المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب قسمة الغنائم والغلول فيها] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: ‌[باب قسمة الغنائم والغلول فيها]

وَقَالَ حَسَنٌ (وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ ; أَيْ دِمَاؤُهُمْ (وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. . .) الْحَدِيثَ بِطُولِهِ (فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ) يَعْنِي فَأَسْقَطْنَاهُ مِنْ هَاهُنَا لِلتَّكْرَارِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ، أَوِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا، أَوْ جَمَاعَةً، أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ، أَوْ مَدِينَةً صَحَّ أَمَانُهُمْ عَلَى إِسْنَادِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» ; أَيْ لَا تَزِيدُ دِيَةُ الشَّرِيفِ عَلَى دِيَةِ الْوَضِيعِ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ أَيْ كَأَنَّهُمْ آلَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمِلَلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ قَرْيَةً مِنْ قُرَى فَارِسَ يُقَالُ لَهَا شَاهَرْتَا فَحَاصَرْنَاهَا شَهْرًا حَتَّى إِذَا كُنَّا ذَاتَ يَوْمٍ وَطَمِعْنَا أَنْ نُصَبِّحَهُمُ انْصَرَفْنَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَقِيلِ خَلْفَ عَبْدٍ مِنَّا فَاسْتَأْمَنُوهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَمَانًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ خَرَجُوا إِلَيْنَا فِي ثِيَابِهِمْ وَوَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَقُلْنَا مَا شَأْنُكُمْ فَقَالُوا أَمَّنْتُمُونَا وَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا السَّهْمَ فِيهَا كِتَابٌ بِأَمَانِهِمْ فَقُلْنَا هَذَا عَبْدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَالُوا: لَا نَدْرِي عَبْدَكُمْ مِنْ حُرِّكُمْ قَدْ خَرَجْنَا بِأَمَانٍ فَكَتَبْنَا إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزَادَ فَأَجَازَ عُمَرُ أَمَانَهُ، وَالْحَدِيثُ جَيِّدٌ وَفُضَيْلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا " «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» " فَحَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ اهـ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْهُ مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ مَبْسُوطَةٌ قَالَ وَإِنْ آمَنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَصِفُهُ لَا يَصِحُّ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِتَالِ فَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.

ص: 2565

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3984 -

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقْتَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3984 -

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ (وَابْنُ أُثَالٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ (رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ، أَوْ بِرَسُولَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيَحْتَمِلُ التَّنَازُعَ (فَقَالَ لَهُمَا أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِذَلِكَ دَعْوَتَهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ (فَقَالَا) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَا وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ لَا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَا بِقَوْلِهِمَا (نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ) أَرَادَا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا مِنْ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ لَا غَيْرَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِنَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَدِ ادَّعَيْتُ الرِّسَالَةَ وَصَدَّقْتُهَا بِمُعْجِزَةٍ فَأَقِرَّا بِذَلِكَ، فَقَوْلُهُمَا نَشْهَدُ إِلَخْ رَدٌّ لِهَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنَّ الرِّسَالَةَ تَثْبُتُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَكَانَ جَوَابُهُمْ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْأَحْمَقِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمُضَافِ الْجِنْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ وَرُسُلِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى السَّابِقِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِي بَلْ قَالَ وَرَسُولِهِ ; أَيْ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَأَثْبَتَهَا بِالْمُعْجِزَةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَهُوَ كَلَامُ الْمُنْصِفِ يَعْنِي وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ لِمُدَّعِي الرِّسَالَةِ أَظْهِرِ الْمُعْجِزَةَ كَفَرَ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُمْ تَرَقَّبُوا أَنْ يُشْرِكَ صلى الله عليه وسلم مُسَيْلِمَةَ فِي الرِّسَالَةِ فَنَفَاهُ بِقَوْلِهِ وَرَسُولِهِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الرِّسَالَةِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ كَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ اهـ. وَفِي كَوْنِهِمْ مُرَاقِبِينَ لِشِرْكِهِ مَحَلُّ بَحْثٍ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَأَقَرَّا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (لَوْ كُنْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَوْ كُنْتُ (قَاتِلًا رَسُولًا) ; أَيْ قَادِمًا بِالْخَبَرِ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ بِأَمَانٍ (لَقَتَلْتُكُمَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) ; أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ الرَّاوِي بَلْ هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقْتَلُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ جَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فَجَعَلَتْهَا سُنَّةً (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 2565

[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

ص: 2565

بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3985 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " «فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3985 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " فَلَمْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ (تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبَلْنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا وَلَفْظِهِ، قَالَ الرَّاوِي يُوَضِّحُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا) : أَيْ: أَحَلَّهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْإِشَارَةُ إِلَى تَحْلِيلِ اللَّهِ الْغَنَائِمَ لَنَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا فِي الذِّهْنِ بَيَّنَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ حِلٍّ يُوجِبُهُ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ اهـ. وَكَلَامُ الْمُظْهِرِ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى، قِيلَ: كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ إِذَا غَزَوْا كَانُوا يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، فَإِنْ نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَأَحْرَقَتْهَا عَلِمُوا أَنَّ غَزْوَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ وَإِلَّا فَلَا اهـ. فَعَلَى هَذَا تَسْتَمِرُّ أَيْضًا لِحَالِ غُزَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2566

3986 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ، ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " صَدَقَ فَأَعْطِهِ " فَأَعْطَانِيهِ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ ; فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3986 -

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ) : فِي الْقَامُوسِ: هُوَ كَزُبَيْرٍ مَوْضِعٌ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ (فَلَمَّا الْتَقَيْنَا) : أَيْ نَحْنُ وَالْمُشْرِكُونَ (كَانَتْ) : أَيْ: صَارَتْ (لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ مِنَ الْجَوَلَانِ ; أَيْ: هَزِيمَةٌ قَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا جَوَلَانٌ وَاحِدٌ، يُقَالُ: جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً ; أَيْ دَارَ، وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ بِالْهَزِيمَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْجَوْلَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاضْطِرَابِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ، فَفِي النِّهَايَةِ: جَالَ وَاجْتَالَ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَالْجَائِلُ الزَّائِلُ عَنْ مَكَانِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَرَى الصَّحَابِيَّ كَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْهَزِيمَةِ فَكَنَى عَنْهَا بِالْجَوْلَةِ وَلَمَّا كَانَتِ الْجَوْلَةُ مِمَّا لَا اسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْهَزِيمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا اسْتَقَرُّوا عَلَيْهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ مِنْ بَعْضِ الْجَيْشِ. وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَطَائِفَةٌ مَعَهُ فَلَمْ يَزَالُوا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، وَلَمْ يَرَ وَاحِدٌ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، بَلْ يَثْبُتُ فِيهَا بِإِقْدَامِهِ وَثَبَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ. (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا) : أَيْ: غَلَبَ (رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ) : أَيِ: الْمُشْرِكَ (مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالْكَتِفِ (بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ) : أَيْ: دِرْعَهُ وَأَوْصَلْتُ الْجِرَاحَةَ إِلَى بَدَنِهِ (وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي) : أَيْ: ضَغَطَنِي وَعَصَرَنِي (ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ) : اسْتِعَارَةٌ عَنْ أَثَرِهِ ; أَيْ: وَجَدْتُ مِنْهُ شِدَّةً كَشِدَّةِ الْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى قَدْ قَارَبْتُ الْمَوْتَ (ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي) : أَيْ: فَخَلَّى سَبِيلِي فَخَلَّيْتُهُ (فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ) : أَيْ: مُنْهَزِمِينَ (قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ) : أَيْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ مَا حَالُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الِانْهِزَامِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ غَالِبٌ وَالنُّصْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ رَجَعُوا) : أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ") : أَوْقَعَ الْقَتْلَ عَلَى الْمَقْتُولِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36](لَهُ) : أَيْ: لِلْقَاتِلِ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى قَتْلِهِ لِلْمَقْتُولِ (بَيِّنَةٌ) : أَيْ: شَاهِدٌ وَلَوْ وَاحِدًا (فَلَهُ سَلَبُهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ فَعَلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; أَيْ مَا عَلَى الْقَتِيلِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلَاحٍ وَمَرْكَبٍ وَجَنِيبٍ يُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.

ص: 2566

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ: أَنَّ السَّلَبَ لَا يُعْطَى إِلَّا لِمَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ قَتَلَ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِلُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَقَدْ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مَنْسُوبًا إِلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَهُنَا مَنْسُوبٌ إِلَى جَمِيعِ الْجَيْشِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّلَبُ لَا يَكُونُ لِلْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثٍ آخَرَ «لَيْسَ لَكَ مِنْ سَلَبِ قَتِيلِكَ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ» . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: يَسْتَحِقُّ الْقَاتِلُ السَّلَبَ، سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلَ أَمْ لَا. قَالُوا: وَهَذَا فَتْوَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ قَبْلَ الْقِتَالِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَجَعَلُوا هَذَا إِطْلَاقًا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِفَتْوَى مِنْهُ وَلَا إِخْبَارٍ عَامٍّ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةً لِمَا قَالَهُ قَبْلَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفٍ: قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ فَقَبْلَ التَّقْيِيدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: " «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ فَصَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ بَعْدَ الْقَوْلِ فَيُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ بِهِ، وَفِي التَّكْرَارِ الْآتِي دَلِيلٌ ; أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْتَاءٍ وَإِخْبَارٍ، بَلْ لِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا لَمْ يُجْعَلِ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. (فَقُلْتُ) : أَيْ: فِي نَفْسِي، أَوْ جِهَارًا وَفِي رِوَايَةٍ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي؟) : أَيْ: بِأَنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ سَلَبُهُ لِي (ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ) : أَيْ: مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ (فَقُلْتُ) : أَيْ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ (مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟) ; أَيْ تَقُومُ وَتَجْلِسُ عَلَى هَيْئَةِ طَالِبٍ لِغَرَضٍ، أَوْ صَاحِبِ غَرَضٍ (فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ) ; أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي) : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; أَيْ: فَأَعْطِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ السَّلَبِ لِيَكُونَ لِي، أَوْ أَرْضِهِ بِالْمُصَالَحَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ:" مَنْ " فِيهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ; أَيْ: أَرْضِ أَبَا قَتَادَةَ لِأَجْلِي وَمِنْ جِهَتِي، وَذَلِكَ إِمَّا بِالْهِبَةِ، أَوْ بِأَخْذِهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ بَدَلِهِ. (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ) : بِالْجَرِّ ; أَيْ: لَا وَاللَّهِ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ ; أَيْ: إِذَا صَدَقَ أَبُو قَتَادَةَ (لَا يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ (إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ، وَقِيلَ بِضَمِّهِمَا جَمْعُ أَسَدٍ، وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْصِدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِبْطَالِ حَقِّهِ وَإِعْطَاءِ سَلَبِهِ إِيَّاكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إِذًا بِالْأَلِفِ قَبْلَ الذَّالِ، وَأَنْكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ اهـ كَلَامُهُ.

وَلَقَدْ أَطَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ مَقَالِ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ تَعَارُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ وَتَنَاقُضِ تَقْدِيرَاتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَكُونُ يَمِينًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَتْ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَ مُتَعَارَفَةً فِي الْأَيْمَانِ (يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) : أَيْ: لِرِضَاهُمَا وَنُصْرَةِ دِينِهِمَا (فَيُعْطِيكَ) : أَيْ: هُوَ، أَوِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (سَلَبَهُ) : أَيْ جَمِيعَهُ، أَوْ بَعْضَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ:، قَوْلُهُ: عَنِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ

ص: 2567

يَكُونَ عَيْنَ صِلَةٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَصْدُرُ قِتَالُهُ عَنْ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; أَيْ: بِسَبَبِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ: يُقَاتِلُ ذَابًّا عَنْ دِينِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ نَاصِرًا لِأَوْلِيَائِهِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَ ": أَيِ: الصِّدِّيقُ (فَأَعْطِهِ) : أَيْ: أَبَا قَتَادَةَ سَلَبَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَةِ رَسُولِهِ، لِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِفْتَائِهِ بِحَضْرَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ لَهُ، وَعَلَى مَنْقَبَةِ أَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ سَمَّاهُ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ (فَأَعْطَانِيهِ، فَابْتَعْتُ) : أَيِ: اشْتَرَيْتُ (بِهِ) : أَيْ: بِذَلِكَ السَّلَبِ (مَخْرَفًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ ; أَيْ: بُسْتَانًا (فِي بَنِي سَلِمَةَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ (فَإِنَّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَإِنَّهُ (لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ) : أَيِ: اقْتَنَيْتُهُ وَتَأَصَّلْتُهُ يَعْنِي جَمَعْتُهُ وَجَعَلْتُهُ أَصْلَ مَالِي (فِي الْإِسْلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ عليه السلام قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ نَصْبُ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، أَوْ كَانَ تَحْرِيضًا بِالتَّنْفِيلِ قَالَهُ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَغَيْرِهَا يَخُصُّهَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَصْبُ الشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ، وَقُلْنَا: كَوْنُهُ تَنْفِيلًا هُوَ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ الشَّرْعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِحَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ:" «لَيْسَ لَكَ مِلْكٌ مِنْ سَلَبِ قَتِيلِكَ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ» " فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " وَهُوَ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لَا نَصْبٌ عَامٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، أَوْ حَسَنٌ لَكِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ، «بَلَغَ حَبِيبَ بْنَ سَلَمَةَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ وَمَعَهُ زُمُرُّدٌ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَغَيْرُهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ بِمَا مَعَهُ، وَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ سَلَمَةَ: لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ يَا حَبِيبُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ نَفْسُ إِمَامِهِ» ، وَهُنَا مَعْلُولٌ بِعَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ:«كُنَّا مُعَسْكِرِينَ بِدَانِفَاءَ، وَذَكَرَ لِحَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ الْفِهْرِيِّ إِلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ بِسَلَبِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَبْغَالٍ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، فَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ بَعْضَهُ، فَقَالَ حَبِيبٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ، فَسَمِعَ مُعَاذٌ ذَلِكَ، فَأَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَحَبِيبٌ يُخَاصِمُهُ فَقَالَ مُعَاذٌ: أَلَا تَتَّقِي وَتَأْخُذْ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ، فَإِنَّ مَا لَكَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِكَ، فَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْطَوْهُ مِنَ الْخُمُسِ، فَبَاعَهُ حَبِيبٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ» ، وَفِيهِ كَمَا تَرَى مَجْهُولٌ وَلَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّ ضَعْفُهُ فَإِنَّا إِنَّمَا نَسْتَأْنِسُ لِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْ لَفْظٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ بَعْدَمَا رَأَى سَيْفَهُمَا:" كِلَاكُمَا قَتَلَهُ "، ثُمَّ قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْقَاتِلِ لَقَضَى بِهِ لَهُمَا إِلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَفَعَهُ: بِأَنَّ غَنِيمَةَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَصِّ الْكِتَابِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ قَسَمَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ بَدْرٍ، فَقَضَى عليه الصلاة والسلام السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ اهـ.

ص: 2568

يَعْنِي مَا كَانَ إِذْ ذَاكَ قَالَ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ ; أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ قَالَ:«قَالَ عليه الصلاة والسلام يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَظُنُّ بِنَا جُبْنًا عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَا ضَنًّا بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إِخْوَانُنَا، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْتَ فَكَرِهْنَا نَدْعُوكَ بِضَيْعَةٍ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ» ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبَ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ، وَهُوَ - وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ - فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ:" مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا " فِي أَبِي دَاوُدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَذَا كَذَا، فَإِنَّمَا كَنَى بِهِ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ. فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا الْحَالُ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقِلَّتِهَا، أَوْ عَدَمِهَا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكْنَى عَنْهُ لِلرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ وَمَا أُخِذَ ; لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا، فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ:" «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا وَالضَّعِيفُ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ ارْتَقَى إِلَى الْحَسَنِ، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رَدًّا لَكُمْ لَوِ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنَا، الْحَدِيثَ فَقَوْلُهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِينَ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا.

قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مَؤْتَةَ وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ شَجَرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، فَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ. قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُ خَالِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا خَالِدُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: أَتَرُدَّنَّهُ، أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِخَالِدٍ: " رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ ". قَالَ عَوْفٌ: دُونَكَ يَا خَالِدُ لَمْ أُوَفِّ لَكَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارَكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» فَفِيهِ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: رَدَّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقُلْ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " إِلَّا فِي حُنَيْنٍ، فَإِنَّ مَوْتَهُ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ مَا أَمَرَ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام كَانَ تَنْفِيلًا، وَأَنَّ أَمْرَهُ ; إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّمَا مَنَعُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَمْضَاهُ عليه الصلاة والسلام، وَالْيَسِيرُ مِنَ الضَّرَرِ يُتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ مِنَ النَّفْعِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ، وَهُوَ عَوْفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عليه السلام أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ، وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ، لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُ بِمَنْعِ حَقِّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ لَهُ جِنَايَةٌ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا.

ص: 2569

3987 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَئسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3987 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: اللَّامُ فِي لَهُ لِلتَّمْلِيكِ، وَفِي لِفَرَسِهِ لِلتَّسَبُّبِ ; أَيْ: لِأَجْلِ فَرَسِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لِفَنَائِهِ فِي الْحَرْبِ، إِذْ مُؤْنَةُ فَرَسِهِ إِذَا كَانَ مَعْلُوفًا تُضَاعَفُ عَلَى مُؤْنَةِ صَاحِبِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَقِيلَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذًا بِمَا سَيَأْتِي فِي الْحِسَانِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ اهـ. فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْمُتَيَقَّنِ وَتَرَكَ الْمَشْكُوكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا يَرْوُونَ خِلَافَهُ، وَإِنَّمَا تَرَكَ أَبُو حَنِيفَةَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا لِرَأْيِهِ، بَلْ لِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» ". وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِحَدِيثِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحِسَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ فَقَطْ سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لَهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِ هَذَا أَحَدٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ صَرِيحٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فِيهِ قَسَمَ فِي النَّفْلِ:«لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا» هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي بَعْضِهَا:«لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» بِالْأَلِفِ، وَفِي بَعْضِهَا لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْلِ هُنَا الْغَنِيمَةُ لُغَةً، فَإِنَّ النَّفْلَ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْغَنِيمَةُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ رَوَى الرَّاجِلَ بِالْأَلِفِ، فَرِوَايَةٌ مُحْتَمَلَةٌ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الرِّوَايَتَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَعْنِي فَارِسًا وَفَرَسًا وَرَاجِلًا وَرَجُلًا، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَجَّحَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى، فَرَجَّحْنَا الْأُولَى لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ رُوَاةَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى، وَأَنْ تُؤَوَّلَ الْأُخْرَى بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّهْمِ النَّصِيبُ عَلَى الْإِجْمَالِ ; أَيْ: لِلْفَارِسِ نَصِيبَانِ نَصِيبٌ لَهُ وَنَصِيبٌ لِفَرَسِهِ، فَيَكُونُ الْمُبَيِّنَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُبَيِّنُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَكْوَعِ: أَعْطَانِي صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْمُسَاوَاةَ لِقَوْلِهِ:" «سَهْمٌ لِلْفَارِسِ وَسَهْمٌ لِلرَّاجِلِ» ".

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَعِنْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، لَهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهَا سَهْمًا» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ:«قَسَمَ النَّفْلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْقَاطٍ لَفْظِ النَّفْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ» ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَوَّلَ مِنَ الشُّرَّاحِ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنَ الرَّاجِلِ الرَّجَّالَةَ، وَمِنَ الْخَيْلِ الْفُرْسَانَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْقَابِلَةِ: قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمَيْنِ» ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلِ الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْنَدِهِ عَنْهُ قَالَ:«أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» ، لَكِنْ فِي هَذَا أَحَادِيثُ مِنْهَا. مَا فِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُجَمِّعٍ يَعْنِي مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، وَمِنْهَا: مَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةٌ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: لِفَرَسِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ» ، وَكَذَا فِي مُسْنَدِ الْوَاقِدِيِّ، وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ ; أَيْضًا فِي الْمَغَازِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: «شَهِدْتُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا فَضَرَبَ لِي بِسَهْمٍ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهَا، ثُمَّ قَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» ، وَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» اهـ.

ص: 2570

وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ بِالشَّكِّ، فِي الْفَارِسِ، أَوِ الْفَرَسِ، وَمِنْ طَرِيقٍ جَزَمَ بِالْفَارِسِ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ; أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، بَلْ فِي فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام مُطْلَقًا نَظَرًا إِلَى تَعَارُضِ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ ; أَيْضًا تُرَجِّحُ النَّفْيَ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ وَاحِدٌ وَالثَّبَاتَ جِنْسٌ، فَهُمَا اثْنَانِ لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ أَحَدُهُمَا وَلَهُ ضِعْفُ مَا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَارَضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرْكِ فَرْعُ الْمُسَاوَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ أَصَحُّ. قُلْنَا: قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ، مَعَ فَرْضِ أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ رِجَالٌ رَوَى عَنْهُمُ الْبُخَارِيُّ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا نَقُولُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا بِحَمْلِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى التَّنْفِيلِ، وَكَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ:«شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَاةً، فَأَعْطَى الْفَارِسَ مِنَّا ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» ، بَلْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرَهُ الْمُسْتَمِرَّ، وَإِلَّا لَقَالَ: كَانَ عليه الصلاة والسلام وَنَحْوَهُ، فَلَمَّا قَالَ غَزَاةً، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزَوَاتٍ، ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْفِعْلَ بِغَزَاةٍ مِنْهَا، كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، «أَنَّهُ شَهِدَ حُنَيْنًا فَأَسْهَمَ لِفَرَسِهِ سَهْمَيْنِ وَلَهُ سَهْمًا» ، لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنِّي جَعَلْتُ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقْصَهُ اللَّهُ» ". فَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْقَيْسِيِّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَتَوْهِينِهِ اهـ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي جَعَلْتُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ.

ص: 2571

3988 -

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ:«كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقَسَمُ لَهُمَا؟ فَقَالَ يَزِيدُ: اكْتُبْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ، إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا. وَفِي رِوَايَةٍ: كَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ ; فَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ يُدَاوِينَ الْمَرْضَى وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا السَّهْمُ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3988 -

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ رضي الله عنه : بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقِيلَ: مَصْرُوفٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَمْدَانِيٌّ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ. (قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ) : بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ جِيمٍ رَئِيسُ الْخَوَارِجِ. وَفِي الْقَامُوسِ: نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ خَارِجِيٌّ (الْحَرُورِيُّ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ نِسْبَةُ الْخَوَارِجِ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلُّ اجْتِمَاعِهِمْ حِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه. فِي الْقَامُوسِ: حَرُورَاءُ كَجَلُولَاءِ، وَقَدْ يُقْصَرُ قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَالْحَرُورِيَّةُ هُمْ نَجْدَةُ وَأَصْحَابُهُ (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (لِيَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ هُرْمُزَ (اكْتُبْ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى نَجْدَةَ (أَنَّهُ) : بِالْفَتْحِ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى الْحِكَايَةِ ; أَيِ: اكْتُبْ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّهُ ; أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ لَهُمَا سَهْمٌ) : أَيْ نَصِيبٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: شَيْءٌ ; أَيْ مِنَ الْغَنِيمَةِ (إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ يُعْطَيَا شَيْئًا قَلِيلًا. قِيلَ: أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ السَّهْمِ، وَقِيلَ: أَقَلَّ مِنَ السَّهْمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ إِنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْرِهِ عَلَقَكَ مِنْ رِيحِهِ ; أَيْ إِنْ لَمْ يُعْطِكَ.

(وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ (كَتَبَ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى نَجْدَةَ (ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ) : بِالْفَتْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ هَذَا اللَّفْظُ. وَقَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ فِيهِ الْكَسْرُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ عَلَى الْمَعْنَى ; أَيْ: كَتَبَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ (كَتَبْتَ) : أَيْ إِلَيَّ (تَسْأَلُنِي) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ؟ فَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ: أَيْ: يُسَافِرُ بِهِنَّ فِي غَزْوِهِ (يُدَاوِينَ الْمَرْضَى) :

ص: 2571

أَيْ وَيُعَالِجْنَ الْجَرْحَى وَيَسْقِينَ الْغُزَاةَ وَيُهَيِّئْنَ لَهُمْ أُمُورَهُمْ كَمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ (وَيُحْذَيْنَ) ; أَيْ يُعْطَيْنَ (مِنَ الْغَنِيمَةِ) : وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَذْهَبِنَا كَمَا سَيَأْتِي (وَأَمَّا السَّهْمُ) : أَيْ سُؤَالُهُ (فَلَمْ يَضْرِبْ) : أَيْ لَمْ يَقْسِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْ وَلَمْ يُبَيِّنْ (لَهُنَّ بِسَهْمٍ) : أَيْ تَامٍّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِيهِ أَنَّهُ مُوهِمٌ أَنَّ مَرْوِيَّ أَبِي دَاوُدَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ; أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ إِذَا حَضَرُوا الْقِتَالَ يُرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهَمُ اهـ. وَالرُّضْخُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُعْجَمَتَيْنِ إِعْطَاءُ الْقَلِيلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُسْهَمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ وَيُعْطَوْنَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، فَإِنَّ الرُّضْخَ فِي الْإِعْطَاءِ كَذَلِكَ وَالْكَثِيرُ السَّهْمِ، فَالرُّضْخُ لَا يَبْلُغُ السَّهْمَ، وَلَكِنْ دُونَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ قَالَ:«شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي إِلَى أَنْ قَالَ: فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ» ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ جَدَّةِ حَشْرَجِ بْنِ زِيَادٍ أُمِّ أَبِيهِ:«أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتٍّ مِنَ النِّسْوَةِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ إِلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقَالَ: " مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعَرَ، وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسَقِي السَّوِيقَ: فَقَالَ: " قُمْنَ " حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ» ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِجَهَالَةِ رَافِعٍ وَحَسِيرٍ حِينَئِذٍ مِنْ رُوَاتِهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَطَابَ أَهْلَ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُشْبِهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ وَإِرَادَةً بِالسَّهْمِ مَا خُصِّصْنَ بِهِ، وَالْمَعْنَى خَصَّنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَ بِالرِّجَالِ، ثُمَّ الرُّضْخُ عِنْدَنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَفِي قَوْلِ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ مَالِكٌ: مِنَ الْخُمُسِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يُرْضَخُ لَهُ إِذَا قَاتَلَ، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالذِّمِّيُّ ; لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ إِذَا فَرَضَ الصَّبِيُّ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَلَا يُقَامُ غَيْرُ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِمْ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى بِالْقِتَالِ وَبِالْخِدْمَةِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ ; لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ، فَأَقَامَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مِنْهَا مَقَامَهُ.

ص: 2572

3989 -

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: " «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ، فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا: يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ، وَأَرْتَجِزُ وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ حَتَّى مَا خَلَقَ لِلَّهِ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ، حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ، وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَةِ، يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ". قَالَ، ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، فَجَمَعَهُمَا إِلَيَّ جَمِيعًا، ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3989 -

(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ) : أَيْ إِبِلِهِ وَمَرْكُوبِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الظَّهْرُ الْإِبِلُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْكَبُ يُقَالُ: عِنْدَ فُلَانٍ ظَهْرٌ ; أَيْ إِبِلٌ (مَعَ رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ (غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ مَوْلًى لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (وَأَنَا مَعَهُ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا) : أَيْ فِي مَنْزِلٍ (إِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ، رُوِيَ بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ (قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ) : بِفَتَحَاتٍ ; أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا) : أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (يَا صَبَاحَاهْ) : كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُسْتَغِيثُ، وَأَصْلُهَا إِذَا صَاحُوا لِلْغَارَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَكْثَرَ مَا يُغِيرُونَ عِنْدَ الصَّبَاحِ فَكَأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَقُولُ: قَدْ غَشِيَنَا الْعَدُوُّ، وَقِيلَ: هُوَ نِدَاءُ الْمُقَاتِلِ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَعْنِي: قَدْ جَاءَ وَقْتُ الصَّبَاحِ فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، (ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ) : أَيْ أَعْقَابِهِمْ (أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ) : أَيِ السَّهْمِ (وَأَرْتَجِزُ) : فِي الْقَامُوسِ: الرَّجَزُ مُحَرَّكَةٌ ضَرْبٌ مِنَ الشِّعْرِ وَزَنُهُ مُسْتَفْعِلُنْ سِتَّ مَرَّاتٍ، سُمِّيَ لِتَقَارُبِ أَجْزَائِهِ وَقِلَّةِ حُرُوفِهِ، وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَبِهَا هُوَ أَنْصَافُ أَبْيَاتٍ وَأَثْلَاثٌ، وَالْأُرْجُوزَةُ الْقَصِيدَةُ مِنْهُ، وَقَدْ رَجَزَ وَارْتَجَزَ وَرَجَزَ بِهِ وَرَجَّزَهُ أَنْشَدَ أُرْجُوزَةً. (أَقُولُ) : بَدَلٌ، أَوْ حَالٌ ; أَيْ قَائِلًا (أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعْ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا (وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ

ص: 2572

رَاضِعٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ: يَوْمُ هَلَاكِ اللِّئَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ: رَضِيعُ اللُّؤْمِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمُصُّ حَلَمَةَ الشَّاءِ وَالنَّاقَةِ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ السُّؤَّالُ، وَالضِّيفَانُ صَوْتَ الْحِلَابِ فَيَقْصِدُوهُ، وَقِيلَ: الْيَوْمَ يُعْرَفُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ كَرِيمَةٌ فَأَشْجَعَتْهُ، أَوْ لَئِيمَةٌ فَهَجَنَتْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْيَوْمُ يُعْرَفُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ الْحَرْبُ مِنْ صِغَرِهِ وَتَدَرَّبَ بِهَا وَيُعْرَفُ غَيْرُهُ اهـ. أَوِ الْمَعْنَى الْيَوْمَ تَهْلَكُونَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ بِأَيْدِينَا، فَإِنَّكُمْ عَاجِزُونَ كَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ عِنْدَنَا، (فَمَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَعْقِرُ بِهِمْ) أَيْ: أَقْتُلُ مَرْكُوبَهُمْ وَأَجْعَلُهُمْ رَاجِلِينَ بِعَقْرِ دَوَابِّهِمْ (حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ) : " مَا " نَافِيَةٌ (مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مِنْ إِبِلِهِ بَيَانُ قَوْلِهِ مِنْ بَعِيرٍ، وَمِنْ فِيهِ زَائِدَةٌ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا (إِلَّا خَلَّفْتُهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: تَرَكْتُهُ (وَرَاءَ ظَهْرِي) : فِيهِ تَجْرِيدٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ (ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْأُولَى (أَرْمِيهِمْ، حَتَّى أَلْقَوْا) أَيْ: طَرَحُوا وَرَمَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً) : وَهِيَ شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ، أَوْ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ صَغِيرٌ يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ (وَثَلَاثِينَ رُمْحًا، يَسْتَخِفُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يَطْلُبُونَ الْخِفَّةَ بِإِلْقَائِهَا فِي الْفِرَارِ (وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْبُرُدِ وَالرُّمْحِ وَغَيْرِهِمَا (إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا) : بِمَدٍّ فِي أَوَّلِهِ جَمْعُ إِرَمٍ كَعِنَبٍ وَأَعْنَابٍ وَهُوَ الْعَلَامَةُ فَقَوْلُهُ: (مِنَ الْحِجَارَةِ) : تَجْرِيدٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ (إِلَّا يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ) : فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَجَدُوا شَيْئًا فِي طَرِيقِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمُ اسْتِصْحَابُهُ تَرَكُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً يَعْرِفُونَهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا عَادُوا أَخَذُوهُ (حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَقْبَلُوا (وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مِنْهُمْ (بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: الْفَزَارِيِّ (فَقَتَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا ") جَمْعُ فَارِسٍ رَاكِبُ الْفَرَسِ (الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ جَمْعُ رَاجِلٍ بِمَعْنَى الْمَاشِي عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَنَظِيرُهُ السَّيَّارَةُ جَمْعُ سَائِرٍ، وَالنَّظَّارَةُ جَمْعُ نَاظِرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَضِيلَةُ الشَّهَادَةِ وَمَنْقَبَةٌ لِسَلَمَةَ وَأَبِي قَتَادَةَ، وَجَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا، وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ وَجَوَازُ عَقْرِ خَيْلِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ، وَاسْتِحْبَابُ الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَجَوَازُ الْقَوْلِ: بِأَنِّي أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَجَوَازُ الْمُبَارَزَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَحَبُّ الشَّهَادَةِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا، وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو سَلَمَةَ ( «ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الْفَارِسِ» ) : وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، أَوْ سَهْمَانِ عَلَى مَا سَبَقَ، (وَسَهْمَ الرَّاجِلِ) أَيْ: أَعْطَانِي سَهْمَ فَارِسٍ مَعَ سَهْمِ رَاجِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَخْذِ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ كَانَتْ بِسَبَبِ سَلَمَةَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ أَكْثَرَ سَعْيَهُ فِي الْجِهَادِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى نَصِيبِهِ لِتَرْغِيبِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنَفِّلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ حَضَرَ الْحَرْبَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا بِنِيَّةِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْغَنِيمَةِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ ذِي قَرَدٍ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالرَّاءِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، (فَجَمَعَهُمَا إِلَيَّ جَمِيعًا) أَيْ: هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِي. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَهْمَ الرَّاجِلِ فَحَسْبُ ; لِأَنَّ سَلَمَةَ كَانَ رَاجِلًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَعْطَاهُ الزِّيَادَةَ نَفَلًا لِمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ بَلَائِهِ. (ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَرْكَبَنِي (وَرَاءَهُ) أَيْ: وَرَاءَ ظَهْرِهِ (عَلَى الْعَضْبَاءِ) : نَاقَةٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم (رَاجِعَيْنِ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا مُسْلِمٌ

ص: 2573

3990 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا ; لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3990 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يُعْطِيهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ زَائِدًا (بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا ; لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2574

3991 -

وَعَنْهُ، قَالَ «نَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ نَفَلًا سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمُسِ، فَأَصَابَنِي شَارِفٌ، وَالشَّارِفُ: الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3991 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (قَالَ: نَفَّلَنَا) أَيْ: أَعْطَانَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلًا) : بِالتَّحْرِيكِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: زِيَادَةً، أَوْ غَنِيمَةً. فَفِي النِّهَايَةِ: النَّفَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْغَنِيمَةُ وَجَمْعُهُ الْأَنْفَالُ، وَبِالسُّكُونِ وَقَدْ يُحَرَّكُ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ ; لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ (سِوَى نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمُسِ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الْمِيمُ (فَأَصَابَنِي شَارِفٌ) أَيْ: نَاقَةٌ مُسِنَّةٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَالشَّارِفُ الْمُسِنُّ الْكَبِيرُ) : هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: النَّفَلُ اسْمٌ لِزِيَادَةٍ يُعْطِيهَا الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ النَّافِلَةُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي إِعْطَاءِ النَّفَلِ، وَفِي أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يُعْطَى، بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اهـ. وَتَقَدَّمَ حَاصِلُهُ مِمَّا فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2574

3992 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«ذَهَبَتْ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةٍ: أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ، فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3992 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (قَالَ: ذَهَبَتْ فَرَسٌ لَهُ) أَيْ: نَفَرَتْ وَشَرَدَتْ إِلَى الْكُفَّارِ (فَأَخَذَهَا الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ) أَيْ: غَلَبَ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْعَدُوِّ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ (الْمُسْلِمُونَ فَرُدَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْفَرَسُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَفِي الصِّحَاحِ: الْفَرَسُ يُؤَنَّثُ وَقَدْ يُذَكَّرُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرَسُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لَكِنْ عَدَّهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَأْنِيثِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَارُّ نَائِبَ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَرُدَّتْ عَلَيْهِ (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ عَبْدًا آبِقًا، فَإِذَا أَخَذُوهُ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَبِهِ قُلْنَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحْرَزُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا لَا يَتَمَلَّكُونَهَا، وَإِذَا اسْتَنْقَذَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ تُرَدُّ إِلَى مُلَّاكِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَهَا خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنْ أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَمْلِكُونَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَأَمَّا لَوِ ارْتَدَّ فَأَبَقَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِذَا نَدَّ بِعِيرٌ إِلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَالِكُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إِنْ شَاءَ، وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا، وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا لِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إِلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «كَانَتِ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ، وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إِبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نُوِّمُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إِلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ، فَرَكِبَتْهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَنَذَرَتْ لَئِنِ اللَّهُ عز وجل نَجَّاهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عُرِفَتِ النَّاقَةُ، فَأَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ

ص: 2574

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتِ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا فَقَالَ:" بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا، أَوْ فَدَيْتِهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . وَفِي لَفْظٍ: فَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَلِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمُ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ مَنْ يَمْلِكُ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ، وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْفَتْحِ: أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: " هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَتَنْزِلُ بِدَارِكَ؟ قَالَ: " فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» . وَإِنَّمَا قَالَ ; لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَإِنَّ عَقِيلًا إِنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إِيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ، وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ، فَوَرِثَاهُ ; لِأَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا هَاجَرُوا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ:«وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ، فَارْتَفَعَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ» ". وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنَدًا، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَفِي سَنَدِهِ يَس الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ، وَأَخْرَجَ الدَّارُقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«فِيمَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْفَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ إِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ» . وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ. وَأَخْرَجَ الدَّارُقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ» " وَضُعِّفَ بِإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ رَشْدِينُ وَضُعِّفَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْدَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ» " وَفِيهِ يس ضُعِّفَ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مَا أَخَذَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَا قُسِّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إِلَّا بِالْقِيمَةِ. قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا رَوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، وَكِلَاهُمَا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: فِيمَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهَ صَاحِبُهُ إِنْ أَدْرَكَ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ السِّهَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إِلَى قَتَادَةَ عَنْ جُلَاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: مَنِ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشُكُّ بَعْدَ هَذِهِ الْكَثْرَةِ فِي أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَيَدُورُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَضْعِيفٍ بِالْإِرْسَالِ، أَوِ التَّكَلُّمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ، وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ، وَيَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ لِلْكُلِّ فِي ذَلِكَ، وَتَوَافَقُوا فِي هَذَا الْغَلَطِ، بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ إِذَا كَثُرَ مَجِيءُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ يَكُونُ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الضَّعِيفَ الْغَلَطُ دَائِمًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَالِهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ، هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحَدِيثُ الْعَضْبَاءِ كَانَ قَبْلَ إِحْرَازِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا إِلَخْ. فَإِنَّهُ يُفْهَمُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ حُكْمُ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 2575

3993 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ؟ ! فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3993 -

(عَنْ جُبَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ مُطْعِمٍ) : رضي الله عنه كَمُحْسِنٍ ابْنِ عَدِيٍّ. مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ، مَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ. (قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) : وَهُوَ أُمَوِيٌّ قُرَشِيٌّ (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ) أَيْ: مِنْ كَوْنِنَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَنَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ مَنَافٍ هُوَ الْجَدُّ الرَّابِعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجُبَيْرٌ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ، وَعُثْمَانُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. (فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ:) أَيْ: كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانُوا مُتَرَافِقَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ مُتَعَاوِنَيْنِ، فَلَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ مُخَالَفَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبِنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا لَمْ تَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَرْوِيهِ سِيٌّ وَاحِدٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَعْنِي وَبِالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: سَوَاءٌ يُقَالُ: هَذَا سِيُّ هَذَا أَيْ: مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، وَالْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَرِنٌ بِالْآخَرِ مُلَاصِقٌ بِهِ، لَا يُقَالُ لَهُمَا سِيَّانِ بَلْ سِيٌّ وَاحِدٌ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. ( «قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا» ) : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ مُوَافَقَةٌ، بَلْ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلِهَذَا أَحْرَمَهُمْ عَنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] لِلتَّبَرُّكِ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ سَهْمًا كَمَا لِكُلٍّ مِنَ الْأَصْنَافِ سَهْمٌ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَسَهْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ ثَابِتٌ يُصْرَفُ إِلَى بِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَتْ خَرِبَةً وَإِلَّا فَإِلَى كُلِّ مَسْجِدٍ مِنْ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيهَا الْخُمُسُ، وَدَفَعَهُ أَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِمَا ذُكِرَ أَوَّلًا. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَمَّارٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] وَفِي غَيْرِهِ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ تَكُونُ سِتَّةً. وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ. قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ، وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مِثْلُ دِرْعٍ وَسَيْفٍ وَجَارِيَةٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ، كَمَا اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ، وَهُوَ سَيْفُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَتَى بِهِ عَلِيٌّ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مُنَبِّهًا، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَكَمَا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَلِيفَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِإِمَامَتِهِ لَا بِرِسَالَتِهِ، وَدُفِعَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إِنَّمَا قَسَّمُوا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَقَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَفَعُوا سَهْمَهُ لَا يُقْسَمُ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ حُكْمٌ عُلِّقَ بِمُشْتَقٍّ وَهُوَ الرَّسُولُ، فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَهُوَ الرِّسَالَةُ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْخُمُسَ يُقْسَمُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ، فَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَذَوِي الْقُرْبَى لَا يَحِلُّ لَهُمْ، هَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ وَرَأْيُ الطَّحَاوِيِّ، أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْيَتَامَى الْمَذْكُورِينَ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْهُمْ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَفُقَرَاءُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ.

ص: 2576

فَإِنْ قِيلَ: فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ سَهْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيَتِيمِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ: لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. أَجَابَ: بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تَقْضِي إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ وَفِي التُّحْفَةِ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفُ الْخُمُسِ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ، حَتَّى لَوْ صُرِفَ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ وَعِنْدَ مَالِكٍ: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إِنْ كَانَ أَمْرُهُمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَيُدْفَعُ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ النَّصِّ لِلشَّافِعِيِّ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ، وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمُ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ، فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ لَا يَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ. وَلَنَا: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم:«أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ» . وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَدَعَا مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: سَلَكَ أَبِي وَاللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ. قُلْتُ: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: كَرِهَ وَاللَّهِ أَنْ يُدْعَى بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما اهـ.

وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا إِجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ لِاجْتِهَادِهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ، كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمَا إِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ، وَكَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ: وَلَا إِجْمَاعَ دُونَ أَهْلِ الْبَيْتِ ; لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ لِكَرَاهَةِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ خِلَافُهُمَا، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إِلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ التَّنْكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقًّا لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا ; لَأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام ; لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ. أُجِيبَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ، لِمَا أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إِلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا: لَا

ص: 2577

يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَلَا غُسَالَةِ الْأَيْدِي إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ وَيَكْفِيكُمْ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ: رَغِبْتُ عَنْ غُسَالَةِ أَيْدِ النَّاسِ إِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ، وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى، فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ فُقَرَائِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَصْرَفًا مُسْتَمِرًّا، وَيُنَافِيهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ مَنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِيَّاهُمْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَذَا يُنَافِيهِ إِعْطَاؤُهُ عليه الصلاة والسلام لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ كَمَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ، وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ يَدْفَعُ السُّؤَالَ الثَّانِيَ، لَكِنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةَ مَعَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ نَصَرَتْهُ، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام كَالْعَبَّاسِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْخُلَفَاءِ أَنْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوهُمْ، بَلْ حَصَرُوا الْقِسْمَةَ فِي الثَّلَاثَةِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا سَيَرْوِيهِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ سَهْمًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إِعْطَاءُ عُمَرَ بِقَيْدِ الْفُقَرَاءِ مَرْوِيًّا، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَا لَبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْهُ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْتُ عَلِيًّا قَالَ: اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي حَقَّنَا فِي هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أُقَسِّمُهُ فِي حَيَاتِكَ لِئَلَّا يُنَازِعَنِيَ أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ. قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْتُهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وِلَايَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، حَتَّى كَانَ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: بِنَا الْعَامُ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ فَرَدَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ! حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لَا يُرَدُّ عَلَيْنَا، فَكَانَ رَجُلًا ذَاهِبًا، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الْإِعْطَاءِ بِفَقْرِ الْمُعْطَى مِنْهُمْ، وَكَيْفَ الْعَبَّاسُ كَانَ مِمَّنْ يُعْطَى وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالْفَقْرِ، مَعَ أَنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقْسِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَفِي حَدِيثِ: أَنَّهُ قَسَمَ لَهُمْ، وَحَدِيثُ جُبَيْرٍ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ اهـ.

وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى لِبَيَانِ مَصْرِفِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ مَنْعُهُمْ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْبَى وَإِنْ قُيِّدَتْ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُؤَازَرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بَقُوا بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطُوهُمْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ حَتَّى جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَأَنْ يُعْطَى تَمَامُ الْخُمُسِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ يُعْطَى تَمَامُهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يُعْطَى تَمَامُهُ لِلْيَتَامَى، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ التُّحْفَةِ، فَجَازَ لِلرَّاشِدِينَ أَنْ يَصْرِفُوهُ إِلَى غَيْرِهِمْ خُصُوصًا، وَقَدْ رَأَوْهُمْ أَغْنِيَاءَ مُتَمَوِّلِينَ إِذْ ذَاكَ، وَرَأَوْا صَرْفَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ أَنْفَعُ، وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ مَصْرِفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ كَانَ لِلنُّصْرَةِ، فَلِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِسَنَدِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَضَعَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ، وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَ فِيهِمْ فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّاهُ نُصْرَةَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِذْ ذَاكَ آخِرَ قِتَالٍ، فَهُوَ يُشِيرُ إِلَى دُخُولِهِمْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَالْقِصَّةُ فِي السِّيرَةِ شَهِيرَةٌ وَعَنْ هَذَا اسْتَحَقَّتْ ذَرَّارِيهِمْ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي نُصْرَةٌ مِنْهُمْ. وَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.

ص: 2578

3994 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا وَأَقَمْتُمْ بِهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ; فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3994 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا ") أَيْ: بِلَا قِتَالٍ بِأَنْ خَلَا أَهْلُهَا، أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا، (" وَأَقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا ") أَيْ: لَا يَخْتَصُّ بِكُمْ بَلْ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْكُمْ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَالِ يَكُونُ فَيْئًا، وَالْفَيْءُ لَا يَخْتَصُّ بِالْخَارِجِينَ لِلْمُحَارَبَةِ. (" وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ") أَيْ: فَأَخَذْتُمْ مِنْهُمْ مَالًا بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ (" فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ ") أَيْ: بَقِيَّةُ أَمْوَالِهِمْ وَأَرَاضِيهَا (" لَكُمْ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: ذَلِكَ الْمَالُ يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْهَا، وَفِيهِ أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ لَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يُخَمَّسُ كَمَالِ الْغَنِيمَةِ، فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ بِالْأُولَى مَا فَتَحَهُ الْعَسْكَرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهِيَ لِلْعَسْكَرِ، وَبِالثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فَيَأْخُذُ الْخُمُسَ وَالْبَاقِي لَهُمْ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى الْفَيْءَ الَّذِي يُوجِفُ الْمُسْلِمُونَ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ، بَلْ خَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ وَصَالَحُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ سَهْمُهُمْ فِيهَا أَيْ: حَقُّهُمْ مِنَ الْعَطَاءِ كَمَا يُصْرَفُ الْفَيْءُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالثَّانِيَةِ مَا أَخَذَهُ عَنْوَةً فَيَكُونُ غَنِيمَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْخُمُسُ، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْخُمُسَ فِي الْفَيْءِ كَمَا أَوْجَبُوهُ كُلُّهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ.

وَقَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ سَوَاءً: لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ أَيْ: كُلُّ قَرْيَةٍ غَزَوْتُمُوهَا وَاسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ أَكُنْ أَنَا فِيكُمْ وَقَسَمْتُمُ الْغَنَائِمَ بِأَنْفُسِكُمْ، فَسَهْمُكُمْ فِي تِلْكَ الْغَنَائِمِ، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ أَيْ: وَأَنَا قَدْ حَضَرْتُ قِتَالَهَا بِنَفْسِي، فَأَنَا أُخَمِّسُ الْغَنَائِمَ، ثُمَّ أُقَسِّمُ عَلَيْكُمْ بِنَفْسِي.

قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: "، ثُمَّ " هِيَ لَكُمْ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ، وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلْقَرْيَةِ، وَالْمُرَادُ هِيَ وَمَا فِيهَا، وَلِذَلِكَ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقَرْيَةِ أَيِ: الْقَرْيَةُ مَعَ مَا فِيهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لَكُمْ، وَكَنَّى عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ فِي اللَّهِ وَيُجَاهِدُونَ لِلَّهِ، فَمَنْ قَاتَلَهُمْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مَعَ رُءُوسِ أَهْلِهَا اسْتِرْقَاقًا وَأَمْوَالِهِمْ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَقَسَمَ مَا سِوَاهُمْ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِي، وَيَضَعُ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ الْعُشُرَ ; لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْمَاءِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ أَهُوَ مَاءُ الْعُشُرِ، كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْآبَارِ، أَوْ مَاءُ الْخَرَاجِ كَالْآبَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ ; لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فَقَطْ فَمَكْرُوهٌ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ مَا يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الْأَرَاضِي إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْعِلَاقُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ مَعَ الْمَالِ دُونَ الْأَرْضِ، أَوْ بِرِقَابِهِمْ فَقَطْ، فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِرَدِّهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، نَعَمْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْرَارَ ذِمَّةٍ بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُونَ فُقَرَاءَ يَكْتَسِبُونَ بِالسَّعْيِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ بِقِسْمَتِهِ عليه الصلاة والسلام خَيْبَرَ مِمَّا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ بَلْدَةً وَلَا قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ:

ص: 2579

لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فُتِحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا، كَمَا قَسَمَ صلى الله عليه وسلم سُهْمَانًا، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا، فِي أَبِي دَاوُدَ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ قَسَمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسْمًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كَلُّ سَهْمٍ مِائَةً. يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَكَانَ النِّصْفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيخُ وَالْكَثِيبَةُ وَالسَّلَالِمُ وَتَوَابِعُهَا، فَلَمَّا صَارَتِ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ. زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وُقُوفًا عَلَى الْعَمَلِ، فَأَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إِلَى الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً، أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: فَإِنَّمَا دَخَلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَهُمَا الْوَطِيخُ وَالسَّلَالِمُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنَ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إِلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ اهـ.

وَلَا شَكَّ فِي إِقْرَارِ عُمَرَ أَهْلَ السَّوَادِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ، أَوْ غَامِرٍ عَمَلَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَفَرَضَ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةً، وَعَلَى الرِّطَابِ خَمْسَةً، وَفَرَضَ عَلَى رِقَابِ الْمُوسِرِينَ فِي الْعَامِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَعَلَى مَنْ دُونَهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحُمِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ إِلَى عُمَرَ ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَجُعِلَتْ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَالْمَنْقُولَاتُ لِلْغَانِمِينَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهَا بِأَهْلِ الْخُمُسِ، لَكِنَّهُ اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ وَاسْتَرَدَّهَا وَرَدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: بَاعَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِثَمَنٍ مُنَجَّمٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] أَيِ: الْغَنِيمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، وَلِلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ وَبِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَلَمْ يُحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضَهَا، وَلِذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَدْعَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَعْوَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقِيضِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2580

3995 -

وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3995 -

(وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ رضي الله عنها : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ صَحَابِيَّةٌ بِنْتُ تَامِرٍ، حَدِيثُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ ") : بِالْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ: يُسْرِعُونَ وَيَدْخُلُونَ وَيَتَصَرَّفُونَ (" فِي مَالِ اللَّهِ ") أَيْ: فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ (" بِغَيْرِ حَقٍّ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ (" فَلَهُمُ النَّارُ ") أَيْ: أَبَدًا إِنِ اسْتَحَلُّوا وَإِلَّا فَمُدَّةٌ شَاءَهَا اللَّهُ تَعَالَى (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ دُخُولِهِمُ النَّارَ قَبْلَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2581

3996 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فُرْسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفُقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَتَمُّ.

ــ

3996 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ. وَذَاتُ مُقْحَمَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ كَوْنِ الْيَوْمِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ (فَذَكَرَ الْغُلُولَ) : بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَعَمُّ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (فَعَظَّمَهُ) أَيْ: شَأْنَهُ عُطِفَ عَلَى فَذَكَرَ تَفْسِيرًا لَهُ (وَعَظَّمَ أَمْرَهُ) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى فَعَظَّمَهُ عَلَى طَرِيقَةِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرْمُهُ أَيْ: كَرَمُ زَيْدٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] وَقَوْلُهُ فَعَظَّمَهُ عُطِفَ عَلَى فَذَكَرَ الْغُلُولَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى (ثُمَّ قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ لَا أَجِدَنَّ (" أَحَدَكُمْ ") : كَقَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا نَهَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَجِدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ وَقَوْلُهُ:(" يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : حَالٌ مِنْ أَحَدِكُمْ وَقَوْلُهُ: (" عَلَى رَقَبَتِهِ ") : مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَجِيءُ وَقَوْلُهُ: (" بَعِيرٌ ") : فَاعِلُ الظَّرْفِ لِاعْتِمَادِهِ أَيْ: هَذِهِ حَالَةٌ فَظِيعَةٌ شَنِيعَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَرَاكُمْ عَلَيْهَا لِفَضِيحَتِكُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْبَعِيرِ (رُغَاءٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ صَوْتُ الْإِبِلِ يُقَالُ: رَغَا يَرْغُو رُغَاءً ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ (يَقُولُ) أَيْ: أَحَدُكُمْ (" يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِغَاثَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ (" فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ ") أَيْ: مِنَ اللَّهِ (" لَكَ ") أَيْ: لِأَجْلِكَ (" شَيْئًا ") أَيْ: مِنَ الدَّفْعِ وَالنَّفْعِ، وَالْمَعْنَى لَا أَدْفَعُ عَنْكَ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (" قَدْ أَبْلَغْتُكَ ") أَيْ: وَثَبَتَتْ عَلَيْكَ الْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54](" «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فُرْسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ» ") : بِالْحَاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ صَوْتُ الْفَرَسِ دُونَ الصَّهِيلِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَرَّدَ وَيُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ صَوْتِهِ، وَسَبَقَ عَنِ الْقَامُوسِ أَنَّ الْفَرَسَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. ( «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ» ") : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ صَوْتُ الشَّاءِ (" «يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ» ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ بِالنَّفْسِ

ص: 2581

الْمَمْلُوكَ الَّذِي يَكُونُ قَدْ غَلَّهُ مِنَ السَّبْيِ وَقِيلَ: الْمَقْتُولُ بِغَيْرِ حَقٍّ (" «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ» ") : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْعَةٍ. وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الثَّوْبِ أَيْ: ثِيَابٌ يَغُلُّهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ يَأْخُذُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يَلْبَسُهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَمُرَقَّعَاتِ الصُّوفِيَّةِ الْجَهَلَةِ. (" تَخْفِقُ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ اضْطِرَابَ الرَّايَةِ (" «فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ» ") : خِلَافُ نَاطِقٍ. أَيْ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا (" فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مَعْنًى (وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ) أَيْ: لَفْظُ مُسْلِمٍ (أَتَمُّ) أَيْ: أَتَمُّ تَفْصِيلًا مِنْ لَفْظِ الْبُخَارِيِّ، وَلِذَا اخْتِيرَ.

ص: 2582

3997 -

(وَعَنْهُ) قَالَ: «أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ فَبَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَصَابَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ". فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3997 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا) أَيْ: مَمْلُوكًا (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِلْغُلَامِ (مِدْعَمٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مِدْعَمٌ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَبْدٌ أَسْوَدُ كَانَ عَبْدًا لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَأَهْدَاهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ ذِكْرٌ فِي الْغُلُولِ (فَبَيْنَمَا) : بِالْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَبَيْنَا (مِدْعَمٌ يَحُطُّ) أَيْ: يَضَعُ (رَحْلًا) أَيْ: عَنْ ظَهْرِ مَرْكُوبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ) : بِسُكُونِ الذَّالِ لِلْمُفَاجَأَةِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا (أَصَابَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ الْمُبْدَلَةِ أَيْ: لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ الْعَائِدُ عَنْ قَصْدِهِ، وَمِنْهُ عَارَ الْفَرَسُ إِذَا ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ مُنْفَلِتٌ (قَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ) أَيْ: لِمِدْعَمٍ (الْجَنَّةُ) ; لِأَنَّهُ مَاتَ فِي خِدْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" كَلَّا ") : لِلرَّدْعِ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَظُنُّونَ (" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ ") : وَهِيَ كِسَاءٌ يَشْتَمِلُ بِهِ الرَّجُلُ (" الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ (" لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ ") : الضَّمِيرُ لِلشَّمْلَةِ، أَوْ لِلْغَنَائِمِ، وَالْمَعْنَى أَخَذَهَا قَبْلَ قِسْمَتِهَا، أَوْ قَبْلَ إِدْخَالِهَا فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ مَنْصُوبِ أَخَذَهَا أَيْ: غَيْرُ مَقْسُومَةٍ أَيْ: أَخَذَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ غُلُولًا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفِدِ الرَّدُّ شَيْئًا (" لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ") أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ فَفِيهِ رَدٌّ لِكَلَامِهِمُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ سَابِقَةِ عُقُوبَةٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: إِنَّ الشَّمْلَةَ إِلَخْ. جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أَنَّهُ الْآنَ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُ فِيهَا، وَأَدْخَلَ كَلَّا لِيَكُونَ رَدْعًا لِحُكْمِهِمْ وَإِثْبَاتًا لِمَا بَعْدَهُ، وَيَنْصُرُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ: نَارًا تَمْيِيزٌ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ أَيِ: الشَّمْلَةُ اشْتَعَلَتْ وَصَارَتْ بِجُمْلَتِهَا نَارًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]()(فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ) أَيِ: الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ (النَّاسُ) أَيِ: الَّذِينَ تَهَاوَنُوا فِي أَمْرِ خِيَانَةِ الْمَغْنَمِ، وَظَنُّوا أَنَّ مُحَقَّرَاتِهَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهَا (جَاءَ رَجُلٌ بِشَرَاكٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ (أَوْ بِشِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : بِالشَّكِّ (قَالَ: شِرَاكٌ مِنَ النَّارِ ") أَيْ: إِنْ لَمْ يُرَدَّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ ("، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ") أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مَجْعُولَيْنِ مِنَ النَّارِ، أَوْ بِمِقْدَارِهِمَا مِنْهَا، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ جَسِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَالِ الْأَوْقَافِ وَكَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الِاسْتِحْلَالِ، أَوْ رَدَّ حُقُوقِ الْعَامَّةِ مُتَعَذِّرٌ، أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

ص: 2582

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بِهِمَا إِمَّا بِنَفْسِهِمَا أَيْ: يُغْلَى بِهِمَا وَهُمَا مِنْ نَارٍ، أَوْ هُمَا سَبَبَانِ لِعَذَابِ النَّارِ، وَفِيهِ غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ حَتَّى الشِّرَاكِ، وَأَنَّ الْغُلُولَ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ غَلَّ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ؛ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَهَادَتِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهِيدِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ ذَنَبٌ، أَوْ دَيْنٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَجَوَازُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قَالَتْ بَلْ هُوَ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِمَّا غَلَّ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُحْرَقُ مَتَاعُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ:«مَنْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ» ، فَضَعِيفٌ بَيَّنَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ ضَعْفَهُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى رَدِّهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَعْدَهَا حَيْثُ يُتَعَذَّرُ وُصُولُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2583

3998 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ فِي النَّارِ " فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3998 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو)، بِالْوَاوِ (قَالَ: كَانَ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْمَغَازِي (عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: رَحْلِهِ وَمَتَاعِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى مَا فِي الْفَائِقِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: يُقَالُ لِكُلِّ خَطِيرٍ نَفِيسٍ ثَقَلٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ: هُوَ الْمَتَاعُ وَنَحْوُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الثِّقَلُ كَعِنَبٍ ضِدَّ الْخِفَّةِ، وَالثَّقَلُ مُحَرَّكَةٌ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ وَالْأَثْقَالُ كُنُوزُ الْأَرْضِ وَمَوْتَاهَا، وَالذُّنُوبُ وَالْأَحْمَالُ الثَّقِيلَةُ وَاحِدَةُ الْكُلِّ ثِقَلٌ بِالْكَسْرِ (رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ) ، بِفَتْحِ الْكَافَيْنِ وَكَسْرِهِمَا، كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ الْأُولَى وَكَسْرِهَا وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِهِمَا اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ يَحْمِلُ أَمْتِعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْقُلُهَا مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ اهـ. وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الْكَافَيْنِ (فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَحَقَّقُوا أَنَّ سَبَبَ وُرُودِهِ النَّارَ هُوَ الْغُلُولُ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى ثَقَلِهِ فَذَهَبُوا (يَنْظُرُونَ) أَيْ: يَتَأَمَّلُونَ، أَوْ يُبْصِرُونَ فِي مَتَاعِهِ (فَوَجَدُوا عَبَاءَةً) : بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ كِسَاءٌ وَاسِعٌ مُخَطَّطٌ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتٍ بِنُقْطَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ وَالْعَبَاءَةُ لُغَةٌ فِيهَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَبَاةُ وَالْعَبَاءَةُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْسِيَةِ وَفِي بَابِ الْهَمْزِ مِنَ الْقَامُوسِ وَالْعَبَاءُ كِسَاءٌ مَعْرُوفٌ كَالْعَبَاءَةِ، وَفِي بَابِ الْيَاءِ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْسِيَةِ كَالْعَبَاءَةِ (قَدْ غَلَّهَا) . أَيْ: خَانَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2583

3999 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:«كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3999 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا) : جَمْعُ الْمَغْزَى وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ زَمَانٍ، أَوْ مَكَانٍ مِنْ غَزَا يَغْزُو فَأَصْلُ مَغَازِينَا أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى نَلْقَى فِيهَا (الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ) أَيْ: كُلًّا مِنْهُمَا وَنَحْوَهُمَا (وَلَا نَرْفَعُهُ) . أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ الْقِسْمَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْغُزَاةِ طَعَامَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ وَغَيْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إِنَّا لَا نَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَسْتَأْذِنُهُ فِي أَكْلِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْإِذْنِ وَأَنْ يُرِيدَ وَلَا نَدَّخِرُهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَأْكُلُوا مَا وَجُدُوهُ مِنَ الطَّعَامِ، حَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا مَا يُؤْكَلُ أَوَّلًا وَمَا يُؤْكَلُ إِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ كَالْهَلِيلِجِ أَوَّلًا. فَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُمُ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكَرْعِ كَالْفَرَسِ، فَيَحُوزُ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ بِأَنْ مَاتَ فَرَسُهُ، أَوِ انْكَسَرَ سَيْفُهُ، أَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ سَيْفَهُ وَفَرَسَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ أُتْلِفَ نَحْوَ الْحَطَبِ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ ; لَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَثَرُ الْمِلْكِ فَضْلًا عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَيَسْتَعْمِلُهُ، نَعَمْ يَرُدُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ إِذَا انْقَضَى الْحَرْبُ، وَكَذَا الثَّوْبُ إِذَا ضَرَّهُ الْبَرْدُ يَسْتَعْمِلُهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ

ص: 2583

إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَاجَ الْكُلُّ إِلَى الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ قَسَمَهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِ السَّبْيِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْسَمُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ لَا أُصُولِهَا، وَأَمَّا مَا يُتَدَاوَى بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَنَاوُلُهُ، وَكَذَا الطِّيبُ وَالْأَدْهَانُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْفُضُولِ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:" «رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ» " وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ بِأَحَدِهِمْ مَرَضٌ يُحْوِجُهُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَلُبْسِ الثَّوْبِ، فَالْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا مَا يُوكَلُ لَا لِلتَّدَاوِي سَوَاءً كَانَ مُهَيَّئًا لِلْإِبِلِ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْخُبْزِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ وَالرَّطْبَةِ وَالْبَصَلِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْأَدْهَانِ الْمَأْكُولَةِ كَالزَّيْتِ، فَلَهُمُ الْأَكْلُ وَالِادِّهَانُ بِتِلْكَ الْأَدْهَانِ ; لِأَنَّ الِادِّهَانَ انْتِفَاعٌ فِي الْبَدَنِ كَالْأَكْلِ، وَكَذَا تَرْقِيحُ الدَّابَّةِ وَهُوَ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالدُّهْنِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يَكُونُ مُهَيَّئًا كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، فَلَهُمْ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا، وَيَرُدُّونَ الْجِلْدَ إِلَى الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ شَرَطَ فِي السَّيْرِ الصَّغِيرِ الْحَاجَةَ إِلَى التَّنَاوُلِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَبِهِ قَالَتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ تَنَاوُلُهُ إِلَّا لِتَاجِرٍ، وَالرَّاجِلُ وَالْجُنْدِيُّ بِأَجْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَلَوْ فَعَلُوا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْخُذُ مَا يَكْفِيهِمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ وَصِبْيَانِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ: " «كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا» ". وَأَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِغَيْرِ هَذَا السَّنَدِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَانِئِ بْنِ كُلْثُومٍ، أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّا فَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: دَعْ يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ، فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

ص: 2584

4000 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، قَالَ:«أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ " مَا أُعْطِيكُمْ " فِي بَابِ " رِزْقِ الْوُلَاةِ "

ــ

4000 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ)، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ رضي الله عنه. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مُزَنِيٌّ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ يُفَقِّهُونَ النَّاسَ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " وَقَالَ: مَا نَزَلَ الْبَصْرَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ كَمُحَمَّدٍ فَرْدٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ. (قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ: لَا يُفْتَحُ الْجِرَابُ وَلَا يُكْسَرُ الْقَنْدِيلُ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجِرَابُ بِالْكَسْرِ وَلَا يُفْتَحُ، أَوْ لُغَيَّةٌ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ (مِنْ شَحْمٍ) أَيْ: فِيهِ بَعْضٌ مِنْهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ بَيَانٌ وَهُوَ صِفَةُ جِرَابًا أَيْ: جِرَابًا مَمْلُوءًا مِنْ شَحْمٍ (يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ) أَنْ عَانَقْتُهُ وَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ (قُلْتُ) أَيْ: سِرًّا، أَوْ جَهْرًا (لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًا إِلَيْهِ، وَبَلَغَ الِاضْطِرَارُ إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ نَفْسَهُ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وَمِنْ ثَمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَالْتَفَتُّ) أَيْ: فَنَظَرْتُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِي (فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ طَعَامِ الْغَنِيمَةِ قَدْرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَدْهَانِ فِي الْبَدَنِ لَهُ حُكْمُ أَكْلِ الطَّعَامِ، وَقَدْ يُحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى الشَّحْمِ لِلسِّرَاجِ وَنَحْوِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ طَعَامِ الْحَرْبِيِّينَ مَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِئْذَانَ الْإِمَامِ إِلَّا الزُّهْرِيَّ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى عِمَارَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَ دَوَابَّهُمْ، وَيَلْبَسَ ثِيَابَهُمْ، وَيَسْتَعْمِلَ سِلَاحَهُمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ الِاسْتِئْذَانِ وَشَرَطَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ شُحُومِ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه " مَا أُعْطِيكُمْ ") أَيْ: وَلَا أَمْنَعُكُمْ أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ. (فِي بَابِ " رِزْقِ الْوُلَاةِ ") : يَعْنِي فَلِتَكْرَارِهِ أُسْقِطُهُ هُنَا.

ص: 2584

الْفَصْلُ الثَّانِي

4001 -

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ قَالَ فَضَّلَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثانِي

4001 -

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ") أَيْ: سَائِرِهِمْ، وَمِنْهُمُ الرُّسُلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". (أَوْ قَالَ فَضَّلَ أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ ") : لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُمْ خَيْرَ الرُّسُلِ، وَقَدْ يُقَالُ: خَيْرِيَّةُ أُمَّتِهِ إِنَّمَا هِيَ لِخَيْرِيَّةِ رَسُولِهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ:

لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِيَنَا لِدَعْوَتِهِ

بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ كُنَّا أَفْضَلَ الْأُمَمِ

(" وَأَحَلَّ لَنَا الْغَنَائِمَ ") : يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِنَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاخْتِصَاصِ هِيَ الْأَفْضَلِيَّةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي عِلَّةً أُخْرَى حَيْثُ وَرَدَ: إِنَّهُ أَحَلَّهَا لَنَا لِعَجْزِنَا وَضَعْفِنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ أَحَلَّ عَلَى فَضَّلَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُصُولِ وَالْوُجُودِ، وَفَوَّضَ تَرَتُّبَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] وَفِي " لَنَا " عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَعْظِيمٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَهَرَ ; لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَدْخَلَ نَفْسَهُ الزَّكِيَّةَ فِي غِمَارِ الْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا أَنَّ الْفَضِيلَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: أَوْ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَضْلَ وَهْبِيٌّ لَا كَسْبِيٌّ وَأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الضَّعِيفَ بِحَيْثُ يَسْتَعْجِبُ الْقَوِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2585

4002 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ يَعْنِي: يَوْمَ حُنَيْنٍ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

4002 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (" «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» ") . فِيهِ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، سَوَاءً كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي الْغَنِيمَةِ أَمْ لَا. كَذَا قِيلَ، وَهَذَا بِطَرِيقٍ التَّنْفِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ:(فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ) : يَعْنِي زَوْجَ أُمِّ أَنَسٍ (يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

ص: 2585

4003 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4003 -

(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : أَحَدُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ شُجْعَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى) أَيْ: حَكَمَ وَأَمَرَ (فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ) أَيْ: تَنْفِيلًا، أَوْ تَشْرِيعًا عَلَى مَا سَبَقَ (وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ) أَيْ: الْمَعْهُودَ، أَوِ الْجِنْسَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ دَفَعَ السَّلَبَ كُلَّهُ إِلَى الْقَاتِلِ وَلَمْ يُقَسِّمْهُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَكَلَّمَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ فِيهِ وَأَطَالَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اهـ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2585

4004 -

وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: نَفَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ قَتَلَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4004 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: نَفَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجِيءُ بَحْثُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَعْطَانِي نَفَلًا زَائِدًا عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ (يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (قَتَلَهُ) . أَيْ: أَبَا جَهْلٍ يَعْنِي حَزَّ رَأْسَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَإِلَّا فَقَدَ قَتَلَهُ الْأَنْصَارِيَّانِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوِ الِالْتِفَاتِ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا جَهْلٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2586

4005 -

وَعَنْ «عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَنِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً كَنْتُ أَرْقِي بِهَا الْمَجَانِينَ، فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا وَحَبْسِ بَعْضِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَتَاعِ.

ــ

4005 -

(وَعَنْ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) أَيْ: مَمْلُوكِهِ لِمَا سَيَأْتِي، أَوْ مَعْتُوقِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَى يَأْبَى، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَوْلَاهُ غِفَارِيٌّ حِجَازِيٌّ، وَهُوَ شَهِدَ فَتْحَ خَيْبَرَ مَعَ مَوْلَاهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَسَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحَفِظَ عَنْهُ (قَالَ: شَهِدْتُ) أَيْ: حَضَرْتُ (خَيْبَرَ) أَيْ: غَزْوَتَهُ (مَعَ سَادَتِي) أَيْ: كِبَارِ أَهْلِي (فَكَلَّمُوا فِيَّ) أَيْ: فِي حَقِّي وَشَأْنِي (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بِمَا هُوَ مَدْحٌ لِي، أَوْ بِأَنْ يَأْخُذَنِي لِلْغَزْوِ (وَكَلَّمُوهُ) أَيْ: وَأَعْلَمُوهُ (أَنِّي مَمْلُوكٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَكَلَّمُوا فِيَّ أَيْ: كَلَّمُوا فِي حَقِّي وَشَأْنِي أَوَّلًا بِمَا هُوَ مَدْحٌ لِي، ثُمَّ أَتْبَعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَنِّي مَمْلُوكٌ (فَأَمَرَنِي) أَيْ: بِأَنْ أَحْمِلَ السِّلَاحَ، وَأَكُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَتَعَلَّمَ الْمُحَارَبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا، أَوْ لِأُقَاتِلَ مَعَهُمْ (فَقُلِّدْتُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (سَيْفًا) أَيْ: جَعَلُونِي مُقَلَّدًا بِسَيْفٍ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (أَنَا أَجُرُّهُ) أَيْ: أَسْحَبُ السَّيْفَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صِغَرِ سِنِّي، أَوْ قِصَرِ قَامَتِي (فَأَمَرَ لِي) أَيْ: عِنْدِ تَقْسِيمِ الْغَنَائِمِ (بِشَيْءٍ) أَيْ: قَلِيلٌ دُونَ السَّهْمِ (مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ)، بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: أَثَاثُ الْبَيْتِ وَإِسْقَاطُهُ كَالْقِدْرِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا رَضَخَهُ بِهَذَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا (وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً) . بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: تَعْوِيذًا (كُنْتُ أَرَقِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: أُعِيذُ (بِهَا الْمَجَانِينَ فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا) أَيْ: بِتَرْكِهِ (وَحَبْسِ بَعْضِهَا) . أَيْ: إِبْقَائِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَتَاعِ) .

ص: 2586

4006 -

وَعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأُعْطِيَ الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِلُ سَهْمًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَأَتَى الْوَهْمُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ.

ــ

4006 -

(وَعَنْ مَجَمِّعِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنِ جَارِيَةَ) ، بِالْجِيمِ وَالتَّحْتِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْحَاءِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، أَوْ ضَعِيفٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَدَنِيٌّ، وَكَانَ أَبُوهُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَكَانَ مُجَمِّعٌ مُسْتَقِيمًا، وَكَانَ قَارِئًا يُقَالُ: أَخَذَ مِنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي آخِرِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (قَالَ: قُسِّمَتْ خَيْبَرُ) أَيْ: غَنَائِمُهَا وَأَرَاضِيهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِصْفَ أَرَاضِي خَيْبَرَ، وَحَفِظَ نِصْفَ أَرْضِهَا لِنَفْسِهِ، وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ أَهْلِهِ وَأَضْيَافِهِ اهـ. وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. (عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ) ، بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ

ص: 2586

فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأُعْطِيَ الْفَارِسُ) أَيْ: صَاحِبُ الْفَرَسِ مَعَ فَرَسِهِ (سَهْمَيْنِ، وَالرَّاجِلُ) بِالْأَلِفِ أَيْ: الْمَاشِي (سَهْمًا) وَالْمَعْنَى أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةٍ مِنَ الْفَوَارِسِ سَهْمَيْنِ، فَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، فَيَكُونُ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ سَهْمٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُرِيدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ» ". قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لِكُلِّ فَارِسٍ سَهْمَانِ ; لِأَنَّ الرَّجَّالَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُمُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا الْكُلُّ مِائَةُ سَهْمٍ وَلِلْفُرْسَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ مِائَةٍ سَهْمَانِ، فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَمُشْكِلٌ ; لِأَنَّ سِهَامَ الْفُرْسَانِ تِسْعَةٌ، وَسِهَامَ الرِّجَالِ اثْنَا عَشَرَ، فَالْمَجْمُوعُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ) : تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ وَهُوَ الْأَقَلُّ أَوْلَى (وَالْعَمَلُ) : أَنَّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَأَتَى الْوَهْمُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ أَنَّهُ) أَيْ: مِنْ أَنَّهُ (قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ) . فَعَلَى هَذَا كَانَ نَصِيبُ الْفُرْسَانِ سِتَّةً، وَنُصِيبُ الرَّجَّالَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْجَيْشَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ لَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَإِذًا هَذِهِ الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ مِائَةُ عَبْدٍ وَلَمْ يُقْسَمْ لَهُمْ سَهْمٌ، إِذْ لَا سَهْمَ لِلْعَبْدِ، بَلْ يُعْطَى رَضْخًا كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.

قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيثُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ قَسَمَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَأَعْطَى سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْهَا الْفُرْسَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمَانِ، وَأَعْطَى الْبَاقِيَ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا الرَّجَّالَةَ، وَهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ مِائَةِ سَهْمٌ، فَيَكُونُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ مَشَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ; لِأَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ صَرِيحًا، بَلْ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ شَيْءٌ يَقْتَضِي الْحِسَابَ وَالتَّخْمِينَ، مَعَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ فِي دِيوَانِهِ وَهُوَ قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَجْمُوعُ الْغَانِمِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ نَفَرٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ جَابِرٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحِسَابُ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» " فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَحْفَظُ وَأَثْبَتُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كُلِّهِمْ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي جَامِعَيْهِمَا، وَرَوَيَا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ اهـ. وَقَدْ أَسْمَعْنَاكَ فِيمَا أَسْلَفْنَا لَكَ تَحْقِيقَ هَذَا الْمَرَامِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ.

ص: 2587

4007 -

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4007 -

(وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ (الْفِهْرِيِّ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ قُرَشِيٌّ فِهْرِيٌّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ حَبِيبُ الرُّومِ لِكَثْرَةِ مُجَاهَدَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَكَانَ فَاضِلًا مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَمَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ مُلَيْكَةَ وَغَيْرُهُ (قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسَكَّنُ وَالتَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ (فِي الْبَدْأَةِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: ابْتِدَاءُ سَفَرِ الْغَزْوِ (وَالثُّلُثَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: وَنَفَّلَ الثُّلُثَ (فِي الرَّجْعَةِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: فِي الرُّجُوعِ عَنِ الْغَزْوِ، وَهُمْ فِي السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِذَا نَهَضَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ فَوَقَعَتْ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ قَبْلَ وُصُولِ الْجَيْشِ كَانَ لَهُمُ الرُّبُعُ مِمَّا غَنِمُوا، وَيُشَارِكُهُمْ سَائِرُ الْعَسْكَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَإِنْ رَجَعُوا مِنَ الْغَزْوِ، ثُمَّ وَقَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ بِالْعَدُوِّ كَانَ لَهُمُ الثُّلُثُ مِمَّا غَنِمُوا لِزِيَادَةِ مَشَقَّتِهِمْ وَخَطَرِهِمْ، وَيُشَارِكُهُمْ سَائِرُهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّ وُجْهَةَ السَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ فِي الْبَدْأَةِ وَاحِدَةٌ، فَيَصِلُ مَدَدُهُمْ إِلَيْهِمْ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2588

4008 -

وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ» . إِذَا قَفَلَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4008 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حَبِيبٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ) أَيْ: فِي الْبَدْأَةِ (بَعْدَ الْخُمُسِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَ الْخُمُسَ (وَالثُّلُثَ) أَيْ: وَيُنَفِّلُ الثُّلُثَ (بَعْدَ الْخُمُسِ إِذَا قَفَلَ) . قَيْدٌ لِلْمَعْطُوفِ أَيْ: إِذَا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ كَالَّذِي قَبْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ إِعْطَاءَهُ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَبَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ أَوَّلًا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ وَيَصْرِفُهُ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يُعْطِي رُبُعَ، أَوْ ثُلُثَ مَا بَقِيَ لِأَهْلِ الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: النَّفَلَ اسْمٌ لِزِيَادَةٍ يَخُصُّ بِهَا الْإِمَامُ بَعْضَ الْجَيْشِ عَلَى مَا يُعَايِنُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَزِيدِ سَعْيٍ وَاقْتِحَامِ خَطَرٍ، وَالتَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ النَّفَلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ الرُّبُعَ أَيْ: فِي الْبَدْأَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهِيَ ابْتِدَاءُ سَفَرِ الْغَزْوِ، وَكَانَ إِذَا نَهَضَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ وَابْتَدَرُوا إِلَى الْعَدُوِّ، وَأَوْقَعُوا بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَمَا غَنِمُوا كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا الرُّبُعَ، وَيُشْرِكُهُمْ سَائِرَ الْعَسْكَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، وَكَانَ يُنَفِّلُ الثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ وَهِيَ قُفُولُ الْجَيْشِ مِنَ الْغَزْوِ، فَإِذَا قَفَلُوا وَرَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَوْقَعُوا بِالْعَدُوِّ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَ يُعْطِيهِمْ مِمَّا غَنِمُوا الثُّلُثَ ; لِأَنَّ نُهُوضَهُمْ بَعْدَ الْقَفْلِ أَشَقُّ وَالْخَطَرَ فِيهِ أَعْظَمُ.

وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّنْفِيلَ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ الْخُمُسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ لِلْغَانِمِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا يُعْطِي النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي، أَوْ زِيَادَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَدَمُهَا فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْمَعْنَى. قُلْتُ: فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يَسُدُّ اسْتِنْبَاطَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَبْنِيِّ وَعَدَمِهَا فِي حَدِيثِ: كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ وُجُودِهَا فِي آخَرَ، مَعَ أَنَّ الْإِثْبَاتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ وَالْقَيْدَ وَالتَّبْيِينَ حُكْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِجْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُعْطَى النَّفَلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالسَّلَبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2588

4009 -

وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: أَصَبْتُ بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً حَمْرَاءَ فِيهَا دَنَانِيرُ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ: مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَانِي مِنْهَا مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا نَفَلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ لَأَعْطَيْتُكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4009 -

(وَعَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَّةِ) : تَصْغِيرُ الْجَارِيَةِ (الْجَرْمِيِّ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ رضي الله عنه، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ حِطَّانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونِ ابْنُ خُفَافٍ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ الْأُولَى تَابِعِيٌّ، مَشْهُورٌ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: أَصَبْتُ بِأَرْضِ الرُّومِ جَرَّةً) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ظَرْفٌ مَعْرُوفٌ مِنَ الْخَزَفِ (حَمْرَاءَ فِيهَا دَنَانِيرُ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ)، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فِي الْقَامُوسِ: الْإِمْرُ مَصْدَرُ أُمِّرَ عَلَيْنَا مُثَلَّثَةٌ إِذَا وُلِّيَ، وَالِاسْمُ الْإِمْرَةُ بِالْكَسْرِ، وَقَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ مَصْدَرٌ وَهْمٌ، وَالْمَعْنَى فِي زَمَانِ إِمَارَتِهِ، أَوْ خِلَافَتِهِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ (وَعَلَيْنَا رَجُلٌ) أَيْ: أَمِيرٌ (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَمَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ)، بِالتَّصْغِيرِ (يُقَالُ لَهُ: مَعْنُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنُ يَزِيدَ) أَيْ: ابْنُ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، شَهِدُوا بَدْرًا فِيمَا قِيلَ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ وَائِلُ بْنُ كُلَيْبٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (فَأَتَيْتُهُ بِهَا) أَيْ: فَجِئْتُ إِلَى مَعْنٍ بِالْجَرَّةِ (فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: مِنَ الْغُزَاةِ (وَأَعْطَانِي مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْجَرَّةِ (مِثْلَ مَا أَعْطَى رَجُلًا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا نَفَلَ ") : بِفَتْحَتَيْنِ (" إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ لَأَعْطَيْتُكَ ") . أَيْ: بَعْضُهَا (" نَفَلًا ") .

قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنَفِّلْ أَبَا الْجُوَيْرِيَّةِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي وَجَدَهَا لِسَمَاعِهِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " «لَا نَفَلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُسِ» " وَأَنَّهُ الْمَانِعُ لِتَنْفِيلِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَلَعَلَّ الَّتِي وَجَدَهَا كَانَتْ مِنْ عِدَادِ الْفَيْءِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَ النَّفَلَ مِنْهُ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الرَّاوِيَ كَانَ يَرَى النَّفَلَ بَعْدَ التَّخْمِيسِ، وَرَآهُ مِنَ الْخُمُسِ، وَيَرَى ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْخُمُسِ دُونَ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ عَلَى وَجْهِهِ، وَوَقَعَ السَّهْوُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ فِيهِ: لَا نَفَلَ بَعْدَ الْخُمُسِ أَيْ: لَا نَفَلَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَمْثَلُ اهـ. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2589

4010 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ، أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4010 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا) أَيْ: مِنَ الْحَبَشَةِ (فَوَافَقْنَا) : بِالْفَاءِ وَالْقَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ أَيْ: صَادَفْنَا. (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ) ، تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ السَّابِقَانِ عَلَيْهِ (فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا) أَيْ: مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ (وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ)، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِلتَّأْكِيدِ وَقَوْلُهُ:(إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا) : اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَحَدٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: جَعْلُهُ بَدَلًا أَظْهَرُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالنَّصْبِ، وَوَهِمَ بَعْضُهُمْ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَلَيْسَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ حَضَرَ فَتْحَ خَيْبَرَ هُمْ أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ لَا غَيْرُ (جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ) ، عَطْفُ بَيَانٍ لِأَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَلَمَّا عَلِمُوا بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُوَّةِ دِينِهِ رَجَعُوا، وَكَانُوا رَاكِبِينَ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا وَافَقَ قُدُومُهُمْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُدُومِهِمْ (أَسْهَمَ لَهُمْ) أَيْ: لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ (مَعَهُمْ) . أَيْ: مَعَ مَنْ شَهِدُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَحَضَرُوا مَعَهُ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا أَسْهَمَ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ وَرَدُوا عَلَيْهِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَبْلَ حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ شَارَكَ فِيهَا الْغَانِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَرِضَاهُمْ بِهِ.

ص: 2589

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَظْهَرُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ دُونَ حُقُوقِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: فَأَسْهَمَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ مِنْ نَفْسِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ لَيْسَ بِسَهْمٍ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالسَّهْمِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَهُوَ النَّصِيبُ فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ: أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا أَيْ: مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلْخُمُسِ وَغَيْرِهِ، وَ (أَوْ) لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَوْ أَعْطَاهُمْ بِرِضَا الْغُزَاةِ لَشَاعَ فِيهِمْ، وَنُقِلَ إِلَيْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَأَيْضًا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْقِسْمَةِ لَهُمْ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ. قُلْتُ: الْقِسْمَةُ لُغَوِيَّةٌ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ شَيْءٍ فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّ سِيَاقَ كَلَامِ أَبِي مُوسَى وَارِدٌ عَلَى الِافْتِخَارِ وَالْمُبَاهَاةِ، فَيُسْتَدْعَى اخْتِصَاصُهُمْ بِمَا لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ. قُلْتُ: الْمُبَاهَاةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ خُمُسِ خُمُسِهِ أَظْهَرُ وَأَطْهَرُ. قَالَ: وَالرَّضْخُ وَالْخُمُسُ مُشْتَرِكٌ فِيهِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَغَيْرُهُمَا، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ فِيهِ. قُلْتُ: هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَالْكَلَامُ فِي الْغَائِبِينَ، فَحَصَلَ اخْتِصَاصُهُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ. قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ قِسْمَةَ خَيْبَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. قُلْتُ: وَكَذَا نَزِيدُ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ آخَرُ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعٍ. قُلْتُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ. قَالَ: فَلَا يَنْتَهِي دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سَهْمَا الْفَارِسِ سَهْمَانِ. قُلْتُ: سَبَقَ إِثْبَاتُهُ بِهِ وَبِأَدِلَّةٍ أُخْرَى مَبْسُوطَةٍ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا لَحِقَهُ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكَهُمُ الْمَدَدُ فِيهَا. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَا مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَجَازَ أَنْ يُشَارِكَهُمُ الْمَدَدُ إِذَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَدَدِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْقِسْمَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْعُ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ لِحَاقِ الْمَدَدِ، هَذَا وَعَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ الْمَبْنِيَّ تَأَكُّدُ الْحَقِّ وَعَدَمُهُ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«بَعَثَ عليه الصلاة والسلام أَبَانًا عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَمْ يَقَسِمْ لَهُمْ» لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ وُصُولَ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ شَرِكَةً، وَخَيْبَرُ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا، فَكَانَ قُدُومُهُمْ وَالْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِسْهَامُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ:«بَلَغَنَا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغُرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ أَكْبُرُهُمْ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا حَتَّى قَدِمَا، فَوَافَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا وَلَمْ يُسْهِمْ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ خَيْبَرَ إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا» . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِيَسْتَمِيلَ قُلُوبَهُمْ، لَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ حَسَنٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا قَبْلَ حَوْزِ الْغَنَائِمِ خِلَافَ مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ كَوْنِ الْوُصُولِ قَبْلَ الْحَوْزِ وَبَعْدَ كَوْنِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ، ثُمَّ لَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: كَقَوْلِنَا، وَالْآخَرُ يُسْهَمُ لَهُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:" «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» ". وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَظَهَرُوا، فَأَرَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ! تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا مِنْ غَنَائِمِنَا، وَكَانَتْ أُذُنُهُ جُدِعَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خَيْرَ أُذُنٍ سَبَبْتَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الْمُجْتَهِدِ إِيَّاهُ، وَكَذَا عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ، تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَالْوَقْعَةُ هِيَ الْقِتَالُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمُجْمَلِ: الْوَقْعَةُ صَدْمَةُ الْحَرْبِ وَشُهُودُهُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِإِظْهَارِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، وَالتَّجْهِيزِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَأَمَّا تَحْقِيقُهُ قِتَالَهُ بِأَنْ كَانَ خُرُوجُهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ، كَالسُّوقِيِّ وَسَائِسِ الدَّوَابِّ، فَإِنَّ خُرُوجَهُ ظَاهِرٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ شُهُودِهِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِذَا قَاتَلَ ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ كَالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لَا يَنْقُصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ.

ص: 2590

4011 -

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ: «أَنِّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ " فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

4011 -

(وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه . لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَهُوَ فِي النُّسَخِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُغْنِي بِتَحْتِيَّةٍ وَزَايٍ وَلَدُ خَالِدٍ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ حَذْفُهَا إِذْ لَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ إِنَّمَا فِيهَا زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوا) أَيْ: خَبَرَ مَوْتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ") : وَالْمَعْنَى أَنَا لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ (فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ) أَيْ: لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ، (فَقَالَ:" إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا) : بِفَتْحَتَيْنِ مَا يَنْتَظِمُ مِنْ جَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ وَغَيْرِهِمَا (مِنْ خَرَزِ يَهُودَ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 2591

4012 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً، أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ، فَيُخَمِّسُهُ وَيُقَسِّمُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، قَالَ: " أَسْمَعْتَ بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ " فَاعْتَذَرَ. قَالَ: " كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4012 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ رضي الله عنهما (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً) أَيْ: وَأَرَادَ جَمْعَهَا وَتَقْسِيمَهَا (أَمَرَ بِلَالًا:) أَيْ: بِالنِّدَاءِ (فَنَادَى) أَيْ: بِلَالٌ (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِي مَحَاضِرِهِمْ (فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُحْضِرُونَهَا (فَيُخَمِّسُهُ) أَيْ: مَا يَجِيئُونَ بِهِ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتُخَفَّفُ (وَيُقَسِّمُهُ) : بِفَتْحِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَبِتَشْدِيدِ السِّينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَهِيَ امْتِثَالُهُمْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي حِينَ أَمَرَهُمْ بِإِحْضَارِ الْغَنَائِمِ لَمْ يَمْكُثُوا وَلَمْ يَلْبَثُوا وَلَمَّا مَكَثَ الرَّجُلُ وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ عَادَ إِلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَقَالَ:(فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ التَّخْمِيسِ (بِزِمَامٍ) : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: بِخِطَامٍ (مِنْ شَعَرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا) أَيِ: الزِّمَامُ (فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ) أَيْ: فِيهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا (قَالَ: أَسْمِعْتَ بِلَالًا، نَادَى ثَلَاثًا "؟) أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ، أَوْ أَيَّامٍ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:" فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهَا) أَيْ: أَوَّلًا (فَاعْتَذَرَ) أَيْ: لِلتَّأْخِيرِ اعْتِذَارًا غَيْرَ مَسْمُوعٍ (قَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهِيَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ، وَبِنَاءُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ سَبِيلِ التَّقْوَى وَتَخْصِيصُ الْكَيْنُونَةِ، قُلْتُ: وَكَذَا تَأْكِيدُهُ وَتَأْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: (" فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ ") : قَالَ: وَالْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ مُبْتَدَأً، وَتَجِيءُ خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ كَانَ، وَقَدَّمَ الْفَاعِلَ الْمَعْنَوِيَّ لِلتَّخْصِيصِ أَيْ: أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ لَا غَيْرُكَ. قَالَ الرَّاغِبُ رحمه الله: وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ كَانَ فِي جِنْسِ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفٍ لَهُ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ، فَبَيَّنَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَازِمٌ لَهُ قَلِيلُ الِانْفِكَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْغَانِمِينَ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا، وَتَعَذَّرَ إِيصَالُ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي يَدِهِ لِيَكُونَ إِثْمُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْغَاصِبُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ لَا أَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَا أَنَّ رَدَّ الْمَظَالِمِ عَلَى أَصْحَابِهَا، أَوِ الِاسْتِحْلَالَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِيهِ أَنَّ رَدَّ الْمَظْلَمَةِ وَحُصُولَ الِاسْتِحْلَالِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَعَسِّرًا، أَوْ مُتَعَذِّرًا، وَيَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُصُولِهِمَا، فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ وَالتَّأْكِيدِ، لَا عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، فَكَلَامُ الْمُظْهِرِ أَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2591

4013 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4013 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْرَقُوا (مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ يَعْنِي مَتْنًا، قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. مِنْهُمُ الْحَسَنُ قَالَ: يُحَرَّقُ مَالُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، أَوْ مُصْحَفًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا: وَلَا يُحَرَّقُ مَا غَلَّ ; لِأَنَّهُ حَقُّ الْغَانِمِينَ يُرَدُّ عَلَيْهَا فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ غَرِمَ قِيمَتَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ الَّذِي غَزَا بِهِ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ، وَلَا يُحَرَّقُ دَابَّتُهُ وَلَا نَفَقَتُهُ وَلَا سِلَاحُهُ وَلَا ثِيَابُهُ الَّتِي عَلَيْهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرَّقُ رَحْلُهُ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْإِيجَابِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَالِّ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحَرْقِ مَتَاعِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْوِيَّاتِ فِيمَنْ أَتَى بِهِ وَهُوَ تَائِبٌ، وَالْكَلَامُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ فِي يَدِهِ.

ص: 2592

4014 -

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ يَكْتُمُ غَالًّا فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4014 -

(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ": مَنْ يَكْتُمُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ " مَنْ " مَوْصُولَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ " مَنْ " شَرْطِيَّةٌ أَيْ: يَسْتُرُ (" غَالًّا ") أَيْ: غُلُولَهُ، وَلَا يُظْهِرُهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الْكَاتِمُ (" مِثْلُهُ ") أَيْ: مِثْلُ الْغَالِّ فِي الْإِثْمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2592

4015 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4015 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ» ) أَيْ: عَنْ بَيْعِهَا (وَاشْتِرَائِهَا حَتَّى تُقْسَمَ) : قَالَ الْقَاضِي: الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ عَدَمُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْمُقْتَضِي لَهُ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الْمَغْنَمِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي: لَوْ بَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ نَصِيبَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ ; لَأَنَّ نَصِيبَهُ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ، وَالْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْرَاضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2592

4016 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّهَامُ حَتَّى تُقْسَمَ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

4016 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّهَامُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ السَّهْمِ وَهُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَفِي نُسْخَةٍ الْأَسْهَامُ (حَتَّى تُقْسَمَ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 2592

4017 -

وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ هَذِهِ الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4017 -

(وَعَنْ خَوْلَةَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ (بِنْتِ قَيْسٍ) : صَحَابِيَّةٌ جُهَيْنِيَّةٌ رضي الله عنها (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ هَذِهِ الْمَالَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَّثَ الْمَالَ عَلَى تَأْوِيلِ الْغَنِيمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ: " مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَالِ الْجِنْسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ أَيْ: جِنْسَهُ، أَوْ مَالَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(" خَضِرَةٌ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ (" حُلْوَةٌ ") : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: لَذِيذَةُ الْمَذَاقِ، لِحُصُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَمَشَقَّةِ بَدَنٍ، وَقَالَ ابْنُ

ص: 2592

الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْخَضِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي النَّاعِمَ خَضِرًا، أَوْ لِشِبْهِهِ بِالْخَضْرَاوَاتِ فِي سُرْعَةِ الزَّوَالِ، (" فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ ") أَيْ: أَخَذَهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ (" بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ ") أَيْ: مُتَكَلِّفٌ لِلْخَوْضِ، وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّلَبُّسِ وَالتَّصَرُّفِ أَيْ: رُبَّ شَارِعٌ وَمُتَصَرِّفٌ (" فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ") أَيْ: مِنْ زَكَاةٍ وَغَنِيمَةٍ (" لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ ") .

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي فَمَنْ أَصَابَهُ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَكَانَ فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَمَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ، فَلَهُ كَذَا. وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ بِحَقِّهِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا النَّارُ، فَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا قَلِيلٌ، وَالْأَكْثَرُ مَنْ يَتَخَوَّضُ فِيهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ أَيْ: مُشْتَهَاةٌ، وَالنُّفُوسُ إِلَيْهَا مَائِلَةٌ جِدًّا، وَفِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ: فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَمِنْ مَالِ اللَّهِ مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّخَوُّضُ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ مُشْعِرًا بِعِلِّيَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَلِلشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِلَفْظِ:" «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ".

ص: 2593

4018 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ.

ــ

4018 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَفَّلَ سَيْفَهُ) أَيِ: الَّذِي صَارَ لَهُ (ذَا الْفَقَارِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ يَكْسِرُونَهَا، وَكَذَا فِي الْفَائِقِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ سَيْفِهِ (يَوْمَ بَدْرٍ) أَيِ: اصْطَفَاهُ وَجَعَلَهُ صَفِيَّ الْمَغْنَمِ الَّذِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ دُونَهُ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: أَخَذَهُ زِيَادَةً لِنَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ الصَّفِيُّ، وَهُوَ مَا يَتَخَيَّرُهُ مِنَ الْمَغْنَمِ وَلَمْ أَجِدْ تَنَفَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالرِّوَايَةُ وَجَدْنَاهَا كَذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} [آل عمران: 6] حَيْثُ قَالَ، وَقَرَأَ طَاوُسٌ: تَصَوَّرَكُمْ أَيْ: صَوَّرَكُمْ لِنَفْسِهِ وَلِتَعَبُّدِهِ كَقَوْلِكَ: أَثَّلْتُهُ مَالًا إِذَا جَعَلْتُهُ أَثَلَةً أَيْ: أَصْلًا وَتَأَثَّلْتُهُ إِذَا أَثَّلْتَهُ لِنَفْسِكَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الشَّيْخِ فِي عَدَمِ وُجُودِ التَّنَفُّلِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى طَلَبِ النَّافِلَةِ، وَهِيَ الْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ الْفَرِيضَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا السَّيْفُ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قُتِلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَتَنَفَّلَهُ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَشْهَدُ بِهِ الْحُرُوبَ دُونَ سَائِرِ سُيُوفِهِ، سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي ظَهْرِهِ حُفَرٌ مُتَسَاوِيَةٌ، وَقِيلَ: كَانَ فِي شَفْرَتَيْهِ خَرَزَاتٌ تُشْبِهُ فَقَرَاتِ الظَّهْرِ، وَفِي الْقَامُوسِ: ذُو الْفَقَارِ سَيْفُ الْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، فَصَارَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَارَ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه اهـ.

وَأَمَّا حَدِيثُ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، فَيُرْوَى فِي أَثَرٍ وَاهٍ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ. قَالَ: نَادَى مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَالُ لَهُ رِضْوَانُ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ لَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ قَلْبُ الْجُمْلَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ مُرَاعَاةٌ لِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا عَلَى تَخْفِيفِ يَاءِ عَلِيٍّ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ) أَيْ: ذُو الْفَقَارِ (الَّذِي رَأَى) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالرُّؤْيَا الَّتِي رَأَى فِيهِ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ يَوْمَ أُحُدٍ: أَنَّهُ هَزَّ ذَا الْفَقَارِ، فَانْقَطَعَ مِنْ وَسَطِهِ، ثُمَّ هَزَّهُ هَزَّةً أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَا هِيَ مَا قَالَ فِيهِ: رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا، فَأَوَّلْتُهُ هَزِيمَةً، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ. الْحَدِيثَ.

ص: 2593

4019 -

وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4019 -

(وَعَنْ رُوَيْفِعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ تَصْغِيرُ رَافِعٍ (ابْنِ ثَابِتٍ) أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ» ") أَيْ: غَنِيمَتِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (" حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا ") أَيْ: أَضْعَفَهَا (" رَدَّهَا فِيهِ ") أَيْ: فِي الْفَيْءِ بِمَعْنَى الْمَغْنَمِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرُّكُوبَ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْعَجْفِ، فَلَا بَأْسَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(" «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ» ") أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ (" حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ ") : بِالْقَافِ أَيْ: أَبْلَاهُ (" رَدَّهُ فِيهِ ") سَبَقَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2594

4020 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قُلْتُ: «هَلْ كُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4020 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ كُوفِيٌّ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى) أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ (قَالَ: قُلْتُ) أَيْ: لِلصَّحَابَةِ (هَلْ كُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ التَّخْمِيسِ (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فِي زَمَانِهِ (قَالَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَإِنَّ) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَكَانَ (الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ) : تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2594

4021 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَعَسَلًا، فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4021 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا) : بِكَسْرِ النُّونِ (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَعَسَلًا) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَوْ أَرَادَ بِالطَّعَامِ أَنْوَاعَ الْحُبُوبِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا، (فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ) أَيْ: فِيمَا أَكَلُوا مِنْهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2594

4022 -

وَعَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورَ فِي الْغَزْوِ، لَا نُقَسِّمُهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مِنْهُ مَمْلُوَّةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4022 -

(وَعَنِ الْقَاسِمِ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشَّامِيُّ (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنُ خَالِدٍ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ، وَرَوَى عَنْهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنَ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه. (عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ: الْبَعِيرَ (فِي الْغَزْوِ، وَلَا نُقَسِّمُهُ) أَيْ: لِإِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْهُ، أَوْ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، نَأْكُلُ مِنْهُ (حَتَّى إِذَا كُنَّا لَنَرْجِعُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ الْجَاعِلَةُ لِلْمُضَارِعِ حَالًا أَيْ: لَنَعُودُ (إِلَى رِحَالِنَا) أَيْ: مَنَازِلِنَا (وَأَخْرِجَتُنَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٍ جَمْعُ خُرْجٍ بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْجَوَالِقُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَخْرِجَةُ جَمْعُ الْخُرْجِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَوْعِيَةِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ الْخِرَجَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَحْرِيكِ الرَّاءِ عَلَى مِثَالِ حِجَرَةٍ. فِي الْقَامُوسِ: الْأَخْرِجَةُ جَمْعُ الْخُرْجِ وَالْخُرْجُ بِالضَّمِّ، وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُ أَخْرِجَةٍ، وَالْمَعْنَى نَرْجِعُ حَالَ كَوْنِ أَوْعِيَتِنَا (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ (مَمْلُوَّةٌ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيَجُوزُ بِالْهَمْزِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: مُمْلَاةٌ أَيْ: مَلْآنَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرِّحَالِ مَنَازِلُهُمْ فِي سَفَرِ الْغَزْوِ.

ص: 2594

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْدَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنَّمَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِهَا؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَمَنْ فَضُلَ مَعَهُ طَعَامٌ، أَوْ عَلَفٌ يَرُدُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشَرْطِهِ، وَلَوِ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَعْدَ الْإِفْرَازِ يَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الدَّاخِلُ وَالِاثْنَانِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ إِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَأَخْرَجَهُ يَخْتَصُّ بِهِ. قُلْنَا: مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَالِاخْتِصَاصُ كَانَ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا أَحَقُّ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَتَصَدَّقُونَ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إِنْ كَانُوا بَاعُوهُ، هَذَا إِذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَانْتَفَعُوا بِهِ إِنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ ; لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ لِتَفَرُّقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا تَصَرَّفُوا فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا قِيمَةُ مَا انْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَتَصَدَّقُ بِهِ الْغَنِيُّ لَا الْفَقِيرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2595

4023 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:" «أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ، فَإِنَّهُ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

4023 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: " أَدُّوا الْخِيَاطَ ") بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيِ: الْخَيْطُ، أَوْ جَمْعُهُ (" وَالْمِخْيَطَ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ هُوَ الْإِبْرَةُ (" «وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ» ") : بِالضَّمِّ أَيِ: اتَّقُوا الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ مُطْلَقًا (" فَإِنَّهُ ") أَيِ: الْغُلُولُ (عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ ") أَيْ: عَيْبٌ فِي الدُّنْيَا وَفَضِيحَةٌ وَتَشْوِيهٌ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْعُقْبَى (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ") : كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ " الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) أَيْ: عَنْ عُبَادَةَ.

ص: 2595

4024 -

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.

ــ

4024 -

(وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) .

ص: 2595

4025 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«دَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ " فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذِهِ لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطِّلِبِ فَهُوَ لَكَ " فَقَالَ: أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي فِيهَا، وَنَبَذَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4025 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: دَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: شَعْرَةٌ (مِنْ سَنَامِهِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا ") : يُشِيرُ إِلَى مَا أَخَذَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا هَذَا تَأْكِيدٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَبَرَةِ عَلَى تَأْوِيلِ شَيْءٍ (وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ) أَيْ: وَقَدْ رَفَعَ إِصْبَعَهُ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْوَبَرَةَ لِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا (" إِلَّا الْخُمُسَ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُسْتَثْنَى بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ (" وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ") أَيْ: مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِكُمْ مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (" فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ ") : أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ (فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: قِطْعَةٌ مُكَبْكَبَةٌ مِنْ غَزْلِ شَعَرٍ فَقَوْلُهُ: (مِنْ شَعَرٍ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَيْ: قِطْعَةٌ مِنْ شَعَرٍ (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (أَخَذْتُ هَذِهِ) أَيِ: الْكُبَّةَ (لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةً) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: إِهْمَالُ الدَّالِ أَكْثَرُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ الْحِلْسُ الَّذِي تَحْتَ رَحْلِ الْبَعِيرِ، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ ") أَيْ: أَمَّا مَا كَانَ نَصِيبِي وَنَصِيبُهُمْ فَأَحْلَلْنَاهُ لَكَ، وَأَمَّا مَا بَقِيَ مِنْ أَنْصِبَاءِ

ص: 2595

الْغَانِمِينَ، فَاسْتِحْلَالُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَقَرِينَتُهَا مَحْذُوفَةٌ أَيْ: أَمَّا مَا كَانَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلْغَانِمِينَ فَعَلَيْكَ بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. (فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ (أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ) أَيْ: وَصَلَتْ (هَذِهِ) أَيِ: الْكُبَّةُ، أَوِ الْقَصَّةُ (مَا أَرَى) أَيْ: إِلَى مَا أَرَى مِنَ التَّبِعَةِ وَالْمُضَايَقَةِ، أَوْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ (فَلَا أَرَبَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيْ: لَا حَاجَةَ (لِي فِيهَا) أَيْ: إِلَيْهَا (وَنَبَذَهَا) أَيْ: أَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2596

4026 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4026 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِفَتَحَاتٍ (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى اسْتَقْبَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ بَعِيرٍ وَجَعَلَهُ سُتْرَةً لَهُ، (فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ) أَيْ: مِنْ طَرَفِهِ الصَّادِقِ عَلَى السَّنَامِ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ مُتَّحِدَةً، أَوْ مِنْ ضِلْعِهِ فَتَكُونُ الْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةً. (ثُمَّ قَالَ:" وَلَا يَحِلُّ ") : عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ أَيْ: لَا أَتَصَرَّفُ وَلَا يَحِلُّ (" لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ ") : بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ (" وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ") أَيْ: فِي مَصَالِحِكُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2596

4027 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه، قَالَ:«لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ وَفِيهِ:" «إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

ــ

4027 -

(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ (لَا نُنْكِرُ) أَيْ: نَحْنُ (فَضْلَهُمْ) أَيْ: وَإِنْ كُنَّا مُتَسَاوِينَ فِي النَّسَبِ (لِمَكَانِكَ) أَيْ: لِأَجْلِ مَوْضِعِكَ (الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي هَاشِمٍ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِنَا، فَإِنَّهُمْ صَارُوا أَفْضَلَ مِنَّا لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنَّا ; لِأَنَّ جَدَّكَ وَجَدَّهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَاشِمٌ، وَإِنْ كَانَ جَدُّهُمْ وَجَدُّنَا وَاحِدًا، وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كُنِّيَ بِمَكَانِكَ عَنْ ذَاتِهِ الذَّكِيَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] عَلَى قَوْلٍ، " وَكَمَا تَقُولُ: أَخَافَ جَانِبَ فُلَانٍ، وَفَعَلْتُ هَذَا لِمَكَانِكَ، فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيِّ قَبِيلٍ هُوَ مِنْ فَنِّ الْبَيَانِ؟ قُلْتُ: مِنْ فَنِّ التَّعْرِيضِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَمَّى بِالْمَجْلِسِ وَالْجَانِبِ وَالْمَكَانِ إِجْلَالًا لَهُ، وَتَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَأَنْشَدَ فِي مَعْنَاهُ زُهَيْرٌ: فَعَرِّضْ إِذَا مَا جِئْتَ بِالْبَابِ وَالْحِمَى وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْسَى فَتَذْكُرَ زَيْنَبَا سَيَكْفِيكَ مِنْ ذَاكَ الْمُسَمَّى إِشَارَةٌ فَدَعْهُ مَصُونًا بِالْجَلَالِ مُحْجَبَا وَنَظِيرُهُ مِثْلُكَ يَجُودُ بِمَعْنَى أَنْتَ تَجُودُ، وَلَا يُرِيدُونَ بِالْمِثْلِ الشَّبِيهُ وَالنَّظِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ هُوَ بِمَنْزِلِكَ مِنَ الْأَرْيَحِيَّةِ وَالسَّمَاحَةِ يَجُودُ وَحَقُّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: الَّذِي وَضَعَهُ لِيَرْجِعَ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَقَامَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ مَقَامَ ضَمِيرِ الْغَائِبِ نَظَرًا إِلَى لَفْظَةِ مَكَانِكَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ.

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ

ص: 2596

" وَمِنْ " فِي مِنْهُمُ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَضَعَ أَيْ: أَنْشَأَ وَأَصْدَرَ وَضْعَكَ مِنْهُمْ أَيْ: لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْشَأَكَ مِنْهُمْ لَا مِنَّا. (أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنَا (إِخْوَانَنَا) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ) : بَيَانٌ لِإِخْوَانِنَا (أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا) عَطْفٌ، أَوْ حَالٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ نَصْبُ إِخْوَانِنَا عَلَى شَرِيطَةِ النَّفْسِ، يَعْنِي أَعْطَيْتَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ حَالٌ وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ،. وَمِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ خَبَرُهُ أَعْطَيْتَهُمْ وَهُوَ الْمُسْتَخْبَرُ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ مُوَطِّئَةٌ (وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا) أَيْ: بَنُو نَوْفَلٍ، وَمِنْهُمْ جُبَيْرٌ، وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ (وَقَرَابَتُهُمْ) : يَعْنِي بَنِي الْمُطَّلِبِ (وَاحِدَةٌ) أَيْ: مُتَّحِدَةٌ ; لِأَنَّ أَبَاهُمْ أَخُو هَاشِمٍ وَآبَاؤُنَا كَذَلِكَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) : تَفْسِيرٌ لِهَذَا، وَالتَّشْبِيكُ إِدْخَالُ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ أَيْ: أَدْخَلَ أَصَابِعَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى كَمَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَصَابِعِ دَاخِلَةٌ فِي بَعْضٍ، كَذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، كَانُوا مُتَرَافِقِينَ مُخْتَلِطِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ أَقَارِبِنَا، فَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِبَنِي هَاشِمٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمُخَالَطَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْشًا وَبِنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ) عَلَى أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ) أَيْ: مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَبْنَى (وَفِيهِ) أَيْ: فِي مَرْوِيِّهِمَا (" أَنَا ") : بِالتَّخْفِيفِ (" وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ") : بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ إِنَّا بِالتَّشْدِيدِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بِالْيَاءِ ("«لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ") : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسَبَقَ مَا فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحُكْمِ الْفِقْهِيِّ (وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) .

ص: 2597

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4028 -

«عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: إِنِّي وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ أَيْ عَمِّ! هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: وَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِي عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ، قَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ " فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا؟ " فَقَالَا: لَا فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ". وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ: مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4028 -

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه : هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ) : رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفَرًا، وَمَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ فَرَسَانِ وَكَانَ الْكُفَّارُ قَرِيبَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَمَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ (فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي) أَيْ: مَرَّةً (وَعَنْ شِمَالِي) أَيْ: أُخْرَى، وَهَذِهِ نُكْتَةُ إِعَادَةِ الْجَارِ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (أَنَا) أَيْ: حَاضِرٌ مَحْفُوفٌ (بِغُلَامَيْنِ) أَيْ: شَابَّيْنِ (مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ) : بِالْجَرِّ أَيْ: جَدِيدَةٌ (أَسْنَانُهُمَا) أَيْ: أَعْمَارُهُمَا (فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ) أَيْ: وَاقِفًا أَيْ: وَاقِعًا (بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى أَنِّي حَقَّرْتُ أَمْرَهُمَا فِي الشَّجَاعَةِ، لِكَوْنِهِمَا شَابَّيْنِ، وَمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالشُّيُوخِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَقْوَى فِي النَّجْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ، وَلِذَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ كَانَا شُجَاعَيْنِ، وَبِالْمُهِمَّةِ قَوِيَّيْنِ (فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا) أَيْ: أَشَارَ إِلَيَّ بِالْعَيْنِ، أَوْ بِالْمَدِّ وَقَالَ: الْغَمْزُ الْعَصْرُ وَالْكَيْسُ بِالْيَدِ (فَقَالَ أَيْ: عَمِّ!) أَيْ: يَا عَمِّي (هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ:

ص: 2597

أُخْبِرْتُ) أَيْ: أُنْبِئْتُ (أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أَيْ: يَشْتُمُهُ وَيَذُمُّهُ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ) أَيْ: أَبْصَرْتُهُ وَعَرَفْتُهُ (لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ) أَيْ: شَخْصِي شَخْصَهُ، وَفِيهِ اسْتِهَانَةٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّبُهَا لِلَّهِ، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ) أَيِ: الْأَقْرَبُ أَجَلًا (مِنَّا) أَيْ: مِنِّي وَمِنْهُ (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ) : يَعْنِي لِمَا كُنْتُ لَمْ أَظُنَّ بِهِ ذَلِكَ (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (وَغَمَزَنِي الْآخَرُ) : عَطْفٌ عَلَى فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا (فَقَالَ لِي مِثْلَهَا) أَيْ: مِثْلُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ (فَلَمْ أَنْشَبْ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَمْ أَلْبَثْ وَلَمْ أَمْكُثْ (أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ) : بِالْجِيمِ أَيْ: يَدُورُ (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَ قَوْمِهِ مِنَ الْكُفَّارِ (قُلْتُ) أَيْ: لَهُمَا (أَلَا تَرَيَانِ؟) أَيْ: أَلَا تُبْصِرَانِ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ (هَذَا صَاحِبُكُمَا) : بِالرَّفْعِ أَيْ: مَطْلُوبُكُمَا (الَّذِي تَسْأَلَانِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: يَسْأَلُنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا (عَنْهُ) : فِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ صَاحِبِكُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ هَذَا، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَهُوَ خَبَرٌ وَتَرَيَانِ مَفْعُولُهُ لَا يُقَدَّرُ، إِذَا الْمُرَادُ إِيجَادُ الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] الْكَشَّافُ: تَرْكُ الْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْفِعْلُ لَا الْمَفْعُولُ (قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ) أَيْ: قَارَبَا قَتْلَهُ (ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ) أَيْ: بِمَا جَرَى لَهُمَا (قَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، قَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَكُمَا؟ ") : بِالتَّثْنِيَةِ (قَالَا: لَا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّيْفَيْنِ) أَيْ: إِلَى مَحَلِّ الدَّمَّيْنِ مِنْهُمَا (فَقَالَ: " كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ") : بِإِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَتَلَهُ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ كِلَا وَهُوَ أَفْصَحُ مِنَ التَّثْنِيَةِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُشَارَكَةِ فِي قَتْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي السَّبْقِ وَالتَّأْثِيرِ. (وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَلَبِهِ) أَيْ: بِمَسْلُوبِ أَبِي جَهْلٍ (لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ ; لِأَنَّهُ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحَةِ أَوَّلًا، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي، ثُمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَدَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَحَزَّ رَأْسَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (وَالرَّجُلَانِ) أَيِ: الْغُلَامَانِ (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ) : هِيَ أُمُّهُ وَهُمَا أَخَوَانِ أُمُّهُمَا وَاحِدٌ وَأَبُوهُمَا مُخْتَلِفٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: اشْتَرَكَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي جِرَاحَتِهِ لَكِنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو أَثْخَنَهُ أَوَّلًا، فَاسْتَحَقَّ السَّلَبَ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" كِلَاكُمَا قَتَلَهُ " تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُ مُشَارَكَةً فِي قَتْلِهِ، وَإِلَّا فَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، فَلِهَذَا قَضَى لَهُ بِالسَّلَبِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ السَّيْفَيْنِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِمَا عَلَى حَقِيقَةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِمَا، فَعَلِمَ أَنَّ ابْنَ الْجَمُوحِ أَثْخَنَهُ، ثُمَّ شَارَكَهُ الثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ السَّلَبَ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي السَّلَبِ يُنَفِّلُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَذُكِرَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ ضَرْبَاهُ حَتَّى بَرَدَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الَّذِي أَجْهَزَ وَأَخَذَ رَأْسَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ، فَكَانَ إِثْخَانُهُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِيهِ رَمَقٌ فَحَزَّ رَأْسَهُ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْحَرْبِ وَالْغَضَبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَقِرَ أَحَدًا لِصِغَرِهِ وَنَحَافَةِ جِسْمِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ السَّلَبَ بِقَوْلِهِ: بِلَا بَيِّنَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ عَرِفَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَنْفِيلٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلِذَا أَعْطَى سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يُعْطِ لِابْنِ عَفْرَاءَ شَيْئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2598

4029 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: " «مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ " فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ. قَالَ: " فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ . فَقَالَ: " وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ . وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4029 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ يَنْظُرُ ") أَيْ: يُبْصِرُ وَيَتَحَقَّقُ (" لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ ") : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: مِنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالْهَلَاكِ وَالْخَلَاصِ، وَلَوْ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَيْ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ عُلِّقَ لِمَعْنَى يَنْظُرُ أَيْ: مَنْ يَتَأَمَّلُ لِأَجْلِنَا مَا حَالُ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَسَبَبُ السُّؤَالِ أَنْ يُسَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، (فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ) أَيْ: قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَدَ مَاتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى الْمُشَارَفَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَبِدَلِيلِ رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى بَرَكَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْكَافِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: بَرَكَ بِالْكَافِ، وَالْمُرَادُ بِهِ سَقَطَ يَعْنِي أَنَّ ابْنَ عَفْرَاءَ بَرَكَاهُ عَقِيرًا (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ رضي الله عنه (فَأَخَذَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (بِلِحْيَتِهِ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ أَيْ: تَنَاوَلَهَا (فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ) أَيْ: مِنِّي (قَتَلْتُمُوهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا بَالَغَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي إِهَانَتِهِ وَتَحْقِيرِهِ بِأَخْذِ لِحْيَتِهِ وَنَبْزِهِ بِأَبِي جَهْلٍ أَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ اهـ. وَالْأَزْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيمَ شَأْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَيْضًا، فَإِنَّ الشَّخْصَ كَمَا يَعِيشُ يَمُوتُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلْتُمُوهُ لِعَدَمِ إِطْلَاعِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ. قَالَ فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَالْمَعْنَى لَا عَارَ عَلَيَّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّايَ فَلَوْ غَيْرُ زَرَّاعٍ (قَتَلَنِي) : لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأَعْظَمَ لِشَأْنِي فِي النِّهَايَةِ: الْأَكَّارُ الزَّرَّاعُ أَرَادَ بِهِ احْتِقَارَهُ وَانْتِقَاصَهُ كَيْفَ مِثْلُهُ لِقَتْلِ مِثْلِهِ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَشَارَ أَبُو جَهْلٍ بِهِ إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ اللَّذَيْنِ قَتَلَاهُ وَهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَنَخْلٍ، وَمَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الَّذِي قَتَلَنِي غَيْرُ أَكَّارٍ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأَعْظَمَ لِشَأْنِي. قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّ مَدْخُولَ لَوْ فَعَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ لَوْ عَلَى التَّمَنِّي فَلَا يَقْتَضِي جَوَابًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2599

4030 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ:«أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ رَجُلًا وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "، أَوْ مُسْلِمًا " ذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ ثَلَاثًا وَأَجَابَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ، وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

ــ

4030 -

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْعَطَاءِ (رَهْطًا) أَيْ: جَمَاعَةً (وَأَنَا جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ الرَّهْطِ (رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمُ إِلَيَّ) أَيْ: أَرْضَاهُمْ دِينًا عِنْدِي (فَقُمْتُ) أَيْ: لِيَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَهَذَا مَسْلَكُ أَدَبٍ (فَقُلْتُ: مَا لَكَ) أَيْ: مَا شَأْنُكَ (عَنْ فُلَانٍ؟ : حَالٌ أَيْ: مُتَجَاوِزًا عَنْهُ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَأَظُنُّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ أَيْ: لَأَعْلَمُهُ (مُؤْمِنًا) أَيْ: مُصَدِّقًا بَاطِنًا وَمُنْقَادًا ظَاهِرًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "، أَوْ ") : بِسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ: بَلْ (" مُسْلِمًا ") أَيْ: أَظُنُّهُ مُسْلِمًا، أَوْ ظُنَّهُ أَنْتَ مُسْلِمًا وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ هُوَ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِ سَعْدٍ، وَلَيْسَ الْإِضْرَابُ هُنَا بِمَعْنَى إِنْكَارِ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا، بَلْ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْقَطْعِ بِإِيمَانِ مَنْ لَمْ يُخْتَبَرْ حَالُهُ بِالْخَبَرِ الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَوْ بِمَعْنَى " بَلْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ أَضْرَبَ عَنْ كَلَامِهِ وَتَرَقَّى أَيْ: أَنَا أَعْلَمُهُ فَوْقَ مَا تَعْلَمُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: دُونَ الْإِيمَانِ وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِاللِّسَانِ، بِهِ يُحْصَنُ الدَّمُ حَصَلَ مَعَهُ الِاعْتِقَادُ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَإِيَّاهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ

ص: 2599

تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَالثَّانِي فَوْقَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الِاعْتِرَافِ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَوَفَاءٌ بِالْفِعْلِ، وَاسْتِسْلَامٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَا قَضَى وَقَدَّرَ، كَمَا ذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] (ذَكَرَ ذَلِكَ) أَيِ: الْقَوْلَ (سَعْدٌ ثَلَاثًا وَأَجَابَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَأَجَابَهُ (بِمِثْلِ ذَلِكَ) أَيْ: فِي كُلِّ مَرَّةٍ (ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ ") : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ: رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ (" وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ") : الْجُمْلَةُ حَالٌ (" خَشْيَةَ ") : بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكِهِ وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ: مَخَافَةَ (" أَنْ يُكَبَّ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُوقَعُ (" فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ") : لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، أَوْ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْيَقِينِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ سَعْدًا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي نَاسًا وَيَتْرُكُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَظَنَّ أَنَّ الْعَطَاءَ بِحَسَبِ الْفَضَائِلِ فِي الدِّينِ، وَظَنَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ حَالَ هَذَا الْإِنْسَانِ، فَأَعْلَمَهُ بِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ سَعْدٌ مِنْ قَوْلِهِ مُسْلِمًا فِيهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ مُكَرَّرًا، فَأَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْعَطَاءَ لَيْسَ عَلَى حَسَبِ الْفَضَائِلِ فِي الدِّينِ، وَقَالَ:" إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ " إِلَخْ وَالْمَعْنَى إِنِّي أُعْطِي أُنَاسًا مُؤَلَّفَةً فِي إِيمَانِهِمْ ضَعْفٌ لَوْ لَمْ أُعْطِهِمْ لَكَفَرُوا، وَأَتْرُكُ قَوْمًا هُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِينَ أُعْطِيهِمْ وَلَا أَتْرُكُهُمُ احْتِقَارًا لَهُمْ وَلَا لِنَقْصِ دِينِهِمْ، بَلْ أَكِلُهُمْ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْإِيمَانِ التَّامِّ. قُلْتُ: وَهَذَا تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ هَكَذَا فَعَلَ بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ حُسْنِ بَلَائِهِ، وَأَعْطَى الدُّنْيَا لِأَعْدَائِهِ.

قَالَ مَوْلَانَا الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ فِي كِتَابِهِ فُتُوحِ الْغَيْبِ: لَا تَقُولَنَّ يَا فَقِيرَ الْيَدِ، يَا عُرْيَانَ الْجَسَدِ، يَا ظَمْآنَ الْكَبِدِ، يَا مُوَلًّى عَنْهُ الدُّنْيَا بِأَصْحَابِهَا، يَا خَامِلَ الذِّكْرِ بَيْنَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَرْبَابِهَا، يَا جَائِعَ يَا نَائِعَ يَا مُشَتَّتًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ أَرْضٍ وَبِقَاعٍ خَرَابٍ، وَمَرْدُودًا مِنْ كُلِّ بَابٍ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْقَرَنِي وَزَوَى عَنِّي الدُّنْيَا، وَتَرَكَنِي وَقَلَانِي وَلَمْ يَرْفَعْ ذِكْرِي بَيْنَ إِخْوَانِي، وَأَسْبَلَ عَلَى غَيْرِي نِعَمَهُ سَابِغَةً يَتَقَلَّبُ بِهَا فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَيَتَنَعَّمُ بِهَا فِي دَارِهِ وَدِيَارِهِ وَكِلَانَا مُسْلِمَانِ وَمُؤْمِنَانِ، سَوَاءً، وَأَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِكَ ; لِأَنَّ طِينَتَكَ حُرَّةٌ، وَنَدِيُّ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ مُتَقَاطِرَةٌ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ لَدَيْكَ مُتَوَاتِرَةٌ، فَشَجَرَةُ إِيمَانِكَ وَغَرْسُهَا وَبَذْرُهَا ثَابِتَةٌ مَكِينَةٌ مُورِقَةٌ مُسْتَزِيدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ مُطِلَّةٌ مُتَفَرِّعَةٌ، فَهِيَ كُلُّ يَوْمٍ فِي نُمُوٍّ وَزِيَادَةٍ فَلَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى عِلَقٍ وَسُبَاطَةٍ لِتُنَمَّى وَتُرَبَّى وَتُزَكَّى، وَقَدْ فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِكَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَاكَ فِي الْآخِرَةِ فِي دَارِ الْبِقَاءِ دُخُولَكَ فِيهَا، وَأَجْزَلَ عَطَاءَكَ فِي الْعُقْبَى مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] أَيْ: مِنْ أَدَاءِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنَاكِرِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي الْمَقْدُورِ، وَالِاعْتِمَادِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْغَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا وَخَوَّلَهُ نِعَمَهُ فِيهَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَحَلَّ إِيمَانِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ وَصَخْرٌ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ فِيهَا الْمَاءُ، وَتَنْبُتُ فِيهَا الْأَشْجَارُ وَتَتَرَبَّى فِيهَا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَصَبَّ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ سِبَاطٍ، وَغَيْرَهَا مِمَّا يُرَبَّى بِهِ النَّبَاتُ وَهِيَ الدُّنْيَا وَحُطَامُهَا لِيَسْتَحْفِظَ بِذَلِكَ مَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنْ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ، وَغَرْسِ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهَا لَجَفَّ النَّبَاتُ وَالْأَشْجَارُ، وَانْقَطَعَتِ الثِّمَارُ، وَخَرِبَتِ الدِّيَارُ، وَهُوَ عز وجل يُرِيدُ عِمَارَتَهَا، فَشَجَرَةُ إِيمَانِ الْغَنِيِّ ضَعِيفَةُ الْمَنْبَتِ خَالٍ عَمَّا هُوَ مَشْحُونٌ بِهِ مَنْبَتُ شَجَرَةِ إِيمَانِكَ يَا فَقِيرُ فَقُوَّتُهَا وَبَقَاؤُهَا بِمَا تَرَى عِنْدَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنْوَاعِ نَعِيمِهَا، فَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ ضَعْفِ الشَّجَرَةِ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ، فَكَانَ كُفْرًا وَجُحُودًا وَلَحَاقًا بِالْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ

ص: 2600

عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْغَنِيِّ عَسَاكِرَ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْعِلْمِ وَأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ، فَيُقَوِّيَ الْإِيمَانَ بِهَا حِينَئِذٍ حَتَّى لَا يُبَالِيَ بِانْقِطَاعِ الْغِنَى وَالنَّعِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنُرَى: بِضَمِّ النُّونِ وَيُفْتَحُ (أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ) أَيْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ (وَالْإِيمَانَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (الْعَمَلُ الصَّالِحُ) أَيِ: الشَّامِلُ لِلْعَمَلِ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الزُّهْرِيِّ، فَيَجِبُ حَمْلُ "، أَوْ " عَلَى التَّنْوِيعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] أَيْ: مُؤْمِنٌ وَمُسْلِمٌ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا بَاطِنًا

ص: 2601

4031 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ:" إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ، وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ " فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِشَيْءٍ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4031 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ) : تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (فَقَالَ: " إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ ") أَيْ: خِدْمَتِهِ وَفِي سَبِيلِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِ دِينِهِ (" وَحَاجَةِ رَسُولِهِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ حَاجَةَ اللَّهِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِ حَاجَةِ رَسُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وَكَرَّرَ الْحَاجَّةَ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنه تَخَلَّفَ فِي الْمَدِينَةِ لِتَمْرِيضِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ زَوْجَتُهُ اهـ. وَهِيَ رُقَيَّةُ فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَدُفِنَتْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِبَدْرٍ، (" وَإِنِّي أُبَايِعُ لَهُ ") أَيْ: لِأَجْلِهِ وَبَدَلِهِ، فَضَرَبَ بِيَمِينِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شِمَالِهِ وَقَالَ: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ. (فَضَرَبَ) أَيْ: جَعَلَ وَبَيَّنَ (لَهُ) أَيْ: لِعُثْمَانَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ لِأَحَدٍ غَابَ غَيْرَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2601

4032 -

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْمَغَانِمِ عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

4032 -

(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه : سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْمَغَانِمِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ مَصْدَرٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ قِسْمَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ الْغَنَائِمُ (عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ) : بِالْهَمْزِ اسْمُ جِنْسٍ مُفْرَدُهُ الشَّاةُ بِالتَّاءِ (بِبَعِيرٍ) أَيْ: بَلْ بَعِيرٌ وَفِي مُقَابَلَتِهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 2601

4033 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا رَجُلٌ، اشْتَرَى غَنَمًا، أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ، احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا، بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعَهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ". زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4033 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ") : هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ أَيْ: أَرَادَ الْغَزْوَ (" فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتَّبِعُنِي ") : بِتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَكَسْرِهَا أَيْ: لَا يُرَافِقُنِي (" رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ ") : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: فَرْجَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبُضْعُ يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْجِمَاعِ مَعًا، وَعَلَى الْفَرْجِ، وَالْمَعْنَى نَكَحَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا. (" وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا ") أَيْ: يَدْخُلُ عَلَيْهَا (" وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا بَعْدُ (" وَلَا أَحَدٌ ") أَيْ: وَلَا يَتَّبِعُنِي أَحَدٌ (" بَنَى بُيُوتًا ") : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (" وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا ") أَيْ:

ص: 2601

وَلَمْ يُكْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ عِمَارَتِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَيْدَ الْجَمْعِ اتِّفَاقِيٌّ، أَوْ عَادِيٌّ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ مُتَابَعَةِ هَذِهِ الْأَشْخَاصِ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ يُوهِنُ عَزْمَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُفَوَّضَ إِلَّا إِلَى أُولِي الْحَزْمِ وَفَرَاغِ الْبَالِ لَهَا، وَلَا تُفَوَّضَ إِلَى مُتَعَلِّقِي الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُ عَزْمَهُ. (" وَلَا رَجُلٌ اشْتَرَى غَنَمًا ") : جِنْسٌ ("، أَوْ خَلِفَاتٍ ") : جَمْعُ الْخَلِفَةِ بِفَتْحٍ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْحَامِلُ مِنَ النُّوقِ وَ (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ (" وَهُوَ يَنْتِظَرُ وِلَادَهَا ") : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: نِتَاجَهَا، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْخَلِفَاتِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ ; لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْأُخْرَى؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: وِلَادَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، أَوْ وِلَادَ الْمَذْكُورَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ عَلَى التَّغْلِيبِ، (" فَغَزَا ") أَيْ: قَصَدَ الْغَزْوَ وَشَرَعَ فِي سَفَرِهِ (" فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي مُسْلِمٍ: فَأَدْنَى. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِهَمْزِ الْقَطْعِ، وَكَذَا عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَيْضًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْدِيَةً لَدَنَا. بِمَعْنَى قَرُبَ أَيْ: أَدْنَى جُيُوشَهُ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَانَ أَيْ: حَانَ فَتْحُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَدْنَتِ النَّاقَةُ إِذَا حَانَ وَقْتُ نِتَاجِهَا، وَلَمْ يَقُلْ فِي غَيْرِ النَّاقَةِ. فِي النِّهَايَةِ: فَأَدْنَى بِالْقَرْيَةِ هَكَذَا جَاءَ فِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الدُّنُوِّ وَأَصْلُهُ أَدْتَنَى فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الدَّالِ اهـ. فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: أَدَانَ مِنَ الدَّيْنِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَرُبَ مِنَ الْقَرْيَةِ (" صَلَاةَ الْعَصْرِ ") أَيْ: وَقْتَهَا، وَالْمُرَادُ آخِرُ أَجْزَائِهِ لِقَوْلِهِ:("، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ") أَيْ: مِنْ آخِرِ الْعَصْرِ، فَأَوْ لِلتَّرْدِيدِ احْتِيَاطًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي (" فَقَالَ ") أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ) أَيْ: بِالسَّيْرِ (وَأَنَا مَأْمُورٌ) أَيْ: بِفَتْحِ الْقَرْيَةِ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاتَلَ الْجَبَّارِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أَدْبَرَتِ الشَّمْسُ خَافَ أَنْ تَغِيبَ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلَ السَّبْتُ فَلَا يُحِلُّ لَهُ قِتَالُهُمْ فِيهِ فَدَعَا اللَّهَ. (" وَقَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ ") أَيِ: الشَّمْسُ (" حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ") .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي حَبْسِ الشَّمْسِ، فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا، وَقِيلَ: وَقَفَتْ بِلَا رَدٍّ، وَقِيلَ: بَطَأَ تَحَرُّكُهَا. قُلْتُ: أَوْسَطُهَا ; لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْحَبْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم حُبِسَتْ لَهُ الشَّمْسُ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ» قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَالثَّانِيَةُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ انْتَظَرَ الْعِيرَ الَّتِي أَخْبَرَ بِوُصُولِهَا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ. وَفِي الْمَوَاهِبِ: وَأَمَّا رَدُّ الشَّمْسِ لِحُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَرَأَسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَصْلَيْتَ يَا عَلِيُّ "؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ، ". قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَرَأَيْتُهَا غَرَبَتْ، ثُمَّ رَأَيْتُهَا طَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ، وَوَقَعَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ» ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي الشِّفَاءِ، وَقَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَوْرَدَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَلَكِنْ قَدْ صَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُمْ فِي الشِّفَاءِ:«لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِالرُّفْقَةِ وَالْعَلَامَةِ الَّتِي فِي الْعِيرِ قَالُوا: مَتَى تَجِيءُ، قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَشْرَفَتْ قُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ وَقَدْ وَلَّى النَّهَارُ، وَلِمَ تَجِئْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةً وَحُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَّرَتْ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ» اهـ.

ص: 2602

وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الشَّمْسِ بِمَعْنَى تَأْخِيرِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ فَحَبَسَهَا فَيَنْدَفِعُ بِذَلِكَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَمِنْ تَغَفُّلِ وَاضِعِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ فَضِيلَةٍ، وَلَمْ يَلْمَحْ إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا، فَإِنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ تَصِيرُ قَضَاءً، وَرُجُوعَ الشَّمْسِ لَا يُعِيدُهَا أَدَاءً اهـ. مَعَ إِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُومَاتِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَحْقِيقِ الْحَالَاتِ. قِيلَ: يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «لَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ» " وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ تُحْبَسْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِي إِلَّا لِيُوشِعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ ") : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (" لِتَأْكُلَهَا ") : مُتَعَلِّقٌ بِجَمَعَ (" فَلَمْ تَطْعَمْهَا ") أَيْ: لَمْ تَأْكُلْهَا فَفِيهِ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ وَالْمَعْنَى فَلَمْ تَحْرِقْهَا وَلَمْ تَعْدِمْهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَتْ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أَنْ يَجْمَعُوا الْغَنَائِمَ فَتَجِيءَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا عَلَامَةً لِقَبُولِهَا وَعَدَمِ الْغُلُولِ فِيهَا (" فَقَالَ ") أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمِهِ: (" إِنَّ فِيكُمْ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَكُمْ إِجْمَالًا (" غُلُولًا ") : بِالضَّمِّ، وَيُحْتَمَلُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى غَالٍّ (" فَلْيُبَايِعْنِي ") : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ (" مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. فَلَزِقَتْ ") : بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: فَفَعَلُوا فَلَصِقَتْ (" يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ ") أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ (" الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ ") : بِجَرِّ مِثْلِ عَلَى الْوَصْفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَيْ: مُمَاثِلًا لِرَأْسِ بَقَرَةٍ وَقَوْلُهُ: " مِنَ الذَّهَبِ ") : بَيَانٌ لِرَأْسٍ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ (" فَوَضَعَهَا ") أَيِ: النَّبِيُّ الرَّأْسَ وَأَنَّثَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَنِيمَةُ (" فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ". زَادَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (فِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا (" فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ الْغَنَائِمَ ") أَيْ: سَتْرًا عَلَيْنَا وَتَوْسِعَةً لِلدُّنْيَا وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا (وَرَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" فَأَحَلَّهَا لَنَا ") : إِعَادَةٌ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَالْأَوَّلُ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2603

4034 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ رضي الله عنه قَالَ: " «لَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " ثَلَاثًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4034 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ) : لَيْسَ رضي الله عنه فِي الْأُصُولِ (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : بِالْفَتْحِ جَمْعُ صَاحِبٍ وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فَعَالَةٍ إِلَّا هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ (فُلَانٌ) أَيْ: مِمَّنْ قُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ (شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ) أَيْ: وَهَكَذَا (حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ) أَيِ: الْمَمْرُورُ عَلَيْهِ (شَهِيدٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَلَّا ") : رَدْعٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ شَهِيدٌ أَنَّ رُوحَهُ فِي الْجَنَّةِ (" إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ ") أَيْ: لِأَجْلِ قِطْعَةِ ثَوْبٍ مُخَطَّطٍ (غَلَّهَا ") أَيْ: خَانَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ ("، أَوْ عَبَاءَةٍ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهَا مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ كِسَاءٌ لَبِسَهَا الْأَعْرَابُ وَهِيَ ذَاتُ خُطُوطٍ أَيْ:، أَوْ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا وَالشَّكُّ لِأَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ: أَنَّهُ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (" لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ") أَيِ: ابْتِدَاءً (" إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ") أَيِ: الْكَامِلُونَ (ثَلَاثًا) : مُتَعَلِّقٌ بِنَادِ (وَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ (فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ) : لِلتَّنْبِيهِ (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، ثَلَاثًا) .

ص: 2603