المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ (التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ تَنْظِيفُ الظَّاهِرِ وَتَجْرِيدُهُ عَلَى - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: (سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ (التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ تَنْظِيفُ الظَّاهِرِ وَتَجْرِيدُهُ عَلَى

(سِيمَاهُمْ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ (التَّحْلِيقُ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ تَنْظِيفُ الظَّاهِرِ وَتَجْرِيدُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثَافَةِ بَاطِنِهِمْ وَتَعْلِيقِهِ بِحُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ (لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ) أَيْ يُظْهِرُونَ الْفَسَادَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ (حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) جَزَاءُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِالْفَاءِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ مَاضٍ كَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] قَالَ الطِّيبِيُّ وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ أَيْ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ فَاقْتُلُوهُمْ كَمَا قَالَ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَحْذُوفًا يَعْنِي فَاقْتُلُوهُمْ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ الْمُوجِبِ ثُمَّ إِنَّهُ عَطَفَ الْخَلِيقَةَ عَلَى الْخَلْقِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فَلَا يُحْمَلُ الشَّرُّ عَلَى التَّفْصِيلِ مُبَالَغَةً أَيْ هُمْ شَرٌّ خَلْقًا وَشَرٌّ سَجِيَّةً وَفِي عَكْسِهِ اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 2323

3554 -

وَعَنْ أَبِي غَالِبٍ «رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ فَقَالَ: أَبُو أُمَامَةَ كِلَابُ النَّارِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ قِيلَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوَثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ــ

3554 -

(وَعَنْ أَبِي غَالِبٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ خَزَوَّرٌ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ أَعْتَقَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَضْرَمِيُّ رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرَوَى عَنْهُ حَمْزَةُ بْنُ رَبِيعَةَ (رَأَى أَبُو أُمَامَةَ) أَيِ الْبَاهِلِيُّ سَكَنَ مِصْرَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ وَمَاتَ بِهَا وَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ وَكَثُرَ حَدِيثُهُ عِنْدَ الشَّامِيِّينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ أَيْ أَبْصَرَ (رُءُوسًا) أَيْ لِلْخَوَارِجِ (مَنْصُوبَةً) أَيْ وَاقِفَةً أَوْ مَصْلُوبَةً (عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ طَرِيقِهِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّرَجَةُ الْمَرْقَاةُ وَالْجَمْعُ الدَّرَجُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ هَذَا لِقَوْلِهِ مَنْصُوبَةً (فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: كِلَابُ النَّارِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمْ كِلَابُ أَهْلِهَا أَوْ عَلَى صُورَةِ كِلَابٍ فِيهَا وَقَوْلُهُ (شَرُّ قَتْلَى) جَمْعُ قَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلًا وَقَوْلُهُ (تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) أَيْ وَجْهِهَا ظَرْفٌ وَقَوْلُهُ (خَيْرُ قَتْلَى) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ (مَنْ قَتَلُوهُ) خَبَرُهُ وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ الْعَكْسُ فَنُقِلَ اهْتِمَامًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيِّتًا

أَسِيرُ سَقِيفٍ عِنْدَهَا فِي السَّلَاسِلِ

(ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّحَ بِهِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ وَالْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ قِيلَ: هُمُ الْمُرْتَدُّونَ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ. (قَالَ) أَيْ أَبُو غَالِبٍ (لِأَبِي أُمَامَةَ أَنْتَ سَمِعْتَ؟) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أَيْ أَبُو أُمَامَةَ (لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا) وَالتَّقْدِيرُ لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مُكَرَّرًا حَدَّ الْكَثْرَةِ (مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) .

ص: 2323

[كِتَابُ الْحُدُودِ]

ص: 2323

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3555 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ: تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

كِتَابُ الْحُدُودِ

قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَدُّ الْحَاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ الَّذِي يَمْنَعُ اخْتِلَاطَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَحَدُّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِمُتَعَاطِيهِ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ وَمَانِعًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَهُ. وَقَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: مَحَاسِنُ الْحُدُودِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَهُ الْبَيَانُ أَوْ يَكْتُبَهُ الْبَنَانُ ; لِأَنَّ الْفَقِيهَ وَغَيْرَهُ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَةِ أَنَّهَا لِلِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ فَفِي الزِّنَا ضَيَاعُ الذُّرِّيَّةِ وَإِمَاتَتُهَا مَعْنًى بِسَبَبِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَفِي بَاقِي الْحُدُودِ زَوَالُ الْعَقْلِ وَإِفْسَادُ الْأَعْرَاضِ وَأَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَقُبْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقُولِ وَلِذَا لَمْ تُبَحِ الْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَالزِّنَا وَالسُّكْرُ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ وَإِنْ أُبِيحَ الشُّرْبُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْحَدِّ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إِنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ أَيِ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا تَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالطَّهَارَةِ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ أَيِ الطُّهْرَةُ مِنْ ذَنْبٍ بِسَبَبِ الْحَدِّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِيَّتِهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنَ الِانْزِجَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ إِثْمٍ قَبْلَ سَبَبِهِ أَصْلًا بَلْ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِحِكْمَةِ الِانْزِجَارِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَقَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رُوِيَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ:«مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذَلِكَ أَيِ التَّقْتِيلَ وَالتَّصْلِيبَ وَالنَّفْيَ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 33 - 34] فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِمْ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَعُقُوبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ إِلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إِذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِنْ ضَرَبَهُ أَوْ رَجَمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ مُسَبِّبٌ فِعْلَهُ فَيُقَيَّدَ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَتَقْيِيدُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيَّنٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ.

أَقُولُ التَّحْقِيقُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي الْجَمْعِ أَنَّ الْحَدَّ مُطَهِّرٌ لَهُ بِخُصُوصِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى عِبَادِهِ الْعُقُوبَةَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: طَهِّرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ إِنِ انْضَمَّ مَعَهُ التَّوْبَةُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَإِنْ دَامَ عَلَى إِصْرَارِهِ فَيُعَذَّبُ بِمِقْدَارِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَا لَوْ تَعَدَّدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ حُدَّ فَإِنْ تَابَ حِينَ الْحَدِّ كَفَّرَ عَنْهُ الْجَمِيعَ وَإِلَّا فَكَفَّرَ عَنْهُ مَا حُدَّ بِهِ وَحْدَهُ وَالْبَاقِي تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَكَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ثُمَّ الْحَدُّ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا بِعِلْمِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَنَقَلَ قَوْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دُونَ الْحَاصِلِ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ اعْتِبَارَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] وَنُقِلَ فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3555 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا) أَيْ تَرَافَعَا لِلْخُصُومَةِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَحَدُهُمَا اقْضِ) أَيِ احْكُمْ (بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بِحُكْمِهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الرَّجْمُ قَالَ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] أَيِ الْحُكْمُ بِأَنْ لَا يُؤَاخَذَ عَلَى جَهَالَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنْسَخَ آيَةُ الرَّجْمِ لَفْظًا (وَقَالَ الْآخَرُ أَجَلْ) بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ نَعَمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) الْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٌ يَعْنِي إِذَا

ص: 2324

اتَّفَقْتَ مَعَهُ بِمَا عَرَضَ عَلَى جَنَابِكَ فَاقْضِ فَوَضَعَ كَلِمَةَ التَّصْدِيقِ مَوْضِعَ الشَّرْطِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْمُتَرَافِعَانِ أَنْ يُحْكَمَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ إِلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ لِيُفْصَلَ مَا بَيْنَهُمْ بِالْحُكْمِ الصِّرْفِ لَا بِالتَّصَالُحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِهِمَا إِذْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ (وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا) أَيْ أَجِيرًا ثَابِتَ الْأُجْرَةِ (عَلَى هَذَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى هَذَا لِمَا يَتَوَجَّهْ لِلْأَجِيرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَسِيفًا لِهَذَا لِمَا يَتَوَجَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مِنَ الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى هَذَا صِفَةٌ مُمَيِّزَةٌ لِلْأَجِيرِ أَيْ أَجِيرًا ثَابِتَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَابَسَ الْعَمَلَ وَأَتَمَّهُ وَلَوْ قِيلَ لِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ (فَزَنَى) أَيِ الْأَجِيرُ (بِامْرَأَتِهِ) أَيِ الْمُسْتَأْجِرِ (فَأَخْبَرُونِي) أَيْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ) وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ السُّؤَالُ مِنَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ (فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ) أَيْ وَلَدِي (بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي) أَيْ أَعْطَيْتُهُمَا فِدَاءً وَبَدَلًا عَنْ رَجْمِ وَلَدِي (ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) أَيْ كُبَرَاءَهُمْ وَفُضَلَاءَهُمْ (فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ ضَرْبَ مِائَةِ جَلْدَةٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْصَنٍ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ) أَيْ إِخْرَاجَهُ عَنِ الْبَلَدِ سَنَةً (وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ) أَيْ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِمَعْنَى أَلَا لِلتَّنْبِيهِ (وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ ذَاتِي أَوْ رُوحِي (بِيَدِهِ) أَيْ بِقَبْضَةِ قُدْرَتِهِ وَحَيِّزِ إِرَادَتِهِ (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) وَقِيلَ: الرَّجْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ صَرِيحًا لِنَسْخِ آيَةِ الرَّجْمِ لَفْظًا لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وَالْأَذَى يُطْلَقُ عَلَى الرَّجْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ هَذَا وَقَدْ فُصِّلَ الْحُكْمُ الْمُجْمَلُ فِي قَوْلِهِ لَأَقْضِيَنَّ بِقَوْلِهِ (أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ) أَيْ مَرْدُودٌ إِلَيْكَ (وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ) بِالْإِضَافَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ جَلْدٍ وَنَصْبِ مِائَةٍ عَلَى التَّمْيِيزِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَأَئِمَّتِنَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَيَقُولُ: لَيْسَ التَّغْرِيبُ بِطَرِيقِ الْحَدِّ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي رَآهَا الْإِمَامُ مِنَ السِّيَاسَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ) تَصْغِيرُ أَنَسٍ وَهُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (فَاغْدُ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَهُوَ أَمْرُ الذَّهَابِ فِي الْغُدْوَةِ كَمَا أَنَّ رُحْ أَمْرٌ بِالذَّهَابِ فِي الرَّوَاحِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ كُلٌّ فِي مَعْنِي الْآخَرِ أَيْ فَاذْهَبْ (عَلَى امْرَأَةِ هَذَا) أَيْ إِلَيْهَا وَفِيهِ تَضْمِينٌ أَيْ حَاكِمًا عَلَيْهِ (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) بِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ رَجْمَهَا بِاعْتِرَافِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْأَرْبَعَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمَعْنَى فَإِنِ اعْتَرَفَتِ الْمَعْهُودَ وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ فَارْجُمْهَا (فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِفْتَاءِ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّ أَبَا الْعَسِيفِ قَالَ: سَأَلَتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِلَخْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَأَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّ حُضُورَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إِقَامَتِهَا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أُنَيْسًا لَهَا وَإِنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا جَائِزَةٌ قُلْتُ: فَحُضُورُهُ حُضُورُهُ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ بَعْثَ أُنَيْسٍ إِلَيْهَا مَحْمُولٌ عَلَى إِعْلَامِهَا بِأَنَّ أَبَا الْعَسِيفِ قَذَفَهَا بِابْنِهِ فَيُعَرِّفُهَا بِأَنَّ لَهَا عِنْدَهُ حَدَّ الْقَذْفِ هَلْ هِيَ طَالِبَةٌ بِهِ أَمْ تَعْفُو عَنْهُ أَوْ تَعْتَرِفُ بِالزِّنَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهَا الرَّجْمُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بُعِثَ لِطَلَبِ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا وَتَجَسُّسِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ; لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَى لَا يُتَجَسَّسُ وَلَا يُنَقَّرُ عَنْهُ بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الزَّانِي اسْتَحَبَّ أَنْ يُلَقَّنَ الرُّجُوعَ كَمَا سَيَجِيءُ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ اقْضِ بِالْحَقِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهِ خَصْمُهُ.

ص: 2325

فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِمَاعِ كَلَامِ أَيِّ الْخَصْمَيْنِ شَاءَ وَفِي قَوْلِهِ فَرَدٌّ عَلَيْكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالصُّلْحِ الْفَاسِدِ مُسْتَحِقٌّ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْآخِذِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْطَعُ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْتَصُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ. وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إِفَادَةِ أَنَّهَا مَجَالِسُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنَ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِي الْفِعْلِ مِنْ صَالِحِينَا فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حَفِيرَةً فَرَجَمَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْهُ قَالَ:«أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ، فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ» ، فَصُرِّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا تَغَيَّبَ، ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:«جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ! وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا؟ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ» ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2326

3556 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3556 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فِي النِّهَايَةِ الْإِحْصَانُ الْمَنْعُ، وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُحْصَنَةً بِالْإِسْلَامِ وَالْعَفَافِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّزْوِيجِ، يُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ وَمُحْصِنَةٌ وَكَذَلِكَ - الرَّجُلُ، وَالْمُحْصَنُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جِئْنَ نَوَادِرَ يُقَالُ: أَحْصَنَ وَأَسْهَبَ فَهُوَ مُسْهَبٌ وَأَلْفَحَ فَهُوَ مُلْفَحُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ (جَلْدَ مِائَةٍ) مَفْعُولُ يَأْمُرُ (وَتَغْرِيبَ عَامٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا عليه الصلاة والسلام بِسَوْطٍ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَقَالَ: سَوْطٌ دُونَ هَذَا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ لَيِّنٍ، فَقَالَ: سَوْطٌ فَوْقَ هَذَا. فَأَتَى بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا. فَأَمَرَ بِهِ، فَجَلَدُوهُ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَوْطٍ، فَذَكَرَهُ. وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجْتَنِبُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ مِنَ الْعُقْدَةِ وَالْفَرْعِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ ذَنَبَيْنِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ حَنْظَلَةَ السُّدُوسِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَيُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ، قُلْنَا لَهُ: فِي زَمَنِ مَنْ كَانَ هَذَا؟ قَالَ: فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَالْحَاصِلُ

ص: 2326

أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُضْرَبَ بِهِ وَفِي طَرَفِهِ يُبْسٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرَحُ، أَوْ يُبَرِّحُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَلَدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، فَكَانَتِ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، وَفِي الْهِدَايَةِ، وَيَفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ ; لِأَنَّ جَمْعَهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ، وَاسْتَثْنَى الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْفَرْجَ. وَذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ: اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَمْ يَحْفَظِ الْمُخَرِّجُونَ مَرْفُوعًا بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: اضْرِبْ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ، وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ: اضْرِبْ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ. قَالَ: رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ اه وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ لِأَحَدٍ ضَرَبَ وَجْهَ مَنْ يُبَارِزُهُ، وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَالَةَ الْحَمْلَةِ لَا يَكُفُّ عَنْهُ إِذْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَقْتُلُهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا مَنْ يَضْرِبُ صَبْرًا فِي حَدٍّ قَتْلًا، أَوْ غَيْرَ قَتْلٍ، وَمَا قِيلَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالْكَافِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَخُصُّ الظَّهْرَ لِاسْتِدْلَالِ الشَّارِحِينَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» غَيْرُ ثَابِتٍ فِي كُتُبِهِمْ بَلِ الَّذِي فِيهَا كَقَوْلِنَا وَإِنَّمَا يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وَمَا يَلِيهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّهْرِ نَفْسَهُ أَيْ حَدٌّ عَلَيْكَ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ الْفَرَجَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضْرَبُ الرَّأْسُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يُضْرَبُ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ اضْرِبْ فِي رَأْسِهِ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. وَالْمَسْعُودِيُّ مُضَعَّفٌ وَلَكِنْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: صُبَيْغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صُبَيْغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ رضي الله عنه عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسَبُكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي.

ص: 2327

3557 -

وَعَنْ عُمَيْرٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3557 -

(وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ) أَيْ بِالصِّدْقِ وَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ وَتَوْطِئَةٌ لِلْمَرَامِ رَفْعًا لِلرِّيبَةِ، وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ فُقْدَانِ تِلَاوَةِ آيَةِ الرَّجْمِ بِنَسْخِهَا مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا (فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةُ الرَّجْمِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ وَمِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ فِي (مِمَّا أَنْزَلَ) خَبَرُهُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ فَالتَّقْدِيرُ: فَكَانَ بَعْضُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ وَهِيَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أَيِ الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ كَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْأَظْهَرُ تَفْسِيرُهُمَا بِالْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ (رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا (وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ) أَيْ تَبَعًا لَهُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُ (وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ) أَيْ ثَابِتٌ أَوْ وَاجِبٌ (عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) ظَرْفًا لِلزِّنَا (إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ) أَيِ الْمَعْرُوفَةُ فِي الزِّنَا (أَوْ كَانَ) أَيْ أَوْ إِذَا وَقَعَ (الْحَبَلُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ (أَوِ الِاعْتِرَافُ) أَيْ إِذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا أَوْ بِالْحَبَلِ ظَرْفٌ لِلرَّحِمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ إِلَخْ مُقَدِّمَةً لِلْكَلَامِ دَفْعًا لِلرِّيبَةِ وَالِاتِّهَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي تَمَامِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ وَفِي آخِرِهِ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا. أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَقَدْ قَرَأْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الرَّجْمُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْكَارُ الْخَوَارِجِ لِلرَّجْمِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَنْكَرُوا

ص: 2327

حُجِّيَّةَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ بِالدَّلِيلِ بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ وَإِنْ أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُتَوَاتِرُ الْمَعْنَى كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ، وَالْآحَادُ فِي تَفَاصِيلِ صُوَرِهِ وَخُصُوصِيَّاتِهِ، وَأَمَّا أَصْلُ الرَّجْمِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَقَدْ كُوشِفَ بِهِمْ عُمَرُ، وَكَاشَفَ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ خَطَبَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، فَيَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ. الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الدَّارِ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ: وَقَتْلُ نَفْسٍ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ قَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ حَيْثُ قَالَ:«وَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قُتِلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ» . وَلَا شَكَّ فِي رَجْمِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُخَرِّجِ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهِ الْمَتْنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقِعٌ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ السَّنَدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الشُّهْرَةَ وَقَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ بِالتَّظَافُرِ وَالْقَبُولِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالْمُتَوَاتِرِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُمْ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَرْكِ التَّرَدُّدِ إِلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرُوَاتِهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي جَهَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لِخَفَاءِ السَّمْعِ عَنْهُمْ وَالشُّهْرَةِ وَلِذَا حِينَ عَابُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَوْلَ بِالرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلْزَمَهُمْ بِإِعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ فَقَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا فَعَلَهُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لِقَوْلَهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّانِيَةَ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ عَكْسُهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ إِذِ الدَّاعِيَةُ مِنْهَا أَكْثَرُ وَلَوْلَا تَمْكِينُهَا لَمْ يَزْنِ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرُهُ نَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ قَطْعًا، وَيَكْفِينَا فِي تَعْيِينِ النَّاسِخِ الْقَطْعُ بِرَجْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ كَوْنِ النَّاسِخِ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِكَوْنِهَا قُرْآنًا ثُمَّ انْتِسَاخُ تِلَاوَتِهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا عُمَرُ وَسَكَتَ النَّاسُ فَإِنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ حُجَّةً مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَبِتَقْدِيرِ حُجِّيَّتِهِ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ حَضَرُوا ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ ظَنِّيٌّ وَلِهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِلْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَةً وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ نَسْخِ عُمُومِ الْآيَةِ فَيَكُونُ رَأْيَهُ أَنَّ الرَّجْمَ حُكْمٌ زَائِدٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ قِيلَ بِهِ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ.

ص: 2328

3558 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3558 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذُوا عَنِّي) أَيْ حُكْمَ حَدِّ الزِّنَا (خُذُوا عَنِّي) كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) أَيْ حَدًّا وَاضِحًا وَطَرِيقًا نَاضِحًا فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء: 15] إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وَلَمْ يَقُلْ عليه الصلاة والسلام: لَكُمْ لِيُوَافِقَ نَظْمَ الْقُرْآنِ، وَمَعَ هَذَا فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ مَبْدَأٌ لِلشَّهْوَةِ، وَمُنْتَهَى الْفِتْنَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حِينَ شُرِعَ الْحَدُّ فِي الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، وَالسَّبِيلُ هَاهُنَا الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ

ص: 2328

مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15](الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ) أَيْ حَدُّ زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ (جَلْدُ مِائَةٍ) أَيْ ضَرْبُ مِائَةِ جَلْدَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) أَيْ نَفْيُ سَنَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَالْمَعْنَى إِنِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ (وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ) الْجَلْدُ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمَا بِالْآيَةِ الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِ مَاعِزٍ وَغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ حَدًّا لَمَا تَرَكَهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ إِنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ، وَالرَّجْمُ إِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ قَدْ خَفِيَ شَأْنُهُ، وَاهْتَمَّ بِبَيَانِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:(قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) مُبْهَمٌ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ يُعْلَمْ مَا تِلْكَ السَّبِيلُ أَيِ الْحَدُّ الثَّابِتُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ، وَغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ إِلَخْ بَيَانٌ لِلْمُبْهَمِ، وَتَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وَالتَّقْسِيمُ حَاصِرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ ; لِأَنَّ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَالْأُولَى إِمَّا زَنَتْ بِالْبِكْرِ، أَوْ بِالثَّيِّبِ، وَالثَّانِيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ مَا حَدُّ الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ، وَالثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الثَّيِّبِ مَعَ الْبِكْرِ لِظُهُورِهِ، وَلِحَدِيثِ عَسِيفٍ عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لَهَا، وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ النُّورِ فِي الْبِكْرَيْنِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الثَّيِّبَيْنِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ مُبْتَدَأٌ، وَجَلْدُ مِائَةٍ خَبَرُهُ أَيْ حَدُّ زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ بَلْ حَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ سَوَاءٌ زَنَى بِبِكْرٍ أَمْ بِثَيِّبٍ، وَحَدُّ الثَّيِّبِ الرَّجْمُ سَوَاءٌ زَنَى بِثَيِّبٍ أَوْ بِبِكْرٍ، فَهُوَ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْغَالِبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِكْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَنْ لَمْ يُجَامِعْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ سَوَاءٌ جَامَعَ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ عَكْسُ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالرَّشِيدُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، قُلْتُ: فِي الْكَافِرِ خِلَافٌ لَنَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ جَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةً، وَرَجْمِ الْمُحْصَنِ وَهُوَ الثَّيِّبُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الثَّيِّبِ مَعَ الرَّجْمِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُجْلَدُ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْوَاجِبُ الرَّجْمُ، وَحَدُّهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَضِيَّةُ مَاعِزٍ، وَقَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ، وَقَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْعَسِيفِ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا تَغْرِيبُ عَامٍ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ سَنَةٍ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجِبُ النَّفْيُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا نَفْيَ عَلَى النِّسَاءِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالُوا: لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا، وَتَعْرِيضٌ لِلْفِتْنَةِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فَفِيهِمَا أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهَا تَغْرِيبُ نِصْفِ سَنَةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَيُجْمَعُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ذَلِكَ، وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَجْمَعْ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ فِي مَاعِزٍ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَصَاحِبَةِ الْعَسِيفِ، وَتَظَاهَرَتِ الطُّرُقُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِحْصَانِ، وَتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّجْمِ، فَقَالَ:«اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ، وَقَالَ: اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ: فَاجْلِدْهَا ثُمَّ ارْجُمْهَا، وَقَالَ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ: فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ، وَكَذَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَالْجُهَيْنِيَّةِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِرَجْمِهَا، وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يَزِدْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، فَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الرَّجْمِ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: خُذُوا عَنِّي إِلَى قَوْلِهِ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ أَوْ رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ» يَجِبُ قَطْعًا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ خُصُوصُ النَّاسِخِ وَأَمَّا جَلْدُ عَلِيٍّ شُرَاحَةَ فِي رَجْمِهَا فَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إِحْصَانُهَا إِلَّا بَعْدَ جَلْدِهَا أَوْ هُوَ رَأْيٌ لَا يُقَاوِمُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْقَطْعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ، وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَلَهُ فِي الْعَبْدِ تَغْرِيبُ نِصْفِ سَنَةٍ، وَلَنَا لَا يُغَرَّبُ أَصْلًا، وَأَمَّا تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ فَمَعَ مَحْرَمٍ وَأُجْرَتُهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ، وَلَوِ امْتَنَعَ فِي قَوْلٍ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ، وَفِي قَوْلٍ لَا وَلَوْ كَانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَفِي تَغْرِيبِهَا بِلَا مَحْرَمٍ قَوْلَانِ

ص: 2329

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: خُذُوا عَنِّي. الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِيَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الزِّنَا مَعَ فَضْلِ عَقْلِكِ؟ قَالَتْ: طُولُ السَّوَادِ وَقُرْبُ الْوِسَادِ. وَالسَّوَادُ الْمُسَارَّةُ مِنْ سَاوَدَهُ إِذَا سَارَّهُ، وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] شَارِعًا فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا، فَكَانَ الْمَذْكُورُ تَمَامَ حُكْمِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَجْهِيلًا إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ تَمَامُ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ تَمَامَهُ فِي الْوَاقِعِ، فَكَانَ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْبَيَانِ أَبْعَدَ مِنْ تَرْكِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، وَذَاكَ فِي الْبَسِيطِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ، فَيُفِيدَ أَنَّ الْوَاقِعَ هَذَا فَقَطْ، وَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ مُثْبِتُهُ مُعَارِضًا لَا مُبَيِّنًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَمْنُوعَةُ نَعَمْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَتَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ اتِّفَاقًا، وَالْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَى ادِّعَاءِ نَسْخِ هَذَا الْخَبَرِ مُسْتَأْنِسًا لَهُ بِنَسْخِ شَطْرِهِ الثَّانِي، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، فَكَذَا نِصْفُهُ الْآخَرُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى جُمَلٌ بَعْضُهَا نُسِخَ وَبَعْضُهَا لَا، وَلَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ، وَادَّعَى أَنَّهُ آحَادٌ لَا مَشْهُورٌ، وَتَلَقَّى الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ إِنْ كَانَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَعْنَى صِحَّةِ سَنَدِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَذَلِكَ، فَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا آحَادٌ، وَقَدْ خُطِّئَ مِنْ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَطْعِيًّا وَادَّعَى فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ، وَغَلِطَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ آحَادًا وَقَدْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ بِقَرِينَةِ نَسْخِ شَطْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ يَتَطَرَّقْ ذَلِكَ إِلَيْهَا فَأَحْرَى أَلَّا يُنْسَخَ بِهِ، مَا أَفَادَهُ الْكِتَابُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِبِ الْجَلْدُ ; فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ فِيهِ لَا أَنَّ الْكِتَابَ سَاكِتٌ عَنْ نَفْيِ التَّغْرِيبِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ التَّغْرِيبُ بِطَرِيقِ الْحَدِّ فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِيهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ:«الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . فَهُوَ عَطْفُ وَاجِبٍ عَلَى وَاجِبٍ وَهُوَ لَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ» ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فَجَازَ كَوْنُهُ تَغْرِيبًا لِمَصْلَحَةٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ فَلَمْ تَدْخُلِ الْمَرْأَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاقِعِ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ فِي النِّسَاءِ بِالنُّصُوصِ الْمُفِيدَةِ إِيَّاهَا لِلرِّجَالِ بِتَقَرُّحِ الْمَنَاطِ وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَشْمَلَهُنَّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ الْحَدِيثَ فَنَصَّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ وَالْجَلْدَ سَبِيلٌ لَهُنَّ، وَالْبِكْرُ يُقَالُ عَلَى الْأُنْثَى أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. ثُمَّ عَارَضَ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَى بِأَنَّ فِي النَّفْيِ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ لِانْفِرَادِهَا عَنِ الْعَشِيرَةِ وَعَمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُمْ إِنْ كَانَ لَهَا شَهْوَةٌ قَوِيَّةٌ فَتَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَفْعَلُ لِحَامِلٍ آخَرَ وَهُوَ حَاجَتُهَا إِلَى مَا يُقَوِّمُ أَوَدَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي إِفْضَائِهِ إِلَى الْفَسَادِ أَرْجَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إِفْضَاءِ قِلَّةِ الْمَعَارِفِ إِلَى عَدَمِ الْإِفْسَادِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَنْ شَاهَدَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْبِكْرِ يَزْنِي بِالْبِكْرِ: يُجْلَدَانِ مِائَةً وَيُنْفَيَانِ سَنَةً. قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: غَرَّبَ عُمَرُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا. نَعَمْ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ مَصْلَحَةٌ فِي التَّغْرِيبِ تَعْزِيرًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَحَلُّ التَّغْرِيبِ الْوَاقِعِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، فَهَذَا التَّغْرِيبُ كَمَا غَرَّبَ عُمَرُ نَصْرَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَغَيْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ افْتَتَنَ بِجَمَالِهِ بَعْضُ النِّسَاءِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ قَائِلَةٍ:

هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا

أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ

إِلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ

سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ

وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا، وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ السُّلُوكِ الْمُحَقِّقِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَعَنَّا بِهِمْ، وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ يُغَرِّبُونَ الْمُرِيدَ إِذَا بَدَا مِنْهُ قُوَّةُ نَفْسٍ وَلَجَاجٌ لِتَنْكَسِرَ نَفْسُهُ، وَتَلِينَ وَمِثْلُ هَذَا الْمُرِيدِ أَوْ مَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي فِي التَّغْرِيبِ ; لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي نَدَمٍ وَشِدَّةٍ، وَإِنَّمَا زَلَّ زَلَّةً لِغَلَبَةِ النَّفْسِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ وَلَهُ حَالٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ لِغَلَبَةِ النَّفْسِ فَنَفْيُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُوَسِّعُ طَرِيقَ الْفَسَادِ وَيُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ.

ص: 2330

3559 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا، وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ فَإِذَا فِيهَا آيَةٌ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَا.

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، وَلِكِنَّا نَتَكَاتَمُهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3559 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ) أَيْ طَائِفَةً مِنْهُمْ (جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً) وَفِي رِوَايَةٍ امْرَأَةً وَرَجُلًا (زَنَيَا) أَيْ وَكَانَا مُحْصَنَيْنِ (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ؟) اسْتِفْهَامٌ أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ تَجِدُونَهُ مَذْكُورًا؟ (فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ قَالُوا: نَفْضَحُهُمْ) بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ نُعَزِّرُهُمْ (وَيُجْلَدُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُضْرَبُونَ عَلَى جُلُودِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ حُكْمَ الرَّجْمِ بَلْ نَجِدُ أَنْ نَفْضَحَهُمْ، وَيُجْلَدُونَ، وَإِنَّمَا أَتَى أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ مَجْهُولًا، وَالْآخَرُ مَعْرُوفًا لِيُشْعِرَ بِأَنَّ الْفَضِيحَةَ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى اجْتِهَادِهِمْ إِنْ شَاءُوا سَخَّمُوا وَجْهَ الزَّانِي بِالْفَحْمِ، أَوْ عَزَّرُوهُ، وَالْجَلْدُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ (كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْمَاضِي، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَجَاءُوا بِهَا (فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ وَالَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا (فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ) أَيْ فَرَفَعَ يَدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَإِذَا فِيهَا) أَيْ فِي التَّوْرَاةِ (آيَةُ الرَّجْمِ فَقَالُوا: صَدَقَ) أَيِ ابْنُ سَلَامٍ (فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا) بِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ رَجْمَ الْيَهُودِيَّيْنِ إِنَّمَا كَانَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِحْصَانُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ حُكْمُ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا نَزَلَ حُكْمُ الْقُرْآنِ نُسِخَ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْكَافِرِ، وَإِنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُهُمْ، وَعَلَى الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ إِذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ لَمْ يَثْبُتْ إِحْصَانُهُ، وَلَمْ يُرْجَمْ، وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ شَرْعِنَا، قَالُوا: وَسُؤَالُهُ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ فِي كِتَابِهِمْ، وَلِإِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَأَرَادُوا تَعْطِيلَ نَصِّهَا، فَفَضَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ مَوْجُودٌ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَشْيَاءَ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَجَمَهُمَا بِمَا ذَكَرَتِ الْيَهُودُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِشَهَادَتِهِمْ قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاحْتِمَالِ مَا جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا، فَلَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ الْحُرُّ يُجْلَدُ عِنْدَنَا، وَيُرْجَمُ عِنْدَهُمْ، لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَأَجَابَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَجَمَهَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا، وَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ حَدِّ الزِّنَا، وَلَيْسَ فِيهَا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فِي الرَّجْمِ، ثُمَّ نَزَلَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالرَّجْمُ بِاشْتِرَاطِ الْإِحْصَانِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْلُوٍّ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ شَرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . رَوَاهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» . قَالَ إِسْحَاقُ: رَفَعَهُ مَرَّةً فَقَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَهُ مَرَّةً. وَمِنْ طَرِيقَةٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ يَرْفَعُهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَفْظُ إِسْحَاقَ كَمَا تَرَاهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَنِ الرَّاوِي أَنَّهُ مَرَّةً رَفَعَهُ، وَمَرَّةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْفَتْوَى، وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهُ بَعْدَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ مَحْكُومٌ بِرَفْعِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ حُكِمَ بِالرَّفْعِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا ضَعْفٌ لَا يَضُرُّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْهَلَ مِمَّا أَنْ يُدَّعَى أَنْ يُقَالَ حِينَ رَجَمَهُمَا: كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي

ص: 2331

شَأْنِ الرَّجْمِ» ثُمَّ الظَّاهِرُ كَوْنُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَإِلَّا لَمْ يَرْجُمْهَا لِانْتِسَاخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَنِ الرَّجْمِ لِيُبَكِّتَهُمْ بِتَرْكِهِمْ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ، فَحَكَمَ بِرَجْمِهِمَا بِشَرْعِهِ الْمُوَافِقِ لِشَرْعِهِمْ، وَإِذَا لَزِمَ كَوْنُ الرَّجْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا حَالَ رَجْمِهِمْ بِلَا اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الْمُفِيدُ لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ تَارِيخٌ يُعْرَفُ بِهِ، أَمَّا تَقَدُّمُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ تَأَخُّرُهُ فَيَكُونُ رَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْمَذْكُورُ مُتَعَارِضَيْنِ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ، وَالْقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ دَرْءَ الْحُدُودِ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ، وَالْأَوْلَى فِي الْحُدُودِ تَرْجِيحُ الدَّافِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ) أَيِ الْوَاضِعُ يَدَهُ (فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ) أَيْ تَظْهَرُ غَايَةَ الْوُضُوحِ (فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالُوا:(يَا مُحَمَّدُ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ لَكِنَّا نَتَكَاتَمُهُ) أَيْ حُكْمَ الرَّجْمِ (بَيْنَنَا) أَيْ لِنَخُصَّ بِهِ الضَّعِيفَ دُونَ الشَّرِيفِ (فَأَمَرَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِهِمَا) أَيْ بِرَجْمِهِمَا أَوْ بِإِحْضَارِهِمَا (فَرُجِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2332

3560 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا شَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ» .

ــ

3560 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (فَنَادَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَنَحَّى) أَيِ الرَّجُلُ وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ النَّحْوِ بِمَعْنَى الْجِهَةِ (لِشِقِّ وَجْهِهِ) بِكَسْرِ الشِّينِ، وَضَمِيرُ وَجْهِهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: قَصَدَ الْجِهَةَ الَّتِي إِلَيْهَا وَجْهُهُ وَنَحَا نَحْوَهَا مِنْ قَوْلِهِ نَحَوْتُ الشَّيْءَ أَنْحُوهُ (الَّذِي) صِفَةُ وَجْهِهِ (أَعْرَضَ) أَيْ عَنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قِبَلَهُ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ مُقَابِلَ شِقِّ وَجْهِهِ (فَقَالَ: إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَلَمَّا شَهِدَ) أَيْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أَيْ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ بِشَرْطِ غُيُوبَتِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَبِالدَّلِيلِ تَحَقَّقَ فَكَانَ الشَّهَادَاتُ الْأَرْبَعُ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّكْرَارَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَحْتَجُّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَجِيئِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّكْرَارَ قَالَ: إِنَّمَا رَدَّهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِشُبْهَةٍ دَاخَلَتْهُ فِي أَمْرِهِ، وَلِذَلِكَ (دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ سَأَلَهُ (قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا) وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ) زَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَرُدَّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِلْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ لَا أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهِ شَرْطٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمَأْخَذُ مُنْحَصِرًا فِي هَذَا الدَّلِيلِ وَلَمْ يُوجَدِ التَّكْرَارُ فِي غَيْرِ هَذَا الشَّخْصِ الْمُتَوَهِّمِ بِالتَّعْلِيلِ، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: إِنَّمَا قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ لِتَحَقُّقِ حَالِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِيرُ عَلَى إِقْرَارِ مَا يَقْتَضِي هَلَاكَهُ، مَعَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إِلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ حَالِ الْمُسْلِمِ وَصِيَانَةِ دَمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَجْنُونِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُجْرَى عَلَيْهِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ (أُحْصِنْتَ؟) أَيْ أَأُحْصِنْتَ؟ (قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ مِنْ إِحْصَانٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِيهِ مُؤَاخَذَةُ الْإِنْسَانِ بِإِقْرَارِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الزَّانِي إِذَا رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ (قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَافٍ وَلَا يُجْلَدُ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيُّ (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ (يَقُولُ) أَيْ جَابِرٌ (فَرَجَمْنَاهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ) أَيْ أَصَابَتْهُ بِحَدِّهَا فَعَقَرَتْهُ مِنْ ذَلَقَ الشَّيْءَ طَرَقَهُ (هَرَبَ) أَيْ فَرَّ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ لَا يُشَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُجْعَلُ فِي الْحُفْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْفِرَارُ وَالْهَرَبُ، قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: فَقَالَ قَوْمٌ لَا يُحْفَرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ لَا لِلرَّجُلِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا وَكَذَا التَّعْزِيرُ قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يُضْرَبُ الرَّجُلُ

ص: 2332

قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً فِي الْحَدِّ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ زَجْرًا لِلْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ وَالْمَرْأَةُ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُكْتَفَى بِتَشْهِيرِ الْحَدِّ فَقَطْ بِلَا زِيَادَةٍ وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ ; لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَلِذَلِكَ حَفَرَ عليه الصلاة والسلام لِلْغَامِدِيَّةِ إِلَى ثَنْدُوَتِهَا، وَالثَّنْدُوَةُ وَالْهَمْزَةُ مَكَانَ الْوَاوِ وَفَتْحُهَا مَعَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةُ ثَدْيِ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ وَالدَّالُ مَضْمُومَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَمَا قِيلَ: الثَّدْيُ لِلْمَرْأَةِ وَالثَّنْدُوَةُ لِلرَّجُلِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِحَدِيثِ الَّذِي وَضَعَ سَيْفَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَكَذَا حَفَرَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَهَى قَبِيلَةٌ كَانَتْ عَيْبَةَ عَلِيٍّ وَقَدْ مَدَحَهُمْ وَقَالَ فِي مَدْحِهِ لَهُمْ:

وَلَوْ كُنْتُ بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ

لَقُلْتُ لِهَمَذَانَ ادْخُلْنَ بِسَلَامِ

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ شُرَاحَةَ وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهَا إِلَى السُّرَّةِ وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحْفُرْ لِمَاعِزٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ وَالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْمُتَظَافِرَةَ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، زَادَ فِي شُهْرَةِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَيُكْتَفَى فِي الْمَرْأَةِ بِالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْيَانِ بِهَا إِلَى مُجْتَمَعِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ خُصُوصًا فِي الرَّجْمِ وَأَمَّا فِي الْجَلْدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] أَيِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ طَائِفَةً أَيْ جَمَاعَةً أَنْ يَحْضُرُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاحِدٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِسْحَاقُ اثْنَانِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَشَرَةٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ أَرْبَعَةٌ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ. وَلِأَنَّ مَاعِزًا انْتَصَبَ لَهُمْ قَائِمًا، لَمْ يُمْسَكْ وَلَمْ يُرْبَطْ، إِلَّا أَنْ لَا يَصْبِرَ وَأَعْيَاهُمْ، فَحِينَئِذٍ يُمْسَكُ فَيُرْبَطُ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ) وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ بَيْنَ جَبَلَيِ الْمَدِينَةِ (فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِذَا هَرَبَ فِي الرَّجْمِ فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا يُتْبَعُ وَيُتْرَكُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا عَلَيْهِ اتُّبِعَ، وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ ; لِأَنَّ هَرَبَهُ رُجُوعٌ ظَاهِرًا، وَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إِقْرَارِهِ لَا فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي صِفَةِ الرَّجُلِ أَنْ يَصُفُّوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَجَمَهُ صَفٌّ تَنَحَّوْا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ بَلْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ شُرَاحَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَفِيهِ إِحَاطَةُ النَّاسِ بِهَا، وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ قَالَ: لَيْسَ هَذَا الرَّجْمَ، إِذَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَجَمَهَا، فَرَجَمَهَا صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . (وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى) قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ. وَتَشْهَدُ لَهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ وَالْأَعْيَادِ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ مَسْجِدًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُهُ لَاجْتَنَبَ الرَّجْمَ فِيهِ لِتَلَطُّخِهِ بِالدِّمَاءِ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مُصَلَّى الْعِيدِ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا هَلْ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَسْجِدٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَلَا تَعْزِيرٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ، وَمَجَانِينَكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ، وَبَيْعَكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَجَمِّرُوهَا فِي جَمْعِكُمْ، وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَظَاهِرَ» . وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنَ الْحَدِّ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ) أَيْ مَسَّتْهُ وَأَصَابَتْهُ وَأَقْلَقَتْهُ (الْحِجَارَةُ) أَيْ طَرَفُهَا الْحَادُّ (فَرَّ فَأُدْرِكَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى اللُّحُوقِ (فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ) أَيْ أَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنِ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَشَرَعُوا فِي رَجْمِهِ فَهَرَبَ هَلْ يُتْرَكُ أَمْ يُتَّبَعُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: يُتْرَكُ وَلَكِنْ يُسْتَقَالُ لَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ تُرِكَ، وَإِنْ أَعَادَهُ رُجِمَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُتْرَكُ مُطْلَقًا. قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُتْبَعُ وَيُرْجَمُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْهُمْ دِيَتَهُ مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْحُكْمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْجَهْلُ بِهِ عُذْرٌ.

ص: 2333

3561 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ، قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ - لَا يُكَنِّي - قَالَ: نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

3561 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَتَى) أَيْ جَاءَ (مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ فَعَلْتَ الْقُبْلَةَ بِالضَّمِّ (أَوْ غَمَزْتَ) أَيْ لَمَسْتَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ مِنْ غَمَزْتُ الشَّيْءَ بِيَدِي أَيْ لَمَسْتُ بِهَا، أَوْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ بِهَا (أَوْ نَظَرْتَ) أَيْ قَصَدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهَا فَإِنَّ كُلًّا يُسَمَّى زِنًا (قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا) بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ أَيْ أَجَامَعْتَهَا وَهُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ وَقَوْلُهُ (لَا يُكَنِّي) حَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِنَايَةِ ضِدُّ التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي أَيْ قَالَ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ مُصَرِّحًا غَيْرَ مُكَنٍّ عَنْهُ، وَهَذَا التَّصْرِيحُ تَصْرِيحٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْرِيضِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَنَّى الْجَانِي، وَلَمْ يُصَرِّحْ (قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَعِنْدَ ذَلِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ أَيْ مَاعِزٌ: نَعَمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ (أَمَرَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِرَجْمِهِ) أَيْ فَرُجِمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَلْقِينِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا بِالرُّجُوعِ وَبِمَا يُعْتَذَرُ بِهِ مِنْ شُبْهَةٍ، فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالدَّرْءِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّلْقِينُ فِيهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ:«فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا كَمَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ فَقَالَا: نَحْنُ هَذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: انْزِلَا وَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عَرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا» .

ص: 2334

3562 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ: وَيْحَكَ! ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ قَالَ: مِنَ الزِّنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ: أَزَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَلَبِثُوا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ، ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيَحَكِ ارْجِعِي، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ: وَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَتَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَلَمَّا فَطَمَتْهُ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ - مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3562 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي) أَيْ كُنْ سَبَبَ تَطْهِيرِي مِنَ الذَّنْبِ بِإِجْرَاءِ الْحَدِّ عَلَيَّ (فَقَالَ: وَيَحَكَ!) فِي النِّهَايَةِ: وَيْحَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَقَدْ يُقَالُ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ وَهَى مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ يُرْفَعُ، وَيُضَافُ، وَلَا يُضَافُ، يُقَالُ وَيْحَ زَيْدٍ، وَوَيْحًا لَهُ، وَوَيْحٌ لَهُ (ارْجِعْ) أَيْ عَنْ هَذَا الْمَقَالِ وَعَنْ هَذَا الْكَلَامِ (فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) أَيْ بِاللِّسَانِ (وَتُبْ إِلَيْهِ) أَيْ بِالْجَنَانِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ، وَبِالتَّوْبَةِ الْمُدَاوَمَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهَا (قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أَيْ غَيْرَ زَمَانٍ بَعِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ غَيْرَ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَوْ رُجُوعًا غَيْرَ بَعِيدٍ بِمَعْنَى غَيْبَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ (ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي) وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَطْهِيرِ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالرَّجْعَةِ النَّصِيحَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ) وَيْحَكَ إِلَخْ (حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ) أَيْ، وَقَالَ طَهِّرْنِي (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ أُطَهِّرُكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مِمَّ أُطَهِّرُكَ؟ وَفِي نُسْخَةٍ: بِمَ أُطَهِّرُكَ؟ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيمَ بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بِنُقْطَتَيْنِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ (قَالَ: مِنَ الزِّنَا) أَيْ مِنْ ذَنْبِهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا يُسْأَلُ بِهَا عَنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَمَنِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي الْجَوَابِ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى السَّبَبِ ; لِأَنَّهَا لِإِنْشَاءِ الِابْتِدَاءِ، فَخُصَّتْ مَا بِهِ لِيُطَابِقَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ فِي أَيِّ سَبَبٍ أُطَهِّرُكَ؟ وَأَجَابَ بِسَبَبِ الزِّنَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ

ص: 2334

الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ (مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ) مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ لِأَصْحَابِهِ (أَبِهِ جُنُونٌ فَأُخْبِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَأَخْبَرُوهُ (أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا، فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ) أَيْ طَلَبَ نَكْهَتَهُ مِنْ رَائِحَةِ فَمِهِ لِيَعْلَمَ أَشَارِبٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ شَارِبٍ (فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ: أَزَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ) أَيْ بِرَجْمِهِ (فَرُجِمَ، فَلَبِثُوا يَوْمَيْنِ) أَيْ بَعْدِ رَجْمِهِ (أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ) أَيِ اطْلُبُوا لَهُ مَزِيدَ الْمَغْفِرَةِ وَتَرَقِّي الدَّرَجَةِ (لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً) أَيْ مِنْ ذَنْبِهِ هَذَا (لَوْ قُسِّمَتْ) أَيْ ثَوَابُهَا (بَيْنَ أُمَّةٍ) أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ (لَوَسِعَتْهُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَكَفَتْهُمْ سَعَةً يَعْنِي تَوْبَةً تَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً تَسْتَوْعِبَانِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الْخَلْقِ يَدُلُّ قَوْلُهُ فِي الْغَامِدِيَّةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ - مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذًا مَا فَائِدَةُ اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزٍ؟ قَلْتُ: فَائِدَةُ قَوْلِهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] إِلَى قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1 - 2] فَإِنَّ الثَّانِي طَلَبُ مَزِيدِ الْغُفْرَانِ وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنَ التَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90](ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَمَنِ (مِنَ الْأَزْدِ) قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْغَامِدِيَّةُ مِنْ بَنِي غَامِدٍ حَيٌّ مِنَ الْأَزْدِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ، وَفِي كِتَابِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ غَامِدٌ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكِ! فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي) أَيْ تُرْجِعَنِي (كَمَا رَرَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الزِّنَا مَقْصُورٌ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) وَيُمَدُّ فِي لُغَةِ نَجْدٍ وَعَلَيْهَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ

أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفُ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا مِنَ السُّكْرِ وَالْخُرْطُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ إِنَّهَا حُبْلَى جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةُ بَيَانٍ لِمُوجِبِ قِيَاسِ حَالِهَا عَلَى حَالِ مَاعِزٍ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ جَامِعَةٍ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنَ الْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لِظُهُورِ الْحَبَلِ بِخِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا حُبْلَى عَلَى الْغَيْبَةِ حِكَايَةُ مَعْنًى، وَقَوْلُهَا: إِنِّي حُبْلَى يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ (فَقَالَ: أَنْتِ؟) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا تَكَلَّمَتْ بِهِ (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ لَهَا: حَتَّى) أَيِ اصْبِرِي إِلَى أَنْ (تَضَعِي) وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَايَةٌ لِجَوَابِ قَوْلِهَا: طَهِّرْنِي أَيْ لَمْ أُطَهِّرْكِ حَتَّى تَضَعِي (مَا فِي بَطْنِكِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ لَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ مَا لَمْ تَضَعِ الْحَمْلَ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِهْلَاكُ الْبَرِيءِ بِسَبَبِ الْمُذْنِبِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعِبَادِ (قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَكَفَلَهَا) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ قَامَ بِمُؤْنَتِهَا وَمَصَالِحِهَا (رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْكَفَالَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الضَّمَانِ لِأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي حُدُودِ اللَّهِ (فَأَتَى) أَيِ الرَّجُلُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ (فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ) أَيْ فَمَا الْحُكْمُ فِيهَا؟ (فَقَالَ: إِذًا) بِالتَّنْوِينِ (لَا نَرْجُمُهَا)

ص: 2335

بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (وَتَدَعُ وَلَدَهَا) بِالْوَجْهَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذًا هُوَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يَعْنِي إِذَا وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَلَا تَرْجُمْهَا، وَتَتْرُكُ وَلَدَهَا (صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرٍ أَيْ رَضَاعُهُ مَوْكُولٌ إِلَيَّ (يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ:) أَيِ الرَّاوِي (فَرَجَمَهَا) أَيْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا، فَرُجِمَتْ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ تَفْصِلِينَهُ مِنَ الرَّضَاعِ (فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَتَتْهُ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (فِي يَدِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ وَفِي يَدِهِ (كِسْرَةُ خُبْزٍ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ (فَقَالَتْ: هَذَا) أَيْ وَلَدِي (يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ) فِيهِ أَنَّ رَجْمَ الْحَامِلِ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلَدُهَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ (فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْأُولَى، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ رَجْمَهَا كَانَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَأَكَلِ الْخُبْزِ، وَالْأُولَى ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ رَجْمَهَا عَقِيبَ الْوِلَادَةِ فَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْأُولَى لِصَرَاحَةِ الثَّانِيَةِ لِتَتَّفِقَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، فَقَوْلُهُ فِي الْأُولَى: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَأَرَادَ بِالرَّضَاعَةِ كَفَالَتَهُ وَتَرْبِيَتَهُ سَمَّاهَا رَضَاعًا مَجَازًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالطَّرِيقَانِ فِي مُسْلِمٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ فَطَمَتْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ وَضَعَتْ، وَهَذَا أَصَحُّ طَرِيقًا ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ وَفِيهِ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ نِسْبَتُهَا إِلَى الْأَزْدِ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِيهِ رَجَمَهَا بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ أَيْ إِنِّي أَتَكَفَّلُ مُؤْنَةَ الْمُرْضِعَةِ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا كَمَا كَفَلَ الرَّجُلُ مُؤْنَتَهَا حِينَ كَانَتْ حَامِلًا، فَإِذَا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَرَجَمَهَا فَصَيْحَةٌ أَيْ سَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ وَلَدِهَا فَأَرْضَعَتْهُ حَتَّى فَطَمَتْهُ، وَأَتَتْهُ بِهِ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى غَيْرِهَا (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا) أَيْ بِرَجْمِهَا (فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: إِنَّ تَرْكَ الْحَفْرِ لَمْ يَضُرَّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ. اه وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِتَقْدِيرِهِ فَيُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا عَلَى مَا سَبَقَ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي لَمْ يُوجِبْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ هُوَ الْإِيجَابُ، وَقَالَ: إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مَجَازًا عَنْ أَمَرَ (وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا) وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ حُضُورِهِ فِي رَجْمِهَا بَلِ الظَّاهِرُ وَجُودُهُ حِينَئِذٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِخَالِدٍ بَعْدَ سَبِّهِ إِيَّاهَا، وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ، فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ» . ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا آخَرَ، وَزَادَ: ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمِّصَةِ وَقَالَ: ارْمُوا، وَاتَّقُوا الْوَجْهَ، فَلَمَّا طُفِئَتْ، أَخْرَجَهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ، وَفِيهِمْ مَجْهُولٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ عَلَى الزِّنَا أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَرْجُمُوا، ثُمَّ يَرْجُمُ هُوَ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ، فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ هُوَ فَرَجَمَ، ثُمَّ رَجَمَ النَّاسُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزِّنَا زِنَاآنِ زِنَا السِّرِّ وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ، فَزِنَا السِّرِّ يَشْهَدُ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ فَيَكُونُ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، قَالَ: وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ صُدْغَهَا، فَاسْتَدَارَتْ، وَرَمَى النَّاسُ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ لِشُرَاحَةَ زَوْجٌ غَائِبٌ بِالشَّامِ، وَأَنَّهَا حَمَلَتْ فَجَاءَ بِهَا مَوْلَاهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ زَنَتْ، فَاعْتَرَفَتْ فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحَفَرَ لَهَا إِلَى السُّرَّةَ وَأَنَا شَاهِدٌ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَلَوْ كَانَ

ص: 2336

شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدُ يَشْهَدُ ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَرْمِيهَا، فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ، فَرَمَاهَا النَّاسُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتَ نَائِمَةٌ، قَالَتْ: لَا. قَالَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ. قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا، فَحُبِسَتْ فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، فَضَرَبَهَا مِائَةً، وَحُفِرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ، وَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا. الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ صَفَّهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ، فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ (فَيُقْبِلُ) مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرْوَى هَذَا اللَّفْظُ بِالْيَاءِ ذَاتِ النُّقْطَتَيْنِ مِنْ تَحْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَافِ وَاللَّامِ عَلَى زِنَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّقْبِيلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ مَعْنًى، وَرِوَايَةً وَإِنَّمَا أَتَاهُمُ الْغَلَطُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرَّاوِيَ أَتَى بِهِ عَلَى بِنَاءِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْإِقْبَالِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حِكَايَةَ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَرَوَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْإِقْبَالِ لَأَتَى بِهِ عَلَى زِنَةِ الْمَاضِي لِكَوْنِهِ أَشْبَهَ بِنَسَقِ الْكَلَامِ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَتَقَيَّلَ بِالْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ التَّقَيُّلِ وَهُوَ التَّبَعُ أَيْ تَبِعَهَا بِحَجَرٍ (فَرَمَى رَأْسَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الْقِصَّةَ إِذَا كَانَتْ عَجِيبَةَ الشَّأْنِ يُعَدَّلُ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ مُشَاهَدَةً وَاسْتِحْضَارًا لِيَتَعَجَّبَ السَّامِعُ مِنْهَا وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ قِصَّةَ خَالِدٍ وَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: مَهْلًا. وَمِنْ تَمْثِيلِ تَوْبَتِهَا بِتَوْبَةِ الْعِشَارِ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، وَيُسْتَغْرَبُ فِيهَا قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ كُلُّهَا بِالصِّيغَةِ الْمُضَارِعَةِ فَتَأَمَّلْ (فَتَنَضَّحَ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِي بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمُهْمَلَةِ، وَالْمَعْنَى تَرَشَّشَ، وَانْصَبَّ وَفِي النِّهَايَةِ: النَّضْحُ قَرِيبٌ مِنَ النَّضْخِ، وَقِيلَ: بِالْمُعْجَمَةِ الْأَثَرُ يَبْقَى فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَبِالْمُهْمَلَةِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَا فُعِلَ تَعَمُّدًا وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ (فَسَبَّهَا) أَيْ فَشَتَمَهَا (خَالِدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا) أَيْ أَمْهِلْ مَهْلًا أَيِ ارْفِقْ رِفْقًا فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ فَلَا تَسُبَّهَا (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً) أَيْ نَدِمَتْ نَدَامَةً، أَوْ رَجَعَتْ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ رَجْعَةً (لَوْ تَابَهَا) لَوْ تَابَ تَوْبَتَهَا (صَاحِبُ مَكْسٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَأَصْلُهُ الْجِنَايَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى الضَّرِيبَةِ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمَاكِسُ وَهُوَ الْعِشَارُ (لَغُفِرَ لَهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْمَكْسَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُطَالَبَةِ النَّاسِ وَمَظْلَمَاتِهِمْ عِنْدَهُ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَصَرْفِهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، قُلْتُ: وَهُوَ مَنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ الَّذِي شَقِيقُ الرُّوحِ فِي وَقْتٍ ضَيِّقٍ قَهْرًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ وَلَا طَرِيقٍ عُرْفِيٍّ بَلْ يَتَعَدَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ زِيَادَةً عَلَى مُصْطَلَحِ الْكَافِرِينَ، وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَمَشَايِخِ أَوَانِنَا إِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْمَالَ وَيَصْرِفُونَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَنَالِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الْمَالِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ الْحَلَالَ، وَسَنَّ الْأَعْمَالِ (ثُمَّ أَمَرَ) أَيِ النَّاسَ (بِهَا) أَيْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا (فَصُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَنَائِبُهُ قَوْلُهُ:(عَلَيْهَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْمَأْمُورُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: هِيَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الصُّبْرِيِّ بِضَمِّ الصَّادِ، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبَى دَاوُدَ كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فَصَلَّى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَصْلًا، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَيْ بِتَجْهِيزِهَا مِنْ غَسْلِهَا، وَتَكْفِينِهَا، وَإِحْضَارِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُنَافِي الْأُولَى، فَتُحْمَلُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ صَلَاتَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَاعِزٍ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ اه.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَكَانَ أَرْبَابُ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْمِشْكَاةِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهَا أَمْ لَا اخْتَارُوا ضَبْطَ لَفْظِهِ (صُلِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِيَشْمَلَ الِاحْتِمَالَيْنِ، لَكِنَّهُ مُوهِمٌ، فَالْأَوْلَى مُتَابَعَةُ الْجُمْهُورِ مُوَافَقَةَ النَّقْلِ الْمَشْهُورِ. (وَدُفِنَتْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِلْإِمَامِ، وَلِأَهْلِ الْفَضْلِ دُونَ بَاقِي

ص: 2337

النَّاسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَأَهْلُ الْفَضْلِ فِي غَيْرِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَالْمَقْتُولِينَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْحُدُودِ وَأَوْلَادِ الزِّنَا، سِوَى قَتَادَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَوْلَادِ الزِّنَا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ يُكَفِّرُ ذَنْبَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي حُدَّ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ لَمْ يَقْنَعَا بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ مُحَصِّلَةٌ لِغَرَضِهَا مِنْ سُقُوطِ الْإِثْمِ، فَأَصَرَّا عَلَى الْإِقْرَارِ، فَرَجَمَهَا؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ تَحْصِيلَ الْبَرَاءَةِ بِالْحَدِّ مُتَيَقَّنٌ لَاسِيَّمَا بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَيُخَافُ أَنْ لَا تَكُونَ نَصُوحًا، وَأَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطِهَا، وَفِيهِ احْتِجَاجٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْحِجَازِيِّينَ، أَنَّهُ يُحَدُّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يُقِرَّ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبَى حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ الرِّيحِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِقْرَارٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يُقْتَلَ الْبَرِئُ مِنَ الذَّنْبِ، وَكَذَا لَا تُجْلَدُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قِصَاصٌ وَهِيَ حَامِلٌ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَتُرْضِعَ وَلَدَهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ:«رُجِمَ مَاعِزٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: " اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ مِنَ الْغُسْلِ وَالْحَنُوطِ وَالْكَفَنِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ» ". وَأَمَّا صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْغَامِدِيَّةِ، فَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ» ". وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَمْرِ مَاعِزٍ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحُوهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ دَاوُدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَفِيهِ مَجَاهِيلُ، فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَبِي بُسْرٍ: حَدَّثَنِي نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ. نَعَمْ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مَاعِزٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، مُعَارِضٌ صَرِيحٌ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنَ النَّافِي.

ص: 2338

3563 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3563 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا) : أَيْ: ظَهَرَ (فَلْيَجْلِدْهَا) أَيْ أَحَدُكُمْ (الْحَدَّ) أَيِ الْجَلْدَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَلْيَجْلِدْهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدُّ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَفِي ذِكْرِ الْأَمَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ حَدَّهَا مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا الْجَلْدُ إِلَّا أَنَّهُ نِصْفُ جَلْدِ الْحَرَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَأُرِيدَ بِالْعَذَابِ الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَصَّفُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَعُلَمَاؤُنَا حَمَلُوا قَوْلَهُ: فَلْيَجْلِدْهَا عَلَى التَّسَبُّبِ أَيْ لِيَكُنْ سَبَبًا لِجَلْدِهَا بِالْمُرَافَعَةِ إِلَى الْإِمَامِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: لَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: يُقِيمُ بِلَا إِذْنٍ. وَعَنْ مَالِكٍ إِلَّا فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوِ امْرَأَةً، وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَتْلًا بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوْ قَطْعًا لِلسَّرِقَةِ؟ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ، نَعَمْ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ إِلَى الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ. وَفِي السُّنَنِ قَالَ عليه الصلاة والسلام: ( «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ) وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَعْزِيرَهُ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ عَنِ الْفَسَادِ فَكَذَا الْحَدُّ، وَلِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ

ص: 2338

حَتَّى مَلَكَ مِنْهُ مَا لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَمِلْكُهُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْإِمَامِ، وَلَنَا مَا رَوَى الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا:«أَرْبَعٌ إِلَى الْوُلَاةِ الْحُدُودُ وَالصَّدَقَاتُ وَالْجُمُعَاتُ وَالْفَيْءُ» ; وَلِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلَّا نَائِبُهُ وَهُوَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَوْنِهِ حَقَّ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ نَائِبُهُ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ الِاسْتِنَابَةَ تُعْرَفُ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَقِّهِ الْمُتَوَجِّهِ مِنْهُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ مَوَالِيهِمْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِقَامَةَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِهِ غَيْرُهُ كَانَ مُمْتَثِلًا، فَجَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ ذَكَرَهُ لِلْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتِ الْمُعَارِضُ الْمَذْكُورُ لَا يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ كَوْنِ الْقَائِلِ: أَقَامَ فُلَانٌ أَوْ جُلِدَ فُلَانٌ، أَنَّهُ بَاشَرَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ أَحَدُ دَائِرَةٍ فِيهِمَا لَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَهُمَا هَذَانِ مَعَ رَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحُدَّهُ نَعَمْ مَنِ اسْتَقَرَّ اعْتِقَادُهُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ بِخُصُوصِهِ اه. كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْمُحَقِّقِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ لَا يَعِيبُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْأَمَةِ وَلَا يُعَيِّرْهَا أَحَدٌ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ لِذَنْبِهَا. قَالَ الْقَاضِي: التَّثْرِيبُ التَّأْنِيبُ وَالتَّعْيِيرُ، وَكَانَ تَأْدِيبُ الزُّنَاةِ قَبْلَ شَرْعِ الْحَدِّ هُوَ التَّثْرِيبَ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجَلْدِ، وَنَهَى عَنِ الِاقْتِصَارِ بِالتَّثْرِيبِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ التَّغْرِيبَ عَنِ الْمَمَالِيكِ نَظَرًا لِلسَّادَةِ صِيَانَةً لِحُقُوقِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ جُرْمِهِمَا، وَيَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِلْجُمْهُورِ. قُلْتُ: الصَّرَاحَةُ مَمْنُوعَةٌ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَذَا لَفْظُ أَحَدِكُمْ فَيَشْمَلُ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ مِنَ الشُّرُوطِ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِكِينَ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمَالِكَ مُتَّهَمٌ فِي ضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ أَنَّهُ لِذَلِكَ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَسَادٌ كَثِيرٌ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ رِوَايَةُ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، وَرِوَايَةُ:«أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْحَدِّ مَعَ الْأَحْرَارِ، لَكِنْ بِطْرِيقِ التَّنْصِيصِ كَمَا دَلَّ عَلَى الْآيَةِ. (ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ)، فِيهِ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّثْرِيبِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الزَّانِيَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الزِّنَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا إِذَا زَنَا مَرَّاتٍ وَلَمْ يُحَدَّ، فَيَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ، (ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا) : أَيْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَجْلِدْهَا لِيَكُنْ سَبَبُ جَلْدِهَا بِالْمُرَافَعَةِ، لِيَحْصُلَ تَأْدِيبُهَا، وَلَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهَا، وَعُلِمَ عَدَمُ النَّفْعِ فِيهَا، فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ حَدِّهَا. (وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهَا قَلِيلًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَرْكُ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الْبَيْعُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ، وَفِيهِ جَوَّزَ بَيْعَهُ الشَّيْءَ الثَّمِينَ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ عَالِمًا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَفِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَهُ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَعَلَى الْبَائِعِ بَيَانُ حَالِ السِّلْعَةِ وَعَيْبِهَا لِلْمُشْتَرِي. قُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ بِرَأْسِهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكْرَهُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَيَرْتَضِيهِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ فَالْجَوَابُ: لَعَلَّ الزَّانِيَةَ تَسْتَعِفُّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهَا أَوْ بِصَوْنِهَا أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهَا، أَوْ تَزْوِيجِهَا. قُلْتُ: إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، فَالسُّؤَالُ سَاقِطٌ مَنْ أَصِلِهِ، نَعَمْ يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَمَّنْ يَشْتَرِيهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ بَيْعَهَا بِمَنْزِلَةِ التَّغْرِيبِ زَجْرًا وَسِيَاسَةً وَدَلَالَةً إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّرْبِيَةِ عِنْدَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2339

3564 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(أَحْسَنْتَ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ (دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .

ــ

3564 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ (أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ جَمْعُ رَقِيقٍ أَيْ: مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (الْحَدَّ) : أَيْ ضَرْبُ جَلْدِ (مَنْ أُحْصِنَ) : أَيْ وَتَزَوَّجَ (مِنْهُمْ) : أَيْ مِنْهُنَّ فَفِيهِ حَذْفٌ أَوْ تَغْلِيبٌ (وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَقْيِيدُ الْأَرِقَّاءِ بِالْإِحْصَانِ، مَعَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ يُرَادُ بِهِ كَوْنُهُنَّ مُزَوَّجَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] حَيْثُ وَصَفَهُنَّ بِالْإِحْصَانِ، فَقَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ وَحَكَمَ (فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا) وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّأْوِيلِ (فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ) : أَيْ جَدِيدُ زَمَانٍ (بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مَفْعُولُ فَخَشِيتُ وَجَلَدْتُهَا مُفَسِّرٌ لِعَامِلِ أَنَا الْمُقَدَّرِ بَعْدَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:

وَإِنْ هِيَ لَمْ تَحْمِلْ عَنِ النَّفْسِ ضَيْمَهَا

فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ

وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمُعْتَرِضُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ. (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ) . فِيهِ: إِنَّ جَلْدَ ذَاتِ النِّفَاسِ يُؤَخَّرُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ نِفَاسِهَا ; لِأَنَّ نِفَاسَهَا نَوْعُ مَرْضٍ فَتُؤَخَّرُ إِلَى زَمَانِ الْبُرْءِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحْدَهُ الرَّجْمُ بِأَنْ كَانَ مُحْصَنًا حَدٌّ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَتْلُهُ وَرَجْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ ; لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ، أَوْ كَانَ خِدَاجًا ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ، فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَيُضْرَبُ بِهِ دَفْعَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ كُلِّ شِمْرَاخٍ إِلَى بَدَنِهِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً، وَلِخَوْفِ التَّلَفِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إِلَى اعْتِدَالِ الزَّمَانِ، وَإِذَا زَنَتِ الْحَامِلُ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ جَلْدًا كَيْلَا يُؤَدِّيَ إِلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُحَرَّمَةٌ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَا جَرِيمَةَ مِنْهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ (دَعْهَا) : أَيِ اتْرُكْهَا (حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا) : أَيْ دَمُ نِفَاسِهَا ( «ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ) . أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهَا وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ وَإِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهِ صَرَاحَةُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ لِلْمَوَالِي إِقَامَةَ حُدُودِ مَمَالِيكِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِهِمْ نَقْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا:«إِنَّ وِلَايَةَ الْحَدِّ إِلَى الْوُلَاةِ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 2340

الْفَصْلُ الثَّانِي

3565 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ مَاعِزٌ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَمَرَ فِي الرَّابِعَةِ، فَأُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ، حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَرَّ حِينَ وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ وَمَسَّ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ:(هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) .

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3565 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مَاعِزٌ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى) ، هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، إِذْ لَفْظُهُ: إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ مَاعِزًا قَدْ زَنَا (فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ)، أَيْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ عَنِ الْمَجْلِسِ (فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ زَنَى. فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِرَجْمِهِ (فِي الرَّابِعَةِ) ، أَيْ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَجَالِسِ الِاعْتِرَافِ

ص: 2340

(فَأُخْرِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ (إِلَى الْحَرَّةِ) ، هِيَ بُقْعَةٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ خَارِجَ الْمَدِينَةِ (فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ)، أَيْ أَلَمَ إِصَابَتِهَا (فَرَّ) : أَيْ هَرَبَ (يَشْتَدُّ) ، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ يَسْعَى، وَهُوَ حَالٌ (حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ) فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْهَمًا، وَقَدْ فُسِّرَ بِمَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وَلَعَلَّهُ كَرَّرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَقَوْلِهِ:(وَمَسِّ الْمَوْتِ) عُطِفَ عَلَى مَسِّ الْحِجَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ الْآيَةَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، بَيَانًا. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِابْنِ مَاجَهْ، أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ) : أَيْ عَسَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ فِعْلِهِ (فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . أَيْ يَرْجِعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ الْمُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا لَوْ قَالَ: مَا زَنَيْتُ، أَوْ كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، فَلَوْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْبَاقِي، وَقَالَ جَمْعٌ: لَا يَسْقُطُ إِذْ لَوْ سَقَطَ لَصَارَ مَاعِزٌ مَقْتُولًا خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِ الْقَاتِلِينَ. قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ هَرَبَ، وَبِالْهَرَبِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ:(هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) أَيْ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ أَهَرِبَ مِنْ أَلَمِ الْحِجَارَةِ أَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاخَذَهُمْ بِقَتْلِهِ حَيْثُ فَرَّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ قَوَدٌ؟ إِذَا قُلْتَ: لَا؛ لِأَنَّهُ مَضَى صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَهُمْ بِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ تَصْلُحُ أَنْ يُدْفَعَ بِهَا الْحَدُّ، وَقَدْ عَرَضَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ إِمْضَاءُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمُ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ قَوَدٌ خَطَأٌ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْقَصَاصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا إِذَا رَجَعَ فِي خِلَالِ الْحَدِّ فَقَالَ: كَذَبْتُ أَوْ مَا زَنَيْتُ أَوْ رَجَعْتُ، سَقَطَ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ.

ص: 2341

3566 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ:(أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟) قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ وَقَعْتَ عَلَى جَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ) قَالَ: نَعَمْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3566 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: (أَحَقٌّ) : أَيْ أَثَابِتٌ (مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى جَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ أَيْ عَلَى بِنْتِهِمْ (قَالَ: نَعَمْ، فَشَهِدَ) : أَيْ أَقَرَّ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ)، أَيْ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِرَجْمِهِ) (فَرُجِمَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُقِرٍّ فِي مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ الْفَصْلُ السَّابِقُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، يَعْنِي عَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَارِفًا بِزِنَا مَاعِزٍ، فَاسْتَنْطَقَهُ لِيُقِرَّ بِهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيِ السَّابِقُ، وَيَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ أَيِ اللَّاحِقُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ، فَجَاءَ مَاعِزٌ، فَأَقَرَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ مِرَارًا، ثُمَّ جَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالٌ جَمَّةٌ ثُمَّ رُجِمَ؟ قُلْتُ: لِلْبُلَغَاءِ مَقَامَاتٌ، فَمِنْ مَقَامٍ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ فَيَقْتَصِرُونَ عَلَى كَلِمَاتٍ مَعْدُودَةٍ، وَمِنْ مَقَامٍ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فَيُطْنِبُونَ فِيهِ كُلَّ الْإِطْنَابِ. قَالَ:

يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ تَارَةً

وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

فَابْنُ عَبَّاسٍ سَلَكَ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ، فَأَخَذَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَآخِرِهَا، إِذْ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ، وَبُرَيْدَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَيَزِيدُ سَلَكُوا سَبِيلَ الْإِطْنَابِ فِي بَيَانِ مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ لِلْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ

ص: 2341

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ حَدِيثُ مَاعِزٍ، فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَنْطَقَهُ لِيُنْكِرَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ لِدَرْءِ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَقَرَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَهُ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ بَعْدَمَا كَانَ مَائِلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَهُ مِنْ قِبَلِ الشِّمَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَمَّا أَقَرَّ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ ذَلِكَ، فَقَالَ:(أَبِهِ جُنُونٌ؟) إِلَخْ وَنَظِيرُ سُلُوكِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَخْذِ الْقِصَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا مُلَخَّصًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا - فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16] : (لَحْيُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ عَظْمُ ذَقْنِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْأَسْنَانُ (فَضَرَبَهُ) : أَيِ الرَّجُلُ (بِهِ)، أَيْ بِاللَّحْيِ (وَضَرَبَهُ النَّاسُ) : أَيْ آخَرُونَ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ (حَتَّى مَاتَ. فَذَكَرُوا) : أَيْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا فَالْفَاءُ فِي فَأَخَذْنَاهُ كَالْفَاءِ فِي فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَالْفَاءُ تَسْتَدْعِي حَالَاتٍ وَتَارَّاتٍ وَشُئُونًا لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ إِلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا أَرْسَلْنَا فَعَصَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: طَهِّرْنِي. قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ أَنَّ قَوْمَهُ أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَرْسَلَهُ:(لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ) . وَكَانَ مَاعِزٌ عِنْدَهُ هَزَّالٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ مَا جَرَى لَهُ:(أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟) إِلَخْ.

ص: 2342

3567 -

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَقَالَ لِهَزَّالٍ: (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ» ) قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُخْبِرَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3567 -

(وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ هَزَّالٍ الْأَسْلَمِيِّ يُكَنَّى أَبَا نُعَيْمٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ نُعَيْمٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ (أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ (فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ) : أَيْ فَرُجِمَ (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِهَزَّالٍ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ مُبَالَغَةُ هَازِلٍ (لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ (ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُخْبِرَهُ) . وَذَلِكَ أَنَّ هَزَّالًا كَانَ لَهُ مَوْلَاةٌ اسْمُهَا فَاطِمَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا مَاعِزٌ، فَعَلِمَ بِهِ هَزَّالٌ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالْمَجِيءِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ بِهِ السُّوءَ وَالْهَوَانَ قِصَاصًا لِفِعْلِهِ بِمَوْلَاتِهِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ نَصِيحَةً لَهُ مِنْ هَزَّالٍ عَلَى مَا سَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:( «مَنْ رَأَى أَيَّ عَوْرَةٍ فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَا أَحْيَا مَوْءُودَةً» ) ، فَإِذَا كَانَ السِّتْرُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِهِ خِلَافَ الْأُولَى الَّتِي مَرْجِعُهَا إِلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ النَّدْبِ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ، وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي جَانِبِ التَّرْكِ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدِ الزِّنَا وَلَمْ يَتَهَتَّكْ بِهِ، أَمَّا إِذَا وَصَلَ الْحَالُ إِلَى إِشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ، بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ، فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا ; لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ بِالْخِطَابَاتِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاعِلِينَ وَبِالزَّجْرِ لَهُمْ فَإِذَا ظَهَرَ الشَّرَهُ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَالشُّرْبِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَإِشَاعَتُهُ وَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا، مِمَّا اتُّصِفَ بِذَلِكَ فَيَجِبُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ، وَهُوَ الْحُدُودُ بِخِلَافِ مَنْ زَلَّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُسْتَتِرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِهَزَّالٍ فِي مَاعِزٍ:(لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ) الْحَدِيثَ، كَانَ فِي مِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 2342

3568 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

3568 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَعَافَوْا) : أَمْرٌ مِنَ التَّعَافِي وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ الْأَئِمَّةِ أَيْ: لِيَعْفُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ (الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ)، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَنِي ذَلِكَ (فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ) : أَيْ فَوَجَبَ عَلَيَّ إِقَامَتُهُ عَلَيْكُمْ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ حُدُودِ اللَّهِ إِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجْرِيَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ بَلْ يَعْفُو أَوْ يَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ اسْتِحْبَابٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 2343

3569 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3569 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَقِيلُوا) : أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ (ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: زَلَّاتِهِمْ (إِلَّا الْحُدُودَ) . أَيْ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحُدُودَ، وَالْخِطَابُ مَعَ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَاخَذَةَ وَالتَّأْدِيبَ عَلَيْهَا، وَأَرَادَ مِنَ الْعَثَرَاتِ مَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِإِضَاعَةِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَأَمْرُ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ نَدْبٌ وَاسْتِحْبَابٌ بِالتَّجَافِي عَنْ زَلَّاتِهِمْ، ثُمَّ إِنْ أُرِيدَ بِالْعَثَرَاتِ الصَّغَائِرُ وَمَا يَنْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْخَطَايَا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَوِ الذُّنُوبُ مُطْلَقًا، وَبِالْحُدُودِ مَا يُوجِبُهَا مِنَ الذُّنُوبِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَفْسِيرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ: هُوَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَنْبُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْهَيْئَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْهَيْئَةُ فِي الْأَصْلِ صُورَةٌ أَوْ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَصِيرُ بِسَبَبِهَا مَقُولًا عَلَيْهَا إِنَّهَا وَاحِدَةٌ ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْخَصْلَةِ، فَيُقَالُ لِفُلَانٍ هَيْئَاتٌ أَيْ خِصَالٌ، الْمُرَادُ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ أَصْحَابُ الْمُرُوءَاتِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَقِيلَ: ذَوُو الْوُجُوهِ بَيْنَ النَّاسِ اه. وَالْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْأَشْرَافُ، وَقِيلَ: أَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ، وَقِيلَ: خَوْفًا كَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَافَ تَغَيُّرَ الزَّمَانِ، وَمَيْلَ النَّاسِ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ مَعَ الْأَكَابِرِ فِي التَّجَاوُزِ وَالسَّتْرِ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ يُلَازِمُهُمْ مِنْهُمْ أَوْ طَمَعًا فِيهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُقِيمُونَ عَلَى السُّوقَةِ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَفْوُ فَلْيَقَعْ فِيمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَتَى صلى الله عليه وسلم بِأُسْلُوبٍ لَطِيفٍ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى الْأَكَابِرُ بِتَصْرِيحِ الْعِبَارَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمُرَادَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَقِيلُوا الْكِرَامَ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ) .

ص: 2343

3570 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» .

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْهَا وَلَمْ يُرْفَعْ وَهُوَ أَصَحُّ) .

ــ

3570 -

(وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ادْرَأُوا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الدَّرْءِ أَيِ: ادْفَعُوا (الْحُدُودَ) : أَيْ إِيقَاعَهَا (عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَقَدْرَ طَاقَتِكُمْ (فَإِنْ كَانَ لَهُ) : أَيْ لِلْحَدِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ (مَخْرَجٌ) : اسْمُ مَكَانٍ أَيْ عُذْرٌ يَدْفَعُهُ (فَخَلُّوا سَبِيلَهُ) : أَيِ اتْرُكُوا إِجْرَاءَ الْحَدِّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَهُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا، فَالْمَعْنَى اتْرُكُوهُ أَوْ لَا تَعَرَّضُوا لَهُ، (فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ) : أَيْ خَطَؤُهُ (فِي الْعَفْوِ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ) : وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ: لِأَنْ يُخْطِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ الِابْتِلَاءِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِأَنْ يُخْطِئَ أَوْ ; لِأَنْ يُخْطِئَ إِشَارَةٌ إِلَى حَذْفِ يَاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَوْ لَامِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ وَلَا مَعْنَى فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَالَ: يَعْنِي ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيَّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ فِي الْعَفْوِ الَّذِي صَدَرَ مِنْكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاذُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: نَزَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهُوَ:( «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ) . وَجُعِلَ الْخِطَابُ فِي الْحَدِيثِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ رَجُلٍ، وَبُرَيْدَةَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ:(أَبِكَ جُنُونٌ؟) ثُمَّ قَوْلِهِ: (أُحْصِنْتَ؟) وَلِمَاعِزٍ (أَبِكَ جُنُونٌ؟) ثُمَّ قَوْلِهِ: (أَشَرِبَ؟) ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْرَأَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. قُلْتُ: هَذَا

ص: 2343

التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِالسَّتْرِ مُطْلَقًا، وَلَا يُنَاسِبُهُ أَيْضًا لَفْظُ خَيْرٍ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الْحُدُودَ بِكُلِّ عُذْرٍ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ بِهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لِمَاعِزٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تَلْقِينِ الْأَعْذَارِ، وَتَفْتِيشِ مَخَارِجِ الْأَوْزَارِ، ثُمَّ بَالَغَ مُبَالَغَهً بَلِيغَةً بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْإِمَامَ إِلَخْ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ لِأَجْلِ الدَّرْءِ فِي الْخَطَأِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَفْوِ، خَيْرٌ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْخَطَأِ الْمُتَعَلِّقِ بِجَانِبِ الْعُقُوبَةِ، لِمَا فِي سَعَةِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي جَانِبِ الْبَرِيءِ أَنْ لَا يُضْرَبَ وَلَا يُقْتَلَ فَتَأَمَّلْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْإِمَامَ مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ حَثًّا عَلَى إِظْهَارِ الرَّأْفَةِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ مِنْكُمْ أَوْ إِمَامُكُمْ، عَلَى أَنَّ اللَّامَ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَبِيلُ عَفْوِهِ بِعُذْرٍ خَيْرٌ مِنْ طَرِيقِ عُقُوبَتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ (وَقَدْ رُوِيَ) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ (عَنْهَا وَلَمْ يُرْفَعْ) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَائِشَةَ (وَهُوَ) : أَيِ الْوَقْفُ (أَصَحُّ) . أَيْ مِنْ رَفْعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ سَنَدَ الْمَوْقُوفِ أَصَحُّ مِنْ سَنَدِ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:( «ادْرَءُوا بِالْحُدُودِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ لِأَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» ) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ» ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا» .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِمَّا يَدْرَأُ الْحَدَّ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ، وَنُقِلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام:(ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْأَصْلِ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ وَأُسْنِدَ فِي عِلَلِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ: يَزِيدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَوْقُوفُ إِلَى الصَّوَابِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ دَرْءُ الْحَدِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرًا لِمُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ) . وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لِأَنَّ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ. وَأُخْرِجَ عَنْ مُعَاذٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالُوا: إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَدُّ فَادْرَأْ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَصْحَابِهِ الظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُدْرَأَ بِشُبْهَةٍ وَشَنَّعَ بِأَنَّ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ لِإِثْبَاتِ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ لَيْسَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ، بَلْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مِنْ طُرُقٍ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَأُعِلَّ مَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ، وَهُوَ غَيْرُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِإِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:( «وَمَنِ اجْتَرَّ عَلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ أَوْ يُشَكُّ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ) ، فَمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَهِلَ حُرْمَةَ شَيْءٍ وَحِلَّهُ، فَالْوَرَعُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ، وَمَنْ جَهِلَ وُجُوبَ أَمْرٍ وَعَدَمَهُ فَلَا يُوجِبْهُ مِنْ جَهْلٍ أَوَجَبَ الْحَدُّ أَمْ لَا. وَجَبَ أَنْ يُقِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ، فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ، وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةً، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ: ( «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ غَمَزْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ» ) . كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِتِلْكَ فَائِدٌ إِلَّا كَوْنُهُ إِذَا قَالَهَا تَرَكَهُ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ وَنَحْوَهُ، وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتَ تَكْتُمِينَهُ، وَتَتَبُّعُ مِثْلِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ يُوجِبُ طُولًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلِّهِ كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ كَانَ صَرِيحَ الْإِقْرَارِ، وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ، وَمِنْ قَوْلِهِ:( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ) فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا؟ وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحًا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ص: 2344

فَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ غَمَزْتَ، لَعَلَّكَ لَمَسْتَ. كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ. بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلَّا كَوْنُهُ إِذَا قَالَهَا تَرَكَهُ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ: لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَضَاعَتْ وَنَحْوَهُ، وَكَذَا قَالَ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ: أَسَرَقْتَ مَا أَخَالُهُ سُرِقَ، وَلِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ، وَتَتَبُّعُ مِثْلِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ يُوجِبُ طُولًا فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ، وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ:«ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا، وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحًا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ص: 2345

3571 -

وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: «اسْتُكْرِهَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3571 -

(وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَبِالرَّاءِ كَذَا ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: اسْتُكْرِهَتِ امْرَأَةٌ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، جَامَعَهَا رَجُلٌ بِالْإِكْرَاهِ (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ) أَيْ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ) أَيْ مَنَعَ (عَنْهَا الْحَدَّ وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا) أَيْ جَامَعَهَا (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيِ الرَّاوِي وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (جَعَلَ لَهَا مَهْرًا) أَيْ عَلَى مُجَامِعِهَا، قَالَ الْمُظْهِرُ وَكَذَا ابْنُ الْمَلَكِ: لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَهْرِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لَهَا بِإِيجَابِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2345

3572 -

وَعَنْهُ «أَنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ، فَتَجَلَّلَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَصَاحَتْ، وَانْطَلَقَ، وَمَرَّتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذُوا الرَّجُلَ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي، فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ. وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا: ارْجُمُوهُ. وَقَالَ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

3572 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ وَائِلٍ (أَنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُرِيدُ الصَّلَاةَ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ) أَيْ فَقَابَلَهَا (فَتَجَلَّلَهَا) أَيْ فَغَشِيَهَا بِثَوْبِهِ فَصَارَ كَالْجُلِّ عَلَيْهِ (فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا) قَالَ الْقَاضِي: أَيْ غَشِيَهَا وَجَامَعَهَا كَنَّى بِهِ عَنِ الْوَطْءِ كَمَا كَنَّى عَنْهُ بِالْغَشَيَانِ (فَصَاحَتْ) أَيْ بَعْدِ تَخْلِيَتِهَا (وَانْطَلَقَ) أَيِ الرَّجُلُ (وَمَرَّتْ عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ جَمَاعَةٌ قَوِيَّةٌ (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا) أَيْ مِنَ الْغَشَيَانِ (وَكَذَا) أَيْ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَأَخَذُوا الرَّجُلَ فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ) لِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً (وَقَالَ) أَيْ لِأَصْحَابِهِ (لِلرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا) أَيْ فِي حَقِّهِ (ارْجُمُوهُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَرَجَمُوهُ لِكَوْنِهِ مُحْصَنًا (قَالَ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً) أَيْ بِاعْتِرَافِهِ أَوْ بِإِجْرَاءِ حَدِّهِ (لَوْ تَابَهَا) أَيْ لَوْ تَابَ مِثْلَ تَوْبَتِهِ (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أَيْ أَهْلُ بَلَدٍ فِيهِمْ عِشَارٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الظُّلْمَةِ (لَقُبِلَ مِنْهُمْ) وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَوْ قُسِّمَ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَكَفَاهُمُ اه وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْقِسْمَةِ وَالتَّجْزِئَةِ فَأَمَّا مَا وَرَدَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ. فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ

ص: 2345

3573 -

وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ الْحَدَّ ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3573 -

(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فُضُرِبَ (الْحَدَّ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَيْسَ خَبَرًا ; لِأَنَّ وَإِنْ كَانَ اسْمُهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً لِعَدَمِ شُيُوعِهِ وَإِبْهَامِهِ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ خَبَرُ إِنَّ أَيِ أُخْبِرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُخْبِرَ اه وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ زَنَى خَبَرُ أَنَّ وَقَوْلَهُ: فَأَمَرَ عَطْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ إِخْبَارٌ، وَإِنَّمَا ظَنَّ ظَنًّا، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ (ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَيُكْسَرُ (فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى الْوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ، ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ لَكِنَّ قَوْلَهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِذِ الرَّجْمُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَلْدِ صُورَةً وَمَعْنًى ; فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُكَفِّرُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2346

3574 -

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ كَانَ فِي الْحَيِّ مُخْدَجٍ سَقِيمٍ فَوَجَدَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا لَهُ عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً» . رَوَاهُ شَرْحُ السُّنَّةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ.

ــ

3574 -

(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ السَّاعِدِيَّ الْخَزْرَجِيَّ كَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ الِاثْنَى عَشَرَ وَكَانَ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ مُقَدَّمًا فِيهِمْ وَجِيهًا لَهُ رِيَاسَةٌ وَسِيَادَةٌ تَعْتَرِفُ لَهُ قَوْمُهُ بِهَا رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ يُقَالُ: إِنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ وُجِدَ مَيْتًا فِي مُغْتَسَلِهِ، وَقَدْ أُحْضِرَ جَسَدُهُ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا: قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمٍ فَلَمْ يُخْطِهِ فُؤَادُهْ (أَتَى النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَهُ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ كَانَ فِي الْحَيِّ) أَيْ فِي الْقَبِيلَةِ (مُخْدَجٍ) مَجْرُورٌ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَاقِصِ الْخِلْقَةِ (سَقِيمٍ) أَيْ مَرِيضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لِمَا سَبَقَ (فَوَجَدَ) أَيِ الرَّجُلُ (عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ يَخْبُثُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يَزْنِي بِهَا فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ خَبِيثِ الْفِعْلِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا لَهُ عِثْكَالًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ كِبَاسَةً وَهِيَ لِلرُّطَبِ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ لِلْعِنَبِ (فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ) بِكَسْرٍ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْبُسْرُ مِنْ عِيدَانِ الْكِبَاسَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعِثْكَالُ الْغُصْنُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ أَغْصَانٌ صِغَارٌ وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَغْصَانِ شِمْرَاخًا (فَاضْرِبُوهُ) أَيْ بِهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (ضَرْبَةً) أَيْ وَاحِدَةً لَكِنْ بِحَيْثُ يَصِلُ أَثَرُ ضَرْبِ الْمِائَةِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وَالضَّرْبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّأْفَةِ اه وَهُوَ خَطَأٌ تَفْسِيرًا وَحَدِيثًا وَفِقْهًا أَمَّا التَّفْسِيرُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أَيْ فِي طَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ حَدِّهِ، فَتُعَطِّلُوهُ، أَوْ تُسَامِحُوا فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا رَوَاهُ السِّتَّةُ:" «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» ". كَذَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِي الْمَعَالِمِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ، وَلَا تُقِيمُوهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَاهَا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ وَلَكِنْ أَوْجِعُوهُمَا ضَرْبًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدَ جَارِيَةً لَهُ زَنَتْ، فَقَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ ظَهْرَهَا وَرِجْلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهَا، وَقَدْ ضُرِبَتْ، فَأُوجِعَتْ. اه وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَرِيضَ الشَّدِيدَ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَوْ ضُرِبَ ضَرْبًا وَجِيعًا لَمَاتَ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ فَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ مُرَاعَاةً

ص: 2346

لِلْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] وَهُوَ مَلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ {فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44] لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ، {وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فِي يَمِينِكَ، فَأَخَذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ، فَضَرَبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَبَيَّنَ لَكَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُخَالِفُ الْآيَةَ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى مَقْصُودِهِ كَمَا تَوَهَّمَ وَأَمَّا الْفِقْهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خُصُوصُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَ الْمَجْلُودَ، وَيُحَافِظَ عَلَى حَيَاتِهِ، وَأَنَّ حَدَّ الْمَرِيضِ لَا يُؤَخَّرُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَمْرٌ مَرْجُوٌّ كَالْحَبَلِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُؤَخَّرُ الْحَدُّ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَقَدْ عُدَّ الْحَدِيثُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ فَإِنَّ سَعِيدًا لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ إِذِ الْمَرَاسِيلُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُمْ قُلْتُ: نَعَمِ الْمَرَاسِيلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَخَّرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرْجَى بُرْؤُهُ.

ص: 2347

3575 -

وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3575 -

(وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ) أَيْ عَلِمْتُمُوهُ (يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْفَاعِلِ حَدُّ الزِّنَا أَيْ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا يُجْلَدُ مِائَةً وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ ; لِأَنَّ التَّمْكِينَ فِي الدُّبُرِ لَا يُحْصِنُهَا فَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الْمُحْصَنَاتِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللُّوطِيَّ يُرْجَمُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ قِيلَ فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِمَا هَدْمُ بِنَاءٍ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: رَمْيُهُمَا مِنْ شَاهِقٍ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ. اه وَقِيلَ: يُقْتَلُ بِالضَّرْبِ وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِيقَاعِ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ الضَّرْبَ الْأَلِيمَ قَدْ يُسَمَّى قَتْلًا، وَنَقَلَ كَمَالُ بَاشَا عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ إِنِ اعْتَادَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ، وَحَبَسَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2347

3576 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَاهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعَ بِهَا، وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3576 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ عِكْرِمَةَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» ) أَيْ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا أَوْ أَرَادَ بِهِ وَعِيدًا أَوْ تَهْدِيدًا (وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ) قِيلَ: لِئَلَّا يَتَوَلَّدَ مِنْهَا حَيَوَانٌ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ وَقِيلَ كَرَاهَةَ أَنْ يَلْحَقَ صَاحِبَهَا خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا لِإِبْقَائِهَا وَفِي شَرْحِ الْمُظْهِرِ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُقْتَلُ إِنْ عَمِلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ وَالْبَهِيمَةُ قِيلَ: إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً تُقْتَلُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ الْقَتْلُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَعَدَمُ الْقَتْلِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِأَكْلِهِ (قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟) أَيْ إِنَّهَا لَا عَقْلَ لَهَا وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا فَمَا بَالُهَا تُقْتَلُ؟ (قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْحِكَمِ (وَلَكِنْ أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ (كَرِهَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعَ بِهَا) أَيْ بِلَبَنِهَا وَبِشَعْرِهَا وَتَوْلِيدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ) أَيِ الْفِعْلُ الْمَكْرُوهُ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ

ص: 2347

قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ جَعَلَهُ صَالِحًا لِفِعْلٍ خَاصٍّ فَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ سِوَاهُ فَإِنَّ الْمَأْكُولَ مِنَ الْحَيَوَانِ خُلِقَ لِأَكْلِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ لَا لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ مِنْهُ وَالذَّكَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ خُلِقَ لِلْفَاعِلِيَّةِ وَالْأُنْثَى لِلْمَفْعُولِيَّةِ وَوُضِعَ فِيهَا الشَّهْوَةُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ بَقَاءً لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ عُكِسَ كَانَ إِبْطَالًا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] أَيْ لَا حَامِلَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ آخَرَ وَلَا ذَمَّ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِالْبَهِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَلْبَتَّةَ كَطَلَبِ النَّسْلِ، وَالتَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2348

3577 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3577 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ) أَخْوَفَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَافَ أَفْعَلَ إِلَى مَا وَهِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءٍ أَخْوَفَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

ص: 2348

3578 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَجَلَدَهُ مِائَةً وَكَانَ بِكْرًا ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجُلِدَ حَدَّ الْفِرْيَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3578 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ أَقَرَّ (فَجَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ) أَيْ ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ (وَكَانَ) أَيِ الرَّجُلُ (بِكْرًا ثُمَّ سَأَلَ) أَيْ طَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّجُلِ (الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ) أَيْ عَلَى زِنَاهَا (فَقَالَتْ) أَيْ بَعْدَ عَجْزِ الرَّجُلِ عَنِ الْبَيِّنَةِ (كَذَبَ) أَيِ الرَّجُلُ عَلَيَّ (وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجُلِدَ) أَيْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (حَدَّ الْفِرْيَةِ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ وَهَى الْكَذِبُ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْقَذْفُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2348

3579 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3579 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي) أَيِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَتِهَا شَبَّهَتْهَا بِالْعُذْرِ الَّذِي يُبَرِّئُ الْمَعْذُورَ مِنَ الْجُرْمِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ (قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيْ عُذْرِي (فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ) أَيْ بِحَدِّهِمَا أَوْ إِحْضَارِهِمَا وَهُمَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ (وَالْمَرْأَةِ) أَيْ وَبِالْمَرْأَةِ وَهَى حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ (فَضُرِبُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (حَدَّهُمْ) أَيْ حَدَّ الْمُفْتَرِينَ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ فَحُدُّوا حَدَّهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2348

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3580 -

. عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَجْلِدْهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3580 -

(عَنْ نَافِعٍ) أَيْ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ صَفَّيْهَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: ثَقَفِيَّةٌ وَهِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَتْ مِنْهُ، وَلَمْ تَرْوِ عَنْهُ، وَرَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ (أَخْبَرَتْهُ) أَيْ نَافِعًا (أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ مِنْ مَمَالِيكِ سَلْطَنَةِ

ص: 2348

الْخَلِيفَةِ وَهُوَ عُمَرُ رضي الله عنه (وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ) أَيْ جَامَعَ أَمَةً (مِنَ الْخُمُسِ) بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي (فَاسْتَكْرَهَهَا) أَيِ الْعَبْدُ (حَتَّى اقْتَضَّهَا) بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ بَدَلَ الْقَافِ أَيْ أَخَذَ بَكَارَتَهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ: اقْتَضَّ الْجَارِيَةَ ذَهَبَ بِقِضَّتِهَا وَهَى بَكَارَتُهَا وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى الْكَسْرِ. وَفِي النِّهَايَةِ: فَضُّ الْخَاتَمِ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَجَاءَ بِنُطْفَةٍ فِي أَدَاوَةٍ فَافْتَضَّهَا أَيْ صَبَّهَا. وَرُوِيَ بِالْقَافِ أَيْ فَتَحَ رَأْسَهَا مِنِ اقْتِضَاضِ الْبِكْرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ بِالْقَافِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا، وَالْقِضَّةُ بِالْكَسْرِ عُذْرَةُ الْجَارِيَةِ، وَالِافْتِضَاضُ بِالْفَاءِ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِقَافٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِضَّةِ وَهَى عُذْرَةُ الْبِكْرِ. (فَجَلَدَهُ عُمَرُ) أَيِ الْعَبْدَ خَمْسِينَ جَلْدَةً (وَلَمْ يَجْلِدْهَا) أَيِ الْوَلِيدَةَ (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2349

3581 -

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنَ الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْرَجًا، فَآتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّى زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ. حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَبِمَنْ قَالَ: بِفُلَانَةَ. قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَأُخْرِجُ بِهِ إِلَى الْحَرَّةِ فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ، فَجَزِعَ، فَخَرَجَ يَشْتَدُّ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ، فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ، فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3581 -

(وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ نُعَيْمٍ (قَالَ: كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ فِي تَرْبِيَةِ أَبِي هَزَّالٍ عَنْ أَبِيهِ (فَأَصَابَ جَارِيَةً) أَيْ جَامَعَ مَمْلُوكَةً (مِنَ الْحَيِّ) أَيِ الْقَبِيلَةِ (فَقَالَ لَهُ أَبِي) أَيْ هَزَّالٌ (ائْتِ) أَمْرُ مِنَ الْإِتْيَانِ أَيِ احْضَرْ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ إِنَّمَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِنَّمَا (يُرِيدُ) وَفِي نُسْخَةٍ هُوَ يُرِيدُ (بِذَلِكَ) أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالْإِخْبَارِ (رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْرَجًا) أَيْ عَنِ الذَّنْبِ أَيْ لَا قَصَدَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ لِكَوْنِهِ هَزَّالًا قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ وَخَبَرُهُ مَخْرَجًا وَلَهُ ظَرْفُ لَغْوٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] وَالْمَعْنَى يَكُونُ إِتْيَانُكَ وَإِخْبَارُكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَخْرَجًا لَكَ وَبِنَصْرِهِ مَا اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ (فَآتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ) أَيْ حُكْمَهُ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ) أَيْ فَرَجَعَ بَعْدَمَا غَابَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ حَتَّى قَالَهَا) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَبِمَنْ؟) أَيْ فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِقْرَارِ بِالزِّنَا عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَمَالُ سَتْرِهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِمَنْ؟ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا كَانَ كَمَا قُلْتَ فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ (قَالَ: بِفُلَانَةَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ (قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؟) أَيْ عَانَقْتَهَا؟ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟) أَيْ وَصَلَ بَشَرَتُكَ بَشَرَتَهَا وَقَدْ يُكَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْمُجَامَعَةِ قَالَ تَعَالَى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187](قَالَ: نَعَمْ)(قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ) أَيِ الرَّاوِي (فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ (فَأُخْرِجَ بِهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى الْحَرَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعُدِّيَ أُخْرِجَ بِالْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] قَالَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ قِيلَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ حِرَفِ التَّعْدِيَةِ فِي قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَالْأَحْسَنُ أَنَّهُ إِنَّمَا زِيدَتِ التَّاءُ ; لِأَنَّ إِنْبَاتَهَا الدُّهْنَ بَعْدَ إِنْبَاتِ الثَّمَرِ الَّذِي يَخْرُجُ الدُّهْنُ مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ فِي الْمَعْنَى قَدْ تَعَلَّقَ بِمَفْعُولَيْنِ يَكُونَانِ فِي حَالٍ بَعْدَ حَالٍ وَمَا الثَّمَرَةُ وَالدُّهْنُ احْتِيجَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ فِي التَّعَدِّي بِالْبَاءِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَرَجَمْنَاهُ يَعْنِي مَاعِزًا بِالْمُصَلَّى. وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ وَالْمُصَلَّى

ص: 2349

كَانَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ وَأَمَّا فِي التِّرْمِذِيَّ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمَرَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ اتُّبِعَ حِينَ هَرَبَ حَتَّى أُخْرِجَ إِلَى الْحَرَّةِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ ; لِأَنَّ الصِّحَاحَ وَالْحِسَانَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهَا هَارِبًا لَا أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً لِيُرْجَمَ بِهَا (فَلَمَّا رُجِمَ فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ) أَيْ أَلَمَ إِصَابَتِهَا (فَجَزِعَ) أَيْ فَلَمْ يَصْبِرْ (فَخَرَجَ أَيْ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي يُرْجَمُ فِيهِ (يَشْتَدُّ) أَيْ يَسْعَى وَيَجْرِي حَالٌ (فَلَقِيَهُ) أَيْ فَتَلَقَّاهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ) أَيْ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَصْحَابُ مَاعِزٍ الَّذِي يَرْجُمُونَهُ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ) وَالْوَظِيفُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مُسْتَدَقُّ الذِّرَاعِ وَالسَّاقِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِهِمَا وَفِي الْمُغْرِبِ وَظِيفُ الْبَعِيرِ مَا فَوْقَ الرُّسْغِ مِنَ السَّاقِ (فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيْ جَاءَ ابْنُ أُنَيْسٍ (فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيْ جَزَعَهُ وَهَرَبَهُ (لَهُ قَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) جَمَعَ الْخِطَابَ لِيَشْمَلَهُ وَغَيْرَهُ (لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ) أَيْ يَرْجِعُ عَنْ إِقْرَارِهِ (فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ فَيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَتَهُ مِنْ غَيْرِ رَجْمِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ لِمَا فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا رُجِمَ إِلَى قَوْلِهِ: فَقَتَلَهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ إِمَّا عَلَى الشَّرْطِ أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ إِلَّا قَوْلُهُ: فَوَجَدَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ، فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَصْلُحُ لِلْجَزَاءِ وَفِي إِشْكَالٍ ; لِأَنَّ جَوَابَ لَمَّا لَا يَدْخُلُهُ الْفَاءُ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْجَزَاءُ، وَيُقَالَ: تَقْدِيرُهُ لَمَّا رُجِمَ فَكَانَ كَيْتَ فَكَيْتَ عَلِمْنَا حُكْمَ الرَّجْمِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْفَاءَاتُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا الْعَطْفَ عَلَى الشَّرْطِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَقَالَ: فِيهِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَرُجِمَ، فَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى رَمَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَلَحْيِ بِعِيرٍ، فَأَصَابَ رَأْسَهُ، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَرْبَعَةُ عَدَدًا مُعْتَبَرًا فِي اعْتِبَارِ إِفْرَادِهِ لَمْ يُؤَخَّرْ رَجْمُهُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّتِهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ هَزَّالٍ: إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعًا، فَبِمَنْ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَزَادَ فِيهِ قَالَ: هِشَامٌ فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ: «وَاللَّهِ يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سُتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ» . قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَبُو نُعَيْمٍ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَقَدْ رَوَى تَرْتِيبَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْأَرْبَعِ جَمَاعَةٌ بِاللَّفْظِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا مَا لُفِظَ لَأَبَى دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَهَ: أَلَيْسَ أَنَّكَ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ وَتَقَدَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ بِحَضْرَتِهِ عليه الصلاة والسلام: إِنِ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ. إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ وَكَوْنُهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَمِنِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا، فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ الْمَعْرُوفُ فِي الزِّنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَاصَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا كَوْنُ الْغَامِدِيَّةِ لَمْ تُقِرَّ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَمْنُوعٌ، بَلْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ:«كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ» فَهَذَا نَصٌّ فِي إِقْرَارِهَا أَرْبَعًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَفَاصِيلُهَا وَالرُّوَاةُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُونَ بَعْضَ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَنَّهُ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَرُدُّهَا ثُمَّ قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي الْحَدِيثَ. غَيْرَ أَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا تَنْجَبِرُ جَهَالَتُهُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ هَذَا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِفْسَارِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عِنْدَ آحَادِ الْإِقْرَارَيْنِ، فَإِنَّ مِنْهَا إِقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ خَمْسًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 2350

3582 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشَا إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

3582 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ) أَيْ ظُهُورًا فَاشِيًا (فِيهِمْ بِالزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ) بِفَتْحَتَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْجَدْبُ يُقَالُ: أَخَذَتْهُمُ السَّنَةُ إِذَا أُجْدِبُوا وَأُقْحِطُوا وَهَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ نَحْوَ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ وَالْمَالِ وَالْإِبِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي اسْتِجْلَابِ الزِّنَا الْقَحْطَ أَنَّ الزِّنَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ النَّسْلِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشَا) بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ جَمْعُ الرِّشْوَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: الرِّشْوَةُ مُثَلَّثَةً الْجِعْلَةُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْوَصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَالرَّاشِي مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْمُرْتَشِي الْآخِذُ، وَالرَّائِشُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا. اه وَهَى مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرِّشَاءِ وَهُوَ حَبَلُ الدَّلْوِ إِذْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْبُغْيَةِ كَمَا يُتَوَصَّلُ بِالرِّشَاءِ إِلَى الْمَالِ (إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ أَيِ الْخَوْفِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إِنَّمَا يُنْفِذُ حُكْمَهُ وَيُمْضِي أَمْرَهُ فِي الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ إِذَا تَنَزَّهَ عَنِ الرِّشْوَةِ فَإِذَا تَلَطَّخَ بِهَا خُوِّفَ وَرُعِّبَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 2351

3583 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

3583 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ رَزِينٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ، مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ، مَلْعُونٌ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

ص: 2351

3584 -

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَهُمَا وَأَبَا بَكْرٍ هَدَمَ عَلَيْهِمَا حَائِطًا.

ــ

3584 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِرَزِينٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ وَحْدَهُ (أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَحْرَقَهُمَا) أَيْ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ فِي اللُّوَاطَةِ (وَأَبَا بَكْرٍ) أَيْ: وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه (هَدَمَ عَلَيْهَمَا حَائِطًا) أَيْ: أَمَرَ بِهَدْمِ جِدَارٍ عَلَيْهِمَا.

ص: 2351

3585 -

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عز وجل إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

3585 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عز وجل أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَرِعَايَةٍ (إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا) أَيْ فِي دُبُرِهِ (أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

ص: 2351

3586 -

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ــ

3586 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ قَالَ) مَرْفُوعًا، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ لِقَوْلِ الثَّوْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ هَذَا أَصَحُّ ( «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ) أَيْ نَاقِلًا عَنْهُ (أَنَّهُ قَالَ: هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ (أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ) أَيِ الْأَوَّلُ ( «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ» (عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ فِي الْإِسْنَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْفُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 2351