْهِبُنَا لَمْ يَسْتَقِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُحْرِزُنَا لِلْغَزْوِ، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ يَسْتَقِيمُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يُرْسِلْنَا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَحْمِلْنَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: غَزَا الْعَدُوَّ سَارَ إِلَى قِتَالِهِمْ وَأَغْزَاهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ كَغَزَاهُ وَأَمْهَلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ لَا الْمَجَازِيُّ، كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَمَّا جَعْلُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِيَّةِ دُونَ الْمُرَاعَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، مَعَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ ; أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَمْ يَحْمِلْنَا عَلَيْهِ فِي سَاعَتِهِ، بَلْ كَانَ يُمْهِلُنَا حَتَّى نَسْتَعِدَّ وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُقَاتَلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ) : أَيْ: إِلَيْهِمْ كَمَا فِي نُسْخَةٍ ; أَيْ: يَتَأَمَّلَ فِي حَالِهِمْ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَى عَقَائِدِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ (فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا) : أَيْ: إِعْلَامًا بِالصَّلَاةِ (كَفَّ عَنْهُمْ) : أَيِ: امْتَنَعَ عَنْ قِتَالِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ) : قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: كَانَ يَتَثَبَّتُ فِيهِ وَيَحْتَاطُ فِي الْإِغَارَةِ حَذَرًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ فَيُغِيرَ عَلَيْهِ غَافِلًا عَنْهُ جَاهِلًا بِحَالِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْأَذَانَ شِعَارٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ كَانَ لِلسُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ اهـ. وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا. (قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ رضي الله عنه ( «فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلَفَ أَبِي طَلْحَةَ» ) : وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ (وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قِيلَ: يَعْنِي كُنْتُ أَنَا وَأَبُو طَلْحَةَ وَالنَّبِيُّ رَاكِبِينَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَسَّ الْقَدَمِ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ. (قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ (فَخَرَجُوا) : أَيْ: أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ حِصْنِهِمْ (إِلَيْنَا) : أَيْ: غَيْرَ عَالِمِينَ بِنَا بَلْ قَاصِدِينَ عِمَارَةَ نَخِيلِهِمْ (بِمَكَاتِلِهِمْ) : جَمْعِ مِكْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الزِّنْبِيلُ الْكَبِيرُ (وَمَسَاحِيهِمْ) جَمْعُ مِسْحَاةٍ وَهِيَ الْمِجْرَفَةُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ ; لِأَنَّهُ مِنَ السَّحْوِ ; أَيِ: الْكَشْفِ لِمَا يُكْشَفُ بِهِ الطِّينُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، (فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ) : أَيْ: هَذَا مُحَمَّدٌ، أَوْ أَتَانَا مُحَمَّدٌ، وَقَوْلُهُ:(مُحَمَّدٌ) : تَأْكِيدٌ (وَالْخَمِيسُ) : أَيْ: وَمَعَهُ الْجَيْشُ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَمِيسُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ " مُحَمَّدٌ " وَرُوِيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله عَلَى الْأَوَّلِ وَالْخَمِيسُ حَالٌ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، وَالْعَامِلُ اسْمُ الْإِشَارَةِ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ مَفْعُولًا مَعَهُ إِشْكَالٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: وَصَلَ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، وَسُمِّيَ الْجَيْشُ خَمِيسًا ; لِانْقِسَامِهِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: الْمُقَدِّمَةِ، وَالسَّاقَةِ، وَالْمَيْمَنَةِ، وَالْمَيْسَرَةِ، وَالْقَلْبِ، أَوْ لِتَخْمِيسِ الْغَنَائِمِ فِيهِ (فَلَجَئُوا) : أَيْ: فَرَجَعُوا وَالْتَجَئُوا (إِلَى الْحِصْنِ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ: هَارِبِينَ (قَالَ) : تَفَاؤُلًا بِانْهِزَامِهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ وَخَرَابِ دِيَارِهِمُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) : أَيْ: أَعَزُّ وَأَغْلَبُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) : تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (خَرِبَتْ خَيْبَرُ) : خَبْرٌ، أَوْ دُعَاءٌ (إِنَّا) : أَيْ: مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانَ الْمُوجِبِ خَرَابَ خَيْبَرَ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ (أَكْبَرُ اللَّهُ) أَكْبَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ نُزُولَهُ بِسَاحَتِهِمْ بَعْدَمَا أُنْذِرُوا، ثُمَّ أَصْبَحَهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: السَّاحَةُ الْفَضَاءُ وَأَصْلُهَا الْفَضَاءُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] : بِفَتْحِ الذَّالِ ; أَيِ: الْكُفَّارِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ ; أَيْ: بِئْسَ صَبَاحُهُمْ لِنُزُولِ عَذَابِ اللَّهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 176 - 177]

ص: 2531

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فَإِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِفِنَائِهِمْ شَبَّهَهُ بِجَيْشٍ هَجَمَهُمْ فَأَنَاخَ بِفِنَائِهِمْ بَعَثَهُ، وَقِيلَ الرَّسُولُ وَقُرِئَ (نَزَلَ) عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَنَزَلَ ; أَيِ: الْعَذَابُ فَبِئْسَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ صَبَاحُهُمْ، وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ وَالصَّبَاحُ مُسْتَعَارٌ مِنْ صَبَاحِ الْجَيْشِ الْمُبَيَّتِ لِوَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَلَمَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْهُجُومُ وَالْغَارَةُ فِي الصَّبَاحِ سَمَّوُا الْغَارَةَ صَبَاحًا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، وَقَدْ جَاءَ لَهُ نَظَائِرُ؛ مِنْهَا عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَطَعْنِ الْأَصْنَامِ. قَالَ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَيُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: بَلْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِكُفْرِ مِنْ وَضَعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضِعَ كَلَامِهِ بِأَنْ خَاطَبَ شَخْصًا مُسَمًّى بِيَحْيَى مُنَاوِلًا لَهُ بِكِتَابٍ. وَقَالَ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَكَذَا وَضْعُ بِسْمِ اللَّهِ مَوْضِعَ كُلِّ ذَا دَخَلٍ وَنَحْوُهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَهُ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِشْهَادِ بَلْ مِنْ بَابِ الِامْتِثَالِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لَهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] وَكَذَا مَنْ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَنَحْوِهِ بَلْ يَسْتَحِبُّ لَهُ ذَلِكَ.

ص: 2532

3932 -

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه، قَالَ:«شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلِ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحَ وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3932 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مُقَرِّنٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالنُّونِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى جَيْشِ نَهَاوَنْدَ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ فَتْحِهَا. ( «قَالَ: شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ، أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ» ) : جَمْعُ رِيحٍ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الْوَاوُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَرْيَاحٍ قَلِيلًا وَعَلَى رِيَاحٍ كَثِيرًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرِّيحُ مَعْرُوفٌ جَمْعُهُ أَرْوَاحٌ وَأَرْيَاحٌ وَرِيَاحٌ وَرِيَحٌ كَعِنَبٍ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَرَاوِيحُ وَأَرَايِيحُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَجِيءَ الرِّيَاحُ، وَمِنْهَا رِيحُ النَّصْرِ وَتَكْسِرَ حَرَارَةَ النَّهَارِ وَشَوْكَةَ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ مَعْبُودَةُ الْكُفَّارِ، وَزَوَالَ تَعْلِيَتِهَا وَالْمَيْلَ إِلَى غَيْبُوبَتِهَا. (وَتَحْضُرَ الصَّلَاةُ) : أَيْ: فَتُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا، وَهُوَ زَمَانُ عِبَادَةِ الْعَابِدِينَ وَدَعْوَةِ السَّاجِدِينَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2532

الْفَصْلُ الثَّانِي

3933 -

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه، قَالَ:«شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3933 -

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْتُ) : أَيِ: الْقِتَالَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَكَانَ (إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ) : وَهُوَ بُكُورَةُ الْمُبَارَكِ عَلَى مَا وَرَدَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» ". (انْتَظَرَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ) : أَيْ: رِيحُ النَّصْرِ، أَوْ حُصُولُهُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ لِلْمُجَاهِدِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2532

3934 -

وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه، قَالَ:«غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْسَكَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَاتَلَ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمْسَكَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ قَاتَلَ حَتَّى الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمْسَكَ حَتَّى يُصَلَّى الْعَصْرُ، ثُمَّ يُقَاتِلُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: عِنْدَ ذَلِكَ تُهِيجُ رِيَاحُ النَّصْرِ، وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3934 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ جَلِيلٌ (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم فَكَانَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا أَظْهَرَهُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ ; لِأَنَّ

ص: 2532

قَوْلُهُ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُشْتَمِلٌ مُجْمَلًا عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مُفَصَّلًا (إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْسَكَ) : أَيْ: عَنِ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) : أَيْ: وَيَفْرُغُ عَنْ أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ (فَإِذَا طَلَعَتْ قَاتَلَ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ) : أَيِ: الشَّرْعِيُّ وَهِيَ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى (أَمْسَكَ) : أَيْ: عَنِ الْقِتَالِ (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) ، أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّهَارِ الْعُرْفِيِّ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ حَتَّى تَزُولَ وَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ، (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) : أَيْ: وَصَلَّى (قَاتَلَ حَتَّى الْعَصْرِ) : أَيْ: إِلَى الْعَصْرِ (ثُمَّ أَمْسَكَ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ يُقَاتِلُ) : وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ هُوَ الْبَادِئُ لِلْقِتَالِ فَصَلَاةُ الْخَوْفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى غَلَبَةِ الْكُفَّارِ (قَالَ قَتَادَةُ) : رضي الله عنه (كَانَ يُقَالُ) : أَيْ: يَقُولُ الصَّحَابَةُ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِتَالِ إِلَى الزَّوَالِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَخْ. وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ: أَيِ: النُّعْمَانُ (عِنْدَ ذَلِكَ) : أَيْ: عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ (تَهِيجُ) : أَيْ: تَجِيءُ (رِيَاحُ النَّصْرِ) : وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» "(وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ) : أَيْ: فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ فَرَاغِهَا، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا بِالْقُنُوتِ عِنْدَ النَّوَازِلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَهُ الْقِتَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُسْتَثْنًى مِنْهَا لِحُصُولِ النَّصْرِ فِيهَا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَعَلَّ لِهَذَا السِّرَّ خُصَّ فِي الْحَدِيثِ هَذَا الْوَقْتُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ يُقَاتِلُ، وَفِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَاتَلَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قِتَالَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانَ أَشَدَّ وَتَحَرِّيَهِ فِيهِ أَكْمَلُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2533

3935 -

وَعَنْ عِصَامٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

3935 -

(وَعَنْ عِصَامٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، حَدِيثُهُ فِي الْجِهَادِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَنْسُبَاهُ. (قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا) : أَيْ: إِذَا حَقَّقْتُمْ عَلَامَةً فِعْلِيَّةً أَوْ قَوْلِيَّةً مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ (فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا) : أَيْ: حَتَّى تُمَيِّزُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2533

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3936 -

عَنْ أَبِي وَائِلٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى رُسْتَمَ وَمِهْرَانَ فِي مَلَأِ فَارِسَ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا نَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَإِنَّ مَعِيَ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا يُحِبُّ فَارِسُ الْخَمْرَ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3936 -

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ رضي الله عنه : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ شَقِيقُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَالَ: كُنْتُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِالْبَادِيَةِ، رَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَكَانَ خِصِّيصًا بِهِ مَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ ثِقَةً ثَبْتًا حُجَّةً، مَاتَ زَمَنَ الْحَجَّاجِ. (قَالَ: كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : رضي الله عنه. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ، وَأُمُّهُ لُبَابَةُ أُخْتُ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَ اللَّهِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ خَالَتِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. وَفِي الْإِصَابَةِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ قَالَ لَهُ فِي خَالِدٍ: " فَنِعْمَ عَبْدٌ

ص: 2533