الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3658 -
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
ــ
3658 -
(وَرَوَى) الْأَظْهَرُ وَرَوَاهُ (ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
3659 -
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ.
ــ
3659 -
وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ) : أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ) أَيِ الْحَدِيثِ (فِي التَّارِيخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِالتَّكْبِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) .
3660 -
عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي شَرِبْتُ الْخَمْرَ أَوْ عَبَدْتُ هَذِهِ السَّارِيَةَ دُونَ اللَّهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
3660 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي شَرِبَتُ الْخَمْرَ أَوْ عَبَدْتُ هَذِهِ السَّارِيَةَ) أَيِ الْأُسْطُوَانَةَ (دُونَ اللَّهِ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْ عَبَدْتُهَا مُتَجَاوِزًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا أُبَالِي فِي تَسْوِيَتِي بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَجَعْلِهِمَا مُنْخَرِطَيْنِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ مُبَالَغَةً وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ لِتَصْرِيحِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ فِيهِ، وَخُلُوِّهِ عَنْهُ هُنَا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) أَيْ مَوْقُوفًا.
[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3661 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ
فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
بَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ الْإِمَارَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ الْإِمْرَةُ وَقَدْ أَمَّرَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَمِيرًا كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَأَمَّا الْأَمَارَةُ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهَا الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3661 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80](وَمَنْ عَصَانِي قَدْ عَصَى اللَّهَ) هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23](وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَمِيرِي (فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْخِلَافَةِ وَالنِّيَابَةِ قِيلَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَارَةَ وَلَا يَدِينُونَ لِغَيْرِ رُؤَسَاءِ قَبَائِلِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَوَلِيَ عَلَيْهِمُ الْأُمَرَاءُ أَنْكَرَتْهُ نُفُوسُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَرْبُوطَةٌ بِطَاعَتِهِ وَعِصْيَانَهُمْ مَنُوطَةٌ بِعِصْيَانِهِ لِيُطِيعُوا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ (فَإِنَّمَا الْإِمَامُ) أَيِ الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرُهُ (جُنَّةٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ كَالتُّرْسِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ (يُقَاتَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْ وَرَائِهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (وَيُتَّقَى بِهِ) بَيَانٌ لِكَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَكُونُ الْأَمِيرُ فِي الْحَرْبِ قُدَّامَ الْقَوْمِ لِيَسْتَظْهِرُوا بِهِ وَيُقَاتِلُوا بِقُوَّتِهِ كَالتُّرْسِ لِلْمُتَتَرِّسِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مَلْجَأً لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَوَائِجِهِمْ دَائِمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (يُتَّقَى بِهِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ)، وَالْبَيَانُ مَعَ الْمُبَيَّنِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ:«وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ هُوَ كَالسَّاتِرِ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ، وَمَعْنَى (يُقَاتَلُ) وَ (مِنْ وَرَائِهِ) أَنْ يُقَاتِلَ مَعَهُ الْكُفَّارَ وَالْبُغَاةَ وَالْخَوَارِجَ وَسَائِرَ أَهْلِ الْفَسَادِ وَيُنْصَرَ عَلَيْهِمْ (فَإِنْ أَمَرَ) أَيِ الْإِمَامُ (بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ) أَيْ قَضَى بِحُكْمِ اللَّهِ (فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا) أَيْ عَظِيمًا (وَإِنْ قَالَ) أَيْ فِي الْأَمْرِ وَالْحُكْمِ (بِغَيْرِهِ) أَيْ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى وَالْعَدْلِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ (قَالَ) أَيْ حَكَمَ، يُقَالُ: قَالَ الرَّجُلُ إِذَا حَكَمَ وَمِنْهُ الْقِيلُ وَهُوَ
الْمَلِكُ الَّذِي يَنْفُذُ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ أَحَبَّهُ وَأَخَذَ بِهِ إِيثَارًا لَهُ وَمَيْلًا إِلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِكِ: فُلَانٌ يَقُولُ بِالْقَدَرِ، وَمَا أَشْبَهَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُؤْثِرُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ أَمَرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ تَقْوَى وَلَا عَدْلٌ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُ جُعِلَ قَسِيمًا فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ الْمُطْلَقُ أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ وَيُؤْثِرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُولُ بِالْقَدَرِ، أَيْ وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ وَآثَرَهُ قَبُولًا كَانَ أَوْ فِعْلًا لِيَكُونَ مُقَابِلًا لِقَسِيمِهِ بِقُطْرَيْهِ وَمَا سَدَّ الطُّرُقَ الْمُخَالِفَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ الْمُرْدِيَةِ (فَإِنَّ عَلَيْهِ) أَيْ وِزْرًا ثَقِيلًا (مِنْهُ) أَيْ مِنْ صَنِيعِهِ ذَلِكَ فَمِنْهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَبَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ (مُنَّةً) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ فَتَحْرِيفٌ وَتَصْحِيفٌ ; لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَلَا وَجْهَ لَهَا هُنَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَلَيْهِ كَذَا وَجَدْنَا مِنْهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مُنَّةً. بِتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِوَجْهٍ هُنَا، قَالَ الْقَاضِي: فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، أَيْ وِزْرًا ثَقِيلًا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ حَثٌّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْخِلَافَ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. اهـ وَيُسْتَثْنَى مِنْ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَالُ الْمَعْصِيَةِ لِمَا يُسْتَفَادُ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ وَلِمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَحَّحَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3662 -
وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3662 -
(وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ إِسْحَاقَ الْأَحْمَسِيَّةُ رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا يَحْيَى بْنُ الْحُصَيْنِ وَغَيْرُهُ شَهِدَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ جُعِلَ أَمِيرًا (عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مَقْطُوعُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ (يَقُودُكُمْ) أَيْ يَأْمُرُكُمْ (بِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ بِحُكْمِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى حُكْمِ الرَّسُولِ قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَسُوقُكُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى كِتَابُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ (فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) فِيهِ حَثٌّ عَلَى الْمُدَارَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ مَعَ الْوُلَاةِ عَلَى التَّحَرُّزِ عَمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ وَيُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3663 -
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3663 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْمَعُوا) أَيْ كَلَامَ الْحَاكِمِ (وَأَطِيعُوا) أَيِ انْقَادُوا فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَبِيِّهِ (وَإِنِ اسْتُعْمِلَ) بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا (عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) أَيْ وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ عَلَى الْقَوْمِ لَا أَنَّ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ شِقَاقِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ (كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) أَيْ كَالزَّبِيبَةِ فِي صِغَرِهِ وَسَوَادِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةٌ أُخْرَى لِلْعَبْدِ شَبَّهَ رَأْسَهُ بِالزَّبِيبَةِ إِمَّا لِصِغَرِهِ وَإِمَّا لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ مُقَطَّطٌ كَالزَّبِيبَةِ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِ. اهـ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ فِي طَاعَةِ الْوَالِي وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا مَعَ أَنَّ الْحَثَّ بِوَصْفِ صِغَرِ الرَّأْسِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَقَارَةِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيِ اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوهُ إِنْ كَانَ حَقِيرًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3664 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3664 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ» ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَقٌّ عَلَى الْمَرْءِ ( «الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ» ) أَيِ الْمَرْءُ (بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ) أَيْ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ (وَلَا وَطَاعَةَ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي، سَمْعُ كَلَامِ الْحَاكِمِ وَطَاعَتُهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِمَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أَمَرَهُ بِهَا فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُحَارَبَةُ الْإِمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.
3665 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3665 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا طَاعَةَ) أَيْ لِأَحَدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْ مِنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ كَالْوَالِدِ وَالشَّيْخِ (فِي مَعْصِيَةٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) أَيْ مَا لَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
3666 -
ــ
3666 -
(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا) أَيْ عَاهَدْنَا نَحْنُ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فِيهِمَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعُسْرُ بِالضَّمِّ وَبِالضَّمَّتَيْنِ وَبِالتَّحْرِيكِ ضِدُّ الْيُسْرِ وَهُوَ بِضَمٍّ وَبِضَمَّتَيْنِ الْيَسَارُ، وَبِالتَّحْرِيكِ السَّهْلُ (وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ) بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا فَهُمَا مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ أَوِ اسْمَا زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عَاهَدْنَاهُ بِالْتِزَامِ السَّمْعِ فِي حَالَتَيِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَتَارَتَيِ الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ إِلْتِزَمٌ لَهُمْ أَيْضًا بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا إِلْتَزَمُوا، وَالْمَنْشَطُ وَالْمَكْرَهُ مَفْعَلَانِ مِنَ النَّشَاطِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمَحَلِّ أَيْ فِيمَا فِيهِ نَشَاطُهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ أَوِ الزَّمَانِ أَيْ فِي زَمَانَيِ انْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ وَطِيِبِ قُلُوبِهِمْ وَمَا يُضَادُّ ذَلِكَ (وَعَلَى أَثَرَةٍ) بِفَتْحَتَيْنِ اسْمٌ مِنْ " أَثَرَ " بِمَعْنَى اخْتَارَ أَيْ عَلَى اخْتِيَارِ شَخْصٍ عَلَيْنَا بِأَنْ نُؤْثِرَهُ عَلَى أَنْفُسِنَا كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى الصَّبْرِ إِيثَارُ الْأُمَرَاءِ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْنَا وَحَاصِلُهُ أَنَّ (عَلَى أَثَرَةٍ) لَيْسَتْ بِصِلَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ مُتَعَلِّقٍ مُقَدَّرٍ أَيْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ نَصْبِرَ عَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَثَرَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ اسْمٌ مِنَ الْإِيثَارِ أَيْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْكُمْ فَيُفَضِّلُ غَيْرَكُمْ فِي إِعْطَاءِ نَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْأَثَرَةُ الِاسْتِئْثَارُ وَالْاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا أَيِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اخْتُصَّ الْأُمَرَاءُ بِالدُّنْيَا عَلَيْكُمْ وَلَمْ يُوصِلُوكُمْ حَقَّكُمْ مِمَّا عِنْدَهُمْ (وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ) أَيْ لَا نَطْلُبُ الْإِمَارَةَ وَلَا نَعْزِلُ الْأَمِيرَ مِنَّا وَلَا نُحَارِبُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ مَنْ جَعَلَهُ الْأَمِيرُ نَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ كَالْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ لِلسَّابِقِ ; لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَثَرَةِ (وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا) أَيْ وَعِنْدَ مَنْ كُنَّا (لَا نَخَافُ) اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَقُولُ: أَيْ غَيْرَ خَائِفِينَ (فِي اللَّهِ) أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ فِيمَا فِيهِ رِضَاهُ (لَوْمَةَ لَائِمٍ) أَيْ مَلَامَةَ مُلِيمٍ وَأَذِيَّةَ لَئِيمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، لَا نُدَاهِنُ أَحَدًا وَلَا نَخَافُ وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى لَائِمَةٍ (وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا) أَيْ تُبْصِرُوا وَتَعْلَمُوا فِي الْأُمَرَاءِ (كُفْرًا بَوَاحًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهُ وَاوٌ كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَنَا لِلْمِشْكَاةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ أَيْ كُفْرًا ظَاهِرًا صَرِيحًا فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا. حِكَايَةُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْقَرَائِنُ السَّابِقَةُ مَعْنًى تَلَفَّظَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ (عِنْدَكُمْ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَقَوْلُهُ (مِنَ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالظَّرْفِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الظَّرْفِ (مِنْهُ) أَيْ فِي ظُهُورِ الْكُفْرِ (بُرْهَانٌ) أَيْ دَلِيلٌ وَبَيَانٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ قُرْآنٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بُرْهَانٌ حَاصِلٌ عِنْدَكُمْ كَائِنًا مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ دِينِ اللَّهِ. اهـ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ بَلْ يَجِبُ عَدَمُ الْمُطَاوَعَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بَوَاحًا بِالْوَاوِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالرَّاءِ يُقَالُ: بَاحَ الشَّيْءُ إِذْ ظَهَرَ بَوَاحًا وَالْبَوَاحُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرًا بَوَاحًا وَبَرَاحًا بِمَعْنَاهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبَرَاحِ وَهِيَ الْبَارِزَةُ وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُومُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَمُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِتَهَيُّجِ الْفِتَنِ فِي عَزْلِهِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَتَفْرِيقِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ وَلَا تَنْعَقِدُ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِكَافِرٍ وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ
انْعَزَلَ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَكَذَا الْبِدْعَةُ، قَالَ الْقَاضِي: فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَتَغْيِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ بِدْعَةٌ سَقَطَتْ إِطَاعَتُهُ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَلْعُهُ وَنَصْبُ إِمَامٍ عَادِلٍ إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ فِي الْمُبْتَدَعِ إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَيُهَاجِرُ الْمُسْلِمُ عَنْ أَرْضِهِ إِلَى غَيْرِهَا وَيَفِرُّ بِدِينِهِ. اهـ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ، أَمَّا أَوَّلًا، فَقَوْلُهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَدْرَكٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِ (كُفْرًا) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَأَمَا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ (الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي) مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْكُفْرَ عَلَى بَابِهِ وَالْاسْتِثْنَاءُ عَلَى صِرَافَتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أُرِيدَ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ إِذْ لَا تَجُوزُ مُنَازَعَةُ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِهِ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِ كَمَا فُهِمَ مِنْ تَقْرِيرِهِ وَبَيَانِهِ، وَأَمَا ثَالِثًا فَقَوْلُهُ (لَا تَنْعَقِدُ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ) فَإِنَّهُ يُشْكِلُ بِسَلْطَنَةِ الْمُتَسَلْطِنِينَ الظَّاهِرِ عَلَيْهِمْ حَالُ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَاسِقِينَ، وَفِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَرَجٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ حَيْثُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَوِلَايَةِ الْقُضَاةِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ لَكِنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ، وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِمْ وَسَدِّ ثُغُورِهِمْ وَتَجْهِيزِ جُيُوشِهِمْ وَأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَالْمُتَلَصِّصَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَتَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ اللَّذَيْنِ لَا أَوْلِيَاءَ لَهُمَا وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَتَوَلَّاهَا آحَادُ الْأُمَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْعَزِلُ الْإِمَامُ بِالْفِسْقِ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْإِمَامَةِ ابْتِدَاءً فَبَقَاءٌ أَوْلَى، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَكَذَا كُلُّ قَاضٍ وَأَمِيرٍ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لِغَيْرِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَصِحَّ لِلْأَبِ الْفَاسِقِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي انْعِزَالِهِ وَوُجُوبِ نَصْبِ غَيْرِهِ إِثَارَةَ الْفِتْنَةِ لِمَا لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ بِخِلَافِ الْقَاضِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3667 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3667 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) قَدْ أَشَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ تَعْدِيَةَ (بَايَعْنَا) بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى عَاهَدْنَا (يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ فِيمَا (اسْتَطَعْتُ) عَلَى التَّكَلُّمِ أَيْ قُلْ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ، تَلْقِينًا لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ حَيْثُ لَقَّنَهُمْ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فِيمَا اسْتَطَعْتُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ بَيْعَتِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ. اهـ وَيُحْتَمَلُ حَمْلُ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ فِي الْمَبْنَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا فِي كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم حَالَةَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ رَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ.
3668 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3668 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا) أَيْ أَمْرًا أَوْ فِعْلًا (يَكْرَهُهُ) أَيْ شَرْعًا أَوْ طَبْعًا (فَلْيَصْبِرْ) أَيْ وَلَا يَخْرُجْ عَلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ) أَيِ الْمُنْتَظِمَةَ بِنَصْبِ الْإِمَامَةِ (شِبْرًا) أَيْ قَدْرًا يَسِيرًا (فَيَمُوتَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَانِبِ النَّفْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى (يُفَارِقُ) أَيْ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ (إِلَّا مَاتَ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (مِيتَةً) بِكَسْرِ الْمِيمِ لِلْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (جَاهِلِيَّةً) أَيْ مَنْسُوبَةً إِلَى الْجَاهِلِ فِي الدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمِيتَةُ وَالْقِتْلَةُ بِالْكَسْرِ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْإِسْلَامِ وَشَذَّ عَنْهُمْ وَخَالَفَ إِجْمَاعَهُمْ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ عَلَى هَيْئَةٍ كَانَ يَمُوتُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ أَمِيرٍ فَلَا يَتَّبِعُونَ هُدَى إِمَامٍ بَلْ كَانُوا مُسْتَنْكِفِينَ عَنْهَا مُسْتَبِدِّينَ فِي الْأُمُورِ لَا يَجْتَمِعُونَ فِي شَيْءٍ وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى رَأْيٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3669 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3669 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ) أَيْ طَاعَةِ الْإِمَامِ (وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ) أَيْ جَمَاعَةَ الْإِسْلَامِ (فَمَاتَ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ) بِالْأَلْفِ أَيْ عَلَمٍ (عِمِّيَّةٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ وَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَمِيَّةُ كَغَنِيَّةٍ وَيُضَمُّ الْغِوَايَةُ وَاللِّجَاجُ وَبِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ مُشَدَّدَتَيِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ الْكِبْرُ وَالضَّلَالُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا وَتَشْدِيدِهَا وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَهِيَ الْأَمْرُ الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ فِي الْغَرِيبَيْنِ قَالَ إِسْحَاقُ: هَذَا فِي تَخَارُجِ الْقَوْمِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ التَّعْمِيَةِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ (يَغْضَبُ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ يَغْضَبُ (لِعَصَبِيَّةٍ) وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ أَيْ لِإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ (أَوْ يَدْعُو) أَيْ غَيْرَهُ (لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ) أَيْ بِالْفِعْلِ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (عَصَبِيَّةً) تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ يُقَاتِلُ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ تَعَصُّبًا كَقِتَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ لَا لِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالْعَصَبِيَّةُ إِعَانَةُ قَوْمِهِ عَلَى الظُّلْمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ فَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَيُقَاتِلُونَ لَهُ، وَقَوْلُهُ (يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ) حَالٌ إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ إِذَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ، أَوْ مُتَنَقِّلَةٌ إِذَا فَرَضَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَ تَعَصُّبًا لَا لِإِظْهَارِ دِينٍ وَلَا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْمَغْضُوبُ لَهُ مُحِقًّا كَانَ عَلَى الْبَاطِلِ (فَقُتِلَ) أَيْ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ (فَقِتْلَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَتَلَهُ قِتْلَةٌ (جَاهِلِيَّةٌ) وَالْجُمْلَةُ مَعَ الْفَاءِ جَوَابُ الشَّرْطِ (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي) أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ (بِسَيْفِهِ) أَيْ بِآلَةٍ مِنْ آلَاتِ الْقَتْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ خَرَجَ مُشَاهِرًا بِسَيْفِهِ وَقَوْلُهُ (يَضْرِبُ بَرَّهَا) أَيْ صَالِحَهَا (وَفَاجِرَهَا) أَيْ طَالِحَهَا حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَضْرِبُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَتَقَدُّمُ الْبَرِّ لِلْاهْتِمَامِ وَإِظْهَارِ الْحِرْصِ وَالْأَذَى (وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا) أَيْ لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يُبَالِي بِمَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ وَوَبَالَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَقَوْلُهُ (بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا) يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْمَعَاهَدِ وَالذِّمِّيِّ، وَقَوْلُهُ (لَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِيَ لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ) كَالتَّفْصِيلِ لَهُ. اهـ وَلَا يَخْفَى بَعْدَ كَوْنِ الْمُرَادِ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ (فَلَيْسَ مِنِّي) أَيْ مِنْ أُمَّتِي أَوْ عَلَى طَرِيقَتِي (وَلَسْتُ مِنْهُ) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ وَتَشْدِيدٌ وَهَذَا السَّلْبُ كَسَلْبِ الْأَهْلِيَّةِ عَنِ ابْنِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] لِعَدَمِ اتِّبَاعِهِ لِأَبِيهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3670 -
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ
عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3670 -
(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ) بِالْهَمْزَتَيْنِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ يَاءً وَهُوَ جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْوُلَاةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا هُمُ الْأَئِمَّةَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْجُهَّالُ وَالْمُتَكَبِّرُونَ تَرَكُوا مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ لِنُوَّابِهِمْ (الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ) أَيِ الَّذِينَ عَدَلُوا فِي الْحُكْمِ فَتَنْعَقِدُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ وَمَحَبَّةٌ (وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ) قَالَ الْأَشْرَفُ رحمه الله: الصَّلَاةُ هُنَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ أَيْ تَدْعُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِي قَسِيمِهِ (تَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ)، وَكَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ يُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ إِذَا مُتُّمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا عَنِ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْلَى أَيْ (تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ) مَا دُمْتُمْ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ يَتَرَحَّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَذْكُرُ صَاحِبَهُ بِخَيْرٍ ( «وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» ) أَيْ تَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُونَ عَلَيْكُمْ أَوْ تَطْلُبُونَ الْبُعْدَ عَنْهُمْ لِكَثْرَةِ شَرِّهِمْ وَيَطْلُبُونَ الْبُعْدَ عَنْكُمْ لِقِلَّةِ خَيْرِكُمْ (قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ) أَيْ أَفَلَا نَعْزِلُهُمْ وَلَا نَطْرَحُ
عَهْدَهُمْ وَلَا نُحَارِبُهُمْ (عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ إِذَا حَصَلَ مَا ذُكِرَ (قَالَ: لَا) أَيْ لَا تُنَابِذُوهُمْ (مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ) أَيْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ ; لِأَنَّهَا عَلَامَةُ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِي الْأُمَّةِ، قَالَ الطِّيبِيٌّ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِتَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ تَرْكَهَا مُوجِبٌ لِنَزْعِ الْيَدِ عَنِ الطَّاعَةِ كَالْكُفْرِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا. الْحَدِيثَ وَلِذَلِكَ كَرَّرَهُ وَقَالَ: (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ وُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوْلِيَةِ بِمَعْنَى التَّأْمِيرِ أَيْ أُمِّرَ (عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ) أَيِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْوَالِيَ (يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] وَالْمَعْنَى فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِلِسَانِهِ (وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) أَيْ بِالْخَلْعِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3671 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقْدَ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا لَا مَا صَلَّوْا أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3671 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ (يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ) قَالَ الْقَاضِي: هُمَا صِفَتَانِ لِأُمَرَاءَ، وَالرَّاجِعُ فِيهَا مَحْذُوفٌ أَيْ تَعْرِفُونَ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ وَتُنْكِرُونَ بَعْضَهَا يُرِيدُ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ يَكُونُ بَعْضُهَا حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا (فَمَنْ أَنْكَرَ) أَيْ مَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَسِمَاتِ أَحْوَالِهِمْ وَأَنْكَرَ (فَقَدْ بَرِئَ) أَيْ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ (وَمَنْ كَرِهَ) أَيْ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ (فَقَدْ سَلِمَ) أَيْ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الْوِزْرِ وَالْوَبَالِ (وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ) أَيْ بِفِعْلِهِمْ بِالْقَلْبِ (وَتَابَعَ) أَيْ تَابَعَهُمْ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ الَّذِي شَارَكَهُمْ فِي الْعِصْيَانِ وَانْدَرَجَ مَعَهُمْ تَحْتَ اسْمِ الطُّغْيَانِ، وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ مَنْ رَضِيَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ ضِدُّ مَا أَثْبَتَهُ لِقَسِيمِهِ (قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ) أَيْ حِينَئِذٍ (قَالَ: لَا) أَيْ لَا تُقَاتِلُوهُمْ (مَا صَلَّوْا لَا مَا صَلَّوْا) تَأْكِيدٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ مَا دَامُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ هَيْجِ الْفِتَنِ وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَشَدَّ نِكَايَةً مِنِ احْتِمَالِ نُكْرِهِمْ، وَالْمُصَابِرَةِ عَلَى مَا يُنْكِرُونَ مِنْهُمْ (أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ وَمَنْ كَرِهَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ لُزُومُ التَّكْرَارِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ اللِّسَانِيَّ لَمَّا كَانَ مُتَفَرِّعًا عَنِ الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ صَحَّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ بِدُونِ إِنْكَارِ جَنَانِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ عِصْيَانِهِ، فَالتَّقْدِيرُ مَنْ أَنْكَرَ إِنْكَارًا مُتَلَبِّسًا بِقَلْبِهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: يَعْنِي مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا لَا يَخْفَى هَذَا مَحْمِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ فَقَدْ قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا التَّفْسِيرُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ الْإِنْكَارَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْكَرَاهَةَ بِالْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا بِالْقَلْبِ لَكَانَا مُنْكَرَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَلْبِ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَفِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ: مَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ تُنْكِرُونَ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ مُنْحَصِرٌ فِي اللِّسَانِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ لَيْسَ إِلَّا بِالْقَلْبِ لِوُقُوعِهِ قَسِيمًا لِـ (تَعْرِفُونَ) وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ تَرَوْنَ مِنْهُمْ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ مَا تَعْرِفُونَ وَتَرَوْنَ مِنْ سُوءِ السِّيرَةِ مَا تُنْكِرُونَ أَيْ تَجْهَلُونَهُ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ مَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمُنْكَرَ عَكْسُهُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَمْ يُنْكِرْ أَنَّ الْإِنْكَارَ مُنْحَصِرٌ فِي اللِّسَانِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَيَانُ وَالْبُرْهَانُ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِنْكَارَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ كَرَاهَةِ الْقَلْبِ وَأَيْضًا الْمُنْكَرُ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْطَيْنِ مُخْتَلِفًا، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ تَفْصِيلٌ لِيُنْكِرُونَ بِشَهَادَةِ الْفَاءِ فِي (فَمَنْ أَنْكَرَ) فَلَنْ يَكُونَ الْمُفَصَّلُ مُخَالِفًا لِلْمُجْمَلٍ، قُلْتُ: لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُجْمَلَ هُوَ الْمُنْكَرُ الشَّرْعِيُّ، وَالتَّفْصِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ الْمُنْكَرِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ فَمَنْ أَنْكَرَ مَا
لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ فِي الشَّرْعِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ، وَمَنْ لَمْ يُنْكِرْهُ حَقَّ الْإِنْكَارِ بَلْ كَرِهَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ حَقَّ الْإِنْكَارِ أَنْ يُظْهِرَهُ بِالْمُكَافَحَةِ بِلِسَانِهِ، بَلْ يُجَاهِدُهُ بِيَدِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَإِذَا قَيَّدَ الْإِنْكَارَ بِقَلْبِهِ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا خَصَّ بِلِسَانِهِ لَمْ يُفْدِهِ، قُلْتُ: وُجُودُ الْإِفَادَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَدَمُهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْخَارِجِ لَا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا عَبَّرْنَا عَنْهُ فِيمَا سَبَقَ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَمَا يَنْبَغِي مُسَمًّى بِالْكَرَاهَةِ، قَوْلُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ: وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَمَنَعَهُ الضَّعْفُ عَنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُ مِنَ النُّكْرَةِ، قُلْتُ: لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُؤَيِّدٌ لِلْمُظْهِرِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاشَا لِمَكَانَةِ إِمَامِ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا أَعْنِي مُسْلِمًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ فِيهِ كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ، قُلْتُ: الْبُخَارِيُّ أَجَلُّ مِنْهُ قَدْرًا وَقَدْ وَقَعَ لَهُ سَهْوٌ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي كِتَابِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَيُرَدُّ إِلَّا الْمَعْصُومَ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِقَائِلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ الْمُظْهِرُ بِهَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ كَذَا وَيُرْوَى: فَمَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ. وَلَفْظُ يُرْوَى وَنَحْوِهِ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ فِيمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، قُلْتُ: هَذَا غَالِبِيٌّ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي كَمَا لَا يَخْفَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا أَخَبَرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَسَكَتَ لَا يَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ. هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ وَيَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظَةَ ( «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ نَابَذَهُمْ نَجَا وَمَنِ اعْتَزَلَهُمْ سَلِمَ وَمَنْ خَالَطَهُمْ هَلَكَ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ وَيَعْمَلُونَ بِمَا تُنْكِرُونَ فَلَيْسَ أُولَئِكَ عَلَيْكُمْ بِأَئِمَّةٍ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ: «سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ كَمَا تَقَاحَمُ الْقِرَدَةُ» .
3672 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3672 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لَنَا) أَيْ لِأَجْلِنَا أَوْ مُشَافِهًا لَنَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: (أُثْرَةً) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ وَبِفَتْحِهِمَا أَيْضًا، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ الْأَثَرَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَيُقَالُ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ذَكَرَهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْثَارُ وَالْاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدِّينِ (وَأُمُورًا) أَيْ أَشْيَاءَ أُخَرَ (تُنْكِرُونَهَا) أَيْ لَا تَسْتَحْسِنُوهَا قِيلَ: فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَيَكُونُ بَيَانَ (أَثَرَةً)(قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟) أَيْ حِينَئِذٍ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ) أَيْ طَاعَتَكُمْ إِيَّاهُمْ (وَسَلُوا) بِالنَّقْلِ أَوْ مِنْ سَأَلَ بِالْأَلِفِ (اللَّهَ حَقَّكُمْ) أَيِ اطْلُبُوا اللَّهَ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْكُمْ حَقَّكُمْ وَهُوَ مَا أَثَرُوا فِيهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّكُمْ وَلَا تُكَافِئُوا اسْتِئْثَارَهُمْ بِاسْتِئْثَارِكُمْ بَلْ وَفِّرُوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَحُقُوقِ الدِّينِ وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْكُمْ حَقَّكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ وَنَحْوِهَا وَكِلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَكُمْ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:«إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي غَدًا عَلَى الْحَوْضِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ.
3673 -
ــ
3673 -
(وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَّا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ صِفَةُ أُمَرَاءَ أَيْ يَطْلُبُونَا (حَقَّهُمْ) أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ (وَيَمْنَعُونَا) بِالْوَجْهَيْنِ (حَقَّنَا) أَيْ مِنَ الْعَدْلِ وَإِعْطَاءِ الْغَنِيمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَوْ ضَيَّعُونَا حَقَّنَا (فَمَا تَأْمُرُنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَزَاءُ الشَّرْطِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِعْلَامِ (قَالَ: اسْمَعُوا) أَيْ ظَاهِرًا (وَأَطِيعُوا) بَاطِنًا أَوِ اسْمَعُوا قَوْلًا وَأَطِيعُوا فِعْلًا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ مَا كُلِّفُوا مِنَ الْعَدْلِ وَإِعْطَاءِ حَقِّ الرَّعِيَّةِ (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حَدَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدَّمَ الْجَارَّ عَلَى الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْاخْتِصَاصِ أَيْ لَيْسَ عَلَى الْأُمَرَاءِ إِلَّا مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ وَكَلَّفَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بِهَذَا لَمْ يُقِيمُوا بِذَلِكَ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَالْوَبَالُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَعَلَيْكُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ، فَإِذَا قُمْتُمْ بِمَا عَلَيْكُمْ فَاللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ وَيُثِيبُكُمْ بِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3674 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3674 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) أَيْ أَيِّ طَاعَةٍ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْيَدِ كِنَايَةً عَنِ الْعَهْدِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ حَالَ الْمُعَاهَدَةِ كَنَّى عَنِ النَّقْضِ بِخَلْعِ الْيَدِ وَنَزْعِهَا يُرِيدُ مَنْ نَقَضَ وَخَلَعَ نَفْسَهُ عَنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ (لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ) أَيْ آثِمًا وَلَا عُذْرَ لَهُ (وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ) أَيْ لِإِمَامٍ (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) وَهُوَ مَعْنَى مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَذَكَرَهُ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ حَدِيثِ (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3675 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيُّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3675 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ) أَيْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ (الْأَنْبِيَاءُ) كَمَا يَفْعَلُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ بِالرَّعِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَهُوَ خَبَرُ كَانَ (كُلَّمَا هَلَكَ) أَيْ مَاتَ (نَبِيٌّ خَلَفَهُ) أَيْ جَاءَ خَلْفَهُ (نَبِيٌّ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ يَرْأَسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ تَتْرَى تَابِعًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَوْلُهُ (وَإِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (لَا نَبِيَّ بَعْدِي) مَعْطُوفٌ عَلَى كَانَتْ وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ الثَّبَاتِ وَالتَّوْكِيدِ فِي الثَّانِي، يَعْنِي قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَقِصَّتُنَا كَيْتَ وَكَيْتَ (وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ) أَيْ أُمَرَاءُ (فَيَكْثُرُونَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي مُسْلِمٍ فَتَكْثُرُ فِي الْقَامُوسِ: كَثُرَ كَكَرُمَ وَكَثَّرَهُ تَكْثِيرًا وَأَكْثَرَهُمْ وَكَاثَرُوهُمْ فَكَثَّرُوهُمْ أَيْ غَالَبُوهُمْ فِي الْكَثْرَةِ فَغَلَبُوهُمْ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَسْرِ الثَّاءِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ (قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا) جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا كَثُرَ بَعْدَكَ الْخُلَفَاءُ فَوَقَعَ التَّشَاجُرُ وَالتَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فَمَا تَأْمُرُنَا نَفْعَلُ (قَالَ: فُوا) أَمْرٌ مِنْ وَفَى يَفِي أَيْ أَوْفُوا (بَيْعَةَ الْأَوَّلِ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: قُوا، بِالْقَافِ أَمْرٌ مِنْ وَقَى يَقِي أَيِ احْفَظُوا وَرَاعُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ (فَالْأَوَّلِ) قَالَ الطِّيبِي: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْاسْتِمْرَارِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلِ الْحُكْمُ هَذَا عِنْدَ تَجَدُّدِ كُلِّ زَمَانٍ وَتَجَدُّدِ بَيْعَةٍ وَقَوْلُهُ (أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ) كَالْبَدَلِ، مِنْ قَوْلِهِ فُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ (فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ) تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ حَقِّهِمْ وَفِيهَا اخْتِصَارٌ أَيْ: فَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ حَقَّكُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ (عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) وَمُثِيبُكُمْ بِمَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ. وَقَوْلُهُ: اسْتَرْعَاهُمْ أَيْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ رَاعِيَهُمْ وَأَمِيرَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَنِ اسْتَرْعَيْتُهُ الشَّيْءَ فَرَعَاهُ وَفِي الْمَثَلِ: مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ، وَالرَّاعِي الْوَالِي، وَالرَّعِيَّةُ الْعَامَّةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3676 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3676 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ) أَيْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ (فَاقْتُلُوا الْآخِرَ) بِكَسْرِ مَا قَبْلَ الْآخِرِ (مِنْهُمَا) وَالْقَتْلُ مَجَازٌ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْفَعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ أَرَادَ بِالْقَتْلِ الْمُقَاتَلَةَ ; لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَايَتُهَا وَقِيلَ: أَرَادَ إِبْطَالَ بَيْعَتِهِ وَتَوْهِينَ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتُ الشَّرَابَ إِذَا مَزَجْتَهُ وَكَسَرْتَ سَوْرَتَهُ بِالْمَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوَّلُ مِنَ الْوِجْهَتَيْنِ يَسْتَدْعِي الثَّانِي ; لِأَنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا خَارِجٌ عَلَى الْأَوَّلِ بَاغٍ عَلَيْهِ فَتَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ مَعَهُ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَإِلَّا قُتِلَ، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ لِلْحَثِّ عَلَى دَفْعِهِ وَإِبْطَالِ بَيْعَتِهِ وَتَوْهِينِ أَمْرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَاتِلُ أَهْلِ الْبَغْيِ غَيْرُ نَاقِضٍ عَهْدَهُ لَهُمْ إِنْ عَهِدَ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا مَنْ يَلْزَمُ الْإِمَامَ مُحَارَبَتُهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لِشَخْصَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ اتَّسَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ الْإِرْشَادِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِشَخْصَيْنِ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلِاثْنَيْنِ فِي صُقْعٍ وَاحِدٍ وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا وَتَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا شُسُوعٌ فَلِلْاحْتِمَالِ فِيهِ مَجَالٌ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَوَاطِعِ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3677 -
وَعَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3677 -
(وَعَنْ عَرْفَجَةَ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ سَعْدٍ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ طَرَفَةُ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ ذَهَبٍ، وَكَانَ ذَهَبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ بِضَمِّ الْكَافِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (سَتَكُونُ هَنَاتٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَهَنَاتٌ) أَيْ شُرُورٌ وَفَسَادَاتٌ مُتَتَابِعَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْفِتَنُ الْمُتَوَالِيَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعُ الْفَسَادِ، الْفِتْنَةُ لِطَلَبِ الْإِمَارَةِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ مَنِ انْعَقَدَ أَوَّلًا لَهُ الْبَيْعَةُ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَفْصِلَ وَيَقْطَعَ (أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ) أَيْ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّفْرِيقِ وَالتَّقْطِيعِ (كَائِنًا مَنْ كَانَ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَائِنًا مَا كَانَ، وَمَشَى عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ حَالٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ ادْفَعُوا مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْلَمَ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ فِي لَفْظِهِ مِمَّا فِي الْمَتْنِ ; لِأَنَّهُ يَجْرِي حِينَئِذٍ عَلَى صِفَةِ ذَوِي الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] أَيْ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّأْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَرْفَجَةَ بِلَفْظِ ( «سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ ; لِأَنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ» ) وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ ( «سَتَكُونُ أَحْدَاثٌ وَفِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُلَالَةَ ( «سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَّةٌ يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ يُحَدِّثُونَكُمْ فَيَكْذِبُونَكُمْ وَيَعْمَلُونَ فَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ حَتَّى تُحَسِّنُوا قَبِيحَهُمْ وَتُصَدِّقُوا كَذِبَهُمْ فَأَعْطُوهُمُ الْحَقَّ مَا رَضُوا بِهِ فَإِذَا تَجَاوَزُوا فَمَنْ قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ) » وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ ( «سَيَلِيكُمْ أُمَرَاءُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَهُمُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ» .
3678 -
وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3678 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ عَرْفَجَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ أَمْرَكُمْ مُجْتَمِعٌ (عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ) أَيْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْخِلَافَةِ أَوْ لَهُ التَّسَلُّطُ وَالْغَلَبَةُ (يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ) فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: شَقَّ الْعَصَا إِذَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَقَوْلُهُ (أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ) لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ غَيْرُ الْمُفَارَقَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا الْمُلَازَمَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: شَقُّ الْعَصَا تَمْثِيلٌ شَبَّهَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَاتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَصَا إِذَا لَمْ تُشَقَّ وَافْتِرَاقُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِشَقِّ الْعَصَا ثُمَّ كَنَّى بِهِ عَنْهُ فَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّفْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: أَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ، حَيْثُ أَسْنَدَ الْجَمِيعَ إِلَى الْأَمْرِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ (فَاقْتُلُوهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3679 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3679 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ) أَيِ الْإِمَامَ إِيَّاهُ أَوْ بِالْعَكْسِ (صَفْقَةَ يَدِهِ) فِي النِّهَايَةِ: الصَّفْقَةُ الْمَرَّةُ مِنَ التَّصْفِيقِ بِالْيَدِ ; لِأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَ يَمِينِهِ وَبَيْعَتِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَبَايِعَانِ (وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ) أَيْ إِخْلَاصَهُ أَوْ خَالِصَ عَهْدِهِ أَوْ مَالَهُ وَقِيلَ: صَفْقَةُ يَدِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَالِ وَثَمَرَةُ قَلْبِهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُبَايَعَتِهِ مَعَ وَلَدِهِ (فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ) أَيْ إِمَامٌ آخَرُ (يُنَازِعُهُ) أَيِ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ أَوِ الْمُبَايَعَ (فَاضْرِبُوا) خِطَابٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُبَايِعَ وَغَيْرَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ الضَّمِيرَ فِيهِ بَعْدَمَا أَفْرَدَ فِي (فَلْيُطِعْهُ) نَظَرًا إِلَى لَفْظٍ مَنْ تَارَةً وَمَعْنَاهَا أُخْرَى وَقَوْلُهُ (عُنُقَ الْآخَرِ) وَضَعَ مَوْضِعَ عُنُقِهِ إِيذَانًا بِأَنَّهُ كَوْنُهُ آخَرَ يَسْتَحِقُّ ضَرْبَ الْعُنُقِ تَقْرِيرٌ لِلْمُرَادِ وَتَحْقِيقًا لَهُ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَ الْآخَرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مَعْنًى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3680 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3680 -
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) أَيِ الْقُرَشِيِّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَصَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَخَلْقٌ سِوَاهُمَا (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ لَا تَطْلُبِ الْحُكُومَةَ وَالْوِلَايَةَ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْخَالِقِ (فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ) أَيْ إِعْطَاءً صَادِرًا عَنْ سُؤَالٍ (وُكِلْتَ إِلَيْهَا) أَيْ تُرِكْتَ إِلَيْهَا وَخُلِّيتَ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةٍ لَكَ فِيهَا لِأَنَّكَ اسْتَقْلَلْتَ فِي طَلَبِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فُوِّضْتَ إِلَى الْإِمَارَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَمْرٌ شَاقٌّ لَا يَقُومُ بِهَا أَحَدٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي وَرْطَةٍ خَسِرَ فِيهَا دُنْيَاهُ وَعُقْبَاهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَسْأَلْهَا اللَّبِيبُ الْحَازِمُ (وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ) أَيْ حَالَ كَوْنِكَ مُفَوِّضًا أَمْرَكَ إِلَى اللَّهِ وَمُعْتَقِدًا أَلَّا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (أُعِنْتَ عَلَيْهَا) أَيْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّثْبِيتِ وَالتَّحْقِيقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3681 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3681 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: حَرَصَ كَضَرَبَ وَمَنَعَ (عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ) أَيِ الْإِمَارَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْحِرْصِ (نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَحُصُولِ الْعِتَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَةِ (فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ) وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ (وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ مَحْذُوفٌ فِيهِمَا وَهُوَ الْإِمَارَةُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَفْظُ نِعْمَ وَبِئْسَ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُمَا مُؤَنَّثًا جَازَ إِلْحَاقُ التَّأْنِيثِ وَجَازَ تَرْكُهَا فَلَمْ يُلْحِقْهَا هُنَا فِي نِعْمَ، وَأَلْحَقَهَا فِي بِئْسَتْ، يَعْنِي عَمَلًا بِاللُّغَتَيْنِ وَتَفَنُّنًا فِي الْعِبَارَتَيْنِ وَلَمْ يَعْكِسْ ; لِأَنَّ إِلْحَاقَ الزَّائِدِ أَوْلَى بِالثَّانِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُلْحِقْهَا بِنِعْمَ لِأَنَّ
الْمُرْضِعَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِمَارَةِ ; وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَنَّثَةً إِلَّا أَنَّ تَأْنِيثَهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ ; وَأَلْحَقَهَا بِبِئْسَ ; نَظَرًا إِلَى كَوْنِ الْإِمَارَةِ حِينَئِذٍ: دَاهِيَةً دَهْيَاءَ، وَفِيهِ أَنَّ مَا يَنَالُهُ أَمِيرٌ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ; أَبْلَغُ وَأَشَدُّ مِمَّا يَنَالُهُ مِنَ النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ ; وَأَتَى بِالتَّاءِ فِي الْمُرْضِعِ وَالْفَاطِمِ ; دَلَالَةً عَلَى تَصْوِيرِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ الْمُتَجَدِّدَتَيْنِ فِي الْإِرْضَاعِ وَالْفِطَامِ ; يَعْنِي الْمُرْضِعَ وَالْفَاطِمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ لِلنِّسَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِتْيَانِ تَاءِ التَّأْنِيثِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ وَصْفَيِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ ; وَلِذَا يُقَالُ طَالِقٌ وَحَائِضٌ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَا هَاهُنَا لِتَذْكِيرِ التَّصْوِيرِ، قَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ الْوِلَايَةَ بِالْمُرْضِعَةِ وَانْقِطَاعَهَا بِالْمَوْتِ، أَوِ الْعَزْلَ بِالْفَاطِمَةِ ; أَيْ نِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ الْوِلَايَةً ; فَإِنَّهَا تَدِرُّ عَلَيْكَ الْمَنَافِعَ وَاللَّذَّاتَ الْعَاجِلَةَ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ الْمُسِيئَةُ فَإِنَّهَا تَقْطَعُ عَنْكَ اللَّذَائِذَ وَالْمَنَافِعَ وَتُبْقِي عَلَيْكَ الْحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُلِمَّ بِلَذَّاتٍ يَتْبَعُهَا حَسَرَاتٌ اهـ. وَقِيلَ جَعَلَ الْإِمَارَةَ فِي حَلَاوَةِ أَوَائِلِهَا وَمَرَارَةِ أَوَاخِرِهَا، كَمُرْضِعَةٍ تُحْسِنُ بِالْإِرْضَاعِ وَتُسِيءُ بِالْفِطَامِ، قُلْتُ فِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِمَارَةِ وَمَرَارَةَ الْوِلَايَةِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ بِالرَّضَاعِ وَالْفِطَامِ، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَطْفَالِ الطَّرِيقَةِ دُونَ الرِّجَالِ الْوَاصِلِينَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَقِيقَةِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَظِلٌّ زَائِلٌ إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ الْوَاقِفُونَ عَلَى الْبَابِ وَلِلْعِلِّيِّينَ أَرْبَابُ الْأَلْبَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
3682 -
ــ
3682 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟) ; أَيْ أَلَا تَجْعَلُنِي عَامِلًا؟ (قَالَ) ; أَيْ أَبُو ذَرٍّ (فَضَرَبَ بِيَدِهِ) ; أَيْ ضَرْبُ لُطْفٍ وَشَفَقَةٍ، (عَلَى مَنْكِبِي) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ، (ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ) ; أَيْ عَنْ تَحَمُّلِ الْعَمَلِ، (وَإِنَّهَا) ; أَيِ الْإِمَارَةَ (أَمَانَةٌ) يَعْنِي وَمُرَاعَاةُ الْأَمَانَةِ لِكَوْنِهَا ثَقِيلَةً صَعْبَةً لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَّا كُلُّ قَوِيٍّ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِمَارَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، أَوْ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ الْخَبَرِ اهـ. فَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ وَالْعَمَلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:(وَإِنَّهَا) ; أَيِ الْإِمَارَةَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ) ; أَيْ عَذَابٌ وَفَضِيحَةٌ لِلظَّالِمِ ; (وَنَدَامَةٌ) ; أَيْ تَأَسُّفٌ وَتَنَدُّمٌ عَلَى قَبُولِهَا لِلْعَادِلِ، (إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; أَيْ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، لَكِنْ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا (وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خِزْيًا وَوَبَالًا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ بِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا لَهُ فَلَا فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا بِلَا ضَرُورَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَةِ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا، وَالْخِزْيُ وَالنَّدَامَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِلْ فَيُخْزِيهِ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَفْضَحُهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا وَعَدَلَ فِيهَا ; فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَحَدِيثِ ( «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» ) وَحَدِيثِ ( «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ» ) وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِكَثْرَةِ الْخَطَرِ فِيهَا حَذَّرَهُ عليه الصلاة والسلام مِنْهَا، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِينَ امْتَنَعُوا. (وَفِي رِوَايَةٍ) كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ لَهُ (قَالَ لَهُ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، أَوْ نُقِلَ بِالْمَعْنَى (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ إِمَّا مِنَ الرَّأْيِ ; أَيْ أَظُنُّكَ، أَوْ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ ; أَيْ أَعْرِفُكَ ( «ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي» ) ; أَيْ لَوْ كُنْتُ ضَعِيفًا مِثْلَكَ لَمَا تَحَمَّلْتُ هَذَا الْحِمْلَ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَوَّانِي فَحَمَّلَنِي، وَلَوْلَا أَنَّهُ حَمَّلَنِي لَمَا حَمَلْتُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْوِلَايَةَ أَفْضَلُ مِنَ الرِّسَالَةِ ; يَعْنِي وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ ; لِأَنَّ وَجْهَ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَلْقِ وَوَجْهَ الْوِلَايَةِ إِلَى الْحَقِّ ; فَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْمَوْلَى لَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى (لَا تَأَمَّرَنَّ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَأَمَّرَنَّ ; أَيْ لَا تَقْبَلَنَّ الْإِمَارَةَ (عَلَى اثْنَيْنِ) ; أَيْ فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا ; فَإِنَّ الْعَدْلَ وَالتَّسْوِيَةَ أَمْرٌ صَعْبٌ بَيْنَهُمَا (وَلَا تَوَلَّيَنَّ) ; بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ وَالنُّونِ (مَالَ يَتِيمٍ) ; أَيْ لَا تَقْبَلَنَّ وِلَايَةَ مَالِ يَتِيمٍ، وَفِي نُسْخَةٍ لِمُسْلِمٍ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ ; أَيْ لَا تَكُنْ وَالِيًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ وَوَبَالَهُ جَسِيمٌ، وَهَذَا مِثَالُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْوَاحِدِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3683 -
ــ
3683 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا) ضَمِيرُ فَصْلٍ لِيَصِحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ (وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمِّرْنَا) أَمْرٌ مِنَ التَّأْمِيرِ ; أَيِ اجْعَلْنَا أَمِيرًا (عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ) ; أَيْ عَلَى مَا جَعَلَكَ اللَّهُ حَاكِمًا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ (وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ) وَلَعَلَّ إِتْيَانَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرِيدُ الْإِمَارَةَ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ، (فَقَالَ إِنَّا وَاللَّهِ) فِيهِ تَأْكِيدَانِ بَلِيغَانِ (لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ) ; أَيِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّينِ (أَحَدًا سَأَلَهُ) ; لِأَنَّ بِسُؤَالِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَحَبَّةِ جَاهِهِ وَمَالِهِ الْمُوَرِّثَةِ لِسُوءِ حَالَةٍ فِي مَآلِهِ، فَقَوْلُهُ (وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ) كَالتَّفْسِيرِ لَدَيْهِ وَضَبْطُ حَرَصَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ) ; أَيْ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُعَانًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
) .
3684 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3684 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ) قَالَ الطِّيبِيُّ ثَانِي مَفْعُولَيْ تَجِدُونَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ:(أَشَدَّهُمْ) وَلَمَّا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِيَ أُضْمِرُ فِي الْأَوَّلِ الرَّاجِعِ إِلَيْهِ (عَلَى التَّمْرَةِ مِثْلُهَا زُبْدًا) ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ (خَيْرِ النَّاسِ) عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ) تَبْعِيضِيةٌ ; أَيْ تَجِدُونَ بَعْضَ خِيَارِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ (كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ) ; أَيْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ (حَتَّى يَقَعَ فِيهِ) ; أَيْ فَيَكُونُ بَعْدَهُ نَدَامَةٌ، كَمَا سَبَقَ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ غَايَةَ تَجِدُونَ أَيْ تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ كَرَاهَةً حَتَّى يَقَعَ فِيهِ ; فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَيْرَهُمْ، وَثَانِيهُمَا أَنَّهَا غَايَةُ أَشَدَّ أَنْ يَكْرَهَهُ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يُعِينُهُ اللَّهُ فَلَا يَكْرَهُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِقَوْلِهِ:(يَقَعَ فِيهِ) اهـ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَرْضَى أَحَدٌ عَنِ الْإِمَارَةِ فِي الْمَآلِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3685 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ; فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهُ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3685 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) . فِي النِّهَايَةِ الرَّعِيَّةُ كُلُّ مَنْ شَمِلَهُ حِفْظُ الرَّاعِي وَنَظَرُهُ ( «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) يُقَالُ: رَعَى الْأَمِيرُ الْقَوْمَ رِعَايَةً فَهُوَ رَاعٍ ; أَيْ قَامَ بِإِصْلَاحِ مَا يَتَوَلَّاهُ، وَهُمْ رَعِيَّةٌ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَدَخَلَتِ التَّاءُ لِغَلَبَةِ الِاسْمِيَّةِ ( «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ» ) ; أَيْ وَلَدِ زَوْجِهَا (وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) عَنْ حَقِّ زَوْجِهَا وَأَوْلَادِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَغَلَبَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ( «وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ» ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَى الرَّاعِي هُنَا ; الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ عَلَى مَا يَلِيهِ، أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّصِيحَةِ فِيمَا يَلُونَهُمْ، وَحَذَّرَهُمُ الْخِيَانَةَ فِيهِ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ، فَالرِّعَايَةُ حِفْظُ الشَّيْءِ وَحُسْنُ التَّعَهُّدِ، فَقَدِ اسْتَوَى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْمِ وَلَكِنَّ مَعَانِيَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، أَمَّا رِعَايَةُ الْإِمَامِ وِلَايَةَ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ: فَالْحِيَاطَةُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ فِيهِمْ. وَرِعَايَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ: فَالْقِيَامُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ فِي النَّفَقَةِ، وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ. وَرِعَايَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا: فَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ بَيْتِهِ وَالتَّعَهُّدُ بِخِدْمَةِ أَضْيَافِهِ. وَرِعَايَةُ الْخَادِمِ: فَحِفْظُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ وَالْقِيَامُ بِشُغْلِهِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ ثَانِيًا لِلتَّأْكِيدِ (فَكُلُّكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي تَقْدِيرَهُ ; فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فَكُلُّكُمْ (رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) كَمَا أَجْمَلْنَاهُ، فَالْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ، وَخُلَاصَةٌ لِلْمَرَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] بَعْدَ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْفَذْلَكَةُ هِيَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُحَاسِبُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَيَقُولُ فَذَلِكَ كَذَا ضَبْطًا لِلْحَاسِبِ، وَتَوَقِّيًا عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فِيمَا فَصَّلَهُ فِي الْكِتَابِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاءَ الْفَذْلَكَةِ، تَكُونُ تَعْرِيضِيَّةً - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (" «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ") رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.
3686 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3686 -
(وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ» ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَلِي وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ ; قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يَحُطْهَا يَعْنِي الْآتِي، كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8](وَهُوَ غَاشٌّ) بِتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ خَائِنٌ لَهُمْ، أَوْ ظَالِمٌ لَهُمْ، لَا يُعْطِي حُقُوقَهُمْ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، (إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ; أَيْ دُخُولَهَا مَعَ النَّاجِينَ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ زَجْرٌ وَكَيْدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، أَوْ تَخْوِيفٌ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ; وَفِي قَوْلِهِ: فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَرْضِ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ نَاصِحًا فِي الرَّعِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَهُوَ غَاشٌّ حَالٌ قُيِّدَ لِلْفِعْلِ، وَمَقْصُودٌ لِلذِّكْرِ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْفِعْلِ الْحَالُ ; هُوَ الْحَالُ يَعْنِي ; أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَلَّاهُ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ النَّصِيحَةَ لَهُمْ، لَا لِيَغُشَّهُمْ فَيَمُوتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْرَمَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: الْمَعْنَى مَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ، وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قُلِّدَهُ ; إِمَّا بِتَضْيِيعِ حَقِّهِمْ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ غَشَّهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفَظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ) .
3687 -
وَعَنْهُ ; قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ ; إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3687 -
(وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ مَعْقِلٍ (قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً» ) ; أَيْ يَطْلُبُهُ أَنْ يَكُونَ رَاعِيَ جَمَاعَةٍ، وَأَمِيرًا عَلَيْهِمْ (فَلَمْ يَحُطْهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ ; أَيْ فَلَمْ يُرَاعِهَا (بِنَصِيحَةٍ) وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ حَاطَهُ يَحُوطُهُ حَوْطًا وَحِيَاطَةٌ إِذَا حَفِظَهُ وَصَانَهُ وَذَبَّ عَنْهُ وَتَوَفَّرَ عَلَى مَصَالِحِهِ (إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) ; أَيْ مَعَ الْوَاجِدِينَ فِي الْقِيَامَةِ ; فَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، أَوْ مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مُطْلَقًا إِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، أَوِ اسْتَحَلَّ الظُّلْمَ، أَوِ اسْتَحَقَّ أَنْ لَا يَجِدَ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُرْضِيَ خُصَمَاءَهُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3688 -
وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3688 -
(وَعَنْ عَائِذِ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَدَنِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ رَوَى عَنْهُ جِمَاعَةٌ، (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ) بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ كَتُجَّارٍ وَتَاجِرٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (الْحُطَمَةُ) بِضَمٍّ فَفَتَحٍ مُبَالَغَةً، الْحَاطِمُ مِنَ الْحَطْمِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، وَهُوَ " مَنْ يَظْلِمُ الرَّعِيَّةَ وَلَا يَرْحَمُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ، وَقِيلَ: الْأَكُولُ الْحَرِيصُ الَّذِي يَأْكُلُ مَا يَرَى وَيَقْضِمُهُ، وَمِنْهُ الْحُطَمَةُ لِلنَّارِ الْمُوقَدَةِ فَإِنَّ مَنْ هَذَا دَأْبُهُ يَكُونُ دَنِيئًا فِي النَّفْسِ ظَالِمًا بِالطَّبْعِ، شَدِيدَ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِيِ النَّاسِ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي، وَفِي الْفَائِقِ: الْحُطَمَةُ هُوَ الَّذِي يُعَنِّفُ الْإِبِلَ فِي السُّوقِ وَالْإِيرَادِ وَالْإِصْدَارِ، فَيُحَطِّمُهَا ضَرَبَهُ مَثَلًا لَوَالِي السُّوءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا اسْتَعَارَ لِلْوَالِي وَالسُّلْطَانِ لَفْظَ الرَّاعِي، أَتْبَعَهُ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ مِنْ صِفَةِ الْحَطْمِ، فَالْحُطَمَةُ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الرَّاعِي لَهُمْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي صَحِيحِهِ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا ; حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ ; فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ.
3689 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3689 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ) ; بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهُ ; أَيْ مَنْ جُعِلَ وَالِيًا (مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا) ; أَيْ مِنَ الْأُمُورِ، أَوْ نَوْعًا مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ:" مِنْ " بَيَانُ " شَيْئًا " كَانَتْ صِفَةً قُدِّمَتْ وَصَارَتْ حَالًا، (فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ) بِضَمِّ الْقَافِ، (عَلَيْهِ) ; أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا ( «وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» ) بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْغَابِرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ، وَأَعْظَمِ الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ بِهِمْ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا أَظْهَرَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ فَنَقُولُ بِلِسَانِ الْحَالِ: اللَّهُمَّ هَذَا أَوَانُ أَنْ تَرْحَمَ عَلَى أُمَّةِ حَبِيبِكَ الْكَرِيمِ وَتُنْجِيَهُمْ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3690 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ مَا وَلُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3690 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْمُقْسِطِينَ) ; أَيِ الْعَادِلِينَ، ضِدَّ الْقَاسِطِينَ ; أَيِ الْجَائِرِينَ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْقِسْطُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْأَصْلُ فِيهِ النَّصِيبُ، تَقُولُ: مِنْهُ قَسَطَ الرَّجُلُ إِذَا جَارَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَالْمَصْدَرُ الْقُسُوطُ، وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ، وَهُوَ أَنْ يُعْطَى نَصِيبُ غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ الْأَلِفَ أُدْخِلَ فِيهِ لِسَلْبِ الْمَعْنَى ; كَمَا أُدْخِلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ الْإِقْسَاطُ إِزَالَةَ الْقُسُوطِ (عِنْدَ اللَّهِ) ; أَيْ مُقَرَّبُونَ إِلَيْهِ وَمُكَرَّمُونَ لَدَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ زِيَادَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (عَلَى مَنَابِرَ) ; أَيْ مُرْتَفِعُونَ عَلَى أَمَاكِنَ عَالِيَةٍ غَالِيَةٍ، (مِنْ نُورٍ) ; أَيْ مُنَوَّرَةٍ، كَأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ، أَوْ هِيَ نُورٌ مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَنَابِرُ جَمْعُ مِنْبَرٍ سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَنَابِرَ حَقِيقَةً عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ، قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَنَابِرَ فَهُوَ عَلَى أَعْلَى مَرْتَبَةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ كَرَامَتُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَقُرْبُ مَحَلِّهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ عُظِّمَ قَدْرُهُ فِي النَّاسِ ; أَنْ يُبَوَّأَ عَنْ يَمِينِ الْمَلِكِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَّهَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا سَبَقَ إِلَى فَهْمِ مَنْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، مِنْ مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ بِالْيَسَارِ، وَكَشَفَ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ (وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ فِيمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ الْيَدَيْنِ شِمَالٌ ; لِأَنَّ الشِّمَالَ عَلَى النَّقْصِ وَالضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ; هِيَ صِفَةٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ، فَنَحْنُ نُطْلِقُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ وَلَا نُكَيِّفُهَا، وَنَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ انْتَهَى بِنَا الْكِتَابُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْعَرَبُ تَنْسُبُ الْفِعْلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْجُهْدِ وَالْقُوَّةِ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا الْإِحْسَانَ وَالْإِفْضَالَ إِلَيْهَا، وَضِدُّهَا إِلَى الْيَسَارِ، وَقَالُوا: الْيَمِينُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيُمْنِ، وَقَالَ الْقَاضِي: وَكِلْتَا يَدَيْهِ ; دَفْعٌ لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ يَمِينًا مِنْ جِنْسِ أَيْمَانِنَا الَّتِي يُقَابِلُهَا يَسَارٌ، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ حَتَّى فَازَ بِالْوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الزُّلْفَى مِنَ اللَّهِ ; عَاقَ غَيْرَهُ عَنْ أَنْ يَفُوزَ بِمِثْلِهِ كَالسَّابِقِ إِلَى مَحِلٍّ مِنْ مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، بَلْ جِهَاتِهِ وَجَوَانِبِهِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا الْعِبَادُ سَوَاءٌ (الَّذِينَ يَعْدِلُونَ) صِفَةُ الْمُقْسِطِينَ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِأَعْنِي ; مَرْفُوعٌ بِتَقْدِيرِهِمْ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَؤُلَاءِ السَّادَةُ الْمُقَرَّبُونَ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ (فِي حُكْمِهِمْ) ; أَيْ فِيمَا يُقَلَّدُونَ مِنْ خِلَافَةٍ، أَوْ قَضَاءٍ، أَوْ إِمَارَةٍ، (وَأَهْلِيهِمْ) ; أَيْ مَا يَجِبُ لِأَهْلِيهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَيْهِمْ، (وَمَا وَلُوا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ، وَالْأَصْلُ وَلِيُوا، عَلَى وَزْنِ عَلِمُوا نُقِلَتْ ضَمَّةُ الْيَاءِ إِلَى اللَّامِ بَعْدَ سَلْبِ حَرَكَتِهَا وَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ; أَيْ وَمَا كَانَتْ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْيَتِيمِ، أَوْ وَقْفٍ، أَوْ حِسْبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ مَا جُعِلُوا وَالِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْتَوْعِبُ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَيُدْخِلُ فِيهِ نَفْسَهُ أَيْضًا، قَالَ الْأَشْرَفُ: فَالرَّجُلُ يَعْدِلُ مَعَ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا يُضِيعَ وَقْتَهُ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، بَلْ يَمْتَثِلُ أَوَامِرَ اللَّهِ وَيَنْزَجِرُ عَنْ نَوَاهِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَوْلِيَاءِ الْكِرَامِ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ غَالِبًا كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ; ظَالِمٍ وَمُقْتَصِدٍ وَسَابِقٍ ; وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ عَدَلَ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى حَدِّ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَرَقَّ إِلَى مَرْتَبَةِ السَّابِقِ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3691 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ ; بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3691 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ) ; أَيْ نَبِيًّا (وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ) ; أَيْ إِمَامًا بَعْدَهُ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ (إِلَّا كَانَتْ لَهُ) ; أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (بِطَانَتَانِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ وَزِيرَانِ وَمُشِيرَانِ، مُشَبَّهَانِ بِالْبِطَانَةِ لِمُلَازَمَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ صُحْبَتِهِ، (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ) ; أَيْ بِالْخَيْرِ (وَتَحُضُّهُ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ ; أَيْ تَحُثُّهُ عَلَيْهِ وَتُرَغِّبُهُ إِلَيْهِ وَتُحَسِّنُهُ لَدَيْهِ (وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ ; أَيْ بِالْمُنْكِرِ (وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ) ; أَيْ تُحَرِّضُهُ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو نَبِيٌّ، أَوْ مَنْ يَخْلُفُ مَكَانَهُ مِنْ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ جَمَاعَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ فِي الرَّأْيِ ; كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جُلَسَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، (وَالْمَعْصُومُ) ; أَيْ مِنَ النَّبِيِّ وَالْخَلِيفَةِ (مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ) ; أَيْ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِّ وَقَبُولِ كَلَامِهِ، وَالتَّوْفِيقِ بِمُتَابَعَةِ الْخَيْرِ وَقَضَاءِ مَرَامِهِ، وَالْمَعْصُومُ مِنَ الْبِطَانَتَيْنِ مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرِّ وَوَفَّقَهُ لِلْخَيْرِ. هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ بِطَانَةُ الرَّجُلِ صَاحِبُ سِرِّهِ وَدَاخِلَةُ أَمْرِهِ، الَّذِي يُشَاوِرُهُ فِي أَحْوَالِهِ، الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] بِطَانَةُ الرَّجُلِ ; ذُو وَلِيجَتِهِ وَخَصِيصُهُ، وَصَفِيِّهُ الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ بِحَوَائِجِهِ ثِقَةً بِهِ، شُبِهَ بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ شِعَارِيٌّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْبِطَانَةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، قَدْ تُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ، وَلَكِنَّهَا مُنَافِيَةٌ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَامَّةَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، قُلْتُ: الْوَجْهُ مَا رَوَى الْأَشْرَفُ عَنْ بَعْضِهِمْ ; أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِهِمَا الْمَلَكُ، وَبِالثَّانِي الشَّيْطَانُ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ: وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» ". أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ «حَدِيثِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَضِيَافَتِهِ لَهُ عليه الصلاة والسلام مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي حَائِطٍ لَهُ مِنْ ذَبْحِ الْغَنَمِ وَإِحْضَارِ الرُّطَبِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى أَنْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " هَلْ لَكَ خَادِمٌ " قَالَ لَا " قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا " فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخْتَرْ مِنْهُمَا " فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ فَخُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا " فَانْطَلَقَ بِهِ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ; إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
3692 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الْأَمِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3692 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) ; أَيِ ابْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَابْنُ سَيِّدِهَا، أَحَدُ دُهَاةِ الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَرِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي النَّجْدَةِ، وَالْبَسَالَةِ، وَالْكَرَمِ، وَالسَّخَاءِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ جَسِيمًا طَوِيلًا، وَكَانَ مُنْتَصِبًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِتَنْفِيذِ مَا يُرِيدُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ (بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مِنَ الْأَمِيرِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهُوَ جَمْعُ شُرْطِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمِيرِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ عَلَى الشُّرَطِ لِلْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، سُمُّوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
3693 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3693 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) بِالتَّاءِ (قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ (قَدْ مَلَّكُوا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ ; أَيْ جَعَلُوا الْمَلِكَ (عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى) بِكَسْرِ الْكَافِ وَيَفْتَحُ، مَلِكُ الْفُرْسِ مُعَرَّبٌ خِسْرُوا ; أَيْ وَاسِعُ الْمُلْكِ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ لَقَبُ مَلِكِ الْفُرْسِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَيْصَرَ لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، وَفِرْعَوْنَ لَقَبُ مَلِكِ مِصْرَ، وَتُبَّعَ لِمَلِكِ الْيَمَنِ، (قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا) بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ فَوَّضُوا (أَمْرَهُمْ) ; أَيْ أَمْرَ مُلْكِهِمْ (امْرَأَةً) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ; لَا تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَكُونَ إِمَامًا، وَلَا قَاضِيًا ; لِأَنَّهُمَا مُحْتَاجَانِ إِلَى الْخُرُوجِ لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةٌ ; وَالْقَضَاءُ مِنْ كَمَالِ الْوِلَايَاتِ ; فَلَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا الْكَامِلُ مِنَ الرِّجَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
3694 -
عَنِ الْحَارِسِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ: بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
3694 -
(عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيُّ يُعَدُّ فِي الشَّامِيِّينَ ; رَوَى عَنْهُ أَبُو سَلَّامٍ الْحَبَشِيُّ وَغَيْرُهُ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آمُرُكُمْ) ; أَيْ أَنَا (بِخَمْسٍ) ; أَيْ خِصَالٍ (بِالْجَمَاعَةِ) ; أَيْ بِاتِّبَاعِ إِجْمَاعِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْاعْتِقَادِ، وَالْقَوْلِ، وَالْعَمَلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِي التَّابِعِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ ; أَيْ آمُرُكُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ وَالْانْخِرَاطِ فِي ذِمَّتِهِمْ، (وَالسَّمْعِ) ; أَيِ اسْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَقَبُولِهَا مِنَ الْأَمِيرِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّمْعِ ; الْإِصْغَاءُ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَفَهُّمُهُمَا، (وَالطَّاعَةِ) ; أَيْ طَاعَةِ الْأَمِيرِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالطَّاعَةِ الِامْتِثَالُ بِالْأَوَامِرِ وَالْانْزِجَارُ عَنِ النَّوَاهِي (وَالْهِجْرَةِ) ; أَيِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ دَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى دَارِ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» "(وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ; أَيْ مَعَ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهَا، وَمَعَ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَمَنْعِهَا عَنْ لَذَّاتِهَا، فَإِنَّ مُعَادَاةَ النَّفْسِ مَعَ الشَّخْصِ أَقْوَى وَأَضَرُّ مِنْ مُعَادَاةِ الْكَفَرَةِ مَعَهُ، وَقَدْ رَوَى: أَعْدَى عَدُّوِكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ (فَإِنَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَإِنَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ " إِنَّ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرُهُ، وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِعُرَى الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاوُ مِثْلُهَا ; فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] بَعْدَ قَوْلِهِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15] فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ ( «مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ» ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ ; أَيْ قَدْرَهُ وَأَصْلُهُ الْقَوَدُ مِنَ الْقَوْدِ ; وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ وَالْقِصَاصُ، وَالْمَعْنَى مَنْ فَارَقَ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْبِدْعَةِ وَنَزْعِ الْيَدِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَوْ كَانَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ يُقَدَّرُ فِي الشَّاهِدِ بِقَدْرِ شِبْرٍ، ( «فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ» ) ; أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ (مِنْ عُنُقِهِ) وَانْحَرَفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَخَرَجَ عَنِ الْمُوَافَقَةِ (إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ) بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالرِّبْقَةُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ ; وَهِيَ فِي الْأَصْلِ ; عُرْوَةٌ فِي حَبْلٍ يُجْعَلُ فِي عُنُقِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ يَدِهَا تُمْسِكُهَا، فَاسْتَعَارَهَا لِلْإِسْلَامِ، يَعْنِي مَا شَدَّ الْمُسْلِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ ; أَيْ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْمَعْنَى فَقَدْ نَبَذَ عَهْدَ اللَّهِ، وَأَخْفَرَ ذِمَّتَهُ الَّتِي لَزِمَتْ أَعْنَاقَ الْعِبَادِ ; لُزُومَ الرِّبْقَةِ، بِالْكَسْرِ، وَهِيَ وَاحِدَةُ الرِّبَقُ، وَهُوَ حَبْلٌ فِيهِ عِدَّةُ عُرَى يُشَدُّ بِهِمُ الْبُهُمُ ; أَيْ أَوْلَادُ الضَّأْنِ، وَالْوَاحِدَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُرَى رِبْقَةٌ، (وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مُفَسِّرَةً لِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ
بِالْجَمَاعَةِ وَعَدَمَ الْخُرُوجِ عَنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخُرُوجَ عَنْ زُمْرَتِهِمْ مِنْ هِجِّيرَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» " فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ بِسُنَنِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَيْهَا، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ مَا قَالَ الْقَاضِي، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ الدَّعْوَى تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ النِّدَاءُ، وَالْمَعْنَى مَنْ نَادَى فِي الْإِسْلَامِ بِنِدَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ خَصْمُهُ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ قَوْمَهُ، يَا آلَ فُلَانٍ، فَيَبْتَدِرُونَ إِلَى نَصْرِهِ ظَالِمًا كَانَ، أَوْ مَظْلُومًا، جَهْلًا مِنْهُمْ وَعَصَبِيَّةً، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ، وَيَنْصُرُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَعِبَادُ اللَّهِ، (فَهُوَ) أَيِ الدَّاعِي الْمَذْكُورُ (مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ) بِضَمِّ الْجِيمِ مَقْصُورًا ; أَيْ مِنْ جَمَاعَاتِهِمْ، جَمْعُ جَثَوَةٍ، بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ، وَرُوِيَ مِنْ جُثِيٍّ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَضَمِّ الْجِيمِ، جَمْعُ جَاثٍ، مِنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَجْثُو، أَوْ يُجِثِي، وَكَسْرُ الْجِيمِ، جَائِزٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْكَسْرَةِ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] وَفِي الْفَائِقِ، وَاحِدَتُهَا جُثْوَةٌ، بِضَمِّ الْجِيمِ ; أَيْ مِنْ جَمَاعَاتِ جَهَنَّمَ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا جُمِعَ مِنْ تُرَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتُعِيرَ لِلْجَمَاعَةِ، (وَإِنْ صَامَ) أَيْ وَلَوْ صَامَ (وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
3695 -
وَعَنْ زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الْفُسَّاقِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
3695 -
(وَعَنْ زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (الْعَدَوِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي عَدِيٍّ ; قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ، تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ) بِكَسْرِ الرَّاءِ ; أَيْ رَقِيقَةٌ رَفِيعَةٌ (فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ، وَلَعَلَّهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَلَدُهُ بِلَالٌ كَانَ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ (انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الْفُسَّاقِ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا مُحَرَّمَةً مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ رِقَاقًا، وَلَعَلَّ الِاعْتِرَاضَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ نَصِيحَةً تَتَضَمَّنُ فَضِيحَةً، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ صَرِيحَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لُبْسُ ثِيَابِ الرِّقَاقِ مِنْ دَأْبِ الْمُتَنَعِّمِينَ نَسَبَهُ إِلَى الْفِسْقِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ) ; أَيْ أَذَلَّ حَاكِمًا بِأَنَّ أَذَاهُ، أَوْ عَصَاهُ (أَهَانَهُ اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَهَانَ إِلَخْ، يَعْنِي تَفْسِيقَكَ إِيَّاهُ بِسَبَبِ لُبْسِهِ هَذِهِ الثِّيَابَ الَّتِي يَصُونُ بِهَا عِزَّتَهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَهَانَ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَأَلْبَسَهُ خِلَعَ السُّلْطَةِ ; أَهَانَهُ اللَّهُ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، تَعَلُّقَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] وَالْإِضَافَةُ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ. وَيُحْكَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ; وَعَلَى جَعْفَرٍ جُبَّةٌ خَزٍّ دَكْنَاءٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ لِبَاسِكَ، فَحَسِرَ عَنْ رَدْنِ جُبَّتِهِ فَإِذَا تَحْتَهَا جُبَّةُ صُوفٍ بَيْضَاءُ يَقْصُرُ الذَّيْلُ وَالرَّدْنُ عَنِ الرَّدْنِ، فَقَالَ يَا ثَوْرِيُّ: لَبِسْنَا هَذَا لِلَّهِ وَهَذِي لَكُمْ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ أَخْفَيْنَاهُ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَبْدَيْنَاهُ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ فِي كِتَابِ مَنَاقِبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالدَّكْنَاءُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ تَأْنِيثُ الْأَدْكَنِ، وَهُوَ ثَوْبٌ مُغْبَرُّ اللَّوْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: ذُكِرَ أَنْ فَرْقَدَ السَّبَخِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ، وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ، فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا، فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي، ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ؟ بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُكُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
3696 -
وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
3696 -
(وَعَنِ النَّوَّاسِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (ابْنِ سِمْعَانَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ» ) صِلَةُ طَاعَةٍ، وَقَوْلُهُ:(فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ) خَبَرُ لَا، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، يَعْنِي لَا يَنْبَغِي وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْوُلَاةُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَا أَمَرَ بِهِ الْوُلَاةُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَهُمْ، يَسَعُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ فِيمَا كَانَتْ وِلَايَتُهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَسَعُ الْمَأْمُورَ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَكُونَ الَّذِي أَمَرَهُ عَدْلًا، وَحَتَّى يَشْهَدَ عَدْلٌ سِوَاهُ، عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَأْمُورِ ذَلِكَ، الْكَشَّافُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَلَسْتُمْ أُمِرْتُمْ بِطَاعَتِنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قَالَ الطِّيبِيُّ: رحمه الله يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عَطْفٌ عَلَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَكُرِّرَ الْفِعْلُ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِقْلَالِ طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِقَوْلِهِ وَأَطِيعُوا فِي {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ أُولُوا الْأَمْرِ مُسْتَقِلِّينَ، وَشَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ خِلَافَ الْحَقِّ فَرُدُّوهُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَا يَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. (رَوَاهُ) ; أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ; أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ; عَنْ عِمْرَانَ، وَالْحَاكِمِ بْنِ عُمَرَ الْغِفَارِيِّ، وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ بِسَنَدِهِ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مَثَلًا أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحْبَبَتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلَتْهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ مُحِبٌّ مُطْرٍ لِي، يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ، وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي، عَلَى أَنْ بَهَتَنِيَ أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَا يُوحَى إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ، مَا اسْتَطَعْتُ لَهُ فَمَا أَمَرْتُكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَحَقٌّ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فِيمَا أَحْبَبْتُمْ، أَوْ كَرِهْتُمْ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنَا وَغَيْرِي فَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَنْ أَمَرَكُمْ مِنَ الْوُلَاةِ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ " «وَمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ بِمَعْرُوفٍ»
".
3697 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا حَتَّى يُفَكَّ عَنْهُ الْعَدْلُ، أَوْ يُوبِقَهُ الْجَوْرُ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
3697 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، بِسُكُونِ الشِّينِ، وَهُوَ سَهْوٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ الْعَادِلِ وَالظَّالِمِ (إِلَّا يُؤْتَى بِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ، إِلَّا وَهُوَ يُؤْتَى بِهِ ; أَيْ يُحْضَرُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا) ; أَيْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، عَكْسُ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، مَبْسُوطَةً فِي إِرَادَةِ نَفْسِهِ وَإِفَادَةِ حِكْمَةٍ (حَتَّى يَفُكَّ عَنْهُ الْعَدْلُ) وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَفُكَّهُ الْعَدْلُ ; أَيْ عَدْلُهُ إِنْ كَانَ عَادِلًا (أَوْ يُوبِقَهُ الْجَوْرُ) ; أَيْ يُهْلِكُهُ ظُلْمُهُ، إِنْ كَانَ ظَالِمًا، فَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ:" أَوْ يُوبِقَهُ " عَطْفٌ عَلَى يَفُكَّ، فَيَكُونُ غَايَةَ قَوْلِهِ: يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا ; أَيْ لَمْ يَزَلْ مَغْلُولًا حَتَّى يَحِلَّهُ الْعَدْلُ، أَوْ يُهْلِكَهُ الظُّلْمُ ; أَيْ لَا يَفُكُّهُ عَنِ الْغُلِّ إِلَّا الْهَلَاكُ، يَعْنِي يَرَى بَعْدَ الْغُلِّ مَا الْغُلُّ فِي جَنْبِهِ السَّلَامَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ يَعْنِي يَرَى يَوْمَ الدِّينِ مِنَ الْعَذَابِ مَا اللَّعْنَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَهْلَةٌ يَسِيرَةٌ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ.
3698 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا، يَتَجَلْجَلُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ ; أَنَّ دَوَابَّهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا، يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عُمِّلُوا عَلَى شَيْءٍ.
ــ
3698 -
(وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، كَقَوْلِهِ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) وَهُوَ الْحُزْنُ وَالْهَلَاكُ وَالْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَقِيلَ وَادٍ فِي النَّارِ، وَقَدْ وَرَدَ وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، (وَلِلْعُرَفَاءِ) جَمْعُ عَرِيفٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; وَهُوَ الْقَيِّمُ بِأَمْرِ قَبِيلَةٍ، وَمَحَلَّةٍ يَلِي أَمْرَهُمْ وَيَتَعَرَّفُ الْأَمِيرُ مِنْهُ أَحْوَالَهُمْ، وَمِنْهُمْ رُؤَسَاءُ الْقُرَى، وَأَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ، (وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ) جَمْعُ أَمِينٍ ; وَهُوَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْإِمَامُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ عَطْفُهُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْعُرَفَاءِ، وَيَشْمَلُ بِعُمُومِهِ كُلَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ غَيْرُهُ عَلَى مَالٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ وَصِيُّ الْأَيْتَامِ، وَنَاظِرُ الْأَوْقَافِ، ( «لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ» ) ; أَيْ شُعُورَهُمْ قُدَّامَ رُءُوسِهِمْ، (مُعَلَّقَةٌ) ; أَيْ فِي الدُّنْيَا (بِالثُّرَيَّا) مَقْصُورًا فِي النِّهَايَةِ الثُّرَيَّا: النَّجْمُ تَصْغِيرُ الثَّرْوَى، يُقَالُ: إِنَّ خِلَالَ أَنْجُمِهَا الظَّاهِرَةِ، كَوَاكِبُ خَفِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ، (يَتَجَلْجَلُونَ) بِالْجِيمَيْنِ ; أَيْ يَتَحَرَّكُونَ، (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّهُمْ لَمْ يَلُوا) بِضَمِّ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ ; أَيْ لَمْ يَصِيرُوا وَالِينَ، (عَمَلًا) مِنْ أَعْمَالِ الْعُمَّالِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اللَّامُ فِي لَيَتَمَنَّيَنَّ ; لَامُ الْقَسَمِ، وَالتَّمَنِّي طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِلْمُتَمَنِّي ; قَوْلُهُ: إِنَّ نَوَاصِيَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا، وَإِنَّهُمْ لَمْ يَلُوا، تَمَنَّوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلُوا، وَكَانَتْ نَوَاصِيهِمْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا ; يَعْنِي تَمَنَّوْا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ تِلْكَ الْعِزَّةُ وَالرِّيَاسَةُ وَالرِّفْعَةُ عَلَى النَّاسِ، بَلْ كَانُوا أَذِلَّاءَ، وَرُءُوسُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِنَوَاصِيهِمْ فِي أَعَالِي تَتَحَرَّكُ وَتُجَلْجِلُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ سَائِرُ النَّاسِ، وَيَشْهَدُونَ مَنْزِلَتَهُمْ، وَهُوانَهُمْ بَدَلَ تِلْكَ الرِّيَاسَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرِّفْعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالنَّاصِيَةِ مَثَلٌ لِلْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادُوا إِطْلَاقَ أَسِيرٍ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ مَذَلَّةً وَهَوَانًا، وَهَذَا التَّمَنِّي هُوَ الْمَعْنِيُ بِالنَّدَامَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَقَوْلُهُ: لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ كَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لَمَّا عَمَّمَ التَّهْدِيدَ وَبَالَغَ فِي الْوَعِيدِ، أَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِكَ وَيُخْرِجَ مَنْ قَامَ بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ، وَتَجَنَّبَ فِيهِ عَنِ الظُّلْمِ وَالْحَيْفِ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابَ، وَصَارَ ذَا حَظٍّ مِمَّا وَعَدَ بِهِ ذُو سُلْطَانٍ عَادِلٍ، قَالَ: لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ ; أَيْ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ لِيُنَبِّهَ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى حُكْمُهُمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ; وَهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْكِسْ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْطُوقِ الْمَدْحِ لِلْمُقْسِطِينَ ; لِيَدُلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى ذَمِّ الْجَائِرِينَ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ ; لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُهِمَّةً لَا يَنْتَظِمُ صَلَاحُ حَالِ النَّاسِ وَمَعَاشُهُمْ دُونَهَا، لَكِنَّهُ خَطَرٌ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهَا عَسِرٌ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيْهَا وَيَمِيلَ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ مَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ فِيهَا عَنْ مَتْنِ الصَّوَابِ قَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى فِتْنَةٍ تُؤَدَّى بِهِ إِلَى الْعَذَابِ. (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي رِوَايَتِهِ) ; أَيْ أَحْمَدَ، (أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ) جُمْعُ ذَائِبَةٍ ; أَيْ ظَفَائِرَهُمْ ; (كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَذَبْذَبُونَ) ; أَيْ يَتَرَدَّدُونَ، (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ; أَيْ مُدَّةَ عَمَلِهِمْ ; أَيْ جَمِيعَ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، (وَلَمْ يَكُونُوا عُمِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُعْطُوا عَمَلًا (عَلَى شَيْءٍ) ; أَيْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.
3699 -
وَعَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعِرَافَةَ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عُرَفَاءَ وَلَكِنَّ الْعُرْفَاءَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3699 -
(وَعَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ غَالِبُ بْنُ أَبِي غَيْلَانَ، وَهُوَ ابْنُ خَطَّافٍ الْقَطَّانُ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْهُ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ (عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعِرَافَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، (حَقٌّ) ; أَيْ أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا لِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ (حَقٌّ) : وَقَعَ هُنَا مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ وَالْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ ; فِي تَرْتِيبِ الْبُعُوثِ وَالْأَجْنَادِ، وَمَا يُلِمُّ بِهِ شَعَثَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَالْعَطِيَّاتِ، وَالْإِحَاطَةِ بِعَدَدِهِمْ ; لِاسْتِخْرَاجِ السُّهْمَانِ وَنَحْوِهِ وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عُرَفَاءَ)، وَقَوْلِهِ:(وَلَكِنَّ الْعَرْفَاءَ فِي النَّارِ) ; أَيْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهَا، وَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ مَوْرِدَ التَّحْذِيرِ عَنِ التَّبِعَاتِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا، وَالْآفَاتِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ فِيهَا، وَالْفِتَنِ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا، وَالْأَمْرِ بِالتَّيَقُّظِ دُونَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَنَاتِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْوَاقِعُ فِيهَا اهـ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُرَفَاءِ فِي النَّارِ ; هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْدِلُوا فِي الْحُكْمِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ ; إِجْرَاءً لِلْغَالِبِ مَجْرَى الْكُلِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُلَابِسُونَ مَا يَجُرُّهُمْ إِلَى النَّارِ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَكُونُ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَلَكِنَّ الْعُرَفَاءَ فِي النَّارِ: مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الْعِرَافَةَ عَلَى خَطَرٍ، وَمَنْ بَاشَرَهَا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَيَقُّظٍ وَحَزْمٍ وَحَذَرٍ مِنْهَا ; لِئَلَّا تُوَرِّطَهُ فِي الْفِتْنَةِ، وَتُؤَدِّيَ بِهِ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَهَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ الشَّيْخِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3700 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
3700 -
(وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، (قَالَ: قَالَ لِي) ; أَيْ وَحْدِي، أَوْ مُخَاطِبًا لِي، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ) ; أَيْ مِنْ عَمَلِهِمْ، أَوْ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، أَوِ اللُّحُوقِ بِهِمْ، وَالسُّفَهَاءُ الْجُهَّالُ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السُّفَهَاءُ الْخِفَافُ الْأَحْلَامِ، وَفِي النِّهَايَةِ السَّفَهُ فِي الْأَصْلِ ; الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ، وَسُفِّهَ فُلَانٌ رَأْيُهُ إِذَا كَانَ مُضْطَرِبًا لَا اسْتِقَامَةَ لَهُ، وَالسَّفِيهُ الْجَاهِلُ، (قَالَ) ; فِيهِ الْتِفَاتٌ، أَوْ تَجْرِيدٌ، إِذْ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ (وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ; أَيْ ; أَيُّ شَيْءٍ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، وَهُوَ فِعْلُهُمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ جَهْلُهُمْ وَطَيْشُهُمْ (قَالَ أُمَرَاءُ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي) ; أَيْ سُفَهَاءُ ; مَوْصُوفُونَ بِالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، (مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ) ; أَيْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، (فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ) بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ، وَيَجُوزُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ ; لِعَدَمِ وُرُودِ غَيْرِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ: إِذَا أُخِذَ فِي مُقَابَلَةِ الصِّدْقِ كَانَ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلْازْدِوَاجِ، وَإِذَا أُخِذَ وَحْدَهُ كَانَ بِالْكَسْرِ، (وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ) ; أَيْ بِالْإِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ، (فَلَيْسُوا مِنَّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ) ; أَيْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ بَرَاءَةٌ وَنَقْضُ ذِمَّةٍ، (وَلَنْ يَرِدُوا) وَفِي نُسْخَةٍ، وَلَمْ يَرِدُوا مِنَ الْوُرُودِ ; أَيْ لَمْ يَمُرُّوا (عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْعَرْضِ ; أَيْ لَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ مَعْرُوضِينَ، (الْحَوْضَ) ; أَيْ حَوْضَ الْكَوْثَرِ فِي الْقِيَامَةِ، أَوْ فِي الْجَنَّةِ، (وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ ; فَأُولَئِكَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَدْخَلَ الْفَاءَ فِي خَبَرِ (مَنْ) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، زَادَ فِيهِ (أُولَئِكَ) وَكَرَّرَهُ لِمَزِيدِ تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مَا يَرِدُ عَقِيبَهُ جَدِيرٌ بِمَا قَبْلَهُ ; لِاتِّصَافِهِ بِالْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] بَعْدَ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] إِلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، اسْتِحْمَادًا عَلَى فِعْلِهِمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ عَنْهُمْ، وَعَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا نُخَالِطُ السُّلْطَانَ وَلَا مَنْ يُخَالِطُهُ، وَقَالَ: صَاحِبُ الْقَلَمِ، وَصَاحِبُ الدَّوَاةِ، وَصَاحِبُ الْقِرْطَاسِ، وَصَاحِبُ اللِّيطَةِ بَعْضُهُمْ شُرَكَاءُ بَعْضُ، وَرُوِيَ أَنَّ خَيَّاطًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ خِيَاطَتِهِ لِلْحُكَّامِ ; هَلْ أَنَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا؟ قَالَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَبِيعُكَ الْإِبْرَةَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ رَضِيَ بِأَمْرِ الظَّالِمِ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ ; كَانَ كَمَنْ شَهِدَهُ وَتَلَا الْآيَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .
3701 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا» .
ــ
3701 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا» ) ; أَيْ جَهِلَ، قَالَ تَعَالَى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] وَقَالَ الْقَاضِي: جَفَا الرَّجُلُ إِذَا غَلُظَ قَلْبُهُ وَقَسَا، وَلَمْ يَرِقَّ لِبِرٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِلَّةِ اخْتِلَاطِهِمْ بِالنَّاسِ، فَصَارَتْ طِبَاعُهُمْ كَطِبَاعِ الْوُحُوشِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ لِلنَّبْوِ عَنِ الشَّيْءِ، (وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ) ; أَيْ لَازَمَ اتِّبَاعَ الصَّيْدِ وَالْاشْتِغَالَ بِهِ، وَرَكِبَ عَلَى تَتَبُّعِ الصَّيْدِ كَالْحَمَامِ وَنَحْوِهِ لَهْوًا وَطَرَبًا (غَفَلَ) ; أَيْ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمْعَةِ، وَبَعُدَ عَنِ الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِشَبَهِهِ بِالسَّبُعِ وَالْبَهِيمَةِ، (وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ) ; أَيْ بَابَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ لِمَجِيئِهِ، (افْتُتِنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ وَافَقَهُ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَقَدْ خَاطَرَ عَلَى دُنْيَاهُ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.
وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنِ الْتَزَمَ الْبَادِيَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ وَلَا مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ ظَلَمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنِ اعْتَادَ الِاصْطِيَادَ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ يَكُونُ غَافِلًا ; لِأَنَّ اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ يَحْدُثُ مِنَ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا مَنِ اصْطَادَ لِلْقُوتِ فَجَازَ لَهُ ; لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَصْطَادُونَ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَدَاهَنَهُ وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُدَاهِنْ وَنَصَحَهُ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ; فَكَانَ دُخُولُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ) ; أَيْ لَازَمَهُ (افْتُتِنَ وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا) بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ ; أَيْ قُرْبًا (إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا:«مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» .
3702 -
«وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ ; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَفْلَحْتَ يَا قُدَيْمُ إِنْ مُتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا عَرِيفًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3702 -
(وَعَنِ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ) ; أَيْ يَدَيْهِ (عَلَى مَنْكِبَيْهِ) ، إِظْهَارًا لِلشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَتَنْبِيهًا لَهُ عَنْ حَالَةِ الْغَفْلَةِ، (ثُمَّ قَالَ: أَفْلَحْتَ) ; أَيْ ظَفِرْتَ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ (يَا قُدَيْمُ) تَصْغِيرُ مِقْدَامٍ تَرْخِيصٌ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ، كَقَوْلِ لُقْمَانَ يَا بُنَيَّ (إِنْ مُتَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا) ; أَيْ لَهُ (وَلَا عَرِيفًا) ; أَيْ وَاحِدَ الْعُرَفَاءِ، أَوْ وَلَا مَعْرُوفًا يَعْرِفُكَ النَّاسُ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخُمُولَ رَاحَةٌ وَالشُّهْرَةَ آفَةٌ، حُكِيَ عَنِ الشَّرِيفِ الْحَسِيبِ النَّسِيبِ ; مَوْلَانَا أَبُو عِزِّ بْنِ بَرَكَاتٍ وَالِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ; وَالَى عَلَيْهِ بَرَكَاتِ الرَّحْمَةِ - أَنَّهُ قَالَ: السَّعِيدُ مَنْ لَا يَعْرِفُنَا وَلَا نَعْرِفُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا ( «أَفْلَحَ مَنْ هُدَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ بِهِ» ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا ; أَيْ عَقْلًا كَامِلًا يَخْتَارُ الْبَاقِيَةَ عَلَى الْفَانِيَةِ وَيُعْرِضُ عَنِ الْعَاجِلَةِ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآجِلَةِ» ) .
3703 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ يَعْنِي الَّذِي يَعْشُرُ النَّاسَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
3703 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي النِّهَايَةِ هُوَ الضَّرِيبَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمَاكِسُ ; وَهُوَ الْعَشَّارُ (يَعْنِي) ; أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ (الَّذِي يَعْشُرُ النَّاسَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، فَفِي الْمَصَابِيحِ يُقَالُ: عَشَرْتُ الْمَالَ عُشْرًا مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَعُشُورًا أَخَذْتُ عُشْرَهُ، وَعَشَرْتُ الْقَوْمَ عَشْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ صِرْتُ عَاشِرَهُمْ، وَفِي الْقَامُوسِ عَشَرَ يَعْشُرُ أَخَذَ وَاحِدًا مِنْ عَشَرَةٍ، وَزَادَ وَاحِدًا عَلَى تِسْعَةٍ، وَالْقَوْمَ صَارَ عَاشِرَهُمْ وَعَشَرَهُمْ يَعْشُرُهُمْ عَشْرًا وَعُشُورًا وَعَشَّرَهُمْ: أَخَذَ عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ، وَالْعَشَّارُ قَابِضُهُ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ اسْحَقَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَرَادَ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ، فَأَمَّا السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، الْعُشْرَ الَّذِي صُولِحُوا عَلَيْهِ ; فَهُوَ مُحْتَسِبٌ مَا لَمْ يَتَعَدَّ فَيَأْثَمُ بِالتَّعَدِّي وَالظُّلْمِ. اهـ. وَكَذَا مَنْ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنْ مَالِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلَ دَارَنَا تَاجِرًا بِأَمَانٍ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
3704 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا وَفِي رِوَايَةٍ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ جَائِرٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
3704 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ) ; أَيْ أَكْثَرَهُمْ مَحْبُوبِيَّةً (إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ) ، وَفِي رِوَايَةٍ وَأَدْنَاهُمْ (مِنْهُ مَجْلِسًا) ; أَيْ مَكَانَةً وَمَرْتَبَةً، (إِمَامٌ عَادِلٌ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: قَبْلَ زَمَانِنَا مَنْ قَالَ لِسُلْطَانِ أَيَّامِنَا إِنَّهُ عَادِلٌ فَهُوَ كَافِرٌ، (وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا) ; أَيْ لِكَوْنِهِ أَقْوَاهُمْ حِجَابًا، (وَفِي رِوَايَةٍ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ) ; أَيْ ظَالِمٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَرَوَاهُ ابْنُهُ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا ( «إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ أَنْصَحُهُمْ لِعِبَادِهِ» ) .
3705 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
3705 -
(وَعَنْهُ) ; أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ) ; أَيْ جِهَادُ مَنْ قَالَ، أَوْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجِهَادِ مَنْ قَالَ:(كَلِمَةَ حَقٍّ) ; أَيْ قَوْلَ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَضَدُّهُ ضِدُّهُ (عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) ; أَيْ صَاحِبِ جَوْرٍ وَظُلْمٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَنْ تَكَلَّمَ كَلِمَةَ حَقٍّ ; لَا كَلِمَةَ حَقٍّ تَحْمِلُهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ وَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، لَا يَدْرِي هَلْ يَغْلِبُ، أَوْ يُغْلَبُ؟ وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ مَقْهُورٌ فِي يَدِهِ، فَهُوَ إِذَا قَالَ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَتْلَفَ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ ; مِنْ أَجْلِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ ; لِأَنَّ ظُلْمَ السُّلْطَانِ يَسْرِي فِي جَمِيعِ مَنْ تَحْتَ سِيَاسَتِهِ، وَهُوَ جَمٌّ غَفِيرٌ، فَإِذَا نَهَاهُ عَنِ الظُّلْمِ فَقَدْ أَوْصَلَ النَّفْعَ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ، بِخِلَافِ قَتْلِ كَافِرٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ ; وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا تَتَبَرَّأُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَتَبْعُدُ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْهَوْلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْلِيصَ مُؤْمِنٍ مِنَ الْقَتْلِ مَثَلًا أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ كَافِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، وَلِذَا قَدَّمَ كِتَابَ النِّكَاحِ عَلَى بَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ ; لِأَنَّ ; إِيجَادَ مُؤْمِنٍ أَفْضَلُ مِنْ إِعْدَامِ أَلْفِ كَافِرٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْجِهَادِ وُجُودُ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، هَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ السُّلْطَانِ التَّعْرِيفُ وَالْوَعْظُ، وَأَمَّا الْمَنْعُ بِالْقَهْرِ ; فَلَيْسَ ذَلِكَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الْفِتْنَةَ، وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ، وَيَكُونُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْمَحْذُورِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا التَّخَشُّنُ فِي الْقَوْلِ كَقَوْلِكُمْ: يَا ظَالِمَ يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ; فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يَتَعَدَّى شَرُّهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ التَّعَرُّضُ لِلْأَخْطَارِ وَالتَّصْرِيحُ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِهَلَاكِ الْمُهْجَةِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ جِهَادٌ وَشَهَادَةٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ; أَيْ: عَنْهُ.
3706 -
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ.
ــ
3706 -
(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ ( «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ.
3707 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْأَمِيرِ خَيْرًا ; جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ ; إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
3707 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ) ; أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْأَمِيرِ) ; أَيْ بِمَنْ يَكُونُ أَمِيرًا (خَيْرًا) فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ) ; أَيْ قَدَّرَ لَهُ وَزِيرًا صَادِقًا مُصْلِحًا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْوَزِيرُ الَّذِي يُؤَازِرُ الْأَمِيرَ، فَيَحْمِلُ عَنْهُ مَا حَمَلَهُ مِنَ الْأَثْقَالِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِزْرِ، وَهُوَ الْحِمْلُ وَالثِّقَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] ; أَيِ انْقَضَى أَمْرُهَا وَخَفَّتْ أَثْقَالُهَا، فَلَمْ يَبْقَ قِتَالٌ، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يُطْلَقُ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْإِثْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] فَيُمْكِنُ أَنَّ الْوَزِيرَ سُمِّيَ وَزِيرًا ; لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ وِزْرَ الْأَمِيرِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، (إِنْ نَسِيَ) ; أَيِ الْأَمِيرُ حُكْمَ اللَّهِ (ذَكَّرَهُ) بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ أَخْبَرَ الْأَمِيرَ بِهِ (وَإِنْ ذَكَرَ) بِالتَّخْفِيفِ ; أَيْ وَإِنْ تَذَكَّرَهُ الْأَمِيرُ بِنَفْسِهِ (أَعَانَهُ) ; أَيْ حَرَّضَهُ الْوَزِيرُ وَحَرَّضَهُ عَلَيْهِ (وَإِذَا أَرَادَ بِهِ) ; أَيِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمِيرِ (غَيْرَ ذَلِكَ) ; أَيْ شَرًّا (جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمَّةٍ (إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ) ; بَلْ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَصْلُ وَزِيرِ صِدْقٍ وَزِيرٌ صَادِقٌ، ثُمَّ وَزِيرُ صِدْقٍ عَلَى الْوَصْفِ بِهِ ذِهَابًا إِلَى أَنَّهُ نَفْسُ الصِّدْقِ وَمُجَسَّمٌ عَنْهُ ; يَعْنِي مُبَالَغَةً، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ لِمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، وَلَمْ يَرِدِ الصِّدْقُ الْاخْتِصَاصَ بِالْقَوْلِ فَقَطْ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ فَاضِلٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَبِالصِّدْقِ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) ، وَعَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَزِيرُ سُوءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ مِهْرَانَ مَرْفُوعًا:" «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا وَلَّى عَلَيْهِمْ حُلَمَاءَهُمْ وَقَضَى بَيْنَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي سُمَحَائِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا وَلَّى عَلَيْهِمْ سُفَهَاءَهُمْ وَقَضَى بَيْنَهُمْ جُهَّالُهُمْ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي بُخَلَائِهِمْ» ".
3708 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3708 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ) وَفِي مَعْنَاهُ الْوَزِيرُ (إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ التُّهْمَةَ (فِي النَّاسِ) ، بِأَنْ طَلَبَ عُيُوبَهُمْ وَتَجَسَّسَ ذُنُوبَهُمْ وَاتَّهَمَهُمْ فِي تَفَحُّصِ أَحْوَالِهِمْ، (أَفْسَدَهُمْ) ; أَيْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أُمُورَ مَعَاشِهِمْ، وَنِظَامَ مَعَادِهِمْ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ ذَمٍّ، فَلَوْ أَدَّبَهُمْ لِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بِهِمْ لَشَقَّ الْحَالُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَلْقِينِ الْمُعْتَرِفِ بِالذَّنْبِ دَفْعًا لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَيِّتًا» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ شِهَابٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، وَالْمِقْدَامِ وَأَبِي أُمَامَةَ.
3709 -
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
3709 -
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّكَ إِذَا اتَّبَعْتَ) مِنَ الِاتِّبَاعِ ; أَيْ تَتَبَّعْتَ (عَوْرَاتِ النَّاسِ) ; أَيْ عُيُوبَهُمُ الْخَفِيَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ ابْتَغَيْتَ ; أَيْ طَلَبْتَ ظُهُورَ مَعَايِبِهُمْ وَخَلَلِهِمْ (أَفْسَدْتَهُمْ) ; أَيْ حَكَمْتَ عَلَيْهِمْ بِالْفَسَادِ، أَوْ أَفْسَدْتَ أَمْرَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا عَمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ ; وَخَصَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَمِيرَ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْأَمِيرِ، بَلْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنَ اتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ مِنَ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ، لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْمُخَاطَبَ مُعَاوِيَةُ ; عَلَى إِرَادَةِ أَنَّهُ سَيَصِيرُ أَمِيرًا فَيَكُونُ مُعْجِزَةً لَكَانَ وَجْهًا وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ الْحَدِيثُ الْخَامِسُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
3710 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتُمْ وَأَئِمَّةً مِنْ بَعْدِي يَسْتَأْثِرُونَ بِهَذَا الْفَيْءِ؟ قُلْتُ أَمَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ أَضَعُ سَيْفِي عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِهِ حَتَّى أَلْقَاكَ قَالَ، أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، تَصْبِرُ حَتَّى تَلْقَانِيَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3710 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَنْتُمْ؟) ; قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَيْفَ؟ سُؤَالٌ عَنِ النَّاسِ، وَعَامِلُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ كَيْفَ تَصْنَعُونَ؟ فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ أُبْرِزَ الْفَاعِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100]، وَالْحَالُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ ; أَتَصْبِرُونَ أَمْ تُقَاتِلُونَ؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَضَعُ سَيْفِيَ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: تَصْبِرُ حَتَّى تَلْقَانِيَ وَقَوْلُهُ: (وَأَئِمَّةً مِنْ بَعْدِي) مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقَوْلُهُ:(يَسْتَأْثِرُونَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْعَامِلُ هُوَ الْمَحْذُوفُ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَوْنِ " أَئِمَّةً " بِالنَّصْبِ، وَأَمَّا عَلَى رَفْعِهَا كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، فَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَالْمَعْنَى كَيْفَ حَالُكُمْ؟ وَالْحَالُ أَنَّ أُمَرَاءَكُمْ يَنْفَرِدُونَ، (بِهَذَا الْفَيْءِ) وَيَخْتَارُونَهُ وَلَا يُعْطُونَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْفَيْءُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ; كَالْخَرَاجِ، وَالْجِزْيَةِ، وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ بِقِتَالٍ فَيُسَمَّى غَنِيمَةً. اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةُ وَفِي الْمُغْرِبِ: الْفَيْءُ بِالْهَمْزَةِ ; مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بَعْدَ مَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتَصِيرَ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ، حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخَمَّسُ، وَالْغَنِيمَةُ مَا نِيلَ مِنْهُمْ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ ; وَحُكْمُهَا أَنْ تُخَمَّسَ، وَسَائِرُ مَا بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْغَانِمِينَ خَاصَّةً، وَالنَّفَلُ مَا يَنْفِلُ الْغَازِي ; أَيْ يُعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْفَيْءُ فِي الْحَدِيثِ يَشْمَلُهَا إِظْهَارًا لِظُلْمِهِمْ، وَاسْتِئْثَارِهِمْ بِمَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ تَصْوِيرِ ظُلْمِهِمْ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ: يَعْنِي يَأْخُذُونَ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا حَصَلَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَيَسْتَخْلِصُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يُعْطُونَهُ لِمُسْتَحِقِّيهِ، (قُلْتُ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ) ; أَيْ بِالصِّدْقِ، أَوْ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ (أَضَعُ سَيْفِيَ عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِهِ) ; أَيْ أُحَارِبُهُمْ، (حَتَّى أَلْقَاكَ) ; أَيْ أَمُوتَ وَأَصِلَ (إِلَيْكَ) بِالشَّهَادَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ثُمَّ لِتَّرَاخِي رُتْبَةِ الضَّرْبِ عَنِ الْوَضْعِ، وَعَبَّرَ مِنْ كَوْنِهِ شَهِيدًا بِقَوْلِهِ: حَتَّى أَلْقَاكَ ; وَ (حَتَّى) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: كَيْ، وَبِمَعْنَى الْغَايَةِ (قَالَ: أَوَلَا أَدُلُّكَ؟) وَفِي نُسْخَةٍ أَفَلَا أَدُلُّكَ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: دَخَلَ حَرْفُ الْعَطْفِ بَيْنَ كَلِمَةِ التَّنْبِيهِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ وَجُعِلَتَا جُمْلَتَيْنِ ; أَيْ أَتَفْعَلُ هَذَا وَلَا أَدُلُّكَ؟ ( «عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ تَصْبِرُ» ) خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ; أَيِ اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَا تُحَارِبْهُمْ (حَتَّى تَلْقَانِيَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3711 -
عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» .
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3711 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَدْرُونَ) ; أَيْ تَعْلَمُونَ (مَنِ السَّابِقُونَ) مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، عَلَّقَتْ عَمَلَ الدِّرَايَةِ وَسَدَّتْ بِمَا بَعْدَهُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ ; أَيِ الْمُسَارِعُونَ (إِلَى ظِلِّ اللَّهِ) ; أَيْ ظِلِّ عَرْشِهِ، أَوْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (عَزَّ) ; أَيْ ذَاتُهُ (وَجَلَّ) ; أَيْ صِفَاتُهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفٌ لِلسَّبْقِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ إِذَا أُعْطِيَ لَهُمْ حَقُّهُمْ، أَوْ قِيلَ لَهُمْ كَلِمَةُ الْحَقِّ (قَبِلُوهُ) ; أَيْ أَخَذُوهُ، أَوِ انْقَادُوهُ (وَإِذَا سُئِلُوهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، (بَذَلُوهُ) وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ فِيهِمَا ; أَيْ وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ كَلِمَةِ الْحَقِّ ; أَجَابُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ، وَلَمْ يَخَافُوا فِيهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، أَوْ إِذَا طَالَبَهُمْ أَحَدٌ حَقَّهُ بَذَلُوهُ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيفَاءِ، (وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ) ; أَيْ لِلْأَجَانِبِ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا (كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ) ; أَيْ لِذَوَاتِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْحَقِّ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ لِمُطَابَقَةِ رَجُلِ الْبَابِ فِي حَقِّهِ لِدَوَرَانِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَالْحَقُّ يُقَالُ عَلَى أَوْجُهٍ: لِمُوجِدِ الشَّيْءِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَلِهَذَا قِيلَ فِي اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ الْحَقُّ وَلِمَا يُوجَدُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فِعْلُ اللَّهِ كُلُّهُ حَقٌّ، وَلِلْاعْتِقَادِ فِي الشَّيْءِ الْمُطَابِقِ لِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْفِعْلِ وَلِلْقَوْلِ الْوَاقِعِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ، وَقَدْرِ مَا يَجِبُ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ، كَقَوْلِنَا: فِعْلُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر: 6] وَيُقَالُ: أَحْقَقْتُ كَذَا ; أَيْ أَثْبَتُّهُ حَقًّا، أَوْ حَكَمَتْ بِكَوْنِهِ حَقًّا، قَالَ الطِّيبِي: يُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَعَانِي ; أَحَدُهَا: عَلَى الْفِعْلِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِالسَّابِقُونَ ; الْعَادِلُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ» " يَعْنِي ; إِذَا نَصَحَهُمْ نَاصِحٌ وَأَظْهَرَ كَلِمَةَ الْحَقِّ الْعَادِلُ قَبِلُوهَا، وَفَعَلُوا مُقْتَضَاهَا مِنَ الْبَذْلِ لِلرَّعِيَّةِ، وَمِنَ الْحُكْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَثَانِيهَا: عَلَى الْوَاجِبِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَطِيَّاتِ ; يَعْنِي إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِذَا أُعْطِيَ قَبِلَ، ثُمَّ بَذَلَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الْأَسْخِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ سِرًا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ:«خُذْهُ فَتَمَوَّلَهُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ» . الْحَدِيثَ. وَثَالِثُهُمَا: عَلَى مَا يُوجَدُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«كَلِمَةُ الْحَقِّ ضَالَّةُ الْحَكِيمِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُهَا وَيَعْمَلُ بِهَا وَيُعْلِمُهَا غَيْرَهُ، فَعِلْمُهُ بِهَا هُوَ الْقَبُولُ، وَتَعْلِيمُ الْغَيْرِ هُوَ الْبَذْلُ، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ الْحُكْمُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ ضَالَّةُ كُلِّ حَكِيمٍ ; فَالْمُرَادُ بِالسَّابِقِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ; هُمُ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.
3712 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ثَلَاثٌ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي: الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ وَحَيْفُ السُّلْطَانِ وَتَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ» .
ــ
3712 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ثَلَاثٌ) ; أَيْ مِنَ الْخِصَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثَةٌ ; أَيْ مِنَ الْأَفْعَالِ، (أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي) ; أَيْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهَا، أَوْ مِنْ عَدَمِ احْتِرَازِهِمْ عَنْهَا (الِاسْتِسْقَاءُ) ; أَيْ طَلَبُ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ (بِالْأَنْوَاءِ) ; أَيْ بِظُهُورِ الْكَوَاكِبِ، أَوْ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي السَّمَاءِ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأَنْوَاءُ هِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً يَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي مَنْزِلَةٍ مِنْهَا وَيَسْقُطُ فِي الْمَغْرِبِ كُلَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَنْزِلَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
وَتَطْلُعُ أُخْرَى فِي مُقَابَلَتِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ فِي الشَّرْقِ، فَيَنْقَضِي جَمِيعُهَا فِي انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ بِسُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ وَطُلُوعِ رَقِيبِهَا يَكُونُ مَطَرًا وَيَنْسِبُونَهُ إِلَيْهَا، فَيَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْءًا ; لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ السَّاقِطُ مِنْهَا بِالْمَغْرِبِ نَاءَ الطَّلْعُ بِالْمَشْرِقِ، مِنْ نَاءَ يَنُوءُ نَوْءًا ; أَيْ نَهَضَ وَطَلَعَ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالنَّوْءِ الْغُرُوبَ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَإِنَّمَا غَلَّظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَنْسِبُ الْمَطَرَ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَطَرَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ; أَيْ فِي وَقْتِ كَذَا وَهُوَ هَذَا النَّوْءُ الْفُلَانِيُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَطَرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَقُولُ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ ; هُوَ الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ سَدًّا لِلْبَابِ وَقَطْعَهُ لِلنَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ بِتَقْدِيرِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] ; أَيْ وَفِي وَقْتٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (وَحَيْفُ السُّلْطَانِ) ; أَيْ جَوْرُهُ وَظُلْمُهُ (وَتَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ) ; أَيْ بِأَنَّ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ وَحُلْوَهُ وَمُرَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ خَافَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُسْتَقِلَّةٌ، وَتَرَكَ النَّظَرَ إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَقَعَ فِي شَرَكِ الشِّرْكِ، وَمَنْ كَذَّبَ الْقَدَرَ، وَقَالَ: الْأَمْرُ أُنُفٌ ; وَقَعَ فِي حَرْفِ التَّعْلِيلِ، وَمَنِ افْتُتِنَ بِالسُّلْطَانِ الْجَائِرِ يَأْتِيهِ الضَّلَالُ.
3713 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سِتَّةَ أَيَّامٍ اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَكَ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ» .
ــ
3713 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي) ; أَيْ خُصُوصًا، أَوْ خِطَابًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَيَّامٍ) ظَرْفُ الْقَوْلِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ:(اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَكَ) ; أَيْ تَفَكَّرْ وَتَأَمَّلْ وَاحْفَظْ وَاعْمَلْ بِمُقْتَضَى مَا أَقُولُ لَكَ ; (بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَقِيلَ: (سِتَّةَ أَيَّامٍ) ظَرْفُ (اعْقِلْ) ; وَقَوْلُهُ: مَا يُقَالُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَيْ شَيْءٌ أَعْقِلُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، ( «فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِيُنَبِّهَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْدُ مَعْنًى يَجِبُ تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْكَلِمَةَ الْأُولَى لَوْ أَدَّى حَقَّهَا لَكَفَى بِهَا كَلِمَةً جَامِعَةً، قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام: ( «إِنِّي أَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتْهُمْ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] الْآيَةَ فَمَا زَالَ يَقْرَأُهَا وَيُعِيدُهَا» ) وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ( «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ شَيْءٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ ( «فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ; أَيْ تُنَزِّهُ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّكَ عَنِ الْحَقِّ وَتُوَجِّهُ بِسَرَائِرِكَ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَقَوْلُهُ:(وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَمُقْتَضَى الْبَهِيمِيَّةِ، وَالسَّبُعِيَّةِ، وَالْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا ثَارَتْ مِنْ تِلْكَ الرَّذَائِلِ رَذِيلَةٌ يُطْفِئُهَا بِمُقْتَضَى الْمَلَكِيَّةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» ) وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ ; أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ مَعْصِيَةً يُحْدِثُهَا تَوْبَةً، أَوْ طَاعَةً، وَإِذَا أَسَاءَ إِلَى شَخْصٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] الْآيَةَ (وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا) ; أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ (شَيْئًا) فِيهِ انْتِهَاءُ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ) تَتْمِيمٌ لَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ ذُلٌّ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْعَزِيزِ الْكَرِيمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَرَامٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الشِّكَايَةِ مِنَ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، وَلِذَا كَانَ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ. وَفِي حَدِيثِ: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَسَلِ الصَّالِحِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْفِرَاسِيِّ (وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً) ; أَيْ مِنَ النَّاسِ بِلَا ضَرُورَةِ مَخَافَةَ الْخِيَانَةِ وَلِكَوْنِهَا
مَظِنَّةَ التُّهَمَةِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ثِقَلِ مَحْمِلِهَا، وَصُعُوبَةِ أَدَائِهَا، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَهُ مِنَ التَّكْلِيفَاتِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72](وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ) ; أَيْ لَا تَحْكُمْ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:( «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ) وَسَيَأْتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَهَى أَبَا ذَرٍّ عَنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُصُومَةِ ; لِضَعْفِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْإِمَارَةَ ; قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»
".
3714 -
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَاهُ اللَّهَ عز وجل مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ــ
3714 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَاهُ اللَّهُ عز وجل ; أَيْ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، أَوْ مَلَائِكَتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَّا أَتَى اللَّهَ وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ) ; أَيْ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (يَدُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِ (مَغْلُولًا) ، (وَإِلَى عُنُقِهِ) حَالٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا بِ (مَغْلُولًا) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَ (إِلَى عُنُقِهِ) خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَحِينَئِذٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ; إِمَّا ظَرْفٌ لَ (أَتَاهُ) وَهُوَ الْأَوْجَهُ، أَوْ لِ (مَغْلُولًا) ، وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَأْنَفَةً كَانَتْ بَيَانًا لِ (مَغْلُولًا) ، وَالْجُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ لِلْمَجْمُوعِ، كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ أَوَّلًا عَنْ كَيْفِيَّةِ هَيْئَةِ الْمَغْلُولِ؟ فَأُجِيبَ: يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ سَأَلَ ثَانِيًا: فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُجِيبَ: (فَكَّهُ بِرُّهُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ خَلَّصَهُ عَدْلُهُ وَإِحْسَانُهُ (أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ) ; أَيْ أَهْلَكَهُ ظُلْمُهُ وَعِصْيَانُهُ (أَوَّلُهَا) ; أَيِ ابْتِدَاءُ الْإِمَارَةِ (مَلَامَةٌ) ; أَيْ عِنْدِ أَهْلِ السَّلَامَةِ (وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ) ; أَيْ لِلنَّفْسِ الْلَوَّامَةِ (وَآخِرُهَا) ; أَيْ نَتِيجَتُهَا (خِزْيٌ) ; أَيْ فَضِيحَةٌ تَامَّةٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَإِنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ سُؤَالُ وَجَوَابٍ ; أَوْرَدَهُمَا الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ آخِرُ الشَّيْءِ مُنْقَضَاهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَخِرُهُ غَيْرُهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِمَارَةَ تَنْقَضِي فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْخِزْيُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِرَهُ؟ قُلْتُ: تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْإِمَارَةِ مُسْتَمِرَّةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: أَوَّلُهُمَا مَلَامَةٌ ; إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْوِلَايَةِ الْغَالِبَ غَيْرُ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ، يَنْظُرُ إِلَى مَلَاذِهَا ظَاهِرًا فَيَحْرِصُ فِي طَلَبِهَا، وَيَلُومُهُ أَصْدِقَاؤُهُ، ثُمَّ إِذَا بَاشَرَهَا يَلْحَقُهُ تِبَاعَتُهَا وَمَا تَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ وَخَامَةِ عَاقِبَتِهَا ; نَدَمٌ وَفِي الْآخِرَةِ خِزْيٌ وَنَكَالٌ. وَهَذَا عَلَى رَأَيِ مَا قَالَ: إِنَّ الْجُمَلَ الْمُتَنَاسِقَةَ ; إِذَا أُتِيَ بِقَيْدٍ بَعْدَهَا بِالْأَخِيرِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا تَكُونُ الْمَلَامَةُ وَالنَّدَامَةُ وَالْخِزْيُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: أَتَاهُ اللَّهُ عز وجل مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَإِنَّ إِتْيَانَهُ مَغْلُولًا يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ هُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ.
3715 -
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاوِيَةُ إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ وَاعْدِلْ قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ابْتُلِيتُ» .
ــ
3715 -
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاوِيَةُ إِنْ وُلِّيتَ) بِضَمِّ وَاوٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ; أَيْ جُعِلْتَ وَالِيًا (أَمْرًا) ; أَيْ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَةِ وَالْحُكُومَةِ (فَاتَّقِ اللَّهَ) ; أَيْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ (وَاعْدِلْ) ; أَيْ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ (قَالَ) ; أَيْ مُعَاوِيَةُ (فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ابْتُلِيتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَحَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: أَظُنُّ، أَوْ فَمَا زِلْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّسَبُّبِ ; يَعْنِي بِسَبَبِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحُصُولِ ظَنِّي فَإِنَّ حَمْلَ " إِنْ " قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:(إِنْ وُلِّيتَ) عَلَى الْجَزْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ:" إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " وَكَأَنَّ الْمَلَكَ أَخْبَرَهُ بِالْقَضِيَّةِ، كَانَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] فَيَكُونُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي (حَتَّى) نَقْلًا مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَإِنْ حُمِلَ التَّرْدِيدُ فَالظَّنُّ مَجْرِيٌّ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّ تَرْدِيدَ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; لَا يَكُونُ إِلَّا رَاجِحًا عِنْدَ أُمَّتِهِ فَمَعْنَى الْغَايَةِ فِي (حَتَّى) النَّقْلُ مِنَ الظَّنِّ إِلَى الْيَقِينِ.
3716 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» . رَوَى الْأَحَادِيثَ السِّتَّةَ أَحْمَدُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
ــ
3716 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ» ) ; أَيْ مِنْ فِتْنَةٍ تَنْشَأُ فِي ابْتِدَاءِ السَّبْعِينَ مِنْ تَارِيخِ الْهِجْرَةِ، أَوْ وَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام، (وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ وَمِنْ حُكُومَةِ الصِّغَارِ الْجُهَّالِ كَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَوْلَادِ الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمْثَالِهِمْ وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ " وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ " حَالٌ ; أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الصِّبْيَانَ أُمَرَاءُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ أُمَّتِي، وَهُمْ أُغَيْلِمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ يَلْعَبُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي الْمَنَامِ ; أَنَّ وَلَدَ الْحَكَمِ يَتَدَاوَلُونَ الْمِنْبَرَ كَمَا يَتَدَاوَلُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ، (رَوَى الْأَحَادِيثَ السِّتَّةَ) ; أَيْ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ (أَحْمَدُ) وَوَافَقَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَفْظُهُ «إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ عَنِ الْإِمَارَةِ، وَمَا هِيَ ; أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ، وَثَالِثُهَا عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ عَدَلَ» . (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ: أَتُحِبُّ عَلِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَيْنَكُمَا هُنَيَّةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَفْوُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ، قَالَ: رَضِينَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَنَزَلَ ; {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] » كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ.
3717 -
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمَا تَكُونُونَ كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ» .
ــ
3717 -
(وَعَنْ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَالسَّبِيعِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَمَا تَكُونُونَ) ; أَيْ مِثْلُ مَا تَكُونُونَ فِي الصَّلَاحِ وَضِدِّهِ (كَذَلِكَ) ; أَيْ مِثْلُهُ وَعَلَى وَفْقِهِ (يُؤَمَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ يُجْعَلُ أَمِيرًا وَحَاكِمًا (عَلَيْكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ (يُؤَمَّرُ) ، وَكَذَلِكَ جِيءَ بِهِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِلتَّشْبِيهِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: أَعْمَالُكُمْ عُمَّالُكُمْ، وَالْحَدِيثُ يُوَضِّحُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي لِأَبِي الدَّرْدَاءِ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِلَفْظِ " «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السِّبِيعِيِّ مُرْسَلًا اهـ. وَقَوْلُهُ: كَمَا تَكُونُوا بِحَذْفِ النُّونِ ; وَيُوَلَّى بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ أَلِفًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي لَفْظِ الزَّرْكَشِيِّ وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ جُمَيْعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَفِي مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ لِابْنِ الرَّبِيعِ ; حَدِيثُ " كَمَا تَكُونُونَ " بِإِثْبَاتِ النُّونِ " يُوَلَّى عَلَيْكُمْ "، أَوْ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الشَّكِّ، أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ (يُؤْمَرُ عَلَيْكُمْ بِدُونِ شَكٍّ ; وَبِحَذْفِ أَبِي بَكْرَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنُ هَاشِمٍ، وَهُوَ فِي عِدَادِ مَنْ يَضَعُ اهـ. وَوَجْهُ حَذْفِ النُّونِ أَنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ عَمِلَتْ عَمَلَ (أَنْ) كَمَا أَنَّهَا عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بِالرَّفْعِ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ.
3718 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا عَدَلَ ; كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ، وَإِذَا جَارَ كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ» .
ــ
3718 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ» ) وَفِي رِوَايَةٍ ظِلُّ الرَّحْمَنِ (فِي الْأَرْضِ) ; لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ كَمَا يَدْفَعُ الظِّلُّ أَذَى حَرِّ الشَّمْسِ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالظِّلِّ عَنِ الْكَنَفِ وَالْحِمَايَةِ ; كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ظِلُّ اللَّهِ تَشْبِيهٌ وَقَوْلُهُ ( «يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ مِنْ عِبَادِهِ» ) جُمْلَةٌ مُبِيِّنَةٌ، كَمَا شُبِّهَ بِهِ السُّلْطَانُ بِالظِّلِّ ; أَيْ لِمَا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَرْوِحُونَ إِلَى بَرْدِ الظِّلِّ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ ; كَذَلِكَ يَسْتَرْوِحُونَ إِلَى بَرْدِ عَدْلِهِ مِنْ حَرِّ الظُّلْمِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ ظِلٌّ لَيْسَ كَسَائِرِ الظِّلَالِ ; بَلْ لَهُ شَأْنٌ وَمَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِاللَّهِ، لَمَّا جُعِلَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَنْشُرُ عَدْلَهُ وَإِحْسَانَهُ فِي عِبَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا ظِلَّ اللَّهِ، يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَلْهُوفٍ يَأْوِي هُوَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى ظِلِّ عَرْشِهِ ; يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ( «فَإِذَا عَدَلَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ وَإِذَا جَارَ» " وَفِي رِوَايَةٍ، أَوْ حَافَ، أَوْ ظَلَمَ (كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْوِزْرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ) ; فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ نِعْمَةٌ وَمِنْحَةٌ، وَالسُّلْطَانُ الظَّالِمُ نِقْمَةٌ وَمِحْنَهٌ {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] ; أَيْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، إِذْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ» " وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ دَلَّتِ الْإِضَافَةُ وَقَوْلُهُ: يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ ; أَنَّ السُّلْطَانَ عَادِلٌ ; فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا جَارَ كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ؟ قُلْتُ: قَوْلُةُ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ، بَيَانٌ لِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِذَا جَارَ كَأَنَّهُ خَرَجَ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ ظِلَّ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] فَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَنَهَى عَمَّا لَا يُنَاسِبُ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّقْسِيمُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْأَغْلَبِ عَلَيْهِ ; مِنَ الْعَدْلِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوْ بِخُصُوصِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ ; فَيَجِبُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَلِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ: "«سَيَلِيكُمْ أُمَرَاءُ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَهُمُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ» "، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ السُّلْطَانَ حِينَ ظُلْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ ظِلَّ الشَّيْطَانِ ; لَكِنَّهُ بِإِرَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: السُّلْطَانُ الْعَادِلُ الْمُتَوَاضِعُ ظِلُّ اللَّهِ وَرُوحُهُ فِي الْأَرْضِ، يَرْفَعُ لَهُ عَمَلَ سَبْعِينَ صِدِّيقًا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ غَشَّهُ ضَلَّ وَمَنْ نَصَحَهُ اهْتَدَى، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ: " السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ بَلَدًا لَيْسَ فِيهِ سُلْطَانٌ فَلَا يُقِيمَنَّ بِهَا "، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَأْوِي إِلَيْهِ الضَّعِيفُ وَبِهِ يَنْتَصِرُ الْمَظْلُومُ وَمَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
3719 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; إِمَامٌ عَادِلٌ رَفِيقٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ جَائِرٌ خَرِقٌ» .
ــ
3719 -
(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ رَفِيقٌ» ) ; أَيْ لَيِّنُ الْجَانِبِ مَعَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، لَطِيفٌ مَعَ الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ ( «وَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ ; مَا لَا يَخْفَى مِنَ النُّكْتَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سَيِّئُ الْمُعَامَلَةِ (إِمَامٌ جَائِرٌ) ; أَيْ ظَالِمٌ (خَرِقٌ) بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ ; صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْخَرْقِ ; وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخَرَقُ شُؤْمٌ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ بَابَ الرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ وَإِنَّ الْخَرَقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ» " الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجُعِلَ الرَّفِيقَ لِلْعَادِلِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَهُ بِالْعَادِلِ ; رَأَى أَنَّ الْوَصْفَ بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ غَيْرُ وَافٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَادِلُ جَافِيًا غَلِيظَ الْقَلْبِ فَكَمَّلَهُ بِالرَّفِيقِ، وَجَعَلَ الْجَائِرَ مُرَدِفًا بِالْخَرَقِ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ ; لِأَنَّ الثَّانِي زَادَ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْجَفَاءَ وَالْغِلْظَةَ تَزِيدُ فِي جَوْرِهِ وَخَرَقِهِ.
3720 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ نَظْرَةً يُخِيفُهُ أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى: هَذَا مُنْقَطِعٌ وَرِوَايَتُهُ ضَعِيفٌ.
ــ
3720 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ) ; أَيِ الْمُسْلِمِ (نَظْرَةً يُخِيفُهُ) جَوَّزَ أَنْ يَكُنْ حَالًا مِنْ فَاعِلِ نَظَرَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ عَلَى حَذْفِ الرَّاجِعِ ; أَيْ بِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ (يُخِيفُهُ بِهَا فِي غَيْرِ حَقٍّ) ، (أَخَافَهُ اللَّهُ) ; أَيْ بِنَظَرِ غَضَبٍ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ، وَذَكَرَ أَخِيهِ لِلْاسْتِعْطَافِ ; يَعْنِي أَنَّ الْأُخُوَّةَ تَقْتَضِي الْأُمْنِيَةَ لَا سِيَّمَا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، قُلْتُ: وَإِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخَافَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ بِمَا فَوْقَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَظْلَمَةِ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِهِ ; أَنَّ مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ إِلَى أَخِيهِ ; نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعِنَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا رَوَى الْحَكِيمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ; أَيْضًا: بِلَفْظِ ( «مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ نَظْرَةَ وُدٍّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، (رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى) ; أَيْ فِي شَأْنِهِ (هَذَا مُنْقَطِعٌ) ; أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ عِلَّةُ الِانْقِطَاعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّهُ حَذَفَ الصَّحَابِيَّ وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يَضُرُّ إِذِ الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَكِنْ يَضُرُّهُ قَوْلُهُ:(وَرِوَايَتُهُ ضَعِيفٌ) ; أَيْ وَرِوَايَةُ يَحْيَى ضَعِيفَةٌ بَلْ قِيلَ إِنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَذَكَّرَ (ضَعِيفٌ) لِكَوْنِ الْفَعِيلِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ أَصْلِهِ وَرِوَايَةٌ ضَعِيفٌ، وَوُضِعَ عَلَيْهِ رَمْزٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ يَحْيَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
3721 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالِي يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مَالِكُ الْمُلُوكِ، وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي ; حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ بِالسُّخْطَةِ وَالنِّقْمَةِ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَكِنِ اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ كَيْ أَكْفِيَكُمْ مُلُوكَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ.
ــ
3721 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ) ; أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ (أَنَا اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى أُسْلُوبِ أَنَا أَبُو النَّجْمِ ; أَيْ أَنَا الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوِ الْمَعْبُودُ، وَقَوْلُهُ:(لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَقَوْلُهُ: ( «مَالِكُ الْمُلُوكِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ» ) مِنْ بَابِ التَّدَلِّي لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَوِ الثَّانِي مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَمَلِكُ الْمُلُوكِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَالِكُ الْمُلُوكِ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فَإِنَّ الْمَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الْمَالِكِ ; وَأَقْوَى تَصَرُّفًا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَالِكَ ; هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْمَلِكُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمَأْمُورِينَ، وَقِيلَ الْمَالِكُ أَجْمَعُ وَأَوْسَعُ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَالِكُ الطَّيْرِ وَالدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ وَكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ: إِلَّا مَلِكُ النَّاسِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي حَدِّ ذَاتِهِمَا كَمَا حَقَّقَ فِي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] بِاعْتِبَارِ قِرَاءَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ مَالِكَ الْمُلُوكِ أَبْلَغُ مِنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَلِهَذَا قَدْ يُطْلَقُ الثَّانِي عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى ; أَنَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ جِنْسَ الْمُلُوكِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِيمَا يَمْلِكُونَ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: ( «قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي» ) اسْتِئْنَافٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّصَرُّفِ التَّامِّ فِيهِ، وَقَوْلُهُ:(وَإِنَّ الْعِبَادَ) الْوَاوُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ: فَإِنَّ الْعِبَادَ (إِذَا أَطَاعُونِي) ; أَيْ أَكْثَرُهُمْ (حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ) ; أَيْ قَلَّبْتُ قُلُوبَ ظَلَمَتِهِمْ (عَلَيْهِمْ) ; أَيْ عَلَى عِبَادِي (بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ) ; أَيْ شِدَّةِ الرَّأْفَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ ; الرَّأْفَةُ أَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَلَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالرَّحْمَةُ قَدْ تَقَعُ فِيهَا لِمَصْلَحَةٍ، (وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ) ; أَيْ قُلُوبَ مُلُوكِهُمُ الْعَادِلِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ حَذْفَ (عَلَيْهِمْ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا لَا يَضُرُّهُمْ (بِالسَّخْطَةِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْكَرَاهَةِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالشَّيْءِ (وَالنِّقْمَةِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيِ الْكَرَاهَةِ وَالْعُقُوبَةِ ; فَفِي الصِّحَاحِ: نَقِمْتُهُ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ ; أَيْ عَاقَبَهُ، وَالْاسْمُ مِنْهُ النِّقْمَةُ اهـ. وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8]