المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب ما لا يضمن من الجنايات] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: ‌[باب ما لا يضمن من الجنايات]

الْمَرْأَةُ حَيًّا فَمَاتَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ حَيَاتَهُ تَثْبُتُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنَ الِاسْتِهْلَالِ وَالرَّضَاعِ وَالنَّفَسِ وَالْعُطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ إِرْثَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِرْثَ غَيْرِهِ مِنْهُ مُرَتَّبًا عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ مَا عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَالْعُطَاسِ وَالتَّنَفُّسِ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ كَالِاسْتِهْلَالِ، أَمَّا لَوْ تَحَرَّكَ عُضْوٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ ; لَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنِ اخْتِلَاجٍ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْ مَضِيقٍ، وَيَجِبُ غُرَّةٌ وَدِيَةٌ إِنْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ مَيِّتًا فَمَاتَتِ الْأُمُّ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا رَمَى شَخْصًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إِلَى آخَرَ وَمَاتَا حَيْثُ يَجِبُ دِيَتَانِ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً وَقِصَاصًا، وَدِيَةٌ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَتَجِبُ دِيَةُ الْأُمِّ فَقَطْ، وَلَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ شَيْءٌ إِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ مَعَ دِيَةِ الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ مَيِّتَةٌ، وَتَجِبُ دِيَتَانِ إِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا وَمَاتَ ; لِأَنَّ الضَّارِبَ قَتَلَهُمَا بِضَرْبِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا وَمَاتَ، وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ لِوَرَثَتِهِ سِوَى ضَارِبِهِ، وَيَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ زَوْجِهَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ فِي الذَّكَرِ قِيمَتُهُ فِي الْأُنْثَى بِأَنْ يُقَوَّمَ الْجَنِينُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مَيِّتًا عَلَى لَوْنِهِ وَهَيْئَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَجِبُ عُشْرُ قِيمَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّهُ جَنِينٌ مَاتَ بِالْجِنَايَةِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ: لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأُمِّ إِنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نُقْصَانٌ، وَمَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ كَالْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَضُمِّنَ الْغُرَّةَ فِي سَنَةٍ عَاقِلَةُ امْرَأَةٍ حَامِلٍ أَسْقَطَتْ مَيِّتًا عَمْدًا بِدَوَاءٍ شَرِبَتْهُ، أَوْ فِعْلٍ فَعَلَتْهُ، بِأَنْ حَمَلَتْ حَمْلًا ثَقِيلًا، أَوْ وَضَعَتْ شَيْئًا فِي قُبُلِهَا بِلَا إِذْنِ زَوْجِهَا.

ص: 2296

[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3510 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «وَالْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنَ الْجِنَايَاتِ) : بَيَانٌ لِمَا، وَالْجِنَايَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ مَا يَجْنِيهِ مِنْ شَرٍّ أَيْ: يُحْدِثُهُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا وَهُوَ عَامٌّ، إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَا يَحْرُمُ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَى الثَّمَرَ وَهُوَ أَخْذُهُ مِنَ الشَّجَرِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3510 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْعَجْمَاءُ) : أَيِ: الْبَهِيمَةُ وَالدَّابَّةُ وَسُمِّيَتْ بِهَا لِعُجْمَتِهَا، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ أَعْجَمِيٌّ (جَرْحُهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا غَيْرُ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَهُوَ الِاسْمُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَقِيلَ: مَا لُغَتَانِ وَفِي الْحَدِيثِ نُسْخَتَانِ (جُبَارٌ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: هَدَرٌ قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا يَكُونُ جَرْحُهَا هَدَرًا إِذَا كَانَتْ مُتَفَلِّتَةً عَاثِرَةً عَلَى وَجْهِهَا لَيْسَ لَهَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، أَوْ هُوَ مِثَالٌ نُبِّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ، نَقَلَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (وَالْمَعْدِنُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ (جُبَارٌ وَالْبِئْرُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (جُبَارٌ) : فَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي أَرْضِ الْمُبَاحِ وَسَقَطَ فِيهِ رَجُلٌ لَا قَوَدَ وَلَا عَقْلَ عَلَى الْحَافِرِ، وَالْمَعْدِنُ كَذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي الشَّمَنِيِّ، فِي الدَّابَّةِ الْمُتَفَلِّتَةِ إِذَا أَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا تُضَمَّنُ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:( «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ)(وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، فِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ فِي الدِّيَاتِ. وَمُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الزَّكَاةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: الْعَجْمَاءُ هِيَ الْمُتَفَلِّتَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: الْجُبَارُ الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُغَرَّمُ،

ص: 2296

وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: جُبَارٌ أَيْ: لَا دِيَةَ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحِجَازِ: يُضَمَّنُ صَاحِبُ الْمُتَفَلِّتَةِ مَا أَفْسَدَتْ لَيْلًا لَا نَهَارًا، لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ، فَأَفْسَدَتْ فَقَضَى عليه الصلاة والسلام أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ مَضْمُونٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا رَوَيَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ وَمَا رَوَاهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، إِذْ كَانَ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ إِيجَابَ الضَّمَانِ بِسَوْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِإِفْسَادِهِ، فَبَيَّنَ تَسَاوِيَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فِيهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:) أَقْبَلَ رَجُلٌ بِجَارِيَةٍ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَاقِفٍ عَلَى دَابَّةٍ، فَنَخَسَ رِجْلَ الدَّابَّةِ فَرَفَعَتْ رِجْلَهَا فَلَمْ تُخْطِئْ عَيْنَ الْجَارِيَةِ، فَرُفِعَ إِلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ فَضَمَّنَ الرَّاكِبَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: عَلَى الرَّجُلِ إِنَّمَا يُضَمَّنُ النَّاخِسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ.

ص: 2297

3511 -

«وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ، فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: (أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَالْفَحْلِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3511 -

(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : أَيِ: التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَتَبُوكَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَفْوَانُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ قُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: غَزَوْتُ) : أَيِ: الْكُفَّارَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ الْعُسْرَةِ) : أَيْ: فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسُمِّيَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْحَرِّ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: غَزَوْتَ الْعَدُوَّ قَصَدْتَهُ لِلْقِتَالِ غَزْوًا وَقَوْلُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَجَيْشُ الْعُسْرَةِ حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْنَى قَصَدْتُ مُصَاحِبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ كَوْنِهِ مُجَهِّزًا جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: أَنَّهُ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَهُوَ جَيْشُ غَزْوَةِ تَبُوكَ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْغَزْوِ فِي شِدَّةِ الْقَيْظِ، وَكَانَتْ وَقْتَ إِينَاعِ الثَّمَرَةِ وَطِيبِ الظِّلَالِ، فَعَسُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَشَقَّ وَالْعُسْرُ ضِدُّ الْيُسْرِ وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ. (وَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا) : أَيْ: خَاصَمَهُ (فَعَضَّ أَحَدُهُمْ يَدَ الْآخَرِ، فَانْتَزَعَ) : وَفِي نُسْخَةٍ. فَنَزَعَ أَيْ: جَذَبَ (الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ) أَيْ: مِنْ فَمِهِ (قَالَ أَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ) : أَيْ: أَسْقَطَهُ الْمَعْضُوضُ (فَسَقَطَتْ) : أَيْ: ثَنِيَّةُ الْعَاضِّ (فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ فَذَهَبَ الْعَاضُّ إِلَيْهِ رَافِعًا لِقَضِيَّتِهِ، طَالِبًا قِصَاصَ ثَنِيَّتِهِ (فَأَهْدَرَ) : أَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَنِيَّتَهُ) : أَيْ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْمَعْنَى لَمْ يُلْزِمْهُ شَيْئًا (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ) : أَيْ: أَيَتْرُكُهَا فِي فَمِكَ (تَقْضَمُهَا) : فَتْحُ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ مِنْ قَضِمَ كَفَرِحَ أَكَلَ بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْرِبِ وَالْمِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْمِصْبَاحِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ لُغَةٌ (كَالْفَحْلِ) أَيْ: كَقَضْمِ الْفَحْلِ مِنَ الْإِبِلِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ شَفَقَةٍ وَرَوِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: أَيَدَعُ يَدَهُ. . . إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِهْدَارِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُدْفَعُ بِهِ الصَّائِلُ الْمُخْتَارُ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا أَيْ دَفْعُهُ مُهْدَرٌ ; لِأَنَّ الدَّافِعَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ أَلْجَأَهُ الصَّائِلُ إِلَى دَفْعِهِ بِهِ وَهُوَ نَتِيجَةُ فِعْلِهِ وَمُسَبَّبٌ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَكَأَنَّهُ الَّذِي فَعَلَهُ وَجَنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَصَدَ رَجُلٌ الْفُجُورَ بِامْرَأَةٍ فَدَفَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، رُفِعَ لِعُمَرَ رضي الله عنه جَارِيَةٌ كَانَتْ تَحْتَطِبُ فَأَتْبَعَهَا رَجُلٌ فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هَذَا قَتِيلُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا مَنْ قَصَدَ مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَهْلَهُ فَلَهُ دَفْعُ الْقَاصِدِ وَمُقَاتَلَتُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ بِالْأَحْسَنِ فَالْأَحْسَنِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا بِالْمُقَاتَلَةِ وَقَتَلَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ؟ نَظَرٌ إِنْ أُرِيدَ مَالُهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ دَمُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ لَهُ الِاسْتِسْلَامَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاصِدُ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الِاسْتِسْلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2297

3512 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3513 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3512 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ، (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (دُونَ مَالِهِ) : أَيْ: عِنْدَهُ لِلدَّفْعِ (فَهُوَ شَهِيدٌ)(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَابْنَ حِبَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.

ص: 2297

3513 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟) : أَيْ: غَصْبًا (قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) : بِإِشْبَاعِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّجُلِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَلَا تُعْطِهِ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ شَرْطُ جَزَائِهِ مَحْذُوفٌ يَعْنِي: إِنْ جَاءَ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأُعْطِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ. يَعْنِي إِنْ كَانَ كَمَا وَصَفْتَهُ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي: قَالَ: قَاتِلْهُ) . قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ) : وَأَمَّا مَا جَاءَ بِلَا فَاءٍ مِنْ قَوْلِهِ: (قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ . قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ) : فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَقْدِيرِ جَوَابِ الشَّرْطِ كَأَنَّ قَائِلًا سَأَلَ فَمَاذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِهِ، فَأُجِيبَ قَالَ كَذَا اهـ. وَمَعْنَى هُوَ فِي النَّارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ، وَفِيهِ أَنْ دَفْعَ الْقَاتِلِ وَهُلْكَهُ فِي الدَّفْعِ مُبَاحٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2298

3514 -

وَعَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:( «لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3514 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَوِ اطَّلَعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفَ وَنَظَرَ مِنْ شِقِّ بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَكَانَ الْبَابُ غَيْرَ مَفْتُوحٍ (فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ مِنْكَ إِذْنٌ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ (فَخَذَفْتَهُ) : بِالْمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ الْخَذْفِ وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْأُصْبُعَيْنِ أَيْ: رَمَيْتَهُ (بِحَصَاةٍ) : أَيْ مَثَلًا، فَإِنَّ الْخَذْفَ أَنْ تَرْمِيَ بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا بِأَنْ تَأْخُذَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ، وَقِيلَ: أَنْ تَضُمَّ طَرَفَ الْإِبْهَامِ عَلَى طَرَفِ السَّبَّابَةِ وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْمِصْبَاحِ (فَفَقَأْتَ) : بِالْهَمْزِ أَيْ قَلَعْتَ (عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ) : أَيْ: عَيْبٍ وَتَعْبِيرُ وَزِيَادَةُ (مِنْ) لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِثْمٍ، عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ ضَمَانَ الْعَيْنِ، قِيلَ: هَذَا بَعْدَ أَنْ زَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» .

ص: 2298

3515 -

«وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ عَيْنَيْكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3515 -

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَيِ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ) وَكَانَ اسْمُهُ حَزَنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهْلًا (أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ أَيْ خَرْقٍ كَائِنٍ (فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فِي نَفْسِ الْبَابِ أَوْ فِيمَا حَوْلَهُ (وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى) : بِكَسْرِ مِيمٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ مُنَوَّنٌ: شَيْءٌ يُعْمَلُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ عَلَى شَكْلِ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْمُشْطِ وَأَطْوَلُ مِنْهُ، يُسَوَّى بِهِ الشَّعْرُ الْمُتَبَلِّدُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا مُشْطَ لَهُ. كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ: هُوَ عُودٌ يُدْخِلُهُ مِنْ لَهُ شَعْرٌ فِي رَأْسِهِ لِيَضُمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمِسَلَّةَ، وَقِيلَ هُوَ حَدِيدَةٌ كَالْخِلَالِ لَهَا رَأْسٌ مُحَدَّدٌ مِنْ عَادَةِ الْكَبِيرِ أَنْ يَحُكَّ بِهَا مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ قَوْلُهُ:(يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَعْلَمُ) أَيْ: يَقِينًا (أَنَّكَ تَنْظُرُنِي) : أَيْ: تُطَالِعُ فِيَّ قَصْدًا أَوْ عَمْدًا (لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ مَعَ غَيْرِ قَصْدِ النَّظَرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَالْمَارِّ (إِنَّمَا جُعِلَ) : أَيْ: شُرِعَ (الِاسْتِئْذَانُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) : أَيْ: مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ الْمُحَرَّمِ وَلَوْلَاهُ لَمَا شُرِعَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ لِئَلَّا يَقَعُ النَّظَرُ مَنْ هُوَ خَارِجٌ إِلَى دَاخِلِ الْبَيْتِ، فَيَكُونُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ كَالدُّخُولِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ رَمْيِ عَيْنِ الْمُتَطَلِّعِ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ، وَلَوْ فُقِئَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا نَظَرَ فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ مَحْرَمٌ لَهُ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ هُنَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ إِنَّمَا يُلَائِمُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالْفَرْقُ عِنْدَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى فَرْضِ الْوُقُوعِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الدِّيَةَ. وَفِي الثَّانِي الْقِصَاصَ، هَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2298

3516 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ، فَقَالَ: لَا تَخْذِفْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3516 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ مَفْتُوحَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُزَنِيٌّ، كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ. وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، (أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ) : بِمُعْجَمَتَيْنِ ثَانِيهِمَا مَكْسُورَةٌ (فَقَالَ: لَا تَخْذِفْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ كَثِيرُ الْمَضَرَّةِ (إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنُ أَوِ الْخَذْفُ (لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَأُ) : بِتَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ فَنُونٍ سَاكِنَةٍ فَكَافٍ مَفْتُوحَةٍ فَهَمْزَةٍ مَرْفُوعَةٍ، كَذَا فِي النُّسَخِ أَيْ: لَا يُجْرَحُ (بِهِ عَدُوٌّ) : فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ نَكَيْتَ الْعَدُوَّ نِكَايَةً إِذَا كَثَّرْتَ فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَالْقَتْلَ وَقَدْ يُهْمَزُ اهـ. وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ الْحَدِيثُ بِالْوَجْهَيْنِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الْأَصْلُ لَا يَنْكِي بِالْيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَكِنَّهَا) : أَيِ: الْحَصَاةَ الْمَفْهُومَةَ مِنَ الْخَذْفِ أَوِ الرَّمْيَةِ أَوِ الْفَعْلَةِ (قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) : أَيْ: وَقَدْ تَفْقَؤُهَا أَيْ تَقْلَعُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَجُلٌ يَعْبَثُ بِالْخَذْفِ فَنَهَاهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ ضَرًّا بَلْ هُوَ شَرٌّ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَذْفِ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَيُخَافُ مِنْ فَسَادِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ اهـ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ، إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 2299

3517 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا وَفِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3517 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا وَفِي سُوقِنَا) : أَيْ: مَسْجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَسُوقِهِمْ، فَأَضَافَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُفَخَّمِ إِيذَانًا بِالشَّرَفِ (وَمَعَهُ نَبْلٌ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَلَا يُقَالُ نَبْلَةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ سَهْمٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ (فَلْيُمْسِكْ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَلْيَأْخُذْ (عَلَى نِصَالِهَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ النَّصْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِي آخِرِ السَّهْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ أَمْسَكَ بِعَلَى مُبَالَغَةً فِي الْمُحَافَظَةِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: (أَنْ يُصِيبَ) : مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدَكُمْ أَوِ الْمَارَّ (أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا) : أَيْ: مِنَ النِّصَالِ (بِشَيْءٍ) : أَيْ: مِنَ الْأَذَى، وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا اهـ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَضِلُّوا ثُمَّ فِي مَعْنَى النِّصَالِ بَلْ أَقْوَى مِنْهَا حَدِيدَاتُ الْجَنْبِيَّاتِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْأَحْلَافُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ - وَيُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِي الطَّوَافِ، بَلْ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ مُزَاحَمَتِهِمْ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهِ بِكَفِّهِ لَا يَعْقِرُ مُسْلِمًا.

ص: 2299

3518 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ ; فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3518 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ) : نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ (عَلَى أَخِيهِ) : أَيِ الْمُسْلِمِ وَيَلْحَقُ بِهِ الذِّمِّيُّ (بِالسِّلَاحِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلْحَرْبِ مِنْ آلَةِ الْحَدِيدِ (فَإِنَّهُ) : أَيْ: أَحَدَكُمْ أَوِ الشَّأْنَ (لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ) : مَفْعُولُ يَدْرِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَدْرِي نَازِلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ

ص: 2299

فَنَفَى الدِّرَايَةِ عَنْهُ رَأْسًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّ الشَّيْطَانَ (يَنْزِعُ فِي يَدِهِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: يَجْذِبُهُ حَالَ كَوْنِ السِّلَاحِ فِي يَدِهِ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إِلَى السَّبَبِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: يَرْمِي بِهِ كَأَنَّهُ يُوقِعُ يَدَهُ لِتَحَقُّقِ إِشَارَتِهِ وَيُرْوَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ يَعْنِي مَعَ فَتْحِ الزَّايِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَمَعْنَاهُ يُغْرِيهِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى تَحْقِيقِ الضَّرْبِ حِينَ يُشِيرُ بِهِ عِنْدَ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ إِغْرَاؤُهُ. قَالَ تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَطْعَنُ فِي يَدِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَهُ بِكَلِمَةٍ أَيْ: طَعَنَ فِيهِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَزَعَ فِي الْقَوْسِ مَدَّهَا. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرْمِي بِهِ كَائِنًا فِي يَدِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا فِي يَدِهِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُقَدَّرِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَوْهَرِيِّ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: [

يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي

] أَيْ: يُوقِعُ نَزْعَةً فِي يَدِ الْمُشِيرِ فَيَسْتَوْفِيهِ بِمَا أَمْكَنَ مَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1] الْكَشَّافِ: النَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ:(فَيَقَعُ) : فَصِيحَةٌ أَيْ: يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقْتُلُهُ فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَيَقَعُ (فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) : قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنِ الْمُلَاعَبَةِ بِالسِّلَاحِ، فَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِبَيْنِ فَيَصِيرُ الْهَزْلُ جَدًّا وَاللِّعَابُ حَرْبًا، فَيَضْرِبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقْتُلُهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ بِقَتْلِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2300

3519 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَضَعَهَا وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

ــ

3519 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ) : أَيِ الْمُسْلِمِ (بِحَدِيدَةٍ) أَيْ: بِمَا هُوَ آلَةُ الْقَتْلِ (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ) : أَيْ: تَدْعُوهُ بِالْبُعْدِ عَنِ الْجَنَّةِ أَوَّلَ الْأَمْرِ (حَتَّى يَضَعَهَا) : أَيِ: الْحَدِيدَةَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حِينَئِذٍ تَرْكُ الْإِشَارَةِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ (وَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْمُشِيرُ (أَخَاهُ) : أَيْ: أَخَا الْمُشَارِ إِلَيْهِ (لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) : أَيْ مَعًا وَإِنْ وَصْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هَازِلًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ ضَرْبَهُ، كَنَّى بِهِ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ لَا يَقْصِدُ قَتْلَ أَخِيهِ غَالِبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى الْمُلَاعَبَةِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ فِي الْإِشَارَةِ، فَبَدَأَ بِمُطْلَقِ الْأُخُوَّةِ ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْأُخُوَّةِ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ اللَّعِبَ الْمَحْضَ الْمُعَرَّى عَنْ شَائِبَةِ الْقَصْدِ، إِذَا كَانَ حُكْمُهُ كَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي هَامِشِ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَيْهِ (خ ظ) ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ( «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ قَتْلَهُ قَدْ وَجَبَ دَمُهُ» ) .

ص: 2300

3520 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَزَادَ: ( «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ) .

ــ

3520 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (وَأَبِي هُرَيْرَةَ) : أَيْ: مَعًا (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ) : أَيْ: سَلَّهُ لِلَّعِبِ وَالْهَزْلِ أَوْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ وَالْخَوْفِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ لِيَتَنَاوَلَ الْأُمَّةَ أَيْضًا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي (فَلَيْسَ مِنَّا) : أَيْ: مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا وَسُنَّتِنَا أَوْ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ يَعْنِي عَلَيْنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ، وَالسِّلَاحُ نُصِبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، يُقَالُ: حَمَلَ عَلَيْهِ فِي الْحَرْبِ حَمْلَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالسِّلَاحُ مَفْعُولٌ، يُقَالُ: حَمَلْتُ الشَّيْءَ أَحْمِلُهُ حَمْلًا: أَيْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَيْنَا لَا لَنَا. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَأَلْيَقُ بِبَابِ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَيْسَ مِنَّا جَزَاءُ الشَّرْطِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ مِنْهُمْ، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَيَجُوزُ قَتْلُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، (وَزَادَ مُسْلِمٌ: مَنْ غَشَّنَا) : أَيْ: خَانَنَا وَتَرَكَ النَّصِيحَةَ لَنَا كَأَنْ سَتَرَ الْعَيْبَ فِي السِّلْعَةِ (لَيْسَ مِنَّا) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ( «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي لَفْظٍ: ( «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ) . وَفِي أَكْثَرِ طُرُقِهِ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طَعَامٍ رَآهُ فِي السُّوقِ مُبْتَلًّا دَاخِلُهُ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ:( «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ» ". رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ: ( «مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي» ) .

ص: 2300

3521 -

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3521 -

(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ) : أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ أَحَدٍ (فَلَيْسَ مِنَّا) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ» .

ص: 2301

3522 -

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ رضي الله عنه مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ. قَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3522 -

(وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ يُكَنَّى أَبَا الْمُنْذِرِ الْقُرَشِيَّ الْمَدَنِيَّ، أَحَدَ تَابِعِي الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْدُودِ فِي أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَأَجِلَّةِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمُ: الثَّوْرِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ. (أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ) : أَيِ: ابْنَ الْحِزَامِ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَخِيَارِهِمْ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا خَالِدٍ الْقُرَشِيَّ الْأَسَدِيَّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وُلِدَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَوُجُوهِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، سِتُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتُّونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَامِلًا فَاضِلًا تَقِيًّا، حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ ذَكَرُهُ الْمُؤَلِّفُ (مَرَّ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ) : جَمَاعَةٍ (مِنَ الْأَنْبَاطِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي النِّهَايَةِ: النَّبَطُ وَالنَّبِيطُ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ، كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْبَطَائِحِ بَيْنَ الْعِرَاقَيْنِ أَيْ: بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَنْبَاطُ فَلَّاحَةُ الْأَعَاجِمِ. (وَقَدْ أُقِيمُوا) : أَيْ: أُوقِفُوا (فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ) : أَيْ: كُبَّ (عَلَى رُءُوسِهِمُ) : أَيْ: فَوْقَهَا (الزَّيْتُ) : أَيِ: الْحَارُّ (فَقَالَ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (مَا هَذَا؟) : أَيْ: مَا سَبَبُ هَذَا الْأَمْرِ؟ (قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ) : أَيْ: فِي تَحْصِيلِهِ وَأَدَائِهِ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ (فَقَالَ هِشَامٌ) : أَيِ: ابْنُ حَكِيمٍ (أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) : اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ لِمَا فِي أَشْهَدُ مِنْ مَعْنَاهُ ( «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ» ) : أَيْ: بِمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهِ فِي الْعُقْبَى (فِي الدُّنْيَا) : أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» ".

ص: 2301

3523 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَغْدُونَ فِي غَضَبِ اللَّهِ، وَيَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3523 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ (إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ) : أَيْ: حَيَاةٌ (أَنْ تَرَى) : اسْمُ يُوشِكُ أَيْ تُبْصِرُ (قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ) : خَبَرٌ مُقَدَّمٌ مُبْتَدَؤُهُ (مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ) : أَيْ: سِيَاطٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْمًا، وَتُسَمَّى تِلْكَ السِّيَاطُ فِي دِيَارِ الْعَرَبِ بِالْمَقَارِعِ جَمْعُ مَقْرَعَةٍ، وَهِيَ جِلْدَةٌ طَرَفُهَا مَشْدُودٌ عَرْضُهُ كَعَرْضِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى يَضْرِبُونَ السَّارِقِينَ عُرَاةً، وَقِيلَ: هُمُ الطَّوَّافُونَ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ السَّاعُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَيَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهَا بِالضَّرْبِ (يَغْدُونَ) : أَيْ: يُصْبِحُونَ (فِي غَضَبِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ) : أَيْ: يُمْسُونَ (فِي سَخَطِ اللَّهِ) : أَيِ: الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ لِتَكْرَارِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْتِمْرَارِ صُدُورِ هَذَا الْفِعْلِ عَنْهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ) : أَيْ: إِبْعَادِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ أَمْرَ أَمِيرِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ) إِمَّا الدَّوَامُ وَالِاسْتِمْرَارُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] يَعْنِي هُمْ أَبَدًا فِي غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَا يَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ الْمَخْصُوصَانِ، فَالْمَعْنَى يُصْبِحُونَ يُؤْذُونَ النَّاسَ وَيُرَوِّعُونَهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَ عَلَيْهِمْ، فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَيُمْسُونَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا لَا يُرْضِي عَنْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْإِيذَاءِ وَالرَّوْعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَنَسٍ:«مَنْ رَوَّعَ مُؤْمِنًا لَمْ يُؤَمِّنِ اللَّهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَعَى بِمُؤْمِنٍ أَقَامَهُ اللَّهُ مَقَامَ ذُلٍّ وَخِزْيٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

ص: 2301

3524 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3524 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صِنْفَانِ) : هُوَ مُبْتَدَأٌ (مِنْ أَهْلِ النَّارِ) : صِفَةٌ (لَمْ أَرَهُمَا) : خَبَرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ، الْمُرَادُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَرَهُمَا فِي عَصْرِهِ لِطَهَارَةِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بَلْ حَدَثَا بَعْدَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَفِيهِ ذَمُّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ (قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ) : جَمْعُ سَوْطٍ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتَحَرُّكِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا (كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ) : أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (وَنِسَاءٌ) : هُوَ وَقَوْمٌ بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ لِقَوْلِهِ: صِنْفَانِ وَمَا بَعْدَهَا صِفَاتٌ لَهُمَا (كَاسِيَاتٌ) : أَيْ: فِي نِعْمَةِ اللَّهِ (عَارِيَاتٌ) : مِنْ شُكْرِهَا، وَقِيلَ: يَسْتُرْنَ بَعْضَ بَدَنِهِنَّ وَيَكْشِفْنَ بَعْضَهُ إِظْهَارًا لِجَمَالِهِنَّ وَإِبْرَازًا لِكَمَالِهِنَّ، وَقِيلَ: يَلْبَسْنَ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ بَدَنَهُنَّ وَإِنْ كُنَّ كَاسِيَاتٍ لِلثِّيَابِ عَارِيَاتٍ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ كَاسِيَاتٍ بِالْحُلَى وَالْحُلِيِّ، عَارِيَاتٍ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَمِنْهُ حَدِيثُ:( «رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْعُقْبَى» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَثْبَتَ لَهُنَّ الْكُسْوَةَ ثُمَّ نَفَاهَا ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاكْتِسَاءِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ السَّتْرُ فَكَأَنَّهُ لَا اكْتِسَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ

فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا

رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ

فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا

(مُمِيلَاتٌ) : أَيْ: قُلُوبَ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ، أَوِ الْمَقَانِعَ عَنْ رُءُوسِهِنَّ لِيَظْهَرَ وُجُوهُهُنَّ، وَقِيلَ: مُمِيلَاتٌ بِأَكْتَافِهِنَّ، وَقِيلَ: يُمِلْنَ غَيْرَهُنَّ إِلَى فِعْلِهِنَّ الْمَذْمُومِ (مَائِلَاتٌ) : أَيْ: إِلَى الرِّجَالِ بِقُلُوبِهِنَّ أَوْ بِقَوَالِبِهِنَّ، أَوْ مُتَبَخْتِرَاتٌ فِي مَشْيِهِنَّ، أَوْ زَائِغَاتٌ عَنِ الْعَفَافِ، أَوْ مَائِلَاتٌ إِلَى الْفُجُورِ وَالْهَوَى، وَقِيلَ: مَائِلَاتٌ يَمْتَشِطْنَ مِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ، وَقِيلَ: مِشْطَةَ الْبَغَايَا مُمِيلَاتٌ يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ بِتِلْكَ الْمِشْطَةِ. (رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: الْبُخْتِيُّ مِنَ الْجِمَالِ، وَالْأُنْثَى بُخْتِيَّةٌ جَمْعُ بُخْتٍ وَبَخَاتِيٍّ جِمَالٌ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ، وَاللَّفْظَةُ مُعْرَبَةٌ أَيْ: يُعَظِّمْنَهَا وَيُكَبِّرْنَهَا بِلَفِّ عِصَابَةٍ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ: يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَالِ لَا يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ، وَلَا يُنَكِّسْنَ رُءُوسَهُنَّ (الْمَائِلَةُ) : صِفَةٌ لِلْأَسْنِمَةِ، وَهِيَ جَمْعُ السَّنَامِ، وَالْمَائِلَةُ مِنَ الْمَيْلِ ; لِأَنَّ أَعْلَى السَّنَامِ يَمِيلُ لِكَثْرَةِ شَحْمِهِ، وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ مِصْرَ (لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ) : صِفَةٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ مِثْلَهَا اخْتِصَارًا وَإِيجَازًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ (مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) : أَيْ: مِائَةِ عَامٍ مَثَلًا قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَهَا وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا حِينَ مَا يَدْخُلُهَا وَيَجِدُ رِيحَهَا الْعَفَائِفُ الْمُتَوَرِّعَاتُ، لَا أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ:( «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ) ثَلَاثًا. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُنَّ لَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنْ دَخَلْنَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ.

ص: 2302

3525 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3525 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ) : أَيْ: ضَارَبَ غَيْرَهُ (فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ) : أَيْ: فَلْيَحْتَرِزْ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، قِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ قِتَالُهُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَالضَّرْبُ فِي وُجُوهِهِمْ أَنْجَحُ لِلْمَقْصُودِ وَأَرْجَحُ لِلْمَرْدُودِ. (فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) : أَيْ: صُورَةِ الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَعْضَائِهِ وَمَعْدِنُ جَمَالِهِ وَمَنْبَعُ حَوَاسِّهِ، فَلَا تُغَيِّرُوهُ أَوْ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَيْ عَلَى صُورَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ لَمْ يَخْلُقْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ أَيِ اللَّهُ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّكْرِيمِ كَمَا فِي: بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا بِيَدِهِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِالسُّجُودِ لَهَا، فَأَكْرِمُوهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ فَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى آدَمَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَفِيهِ وُجُوهٌ

ص: 2302

أَحَدُهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ: وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ نَفْسِهِ، بِأَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ مَبْدَأِ فِطْرَتِهِ إِلَى مُنْقَرَضِ عُمْرِهِ وَلَمْ تَتَفَاوَتْ قَامَتُهُ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ هَيْئَتُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ أَوَّلًا نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا عَارِيَةً، ثُمَّ عِظَامًا وَأَعْصَابًا مَكْسُوَّةً لَحْمًا، ثُمَّ حَيَوَانًا مُخَبَّيًا فِي الرَّحِمِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ بَلْ يَتَغَذَّى مِنْ عِرْقٍ كَالنَّبَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ مَوْلُودًا رَضِيعًا، ثُمَّ طِفْلًا مُتَرَعْرِعًا ثُمَّ مُرَاهِقًا ثُمَّ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ حَالٍ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ مَرَّةً بِالْعِلْمِ، وَأُخْرَى بِالْجَهْلِ وَتَارَةً بِالْغِوَايَةِ وَالْعِصْيَانِ وَأُخْرَى بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَحْظَةً يُقْرَنُ بِالشَّيْطَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْعِصْيَانِ وَالْإِخْرَاجِ عَنِ الْجِنَانِ وَلَحْظَةً يَتَّسِمُ بِسِمَةِ الِاجْتِبَاءِ وَيُتَوَّجُ بِتَاجِ الْخِلَافَةِ وَالِاصْطِفَاءِ وَبُرْهَةً يُسْتَعْمَلُ بِتَدْبِيرِ الْأَرَضِينَ وَسَاعَةً يَصْعَدُ بِرُوحِهِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَطَوْرًا يُشَارِكُ الْبَهَائِمَ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَنْكَحِهِ وَطَوْرًا يُسَابِقُ الْكُرُوبِيِّينَ فِي فِكْرِهِ وَذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَرَعَهَا اخْتِرَاعًا عَظِيمًا فِي خَلْقِهِ، إِذْ كَلُّ مَخْلُوقٍ قَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالٌ لَهُ، فَيُخْلَقُونَ عَلَى صُورَةِ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا آدَمُ فَاخْتُرِعَ خَلْقًا جَدِيدًا عَجِيبًا مَلَكِيُّ الرُّوحِ، حَيَوَانِيُّ الْجِسْمِ، مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى مِثَالٍ لَهُ تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَالَ: ارْتَجَلَ صُورَتَهُ اخْتِرَاعًا لَا تَشْبِيهًا بِمُقَدَّمٍ، وَلَا مُحَاذِيًا بِخَلْقٍ آخَرَ، بَلْ تَوَلَّى الْقَدِيمُ بِنَفْسِهِ خَلْقَ هَذِهِ الصُّورَةِ إِبْدَاعًا جَدِيدًا لَمْ يَسْبِقْهُ مَا يُشْبِهُهُ بِصِفَةٍ مَا، وَتَعْظِيمُ وَجْهِ الْإِنْسَانِ إِمَّا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَجْزَائِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ أَكْثَرُ الْحَوَاسِّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا عُدِمَ عُدِمَ الْكُلُّ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ إِضْمَارٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْمَضْرُوبُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، فَاجْتَنِبُوا ضَرْبَ الْعُضْوِ الْأَشْرَفِ احْتِرَامًا لَهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَجْهَ آدَمَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَضْرُوبِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَجْهِ يَعْنِي فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ بِأَحْسَنِ صُورَةٍ، وَجَمَعَ فِيهِ الْمَحَاسِنَ وَالْحَوَاسَّ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ قَدْ يَنْقُصُهَا وَيُشَوِّهُ الْحُسْنَ وَيُظْهِرُ الشَّيْنَ الْفَاحِشَ وَلَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ، وَخُلِقَ آدَمُ عليه الصلاة والسلام عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، فَلَا تَضْرِبْهُ تَكْرِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ ; فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَقَدْ أَهَنْتَهَا وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا فَتَلْعَنُونَهُ أَنْكَرَ اللَّعِينَ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ» ) . كَمَا مَنَعَ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ تَعْظِيمًا لِصُورَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا كَالْإِضَافَةِ فِي بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ، لِمَا صَحَّ مِنْ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَابِتٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مَنْ نَقَلَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ اهـ كَلَامُهُ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ.

أَوَّلُهَا: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا كَالصُّوَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ; لِأَنَّ الصُّورَةَ تُفِيدُ التَّرْكِيبَ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْدَثٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ مَدْفُوعَانِ بِقَوْلِهِ: لَا كَالصُّوَرِ، فَهُوَ نَظِيرٌ لِكَلَامِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الْيَدِ وَالْعَيْنِ لَهُ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْجَارِحَةِ لَهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ لِمَا سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ طَرَدُوا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. أَقُولُ: إِنَّ الْيَدَ وَالْعَيْنَ وَالشَّيْءَ، وَكَذَا الصُّورَةَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا ثَبَتَ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ تَعَالَى، فَيُحَبُّ إِثْبَاثُهَا وَتَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَمَّا يُرَادِفُهَا بِخِلَافِ الْجِسْمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا فِي كِتَابٍ، وَلَا فِي سُنَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ: الْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي صُورَةٍ لَا كَالصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى رَأْيِهِ يَقْتَضِي خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، فَالصُّورَتَانِ عَلَى رَأْيِهِ سَوَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: لَا كَالصُّوَرِ نَاقَضَ كَلَامَهُ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ عَدَمِ الْمُنَاقَضَةِ فِي كَلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَرَامِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، صُورَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، مَعَ أَنَّ الْحَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَحَلَّهُ.

وَثَانِيهَا: قَوْلُ الْقَاضِي إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَةٍ اجْتَبَاهَا وَجَعَلَهَا نُسْخَةً مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِذْ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إِلَّا وَلَهُ مِثَالٌ فِي صُورَتِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْإِنْسَانُ عَالَمٌ صَغِيرٌ أَقُولُ: بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ

ص: 2303

عَالَمٌ كَبِيرٌ لِحَدِيثِ: ( «لَا يَسَعُنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» ) قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَجْمَعَ مَحَاسِنِهِ وَمَظْهَرَ لَطَائِفِ الصُّنْعِ فِيهِ هُوَ الْوَجْهُ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَيَتَحَرَّزَ عَمَّا يُشَوِّهُهُ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْرَحَ وَيُقَبَّحَ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ احْتَمَلَ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا. قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الصُّورَةَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ أَيْ: خُلِقَ آدَمُ عَلَى حَالِهِ وَشَأْنِهِ فِي كَوْنِهِ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ، مَالِكًا لِلْحَيَوَانَاتِ فِي كَوْنِهَا مُسَخَّرَاتٍ لَهُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا بِشَأْنِهِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالتَّقْبِيلِ وَالِاسْتِسْلَامِ تَعْظِيمًا، كَيَمِينِ الْمَلِكِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَإِذَا الْإِضَافَةُ فِيهِ لَيْسَتْ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ بَلِ الْكَلَامُ وَارِدٌ عَلَى التَّمْثِيلِ وَالِاسْتِعَارَةِ، وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قَالَ: صُورَةُ الْمَلَكِ الَّذِي تَوَلَّاهَا فَخُلِقَ آدَمُ عَلَيْهَا وَمُلْكُهُ مِنْ مُلْكِهِ مَا تَوَلَّى، وَسُئِلَ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْمَقَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2304

الْفَصْلُ الثَّانِي

3526 -

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ كَشَفَ سِتْرًا فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَقَدْ أَتَى حَدًّا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَ بَصَرَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، مَا عَيَّرْتُ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَرَّ الرَّجُلُ عَلَى بَابٍ لَا سِتْرَ لَهُ غَيْرِ مُغْلَقٍ، فَنَظَرَ، فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3526 -

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَشَفَ) : أَيْ رَفَعَ وَأَزَالَ (سِتْرًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: سِتَارَةً وَحَاجِزًا (فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ) : أَيْ: فِي الْكَشْفِ وَالدُّخُولِ (فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ) : أَيْ خَلَلَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَا يَسْتُرُونَهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَوْرَةَ مَا يُحَاذَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَتْ عَوْرَةً لِاخْتِلَالِ سَتْرِ النَّاسِ وَتَحَفُّظِهِمْ عَنْهَا، وَالْعَوْرَةُ الْخَلَلُ (فَقَدْ أَتَى حَدًّا) : أَيْ: فَعَلَ شَيْئًا يُوجِبُ الْحَدَّ أَيِ التَّعْزِيزَ (لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ) : اسْتِئْنَافٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَتَى أَمْرًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَإِلَيْهِ يَنْظُرُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَ بَصَرَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ) : أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ (فَفَقَأَ) : أَيْ: قَلَعَ (عَيْنَهُ، مَا عُيَّرْتُ عَلَيْهِ) : أَيْ: مَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْعَيْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ إِعَادَةِ الْجَانِي، فَالْمَعْنَى فَقَدْ أَتَى مُوجِبَ حَدٍّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَشْرَفُ وَالْمُظْهِرُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ كَالْحِمَى، فَقَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ صِفَةٌ فَارِقَةٌ تُخَصِّصُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ بِالْمُرَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِيقَاعُ قَوْلِهِ:(وَإِنَّ مَرَّ الرَّجُلُ عَلَى بَابٍ لَا سِتْرَ لَهُ) : مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: مَنْ كَشَفَ سِتْرًا إِلَخْ. (غَيْرِ مُغْلَقٍ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا: أَيْ: غَيْرِ مَرْدُودٍ، وَغَيْرُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِيَةِ، وَقِيلَ مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ بَابٍ (فَنَظَرَ) : مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ (فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ) : فِيهِ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ إِمَّا السِّتْرَ وَإِمَّا الْغَلْقَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: (أَيُّمَا رَجُلٍ كَشَفَ سِتْرًا فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَقَدْ أَتَى حَدًّا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَقَأَ عَيْنَهُ لَهُدِرَتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى بَابٍ لَا سُتْرَةَ عَلَيْهِ فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ إِنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَابِ) .

ص: 2304