المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب العمل في القضاء والخوف منه] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: ‌[باب العمل في القضاء والخوف منه]

3730 -

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَعَثَ عُمَّالَهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا تَرْكَبُوا بِرْذَوْنًا وَلَا تَأْكُلُوا نَقِيًّا وَلَا تَلْبَسُوا رَقِيقًا وَلَا تُغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ دُونَ حَوَائِجِ النَّاسِ فَإِنْ فَعَلْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّتْ بِكُمُ الْعُقُوبَةُ، ثُمَّ يُشَيِّعُهُمْ، رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

ــ

3730 -

(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَعَثَ عُمَّالَهُ) بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ جَمْعُ عَامِلٍ ; أَيْ حُكَّامَهُ (شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا تَرْكَبُوا) بِالْخِطَابِ حِكَايَةً لِلَفْظِهِ (بِرْذَوْنًا) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ ; أَيْ خَيْلًا تُرْكِيًّا فِي الْمُغْرِبِ، الْبِرْذَوْنُ التُّرْكِيُّ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْجَمْعُ بَرَاذِينُ، وَخِلَافُهَا الْعِرَابُ وَالْأُنْثَى بِرْذَوْنَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِذَا جَعَلَ الْعِلَّةَ لِلنَّهْيِ عَنْ رُكُوبٍ الْخُيَلَاءَ وَالتَّكَبُّرَ ; كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْعِرَابِ أَحْرَى وَأَوْلَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخُيَلَاءُ وَالتَّكَبُّرُ عَنْ تَخَيُّلِ فَضِيلَةٍ تَرَاءَتْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا تَئُولُ لَفْظُ الْخَيْلِ لِمَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ فَرَسًا إِلَّا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَحْوَهُ، (وَلَا تَأْكُلُوا نَقِيًّا وَهُوَ مَا نُخِلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا تَلْبَسُوا رَقِيقًا، وَلَا تُغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ دُونَ حَوَائِجِ النَّاسِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّتْ بِكُمُ الْعُقُوبَةُ ; أَيْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْعُقْبَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَالنَّهْيُ عَنْ رُكُوبِ الْبِرْذَوْنِ ; نَهْيٌ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَعَنْ أَكْلِ النَّقِيِّ وَلُبْسِ الرَّقِيقِ ; نَهْيٌ عَنِ التَّنَعُّمِ وَالسَّرَفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الِاحْتِجَابِ ; نَهْيٌ عَنْ تَقَاعُدِهِمْ عَنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ وَالْاشْتِغَالِ عَنْهُمْ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِهِ، (ثُمَّ يُشَيِّعُهُمْ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ ; وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (شَرَطَ)، وَالْمُشَايَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ ; لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«مَشَى مَعَ الْغُزَاةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حِينَ وَجَّهَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: انْطَلَقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ» . رَوَاهُمَا) ; أَيِ الْحَدِيثَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

ص: 2425

[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3731 -

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ

عَطَفَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3731 -

(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَقْضِيَنَّ) ; أَيْ لَا يَحْكُمَنَّ الْبَتَّةَ (حَكَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ حَاكِمٌ (بَيْنَ اثْنَيْنِ) أَيْ مُتَخَاصِمَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَانُ) بِلَا تَنْوِينٍ ; أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ حَالَ الْغَضَبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ فِي مَسْأَلَتِهِمَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالْمَرَضِ، فَإِنْ حَكَمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ; نَفَذَ حُكْمُهُ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2425

3732 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3732 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ) عَطَفَ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى تَأْوِيلِ: أَرَادَ الْحُكْمَ (فَأَصَابَ) عَطْفٌ عَلَى (فَاجْتَهَدَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْوَاوِ ; أَيْ: وَقَعَ اجْتِهَادُهُ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ (فَلَهُ أَجْرَانِ) ; أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ وَالْجُمْلَةُ جَزَاءُ الشَّرْطِ (وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَأَخْطَأَ (فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا يُؤْجَرُ الْمُخْطِئُ عَلَى اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ ; وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ يُوضَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فَقَطْ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ جَامِعًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ، عَارِفًا بِالْأُصُولِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًا لِلْاجْتِهَادِ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ وَلَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ بَلْ

ص: 2425

يُخَافُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: " «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ» " وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ الْأُصُولِ ; الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الشَّرِيعَةِ وَأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ ; فَإِنَّ مَنْ أَخْطَأَ فِيهَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي الْخَطَأِ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ مَرْدُودًا، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ; أَمِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْ وَافَقَ الْحُكْمَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ سُمِّيَ مُخْطِئًا وَلَوْ كَانَ مُصِيبًا لَمْ يُسَمَّ مُخْطِئًا ; وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ، أَوِ اجْتَهَدَ فِيمَا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ قَالَ: قَدْ جُعِلَ لِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ، وَلَوْلَا إِصَابَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْاجْتِهَادِ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ حُكْمٍ ; فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ، وَلَا يَنْفُذُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحُكْمَ أَمْ لَا ; لِأَنَّ إِصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ اهـ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا لَا يُوجَدُ بَيَانُهُ فِي النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ; فَلَا إِمْكَانَ لَهُ إِلَّا الْقِيَاسُ ; فَيَكُونُ كَمُتَحَرِّي الْقِبْلَةَ فَإِنَّهُ مُصِيبٌ وَإِنْ أَخْطَأَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَحْمَدُ وَالسِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 2426

الْفَصْلُ الثَّانِي

3733 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3733 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ جُعِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ مَنْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ ( «قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ; الْأَوَّلَ: قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ الْقَتْلَ بِغَيْرِهِ كَالْخَنْقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَالْإِحْرَاقِ، وَالْحَبْسِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّهُ أَصْعَبُ وَأَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسِّكِّينِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ التَّعْذِيبِ وَامْتِدَادِ مُدَّتِهِ، الثَّانِيَ: أَنَّ الذَّبْحَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ بِالسِّكِّينِ ; فَعَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي أَرَادَ بِهِ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكِ دِينِهِ دُونَ هَلَاكِ بَدَنِهِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ: قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَشَتَّانَ بَيْنِ الذَّبْحَيْنِ فَإِنَّ الذِّبْحَ بِالسِّكِّينِ عَنَاءُ سَاعَةٍ، وَالْآخَرَ عَنَاءُ عُمْرٍ بَلْهَ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; الثَّالِثَ: قَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ جَمِيعُ دَوَاعِيهِ الْخَبِيثَةِ وَشَهَوَاتِهِ الرَّدِيئَةِ، فَهُوَ مَذْبُوحٌ بِغَيْرِ سِكِّينٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَعَلَى هَذَا الْقَضَاءُ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: تَحْذِيرٌ عَلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ ; وَتَنْبِيهٌ عَلَى التَّوَقِّي مِنْهُ ; لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْأَخْطَارِ الْمُرْدِيَةِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: خَطَرُ الْقُضَاةِ كَثِيرٌ وَضَرَرُهُ عَظِيمٌ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا عَدَلَ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ مَائِلَةٌ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ، أَوْ يَخْدِمُهُ، أَوْ مَنْ لَهُ مَنْصِبٌ يُتَوَقَّى جَاهُهُ، أَوْ يُخَافُ سَلْطَنَتُهُ، وَرُبَّمَا يَمِيلُ إِلَى قَبُولِ الرِّشْوَةِ وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 2426

3734 -

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3734 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ ابْتَغَى) ; أَيْ طَلَبَ فِي نَفْسِهِ (الْقَضَاءَ) ; أَيِ الْحُكُومَةَ الشَّامِلَةَ لِلْإِمَارَةِ (وَسَأَلَ) ; أَيْ وَطَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ (وُكِلَ) بِضَمِّ وَاوٍ فَكَافٍ مُخَفَّفَةٍ مَكْسُورَةٍ (إِلَى نَفْسِهِ) ; أَيْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ وَخُلِّيَ مَعَ طَبْعِهِ وَمَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ (وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ) ; أَيْ وَاخْتَارَهُ بِحُكْمِ إِجْبَارِهِ، أَوْ تَعْيِنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ (أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا) ; أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ (يُسَدِّدُهُ) ; أَيْ يَحْمِلُهُ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ ابْتَغَى وَسَأَلَ ; إِظْهَارًا لِحِرْصِهِ ; فَإِنَّ النَّفْسَ مَائِلَةٌ إِلَى حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبِ التَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ فَمَنْ مَنَعَهَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهَا وَسَأَلَ الْقَضَاءَ هَلَكَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الشُّرُوعِ فِيهِ إِلَّا بِالْإِكْرَاهِ وَفَى الْإِكْرَاهِ قَمْعُ هَوَى النَّفْسِ، فَحِينَئِذٍ يُسَدَّدُ وَيُوَفَّقُ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ مَنْ قَالَ: مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ جَمِيعُ دَوَاعِيهِ الْخَبِيثَةِ وَشَهَوَاتِهِ الرَّدِيئَةِ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَمَجْلِسِهِ» " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا ; أَيْضًا: " «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَرْفَعْ صَوْتُهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرَ» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2426

3735 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ ; فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3735 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» ) ; أَيْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ (وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ) ; أَيْ عَالِمًا بِهِ مُتَعَمِّدًا لَهُ ( «فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» )، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَتَرَكَ أَدَاةَ التَّفْصِيلِ فِيهَا ظَاهِرًا لِئَلَّا يُسْلَكَا فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا ظَاهِرًا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَمَّا الَّذِي فِي النَّارِ فَرَجُلٌ كَذَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7] ; أَيْ فَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فَيَقُولُونَ - وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ -، وَالْفَاءُ فِي (فَرَجُلٌ) جَوَابٌ لِ (مَا) ، وَفِي (فَقَضَى) مُسَبَّبٌ عَنْ عَرَفَ، وَالْمُسَبِّبُ صِفَةُ (رَجُلٌ) ، وَالْفَاءُ فِي (فَجَارَ) مِثْلُهَا فِي (فَقَضَى)، لَكِنْ عَلَى التَّعْكِيسِ يَعْنِي: عِرْفَانُ الْحَقِّ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَقِّ ; فَعَكَسَ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْجَوْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ; أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمُ التَّكْذِيبَ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّصْدِيقِ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ فِي النَّارِ ; خَبَرُ (رَجُلٌ) وَهُوَ جَوَابٌ، أَمَّا الْمُقَدَّرُ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَعَلَى جَهْلٍ: حَالٌ، مِنْ فَاعِلِ قَضَى ; أَيْ قَضَى لِلنَّاسِ جَاهِلًا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَفَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» ) ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ ( «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ قَضَى بِالْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» ) وَفَى رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ عَنْ بُرَيْدَةَ ( «قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُمَا فِي النَّارِ» ) .

ص: 2427

3736 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3736 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ» ) ; أَيْ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الْقَضَاءَ (ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ) ; أَيْ قَوِيَ عَدْلُهُ عَلَى جَوْرِهِ ; بِحَيْثُ مَنَعَهُ عَنِ الْجَوْرِ، أَوِ الظُّلْمِ فِي الْحُكْمِ ; (فَلَهُ الْجَنَّةُ) ; أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ يَقُلْ قَوْلُهُ: (حَتَّى) غَايَةٌ لِلطَّلَبِ، وَ (حَتَّى) لِلتَّدَرُّجِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي الطَّلَبِ، وَبَلَغَ مَجْهُودُهُ فِيهِ، ثُمَّ نَالَهُ، فَمِثْلُ هَذَا مَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ، فَكَيْفَ يَغْلِبُ عَدْلُهُ جَوْرَهُ؟ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ:( «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ» ) فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الطَّالِبُ رَجُلَانِ ; رَجُلٌ مُؤَيَّدٌ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ كَالصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، فَإِذَا طَلَبَهُ بِحَقِّهِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ مَوْكُولًا إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ، وَرَجُلٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَغْلِبُ جَوْرُهُ عَدْلَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:( «وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى فَهَمِ بَعْضِ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَوْلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَلَبَةِ أَنْ يَزِيدَ مَا عَدَلَ فِيهِ عَلَى مَا جَارَ وَهَذَا بَاطِلٌ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا، مَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَلَبَةِ فِي كِلَا الصِّيغَتَيْنِ أَنْ تَمْنَعَهُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى ; فَلَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ ; يَعْنِي فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يَعْدِلُ يَعْنِي فِي الثَّانِي، قُلْتُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ ; لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ ظُلْمُهُ

ص: 2427

بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدْلِهِ فَلَهُ النَّارُ ; أَيْضًا، وَيُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَنْ لَا يَعْدِلُ أَصْلًا أَنَّهُ فِي النَّارِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» " وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ ; وَثَانِيهَا: مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ: أَنَّ مَنْ قَوِيَ عَدْلُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْعُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ جَوْرٌ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ عَيْنُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; وَثَالِثُهَا: مَا قَالَهُ الْقَاضِي: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ فِي بَدْءِ فِطْرَتِهِ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَوْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْرِضُ لَهُ دَوَاعٍ دَاخِلِيَّةٌ وَأَسْبَابٌ خَارِجِيَّةٌ تَتَعَارَضُ وَتَتَصَارَعُ ; فَيَجْذِبُهُ هَؤُلَاءِ مَرَّةً، وَهَؤُلَاءِ أُخْرَى، حَتَّى يُفْضِيَ التَّطَارُدُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ، وَيَقْهَرَ الْآخَرَ فَيَنْقَادَ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَسْتَقِرَّ عَلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَالْحَاكِمُ إِنْ وُفِّقَ لَهُ حَتَّى غَلَبَ لَهُ أَسْبَابُ الْعَدْلِ قَائِمًا فِيهِ دَوَاعِيهِ ; صَارَ بِشَرَارَةٍ مَائِلًا إِلَى الْعَدْلِ، مَشْغُوفًا بِهِ، مُتَحَاشِيًا عَمَّا يُنَافِيهِ، فَيَنَالُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ عَدَلَ بِأَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ جَارَ بَيْنَ النَّاسِ وَنَالَ بِشُؤْمِهِ النَّارَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ وَتَوْجِيهٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا تَغْفَلْ. نَعَمْ لَهُ مَعْنًى ثَانٍ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ عَدْلِهِ، وَجَوْرِهِ، وَصَوَابِهِ، وَخَطَأِهِ فِي الْحُكْمِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ ; فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، كَمَا قَالُوهُ فِي حَقِّ الْمُفْتِي، وَالْمُدَرِّسِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:" «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَحِفْ عَمْدًا» " كَمَا سَيَأْتِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2428

3737 -

«وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

3737 -

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) ; أَيْ وَالِيًا وَقَاضِيًا (قَالَ) : أَيِ امْتِحَانًا لَهُ (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟) ; أَيْ مُصَرَّحًا (فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي) ; أَيْ أَطْلُبُ حُكْمَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا نَصٌّ وَأَحْكُمُ فِيهَا بِمِثْلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا نَصٌّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ، (وَلَا آلُو) بِمَدِ الْهَمْزَةِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ أَلَى يَأْلُو ; أَيْ مَا أُقَصِّرُ، قَالَ الطِّيبِي: قَوْلُهُ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، الْمُبَالَغَةُ قَائِمَةٌ فِي جَوْهَرِ اللَّفْظِ وَبِنَاؤُهُ لِلْافْتِعَالِ وَلِلْاعْتِمَالِ وَالسَّعْيِ وَبَذْلِ الْوُسْعِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الرَّأْيِ ; أَيْضًا تَرْبِيَةٌ إِلَى الْمَعْنَى، قَالَ الرَّاغِبُ: الْجُهْدُ: وَالْجُهْدُ طَاقَةٌ وَالْمَشَقَّةُ وَالْاجْتِهَادُ أَخْذُ النَّفَسِ بِبَذْلِ الطَّاقَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، يُقَالُ: جَهَدْتُ رَأْيِي وَاجْتَهَدْتُ ; أَتْعَبْتُهُ بِالْفِكْرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّأْيَ الَّذِي يَسْنَحُ لَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، بَلْ أَرَادَ رَدَّ الْقَضِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ إِذَا وَجَدْتُ مُشَابَهَةً بَيْنَ الَّتِي أَنَا بِصَدَدِهَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَاءَ نَصٌّ فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ ; حَكَمْتَ فِيهَا بِحُكْمِهِمَا ; مِثَالُهُ: جَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَلَمْ يَجِيءْ نَصٌّ فِي الْبِطِّيخِ قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْبِطِّيخَ عَلَى الْبُرِّ لَمَّا وَجَدَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عِلَّةِ الْمَطْعُومِيَّةِ، وَقَاسَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله الْجِصَّ عَلَى الْبُرِّ لَمَّا وَجَدَ بَيْنَهُمَا مِنْ عِلَّةِ الْكَيْلِيَّةِ، (قَالَ) ; أَيْ مُعَاذٌ (فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدْرِهِ، أَوْ قَالَ الرَّاوِي نَقْلًا عَنْ مُعَاذٍ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: عَلَى صَدْرِي ; بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، ( «وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ» ) ; أَيْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَتَمَنَّاهُ مِنْ طَلَبِ طَرِيقِ الصَّوَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اسْتِصْوَابٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِرَأْيِهِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا كَدَحَ فِي التَّحَرِّي وَأَتْعَبَ الْقَرِيحَةَ فِي الِاسْتِنْبَاطِ ; اسْتَحَقَّ أَجْرًا لِذَلِكَ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُصِيبَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، أَوْ يُخْطِيءَ فِيهَا ; فَإِذَا أَصَابَ ; ثَبَتَ لَهُ أَجْرَانِ أَحَدُهُمَا بِاعْتِبَارِ

ص: 2428

أَصْلِ الرَّأْيِ، وَالْآخَرُ بِاعْتِبَارِ الْإِصَابَةِ، وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِ الْخَطَأِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .

ص: 2429

3738 -

«وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا ; فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ ; إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ، قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِ، فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ــ

3738 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا) ; أَيْ أَرَادَ بَعْثِيَ (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي؟) فِيهِ تَفَنُّنٌ لِلْعِبَارَةِ وَالتَّقْدِيرُ: أَتُرْسِلُنِي؟ (وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ) ; أَيْ وَالْحَالُ أَنِّي صَغِيرُ الْعُمْرِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ (وَلَا عِلْمَ لِي) ; أَيْ كَامِلًا بِالْقَضَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا تَعَلُّلًا بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِمْدَادُ الْمَدَدِ، (فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ) ; أَيْ بِالْفَهْمِ (وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ) ; أَيْ بِالْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِمُوسَى وَهَارُونَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] الْآيَةَ، {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى - قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45 - 46] ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ تَرْجِيحُ مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ، وَلِذَا لَمَّا عَرَضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ جَمِيعَ مَنَاصِبِهِ عَلَى عَبْدِهِ إِيَازَ الْخَاصِّ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَاخْتَارَ مُلَازَمَةَ الْخَوَاصِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُجَرِّبْ سَمَاعَ الْمُرَافَعَةِ بَيْنَ الْخُصَمَاءِ وَكَيْفِيَّةَ دَفْعِ كَلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَمَكْرِهِمَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَهْدِي قَلْبَكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] فَإِنَّ السِّينَ فِيهِمَا صَحِبَ الْفِعْلَ لِتَنْفِيسِ زَمَانِ وُقُوعِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ قَاضِيًا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَعَاذٍ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ: أَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، اعْتِذَارٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ مِنْ قِلَّةِ تَجَارِبِهِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: سَيَهْدِي قَلْبَكَ ; أَيْ يُرْشِدُكَ إِلَى طَرِيقِ اسْتِنْبَاطِ الْقِيَاسِ بِالرَّأْيِ الَّذِي مَحَلُّهُ قَلْبُكَ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَلَا تَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ اهـ. وَقَوْلُ الْمُظْهِرِ أَوْفَقُ وَأَظْهَرُ بِقَوْلِهِ (إِذَا تَقَاضَى) ; أَيْ تَرَافَعَ إِلَيْكَ (رَجُلَانِ) ; أَيْ مُتَخَاصِمَانِ (فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ) ; أَيْ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَهُوَ الْمُدَّعِي (حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ) ; أَيْ فَإِنَّكَ لَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ بِسَمَاعِ كَلَامِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَقَوْلُهُ: إِذَا تَقَاضَى. . إِلَخْ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِرْشَادِ وَأُنْمُوذَجٌ مِنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَقْضِي لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَهُمَا حَاضِرَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ ; فَفِي الْغَائِبِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَذَلِكَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْغَائِبِ حُجَّةٌ تُبْطِلُ دَعْوَى الْآخَرِ وَتَدْحَضُ حُجَّتَهُ، قَالَ الْأَشْرَفُ: لَعَلَّ مُرَادَ الْخَطَّابِيِّ بِهَذَا الْغَائِبِ ; الْغَائِبُ عَنْ مَحَلَّ الْحُكْمِ فَحَسْبُ، دُونَ الْغَائِبِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (فَإِنَّهُ) ; أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ (أَحْرَى) ; أَيْ حَرِيٌ وَحَقِيقٌ وَجَدِيرٌ (أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ قَالَ فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ دُعَائِهِ وَتَعْلِيمِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ كَوْنِهِ رضي الله عنه أَقْضَاهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عَلِيٌّ أَقْضَانَا وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَقْرَؤُنَا) (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ ( «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِ» ) فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

ص: 2429

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3739 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنْ قَالَ: أَلْقِهْ أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3739 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ حَاكِمٍ) : (مِنْ) زَائِدَةٌ لِلْاسْتِغْرَاقِ وَ (حَاكِمٍ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَشْمَلُ كُلَّ عَادِلٍ وَظَالِمٍ (يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ) : أَيِ الْمَلَكُ (رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ) : أَيْ مُنْتَظِرًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ (فَإِنْ قَالَ) : أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (أَلْقِهْ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسَرٍ مَعَ إِشْبَاعِهِ وَقَصْرِهِ ; أَيِ: ارْمِهِ (أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ; أَيْ مَهْلَكَةٍ وَمَسْقَطَةٍ (أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) : أَيْ سَنَةً. فَفِي النِّهَايَةِ: الْخَرِيفُ الزَّمَانُ الْمَعْرُوفُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ مَا بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيُرِيدُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ; لِأَنَّ الْخَرِيفَ فِي السَّنَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَرْبَعِينَ مَجْرُورًا لِمَحَلِّ صِفَةِ (مَهْوَاةٍ) ; أَيْ: مَهْوَاةٍ عَمِيقَةٍ فَكُنِّيَ عَنْهُ لِأَرْبَعِينَ، إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّحْدِيدُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُمْقِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمَهْوَاةُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، قِيلَ: مِنَ الْهُوَّةِ وَهَى الْحُفْرَةُ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا عَلَى الْإِضَافَةِ، يَعْنِي فِي غَمْرَةٍ عُمْقُهَا مَسَافَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: مَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي يَدِهِ كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ الْغُلُّ مُقْمَحًا. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]، ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ (فَإِنْ قَالَ) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَإِنِ الشَّرْطِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ حَالُهُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيُقَالُ فِي حَقِّهِ: أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَالْمَعْنَى وَإِنْ قَالَ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ أُدْخِلَهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ كَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ:«مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللَّهَ عز وجل مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ» اهـ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ ضَمِيرِ يَرْفَعُ بَعْدَ (ثُمَّ) إِلَى الْحَاكِمِ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ:«مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَهُ عَلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلْقِهْ أَلْقَاهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .

ص: 2430

3740 -

وَعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

3740 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ) : أَيِ الْعَادِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ; أَيْ ذِي الْعَدْلِ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) : بِالرَّفْعِ وَفَى نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ ; أَيْ لَيَأْتِيَنَّ إِتْيَانٌ، أَوْ زَمَانٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ (سَاعَةٌ يَتَمَنَّى) : أَيْ فِيهِ (أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ فَاعِلُ (لَيَأْتِيَنَّ) ، وَ (يَتَمَنَّى) حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ يَتَمَنَّى فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ ; أَيْ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَلَاءِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، فَإِذَا الْفَاعِلُ يَتَمَنَّى بِتَقْدِيرِ أَنْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ ; لِأَنَّ الْبَلَاءَ سَبَبُ التَّمَنِّي، وَالتَّقْيِيدُ بِالْعَدْلِ وَالتَّمْرَةِ، تَتْمِيمٌ لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ.

ص: 2430

3741 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ: "«فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ» ".

ــ

3741 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) : رضي الله عنه قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا رضي الله عنهم، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ) : وَفَى نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ اللَّهَ (مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ) : بِضَمِّ الْجِيمِ ; أَيْ مَا لَمْ يَظْلِمْ (فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ) : أَيْ خَذَلَهُ وَتَرَكَ عَوْنَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: تَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ (وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) : أَيْ لَازَمَهُ الْعِصْيَانُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيِ ابْنُ مَاجَهْ (فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ) : بِتَخْفِيفِ الْكَافِ (إِلَى نَفْسِهِ) : الْجَوْهَرِيُّ: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكْلًا وَوُكُولًا، وَهَذَا الْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِكَ وَفَرَسٌ وَاكِلٌ يَتَّكِلُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعَدْوِ، وَوَاكَلْتُ فُلَانًا مُوَاكَلَةً إِذَا اتَّكَلْتَ عَلَيْهِ، وَاتَّكَلَ هُوَ عَلَيْكَ، هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَحِفْ عَمْدًا» .

ص: 2431

3742 -

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ مُسْلِمًا وَيَهُودِيًّا اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ، فَرَأَى الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

3742 -

(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رضي الله عنه : قِيلَ: هُوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ (أَنَّ مُسْلِمًا وَيَهُودِيًّا) : أَيْ فَرْدًا مِنَ الْيَهُودِ (" اخْتَصَمَا إِلَى عُمَرَ) : أَيْ مُتَرَافِعَيْنِ إِلَيْهِ (فَرَأَى الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ) : أَيْ حَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ (عُمَرُ بِهِ) : أَيْ بِالْحَقِّ (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ) : أَيْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ، وَتَوْفِيقِهِ، وَلَمْ تَمِلْ إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى دِينِكَ (فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ، كَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَهَى آلَةٌ لِلضَّرْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ (وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ) : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ كَذَا (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ يَسَارِهِ (مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ) : بِالتَّشْدِيدِ ; أَيْ يَدُلَّانِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ (وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ) : وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى الْحَقِّ (فَإِذَا تَرَكَ) : أَيِ الْقَاضِي (الْحَقَّ، عَرَجَا) : أَيْ صَعِدَا (وَتَرَكَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ ضَرَبَهُ وَلَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ بِهِ ; لِأَنَّهُ صَدَقَ وَكَيْفَ يُطَابِقُ جَوَابُ الْيَهُودِيِّ، وَاللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ، لِقَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَضْرِبْهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا بَلْ لِإِصَابَتِهِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الْمُطَايَبَةِ، وَتَطْبِيقُ الْجَوَابِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَوْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ لَقَضَى لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ، فَلَمْ يَكُنْ مُسَدَّدًا فَلَمَّا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ عُرِفَ بِتَسْدِيدِهِ وَثَبَاتِهِ وَعَدَمِ مَيْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : أَيْ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ فِي تَرْجَمَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.

ص: 2431

3743 -

وَعَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه، قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: أَوَتُعَافِينِي؟ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: وَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ ; فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ كَفَافًا» ". فَمَا رَاجَعَهُ بَعْدُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3743 -

(وَعَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ) : رضي الله عنه بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ) : أَيِ اقْبَلِ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ (قَالَ: أَوَتُعَافِينِي؟ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) : أَيْ أَتَرْحَمُ عَلَيَّ وَتُعَافِينِي وَهُوَ اسْتِعْطَافٌ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ (قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ (وَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ) : أَيِ الْقَضَاءِ (وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ» ) : عَطَفَ عَلَى

ص: 2431