الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: " أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ» ) : أَيِ الْكَرَّارُونَ إِلَى الْحَرْبِ وَالْعَطَّافُونَ نَحْوَهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَمَعْنَاهُ الرَّجَّاعُونَ إِلَى الْقِتَالِ (وَأَنَا فِئَتُكُمْ) : فِي النِّهَايَةِ: الْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ فِي الْأَصْلِ، وَالطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُومُ وَرَاءَ الْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ خَوْفٌ، أَوْ هَزِيمَةٌ الْتَجَئُوا إِلَيْهِ، وَفِي الْفَائِقِ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: أَنَا فِئَتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] يُمَهِّدُ بِذَلِكَ عُذْرَهُمْ فِي الْفِرَارِ ; أَيْ تَحَيَّزْتُمْ إِلَيَّ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ فِي الْفِرَارِ ; لِأَنَّهُ عَاصٍ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ اهـ. وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ وَقَالَ: " لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ " قَالَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ ( «فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَقَالَ: أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» ) .
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يَسْتَفْتِحُ) : أَيْ يَطْلُبُ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ (وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ابْغُونِي) : أَيِ اطْلُبُوا رِضَايَ (فِي ضُعَفَائِكُمْ) : تَمَامُهُ: فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ، أَوْ تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ (فِي بَابِ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3959 -
عَنْ ثَوْبَانَ بْنِ يَزِيدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3959 -
(عَنْ ثَوْبَانَ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه : صَوَابُهُ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ، وَكَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُغْنِي، وَكَذَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَكَذَا فِي أَصْلِ الْجَامِعِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالْكَشْفِ، بَلْ ثَوْبَانُ بْنُ يَزِيدَ لَا يُوجَدُ ذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ: ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَلَاعِيٌّ شَامِيٌّ حِمْصِيٌّ، سَمِعَ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ لَهُ ذِكْرٌ فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ لَكِنْ مَا وَجَدْنَاهُ فِي بَابِ الْمَلَاحِمِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي بَابِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَفْظُهُ: عَنْ ثَوْبَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ يَزِيدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مُرْسَلًا. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِكَسْرِ وَفَتْحِ الْجِيمِ آلَةٌ يُرْمَى بِهَا الْحِجَارَةُ مُعَرَّبَةٌ، وَقَدْ تُذَكَّرُ، فَارِسِيَّتُهَا مِنْ جَهْ نِيكَ ; أَيْ مَا أَجْوَدَنِي كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ) : أَيْ بِلَادِ ثَقِيفٍ فِي وَادٍ، أَوَّلُ قُرَاهَا لُقَيْمُ، وَآخِرُهَا الْوَهْطُ سُمِّيَتْ بِهِ ; لِأَنَّهَا طَافَتْ عَلَى الْمَاءِ فِي الطُّوفَانِ، أَوْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ طَافَ بِهَا عَلَى الْبَيْتِ، أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِالشَّامِ، فَنَقَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحِجَازِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُعْضَلًا، فَإِنَّهُ قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الْحَدِيثَ. قُلْتُ لِوَكِيعٍ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ.
[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]
[5]
بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3960 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ» وَفِي رِوَايَةٍ: "«يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
[5]
بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ، جَمْعُ أَسِيرٍ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3960 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَجِبَ اللَّهُ) : أَيْ رَضِيَ (مِنْ قَوْمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (فِي السَّلَاسِلِ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْخُلُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ أُسَارَى قَهْرًا وَكَرْهًا فِي السَّلَاسِلِ وَالْقُيُودِ، فَيَدْخُلُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ الْإِيمَانَ فَيَدْخُلُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَحَلَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ مَحَلَّ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِإِفْضَائِهِ إِلَيْهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ لِلْبُخَارِيِّ، أَوْ لِغَيْرِهِ (يُقَادُونَ) : أَيْ يُجَرُّونَ (إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ) : فَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ سَبَقَ غَيْرُهُ مَرَّةً أَنَّ صِفَاتِ الْعِبَادِ إِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُرِيدَ بِهَا غَايَاتُهَا، فَغَايَةُ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِالشَّيْءِ الرِّضَا بِهِ وَاسْتِعْظَامُ شَأْنِهِ، فَالْمَعْنَى عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَ قَوْمٍ يُؤْخَذُونَ عَنْوَةً فِي السَّلَاسِلِ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ مَحَلَّ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَقِيلَ. أَرَادَ بِالسَّلَاسِلِ مَا يَرِدُونَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَسَبْيِ دُخُولِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَسَائِرِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي سَبَّبَ دُخُولَ الْجَنَّةِ، فَأَقَامَ الْمُسَبَّبَ مَقَامَ السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا جَذَبَاتِ الْحَقِّ الَّتِي يَجْذِبُ بِهَا خَاصَّةَ عِبَادِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْهُبُوطِ فِي مَهَاوِي الطَّبِيعَةِ إِلَى الْعُرُوجِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى إِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى. قُلْتُ: وَكَذَا فِي مَعْنَى السَّلَاسِلِ مَكْرُوهَاتُ النَّفْسِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْخُمُولِ، وَسَائِرِ الْمُصِيبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَفَوَاتِ اللَّذَّاتِ النَّفْسِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَجُرُّ إِلَى الْحَالَاتِ السَّنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَرَاهَةُ الْأَوْلَادِ لِلْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَجِبْتُ لِأَقْوَامٍ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
3961 -
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه، قَالَ:«أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ " فَقَتَلْتُهُ فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3961 -
(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : قَالَ الْقَاضِي: الْعَيْنُ الْجَاسُوسُ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ بِالْعَيْنِ، أَوْ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالرُّؤْيَةِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا كَأَنَّ جَمِيعَ بَدَنِهِ صَارَ عَيْنًا. (وَهُوَ) : أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ) : أَيِ الْجَاسُوسُ (عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ) : أَيِ انْصَرَفَ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ) : أَيْ: فَطَلَبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ فَقَتَلْتُهُ (فَنَفَّلَنِي) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ ; أَيْ أَعْطَانِي (سَلَبَهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ: مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ يُسْلَبُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَذَا مَرْكَبُهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَمَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالٍ، وَمَا عَلَى وَسَطِهِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَنَفَّلَنِي ; أَيْ أَعْطَانِي نَفْلًا، وَهُوَ مَا يُخَصُّ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَيُزَادُ عَلَى سَهْمِهِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ قَتْلُهُ، وَمَنْ تَجَسَّسَ لِلْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، بَلْ يُعَزَّرُ، فَإِنِ ادَّعَى جَهَالَةً بِالْحَالِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُتَجَافَى عَنْهُ ; أَيْ: يُتَجَاوَزُ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: التَّنْفِيلُ إِعْطَاءُ الْإِمَامِ الْفَارِسَ فَوْقَ سَهْمِهِ وَهُوَ مِنَ النَّفْلِ، وَهُوَ الزَّائِدُ. وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِلزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ ; أَيْضًا، وَيُقَالُ نَفَّلَهُ تَنْفِيلًا وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفْلًا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّنْفِيلِ، فَيَقُولُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ: قَدْ جَعَلْتُ لَكُمُ النِّصْفَ، أَوِ الرُّبُعَ بَعْدِ الْخُمُسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3962 -
ــ
3962 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه (قَالَ. غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ) : قَبِيلَةً مُشْتَهَرَةً بِالرَّمْيِ لَا يُخْطِئُ سَهْمُهُمْ، وَكَانُوا فِي حُنَيْنٍ وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ دُونَ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُ إِلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِسِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ. (فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى) : أَيْ نَتَغَدَّى، مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّحَاءِ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ بَعْدَ امْتِدَادِ النَّهَارِ وَفَوْقَ الضُّحَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي ظَعْنِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فِيهَا كَلَأٌ وَعُشْبٌ قَالَ قَائِلُهُمْ: أَلَا ضَحْوًا رُوَيْدًا ; أَيِ: ارْفُقُوا بِالْإِبِلِ حَتَّى تَنْضَحِي ; أَيْ تَنَالَ مِنْ هَذَا الْمَرْعَى، ثُمَّ وُضِعَتِ التَّضْحِيَةُ مَكَانَ الرِّفْقِ لِيَصِلَ الْإِبِلُ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَقَدْ شَبِعَتْ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ مَنْ يَأْكُلُ فِي وَقْتِ الضُّحَى: هُوَ يَتَضَحَّى ; أَيْ يَأْكُلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، كَمَا يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نُصَلِّي الضُّحَى. (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ) : أَيْ يُطَالِعُ (وَفِينَا ضَعْفَةٌ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ ; أَيْ حَالَةُ ضَعْفٍ وَهُزَالٍ، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ جَمْعُ ضَعِيفٍ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْهَاءِ. قُلْتُ: فَيَقْوَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَطْفُ قَوْلِهِ: (وَرِقَّةٌ عَلَيْهِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَقَوْلُهُ:(مِنَ الظَّهْرِ) : بِفَتْحِ الظَّاءِ صِفَةٌ لَهَا ; أَيْ رِقَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ قِلَّةِ الْمَرْكُوبِ (وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ) : جَمْعُ مَاشٍ وَكَأَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ (إِذْ خَرَجَ) : أَيِ الرَّجُلُ مِنْ بَيْنِنَا (يَشْتَدُّ) : أَيْ يَعْدُو (فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَثَارَهُ) : أَيْ أَقَامَهُ بَعْدَ رُكُوبِهِ (فَاشْتَدَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْوَاوِ ; أَيْ: أَسْرَعَ بِهِ (الْجَمَلُ، فَخَرَجْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَخَرَجْتُ (أَشْتَدُّ) : أَيْ فِي عَقِبِهِ (حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ; أَيْ بِزِمَامِهِ (فَأَنَخْتُهُ، ثُمَّ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي) : أَيْ سَلَلْتُهُ مِنْ غِمْدِهِ (فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ) : أَيْ أَجُرُّهُ (عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْجَمَلِ (رَحْلُهُ) : أَيْ مَتَاعُ الرَّجُلِ (وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ) : بِالرَّفْعِ ( «فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3963 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ". فَجَاءَ فَجَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ ". قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تَقْتُلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ. قَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " بِحُكْمِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3963 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ (عَلَى حُكْمِ سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ) . قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا نَزَلُوا بِحُكْمِهِ بَعْدَمَا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَجَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَتَمَكَّنَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، فَحَسِبُوا أَنَّهُ يُرَاقِبُهُمْ وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ، فَأَبَى إِسْلَامُهُ وَقُوَّةُ دِينِهِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِغَيْرِ مَا حَكَمَ اللَّهُ فِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَوَّالِهَا حِينَ نَقَضُوا عَهْدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَافَقُوا الْأَحْزَابَ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا انْكَشَفُوا عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُمْ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ظُهْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَفَرَّقُوا فِي لَيْلَتِهِ فَقَالَ: وَضَعْتُمُ السِّلَاحَ وَالْمَلَائِكَةُ لَمْ يَضَعُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَائْتِهِمْ عَصْرَهُمْ (بَعَثَ) : جَوَابُ لَمَّا ; أَيْ أَرْسَلَ وَفِي نُسْخَةٍ، إِلَيْهِ ; أَيْ إِلَى سَعْدٍ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ) ; أَيْ شَاكِيًا وَجَعَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أُصِيبَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ (فَلَمَّا دَنَا) : أَيْ قَرُبَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَلَقِّيهِمْ وَالْقِيَامُ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا وَاحْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَيَتَمَثَّلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِيَامُ لِلتَّعْظِيمِ، بَلْ كَانَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى نُزُولِهِ لِكَوْنِهِ وَجِعًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ قِيَامَ التَّوْقِيرِ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ قُومُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى سَيِّدِكُمْ، لَكِنَّ
الْأَوَّلَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ مَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِكَرَاهِيَتِهِ لِلْقِيَامِ. (فَجَاءَ فَجَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَؤُلَاءِ) : أَيْ بَنِي قُرَيْظَةَ (نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا فَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ ; لِأَنَّ الْأَوْسَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَفْوَ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ) فَرَضُوا بِهِ. (قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ) : بِكَسْرِ التَّاءِ ; أَيْ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ الْقِتَالُ وَلَوْ بِالرَّأْيِ. (وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ) ; أَيِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) . بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ: بِحُكْمِ اللَّهِ) : أَيْ أَصَبْتَ بِهِمْ وَقَضَيْتَ بِقَضَاءٍ ارْتَضَى اللَّهُ بِهِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا ; أَيِ الْمَلَكِ النَّازِلِ بِالْوَحْيِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، أَوِ الَّذِي أَلْقَى الصَّوَابَ فِي الْقَلْبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَلِكُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، فَإِنْ صَحَّ الْفَتْحُ، فَالْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ ; أَيِ الْحُكْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمُهِمَّاتِهِمُ الْعِظَامِ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ إِلَّا الْخَوَارِجُ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه التَّحْكِيمَ، وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فِي شَيْءٍ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لَهُمُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3964 -
ــ
3964 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ (خَيْلًا: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ ; أَيْ فُرْسَانَ الْخَيْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي ; أَيْ يَا فُرْسَانَ خَيْلِ اللَّهِ، أَوْ سُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ خَيْلًا ; لِأَنَّهُمْ تَجَرَّدُوا لِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ الرَّبِيئَةُ عَيْنًا (قِبَلَ نَجْدٍ)، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ: حِذَاءَهُ وَجَانِبَهُ. فِي الْقَامُوسِ: النَّجْدُ وَبِضَمِّ جِيمِهِ مُذَكَّرٌ وَهُوَ مَا خَالَفَ الْغَوْرَ ; أَيْ تِهَامَةَ، أَعْلَاهُ تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَأَسْفَلُهُ الْعِرَاقُ وَالشَّامُ أَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ، (فَجَاءَتْ) : أَيِ الْخَيْلُ (بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ، لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا (سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) : فِي الْقَامُوسِ: هِيَ بِلَادُ الْجَوِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَى جَارِيَةٍ زَرْقَاءَ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، أَكْثَرُ نَخِيلًا مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ، وَبِهَا تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَهِيَ دُونَ الْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الشَّرْقِ عَنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ الْبَصْرَةِ، وَعَنِ الْكُوفَةِ نَحْوُهَا وَالنِّسْبَةُ يَمَامِيٌّ. (فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ) : أَيْ أُسْطُوَانَةٍ (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) ; أَيِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَاذَا عِنْدَكَ) ؟ أَيْ مِنَ الظَّنِّ فِي أَنْ أَفْعَلَ بِكَ (يَا ثُمَامَةُ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، وَذَا مَوْصُولًا وَعِنْدَكَ صِلَتَهُ ; أَيْ: مَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَكَ مِنَ الظَّنِّ فِيمَا أَفْعَلُ بِكَ (قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ! خَيْرٌ) ; لِأَنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ تَظْلِمُ بَلْ مِمَّنْ تُحْسِنُ وَتُنْعِمُ، وَأَنْ يَكُونَ مَاذَا بِمَعْنَى " أَيُّ شَيْءٍ " مُبْتَدَأً وَعِنْدَكَ خَبَرَهُ، وَقَوْلُهُ:(إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ)، تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: خَيْرٌ ; لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كُرِّرَ فِي الْجَزَاءِ دَلَّ عَلَى فَخَامَةِ الْأَمْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ، قَوْلُهُ ذَا دَمٍ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ صَاحِبَ الدَّمِ، لِدَمِهِ مَوْقِعٌ يَشْتَفِي بِقَتْلِهِ قَاتِلُهُ، وَيُدْرِكُ قَاتِلَهُ بِثَأْرِهِ ; أَيْ لِرِيَاسَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَحُذِفَ هَذَا ; لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفِهِمْ، وَثَانِيهَا: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ مَنْ عَلَيْهِ دَمٌ مَطْلُوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا عَتْبَ عَلَيْكَ، وَثَالِثُهَا ذَا ذَمٍّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ ; أَيْ: ذَا ذِمَامٍ وَحُرْمَةٍ فِي قَوْمِهِ، وَرَوَاهَا بَعْضُهُمْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كَذَلِكَ: قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ ; لِأَنَّهَا تَقْلِبُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ احْتِرَامَهُ يَمْنَعُ الْقَتْلَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; أَيْ تَقْتُلْ رَجُلًا جَلِيلًا يَحْتَفِلُ قَاتِلُهُ بِقَتْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَتَلَ حَقِيرًا مَهِينًا، فَإِنَّهُ لَا فَضِيلَةَ وَلَا يُدْرِكُ بِهِ قَاتِلُهُ ثَأْرَهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، الْوَجْهَ الثَّانِيَ، حَيْثُ قَالَ: الْمَعْنَى إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ دَمٍ، وَرَآهُ أَوْجَهَ لِلْمُشَاكَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ (تُعْطَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمَالِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ عَلَى حَالِهِ (حَتَّى كَانَ) : أَوْ وَقَعَ (الْغَدُ)، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ ; أَيْ كَانَ الزَّمَانُ الْغَدَ ( «فَقَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ حُكْمًا ; أَيْ: حَتَّى كَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ ثُمَامَةُ بَعْدَ الْغَدِ ( «قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ» ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ عَلَى قِسْمَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا يُرْشِدُ إِلَى حَذَاقَتِهِ وَحَدْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى غَضَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَدَّمَ فِيهِ الْقَتْلَ تَسْلِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ رَجَا أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ قَوْلَهُ: إِنْ تُنْعِمْ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَفَى الظُّلْمَ عَنْ سَاحَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَنَظَرَ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْقَتْلَ قَدَّمَهُ، وَحِينَ نَظَرَ إِلَى لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ عليه الصلاة والسلام أَخَّرَ الْقَتْلَ، وَهَذَا أَدْعَى لِلِاسْتِعْطَافِ وَالْعَفْوِ كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ لِلْمُجْرِمِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ أَوَّلًا، فَلِذَا قَدَّمَ الْقَتْلَ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْعَفْوَ وَلَا يَنْسَى الذَّنْبَ، وَلِذَا أَخَّرَهُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِ، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ التَّنْظِيرِ بِقَوْلِ عِيسَى عليه السلام، فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوَّلًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] حَتَّى تَقُولَ الْأَنْبِيَاءُ: نَفْسِي نَفْسِي، ثُمَّ لَهُمْ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَطْلِقُوا) : أَيْ حُلُّوا (ثُمَامَةَ) : وَخَلُّوا سَبِيلَهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ) : بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجِيمِ ; أَيْ مَاءٍ قَلِيلِ النَّبْعِ (قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: نَخْلٍ هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَقْدِيرُهُ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَسَلَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَوَابُهُ نَجْلٍ بِالْجِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُنْبَعِثُ، وَقِيلَ الْجَارِي. قُلْتُ: بَلِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ صَحَّتْ بِهِ وَلَمْ تُرْوَ إِلَّا هَكَذَا. وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ) : بِالنَّصْبِ ; أَيْ أَكْثَرَ مَبْغُوضًا (مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ وَجْهٍ وَهُوَ اسْمُ كَانَ، عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَبَرُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَبَّ الْوُجُوهِ خَبَرُ أَصْبَحَ قَطْعًا، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَبْغَضَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَقَعَ خَبَرًا لِكَانَ،
وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْوَجْهِ بِالْأَبْغَضِيَّةِ لَا أَنَّ وَجْهَهُ أَبْغَضُ كَائِنًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قُلْنَا: بِجَوَازِ وُقُوعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ كَانَ، فَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ صِفَةً لِقَوْلِهِ وَجْهٌ، فَقُدِّمَ فَصَارَ حَالًا، وَإِذَا مَنَعْنَاهُ قُلْنَا إِنَّهُ ظَرْفُ لَغْوٍ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ لِيُؤْذِنَ فِي بَدْءِ الْحَالِ بِاهْتِمَامٍ فَصَارَ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67]( «وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ» ) . يَعْنِي الْمَدِينَةَ (فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ الْعُمْرَةَ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَمَاذَا تَرَى) ؟ أَيْ مِنَ الرَّأْيِ فِي حَقِّي (فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ; أَيْ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْآثَامِ (وَأَمْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ، أَصَبَوْتَ؟) : مِنَ الصَّبْوَةِ وَالصَّبْوُ الْمَيْلُ إِلَى الْجَهْلِ. كَذَا فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَصَبَأْتَ وَهُوَ مَهْمُوزٌ فَفِي النِّهَايَةِ: صَبَأَ فُلَانٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَكَذَا فِي الْفَائِقِ. وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ. قَوْلُهُ: أَصَبَوْتَ هَكَذَا الرِّوَايَةُ ; أَيْ أَصَبَأْتَ، وَقُرَيْشٌ كَانَتْ لَا تَهْمِزُ وَتُسَهِّلُ الْهَمْزَةَ ; أَيْ أَخْرَجْتَ عَنْ دِينِكَ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَبَوْتَ هَكَذَا فِي الْأُصُولِ أَصَبَوْتَ، وَهِيَ لُغَةٌ وَالْمَشْهُورُ أَصَبَأْتَ بِالْهَمْزِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأُصُولِ لَا وَجْهَ مَعَ ثُبُوتِهَا إِلَى الْعُدُولِ، ثُمَّ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ " وَهِيَ لُغَةٌ " أَنَّهُ لُغَةٌ فِي صَبَأْتَ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَادَّةً وَمَعْنًى، وَالْعَجَبُ مِنَ الطِّيبِي أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى صَبَأْتَ بِالْهَمْزِ (فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: لَا، وَهُوَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا خَرَجْتُ مِنَ الدِّينِ ; لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى دِينٍ فَأَخْرُجَ مِنْهُ، بَلِ اسْتَحْدَثْتُ دِينَ اللَّهِ، وَأَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَإِنْ قُلْتَ: مَعَ يَقْتَضِي إِحْدَاثَ الْمُصَاحَبَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْمُصَاحَبَةُ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: الْفِعْلُ بِهَا فَيَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي الصَّافَّاتِ. قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم وَافَقَهُ، فَيَكُونُ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةً وَمِنْهُ اسْتِحْدَاثًا: أَقُولُ: هَذَا لَا يَبْعُدُ عَقْلًا، لَكِنْ يُسْتَبْعَدُ نَقْلًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنُقِلَ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ إِلَيْنَا، وَفِي الْمَعِيَّةِ يُكْتَفَى بِالْمُشَارَكَةِ الْفِعْلِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِ بِلْقِيسَ:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، ثُمَّ جَوَابُ سُؤَالِهِ الْأَوَّلِ مَبْنِيٌّ عَلَى نُسْخَةِ " صَبَأْتَ " لَا عَلَى " صَبَوْتَ " كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ صَبَأْتَ ; أَيْ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَجَوَابُهُ بِلَا مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَةِ الْحَقِّ. (وَلَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَقْتَضِي مَنْفِيًّا وَالْوَاوُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ ; أَيْ لَا أُوَافِقُكُمْ فِي دِينِكُمْ. وَلَا أَرْفُقُ بِكُمْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:( «وَاللَّهِ لَا تَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ) . فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا حَضَرُوا مُسْتَأْمَنِينَ، وَلَا يُجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مَعَ التُّجَّارِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمَلِهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمَعْرُوفُ مَا فِي سِيَرِ الْبَيْهَقِيِّ، وَمُسْنَدِ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ ; أَيِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَمْلِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَقْصُودُ إِضْعَافُهُمْ إِلَّا أَنَّا عَرَفْنَا نَقْلَ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ بِالنَّصِّ يَعْنِي حَدِيثَ ثُمَامَةَ، وَحَدِيثَ أُسَامَةَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِسْلَامِ ثُمَامَةَ. وَفِي آخِرِهِ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ. فَقَالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا صَبَوْتُ، وَلَكِنِّي أَسَلَّمْتُ وَصَدَّقْتُ مُحَمَّدًا وَآمَنْتُ بِهِ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ ثُمَامَةَ بِيَدِهِ لَا تَأْتِيكُمْ
حَبَّةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ، وَكَانَتْ قَرِيبَ مَكَّةَ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا مُحَمَّدٌ، فَانْصَرَفَ إِلَى بَلَدِهِ، وَمَنَعَ الْحَمْلَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى جَهَدَتْ قُرَيْشٌ، فَكَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى ثُمَامَةَ يَحْمِلُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -. وَذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي آخِرِ السِّيَرِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا:«أَصَبَأْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُ خَيْرَ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكُمْ حَبَّةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - إِلَى أَنْ قَالَ: «فَكَتَبُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّكَ قَدْ قَطَعْتَ أَرْحَامَنَا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ» . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى الْكَافِرِ وَإِطْلَاقِهِ بِغَيْرِ مَالٍ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأُسَارَى، وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَهُمْ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَنَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ مِنْهُمُ الْعَاصِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَجَابَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْمَنِّ وَهِيَ آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقِصَّةُ بَدْرٍ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ رَبْطِ الْأَسِيرِ وَحَبْسِهِ وَإِدْخَالِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ إِذَا أَرَادَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ يُبَادِرُ بِهِ، وَلَا يُؤَخِّرْهُ لِلِاغْتِسَالِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ اغْتِسَالَهُ وَاجِبٌ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ فِي الشِّرْكِ، سَوَاءٌ كَانَ اغْتَسِلْ مِنْهَا أَمْ لَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ فَالْغَسْلُ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ: يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَفِي تَكْرِيرِ سُؤَالِهِ عليه الصلاة والسلام ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَأْلِيفٌ لِقَلْبِهِ، وَمُلَاطَفَةٌ لِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنَ الْأُسَارَى الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ.
3965 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3965 -
(وَعَنْ جُبَيْرِ) : بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ مُطْعِمٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ) : أَيْ فِي شَأْنِهِمْ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي) : أَيْ شَفَاعَةً إِلَى (هَؤُلَاءِ النَّتْنَى) : جَمْعِ نَتِنٍ بِالتَّحْرِيكِ بِمَعْنَى مُنْتِنٍ؛ كَزَمِنٍ وَزَمْنَى، وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ نَتْنَى إِمَّا لِرِجْسِهِمُ الْحَاصِلِ مِنْ كُفْرِهِمْ عَلَى التَّمْثِيلِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ أَبْدَانُهُمْ وَجِيَفُهُمُ الْمُلْقَاةُ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ (لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) ; أَيْ لِأَجْلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَابْنُ عَمِّ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لَهُ يَدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَارَهُ حِينَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ وَذَبَّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ، فَأَحَبَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَيًّا فَكَافَأَهُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَرَادَ بِهِ تَطْيِيبَ قَلْبِ ابْنِهِ جُبَيْرٍ وَتَأْلِيفَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، تَعْرِيضٌ بِالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِ الرَّسُولِ وَتَحْقِيرِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِمْ وَبِتَرْكِهِمْ لِمُشْرِكٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ اهـ.
قِيلَ: وَفِيهِ بَيَانُ حَسَنِ الْمُكَافَأَةِ وَجَوَازُ فَرْضِ الْمُحَالِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِبَاقِي الْأَئِمَّةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ شَارِحٍ بِهَذَا لَا يُثْبِتُ الْمَنَّ ; لِأَنَّ (لَوْ) لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ يَعْنِي فَيُفِيدُ امْتِنَاعَ الْمَنِّ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٍ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّرْكِيبَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ لَتَرَكَهُمْ وَصِدْقُهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَنُّ جَائِزًا، فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُطْلِقُهُمْ لَوْ سَأَلَهُمْ ; إِيَّاهُ وَالْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ جَائِزٌ شَرْعًا، وَكَوْنُهُ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لَا يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ اهـ. فَمَا اشْتُهِرَ عَلَى لِسَانِ الْمَنْطِقِيِّينَ أَنَّ " لَوِ " الشَّرْطِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْوُقُوعِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ غَيْرِ الشَّارِعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ; أَيْ عَنْ جُبَيْرٍ، وَقَدْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ كَافِرٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَلَمْ أُسْلِمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: لَوْ كَانَ مُطْعِمٌ حَيًّا إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ.
3966 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، فَاسْتَحْيَاهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3966 -
(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ) : أَيْ مِنْ كُفَّارِهِمْ (هَبَطُوا) : أَيْ نَزَلُوا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ; أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ) : فِي الْقَامُوسِ: التَّنْعِيمُ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَكَّةَ أَقْرَبَ أَطْرَافِ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ عَلَى يَمِينِهِ جَبَلَ نُعَيْمٍ، وَعَلَى يَسَارِهِ جَبَلَ نَاعِمٍ، وَالْوَادِي اسْمُهُ نَعْمَانُ (مُتَسَلِّحِينَ) ; أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَابِسِينَ السِّلَاحَ مِنَ الدُّرُوعِ وَغَيْرِهَا (يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ) ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ; أَيْ غَفْلَتَهُمْ (فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، بِكَسْرِ سِينٍ وَيُفْتَحُ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهِمَا وَبِهِنَّ وَرْدَ التَّنْزِيلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ وَبِإِسْكَانِ اللَّامِ مَعَ كَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: مَعْنَاهُ الصُّلْحُ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَظْهَرُ ; أَيْ أَسَرَهُمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] ; أَيْ الِانْقِيَادِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُنَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالْقَضِيَّةِ إِنَّهُمْ لَمْ يُؤْخَذُوا صُلْحًا، وَإِنَّمَا أُخِذُوا قَهْرًا وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَجْزًا قَالَ: وَلِلْوَجْهِ الْآخَرِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْرِ مَعَهُمُ الْقِتَالَ بَلْ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ فَرَضُوا بِالْأَسْرِ كَأَنَّهُمْ قَدْ صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ، (فَاسْتَحْيَاهُمْ)، ; أَيِ اسْتَبْقَاهُمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْيَاءً وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] .
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُولَئِكَ وَمُجَازَاتُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا أَرَادُوا الْغِرَّةَ وَالْفَتْكَ بِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمُ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُمْ وَذَبَّهُمْ عَنْهُمْ، لَمْ تَحْصُلِ السَّلَامَةُ، أَسْنَدَ الْفِعْلَيْنِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ حَيْثُ قَالَ:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] ; أَيِ الْكَفُّ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وَإِنَّمَا فَصَلَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24] وَعْدًا لَهُمْ بِجَزَاءِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْعَفْوِ بَعْدَ الظَّفَرِ جُبْرَانًا لِمَا نُفِيَ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ إِثْبَاتًا لِلْكَسْبِ بَعْدَ نَفْيِ الْقُدْرَةِ. قُلْتُ: الْأَنْسَبُ تَنْظِيرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] هُنَا وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ: خَرَجَ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى جُنْدٍ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي أَبْزَى. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] وَأَمَّا السَّيِّدُ مَعِينُ الدِّينِ الصَّفْوِيُّ قَالَ: فِيهِ شَيْءٌ، وَكَيْفَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَلْ كَانَ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ هُوَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَفِظَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَعَنِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ وَهَتْكِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا ظَفَرُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَنَّ سَبْعِينَ، أَوْ ثَمَانِينَ، أَوْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مُتَسَلِّحِينَ. . . الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَجُّ مَكَّةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذِ السُّورَةُ نَزَلَتْ قَبْلَهُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمَشْهُورُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً، وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمْ يَحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحْتَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقْضِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ» ) وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنُوا كُلُّهُمْ بِهِ بِلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَا ثَبَتَ مِنْ إِجَازَةِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ إِجَارَتِهِ وَمُدَافَعَتِهَا عَلِيًّا عَمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، وَأَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بَعْدَ دُخُولِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّحِيحَيْنِ: "«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ» " إِلَى أَنْ قَالَ: "«فَإِنْ أَحَدٌ تَرَبَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» ". فَقَوْلُهُ: بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3967 -
ــ
3967 -
(وَعَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا) : أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ (مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ) : أَيْ أَشْرَافِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمُ الْوَاحِدُ صِنْدِيدٌ وَكُلُّ عَظِيمٍ غَالِبٍ صِنْدِيدٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ الشُّجَاعُ وَالْمُرَادُ هُنَا أَكَابِرُهُمْ (فَقُذِفُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ طُرِحُوا وَرُمُوا (فِي طَوِيٍّ) ; أَيْ بِئْرٍ مَطْوِيَّةٍ بِالْحِجَارَةِ مَحْكَمَةٍ بِهَا (مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ) فِي النِّهَايَةِ هُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى الْأَطْوَاءِ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْمِيَّةِ (خَبِيثٍ مُخْبِثٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ ; أَيْ فَاسِدٍ مُفْسِدٍ لِمَا يَقَعُ فِيهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الطَّوِيِّ وَالْقَلِيبِ الْبِئْرِ الَّذِي لَمْ تُطْوَ قُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ حَسِبَ أَنَّ الْبِئْرَ كَانَتْ مَطْوِيَّةً وَكَانَتْ قَلِيبًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ أُلْقِيَ فِي طَوِيٍّ وَبَعْضَهُمْ فِي قَلِيبٍ قُلْتُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَصِلُهُمَا حَالَةَ الْوَصْفِ، ثُمَّ نَقْلًا إِلَى اسْمِ الْبِئْرِ مُطْلَقًا وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ الْقَلِيبُ الْبِئْرُ، أَوِ الْعَادِيَّةُ الْقَدِيمَةُ مِنْهَا وَطَوِيٌّ كَغَنِيٍّ بِئْرٌ بِمَكَّةَ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَلَى التَّجْرِيدِ فَإِنَّ الْمَرْسَنَ اسْمٌ لِأَنْفٍ فِيهِ رَسَنٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ، وَكَذَا الْمِشْفَرُ وَالْجَحْفَلَةُ اسْمٌ لِشَفْرَةِ الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا شَفَةُ الْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَجْهٍ {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] (وَكَانَ) ; أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ) ; أَيْ غَلَبَ (أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ) ; أَيْ عَرْصَةِ الْقِتَالِ وَسَاحَتِهِ مِنْ أَرْضِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْصَةُ كُلُّ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لَا بِنَاءَ فِيهِ (ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ) ; أَيْ مُقِيمًا بِهَا (الْيَوْمَ الثَّالِثَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ ; أَيْ فَلَمَّا وَقَعَ، أَوْ مَضَى، أَوْ وُجِدَ، أَوْ تَمَّ بِبَدْرٍ الْيَوْمُ الثَّالِثُ (أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ) ; أَيْ بِشَدِّهَا (فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا) ; أَيْ قَتَبَهَا (ثَمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ ; أَيْ وَتَبِعَهُ وَلَحِقَهُ (أَصْحَابُهُ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ ; أَيْ حَافَّةِ الْبِئْرِ الَّتِي فِيهَا صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ (فَجَعَلَ) ; أَيْ شَرَعَ وَطَفِقَ (يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ) ; أَيْ لِلتَّمْيِيزِ (يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) بِفَتْحِ نُونِ فُلَانٍ وَضَمِّهَا وَبِنَصْبِ ابْنٍ كَمَا سَبَقَ (وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ) ; أَيْ نَادَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ (أَيَسُرُّكُمْ) بِضَمِّ السِّينِ ; أَيْ يُوقِعُكُمْ فِي السُّرُورِ وَيُعْجِبُكُمْ (أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) ; أَيْ ثَابِتًا مِنْ غَلَبَتِنَا عَلَيْكُمْ (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) ; أَيْ مِنَ الْعَذَابِ فَهَذَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ هَلْ تَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا وَصَلْتُمْ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ قُلْتُ فَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَتَحْزَنُونَ وَتَتَحَسَّرُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا وَتَذْكُرُونَ قَوْلَنَا لَكُمْ إِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَيَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا (فَقَالَ عُمَرُ يَا رُسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمَ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا)" مَا " مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَ " مِنْ " بَيَانُ مَا وَ " لَا أَرْوَاحَ لَهَا " خَبَرُهُ ; أَيْ مَنْ تَكَلَّمُ مَعَهُمْ أَشْبَاحٌ بِلَا أَرْوَاحٍ فَكَيْفَ يُجِيبُونَكَ وَقِيلَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَمِنْ زَائِدَةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى الثَّانِي فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ ; لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ وَعَلَى الْأَوَّلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيِ الَّذِينَ تُكَلِّمُهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَكَ، أَوْ مِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَأَجْسَادٍ خَبَرٌ لَهُ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تُكَلِّمُ بِمَعْنَى تَسْأَلُ وَمِنْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ كَلِمَةِ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) مُتَعَلِّقٍ بِأَسْمَعَ (وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ) وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْمَازِرِيُّ قِيلَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَقَالَ يُحْمَلُ سَمَاعُهُمْ عَلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْمَوْتَى فِي أَحَادِيثِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ، أَوْ إِحْيَاءِ أَجْزَاءٍ مِنْهُمْ يُعَلَّقُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ قَالَ الشَّيْخَ: هَذَا هُوَ
الْمُخْتَارُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْمَعُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ ; لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَا يُجِيبُ بِفَهْمِ السَّمَاعِ كَمَا قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ السَّمَكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالِي سَمَّاهُ لَحْمًا طَرِيًّا قَالَ: وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَارَةً بِأَنَّهُ مَرْدُودٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَيْفَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا لَاسِيَّمَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَوْتَى الْكُفَّارُ وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى نَفْيِ النَّفْعِ لَا عَلَى مُطْلَقِ السَّمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، أَوْ عَلَى نَفْيِ الْجَوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى السَّمْعِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وَهُمْ مِثْلُهُمْ لَمَّا سَدُّوا عَنِ الْحَقِّ مَشَاعِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ; أَيْ هِدَايَتَهُ فَيُوَفِّقُهُ لِفَهْمِ ; آيَاتِهِ وَالِاتِّعَاظِ بِعِظَاتِهِ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] تَرْشِيحٌ لِتَمْثِيلِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْأَمْوَاتِ وَمُبَالَغَةٌ فِي إِقْنَاطِهِ عَنْهُمْ اهـ. فَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] ، ثُمَّ قَالَ وَتَارَةً بِأَنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم مُعْجِزَةٌ وَزِيَادَةُ حَسْرَةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أَقُولُ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ الْآتِي وَيَرُدُّهُ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا بَلِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ يُنَافِيَانِهِ قَالَ وَتَارَةً بِأَنَّهُ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ أَقُولُ وَيَدْفَعُهُ جَوَابُهُ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ وَيُشْكِلُ عَلَيْهِمْ خَبَرُ مُسْلِمٍ «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا» اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِأَوَّلِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ مُقَدِّمَةً لِلسُّؤَالِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ تَحَقُّقِ عَدَمِ سَمَاعِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْمَوْتَى لِإِفَادَةِ بُعْدِ سَمَاعِهِمْ وَهُوَ نَوْعُ عَدَمِ سَمَاعِ الْمَوْتَى اهـ. وَهُوَ كَمَا تَرَى فِيهِ نَوْعُ نَقْضٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَمْعٌ مَعَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ السَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى يُرَدُّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الدَّفْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَزَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا) ; أَيْ تَحْقِيرًا (وَنِقْمَةً) ; أَيِ انْتِقَامًا (وَحَسْرَةً وَنَدَمًا) ; أَيْ تَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا وَكَانَ الْمَازِرِيُّ أَخَذَ الِاخْتِصَاصَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ فِي أَحْوَالِ الْقُبُورِ.
3968 -
ــ
3968 -
(وَعَنْ مَرْوَانَ رضي الله عنه قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ سَنَةَ اثْنَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى وَلِيَ عُثْمَانُ فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَهَا وَابْنُهُ مَعَهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ رَوَى عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (وَالْمِسْوَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَهُمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ هُوَ زُهْرِيٌّ قُرَشِيٌّ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وُلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ وَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَجَمَعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ لَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ فَانْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَكَرِهَ بَيْعَةَ يَزِيدَ فَتَمَّ مُقِيمًا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ بَعَثَ يَزِيدُ عَسْكَرَهُ وَحَاصَرَ مَكَّةَ وَبِهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَأَصَابَ الْمِسْوَرَ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ فَقَتَلَهُ. وَذَلِكَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ) كَذَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَالْمَعْنَى قَامَ وَاعِظًا وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قَالَ (حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ) قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (مُسْلِمِينَ) ; أَيْ بَعْدَ أَنْ أَغَارُوا مَالَهُمْ وَأَسَرُوَا ذُرِّيَّتَهُمْ وَقَسَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَسَأَلُوهُ) ; أَيْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ) قِيلَ كَانَ السَّبْيُ سَبْعَةَ آلَافٍ (فَقَالَ اخْتَارُوا) أَمْرٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَالْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ إِذَا جِئْتُمْ مُسْلِمِينَ فَاخْتَارُوا (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ) قَالَ الطِّيبِيُّ جَعَلَ الْمَالَ طَائِفَةً إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ، أَوْ عَلَى التَّغْلِيبِ قُلْتُ، أَوْ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ الطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، أَوِ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا، أَوْ إِلَى الْأَلْفِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ قِطْعَةٌ مِنْهُ فَلَا مَجَازَ وَيُؤَيِّدُهُ كَلَامُ الرَّاغِبِ الطَّوَّافِ الْمَشْيُ حَوْلَ الشَّيْءِ وَمِنْهُ الطَّائِفُ لِمَنْ يَدُورُ حَوْلَ الْبَيْتِ وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ الطَّائِفُ لِلْخَيَالِ وَالْحَادِثَةِ وَغَيْرِهَا وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الشَّيْءِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ
(قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا) فَإِنَّهُ أَعَزُّ مِنَ الْمَالِ مَعَ أَنَّ فِي سَبْيِهِمُ الْعَارَ وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ النَّارَ وَلَا الْعَارَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ; أَيْ خَطِيبًا وَاعِظًا وَلَعَلَّ إِعَادَتَهُ لِطُولِ الْفَصْلِ (فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ) ; أَيْ بِمَا يَلِيقُ لِجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ (ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ) ; أَيْ بَعْدَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالْحَمْدِ الْجَزِيلِ (فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ) ; أَيْ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النَّسَبِ (جَاءُوا تَائِبِينَ) ; أَيْ مِنَ الشِّرْكِ رَاجِعِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مُسْلِمِينَ مُنْقَادِينَ (وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ) مِنَ الرَّأْيِ (أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ) ; أَيْ جَمِيعَهُ إِلَيْهِمْ (فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ) ; أَيِ السَّبْيَ يَعْنِي رَدَّهُ قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ الشَّيْخِ هُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ ; أَيْ يُعْطِيَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (فَلْيَفْعَلْ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّأْيِ وَهُوَ رَدُّ السَّبْيِ وَالْمَعْنَى مَنْ يُطَيِّبُ عَلَى نَفْسِهِ الرَّدَّ اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنْ يَطِيبَ بِالتَّخْفِيفِ (وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ) ; أَيْ نَصِيبِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَدُومَ عَلَى حَظِّهِ لِأَجْلِهِ فَيَتَرَقَّبَ (حَتَّى نُعْطِيَهُ ; إِيَّاهُ) ; أَيْ عِوَضَهُ (مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا) مِنَ الْإِفَاءَةِ (فَلْيَفْعَلْ) وَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ الْحَرْبِ كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ (فَقَالَ النَّاسُ) ; أَيْ بَعْضُهُمْ مِمَّا بَيْنَهُمْ، أَوْ كُلُّهُمْ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ (قَدْ طَيَّبْنَا) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ (ذَلِكَ) ; أَيِ الرَّدَّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَدْرِي) : أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِغْرَاقِ (مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ) ; أَيْ رَضِيَ ذَلِكَ الرَّدَّ (مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ) ; أَيْ لَمْ يَرْضَ، أَوْ مَنْ أَذِنَ لَنَا مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ قَالَ الْمُظْهِرُ وَإِنَّمَا اسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابَةَ فِي رَدِّ سَبْيِهِمْ ; لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ صَارَ مِلْكًا لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ رَدُّ مَا مَلَكُوا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ (فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ عُرَفَاؤُكُمْ) ; أَيْ رُؤَسَاؤُكُمْ وَنُقَبَاؤُكُمْ (أَمْرَكُمْ) ; أَيْ تَفْصِيلَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ حَتَّى هَاهُنَا غَيْرُ حَتَّى السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ الْأُولَى مَا بَعْدَهَا الْمُسْتَقْبَلُ وَهِيَ بِمَعْنَى كَيْ وَهَذِهِ مَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى الْحَالِ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا كَقَوْلِهِمْ شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَعِيرُ (فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا) ; أَيْ عُرَفَاؤُهُمْ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ) ; أَيِ النَّاسَ كُلَّهُمْ (قَدْ طَيَّبُوا) ; أَيْ ذَلِكَ الرَّدَّ (وَأَذِنُوا) ; أَيْ بِالرَّدِّ إِلَيْهِمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
3969 -
ــ
3969 -
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ كَانَ ثَقِيفٌ) بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ بِتَرْكِهِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ كَأَمِيرٍ، أَوْ قَبِيلَةٌ مِنْ هَوَازِنَ (حَلِيفًا لِبَنِي عُقَيْلٍ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ عَلَى صِيغَةِ الْمُصَغَّرِ قَبِيلَةٌ كَانُوا حُلَفَاءَ ثَقِيفٍ (فَأَسَرَتْ ثَقِيفٌ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ) ; أَيْ عِوَضًا مِنَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخَذَهُمَا ثَقِيفٌ وَكَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْحَلِيفَ بِجُرْمِ حَلِيفِهِ فَفَعَلَ صلى الله عليه وسلم هَذَا الصَّنِيعَ عَلَى عَادَتِهِمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (فَأَوْثَقُوهُ) ; أَيْ شَدُّوهُ بِالْوِثَاقِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ مَا يَشُدُّ بِهِ وَيُوثَقُ (فَطَرَحُوهُ فِي الْحَرَّةِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَرْضٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ بِهَا حِجَارَةٌ سُودٌ (فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ) بِالْيَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بَعْدَ دُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ ; أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ (أُخِذْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُسِرْتُ وَأُوثِقْتُ (قَالَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكُمْ ثَقِيفٍ) بَدَلٌ وَالْجَرِيرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى الْجِنَايَةُ وَالذَّنْبُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ ثَقِيفٍ مُوَادَعَةٌ فَلَمَّا نَقَضُوهَا وَلَمْ تُنْكِرْ عَلَيْهِمْ بَنُو عُقَيْلٍ وَكَانُوا مَعَهُمْ فِي الْعَهْدِ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ فَأَخَذُوهُ بِجَرِيرَتِهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُخِذْتَ لِنَدْفَعَ بِكَ جَرِيرَةَ حُلَفَائِكُمْ مِنْ ثَقِيفٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَدَى بَعْدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فَتَرَكَهُ وَمَضَى فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ) مَرَّتَيْنِ (فَرَحِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (فَرَجَعَ) ; أَيْ إِلَيْهِ
(فَقَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ) ; أَيِ الْآنَ، أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الزَّمَانِ (فَقَالَ لَوْ قُلْتَهَا) ; أَيْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، أَوْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ (وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ) ; أَيْ فِي حَالِ اخْتِيَارِكَ، وَقِيلَ كَوْنِكَ أَسِيرًا (أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ) ; أَيْ نَجَوْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْخَلَاصِ مِنَ الرِّقِّ وَفِي الْعُقْبَى بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَسْرِ فَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ حَرُمَ قَتْلُهُ وَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ وَإِنْ قَبِلَ الْجِزْيَةَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَسْرِ فَفِي حُرْمَةِ قَتْلِهِ خِلَافٌ زَادَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعْدَ الْأَسْرِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ إِطْلَاقَهُ وَفِي الْهِدَايَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا إِذَا طَالَبَ نَفْسَهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلَامِهِ فَيَحُوزُ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَخْلِيصَ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أَضْرَارٍ لِمُسْلِمٍ آخَرَ اهـ. فَقِيلَ إِنَّمَا رَدَّهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فَهَذَا خَاصَّةً بِهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ رَدُّهُ وَأَخْذُ الرَّجُلَيْنِ بَدَلَهُ لَا يُنَافِي إِسْلَامَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ شَرْطًا بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَاهَدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ) ; أَيْ عِمْرَانُ (فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ; أَيْ أَبْدَلَهُ (بِالرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَعَلَيْهَا مَشَى الْقُدُورِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُفَادَى بِهِمْ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ إِلَّا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِنَّ عِنْدَهُمْ وَمَنَعَ أَحْمَدُ الْمُفَادَاةَ بِصِبْيَانِهِمْ وَهَذِهِ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ قِيلَ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا بَعْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ وَجْهُ رِوَايَةِ الْكِتَابِ يَعْنِي الْهِدَايَةَ مَا ذُكِرَ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابَتِهِ خَيْرٌ مِنِ اسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ; إِيذَاءً فِي حَقِّهِ فَقَطْ وَالضَّرَرُ بِدَفْعِ أَسِيرِهِمْ إِلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْكَافِرِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَلِأَنَّ حُرْمَتَهُ عَظِيمَةٌ وَمَا ذُكِرَ مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْنَا بِدَفْعِهِ إِلَيْهِمْ يَدْفَعُهُ نَفْعُ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ ضَرَرُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَقُومُ بِدَفْعِهِ وَاحِدٌ مِثْلُهُ ظَاهِرًا فَيَتَكَافَأُ، ثُمَّ تَبْقَى فَضِيلَةُ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحَهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ «خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ قَالَ فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ فَقَالَ يَا سَلَمَةُ هَبْ لِيَ الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ أَعْنِي الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ نَفَّلَهُ إِيَّاهَا فَقُلْتُ هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا فَفَدَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ» إِلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَادُونَ بِالنِّسَاءِ قُلْتُ لَعَلَّ كَلَامَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى وَاحِدَةٍ بِوَاحِدَةٍ وَالْمَوْرِدُ بِخِلَافِهِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
3970 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
3970 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهِمْ) ; أَيْ حِينَ غَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ (بَعَثَتْ زَيْنَبُ) ; أَيْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ) ; أَيْ زَوْجِهَا حِينَئِذٍ (بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ) ; أَيْ فِي جُمْلَةِ الْمَالِ، أَوْ لِأَجْلِ خَلَاصِهِ ; أَيْضًا (بِقِلَادَةٍ لَهَا) وَهِيَ بِكَسْرِ الْقَافِ مَا جُعِلَ فِي الْعُنُقِ (كَانَتْ) ; أَيْ تِلْكَ الْقِلَادَةُ أَوَّلًا (عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا) ; أَيْ أَدْخَلَتْ خَدِيجَةُ الْقِلَادَةَ (بِهَا) ; أَيْ مَعَ زَيْنَبَ (عَلَى أَبِي الْعَاصِ) وَالْمَعْنَى دَفَعَتْهَا إِلَيْهَا حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو الْعَاصِ زُفَّتْ إِلَيْهِ فَعَرَفَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا رَآهَا) ; أَيْ تِلْكَ الْقِلَادَةِ (رَسُولُ اللَّهِ رَقَّ لَهَا) ; أَيْ لِزَيْنَبَ (رِقَّةً شَدِيدَةً) ; أَيْ لِغُرْبَتِهَا وَوَحْدَتِهَا وَتَذَكَّرَ عَهْدَ خَدِيجَةَ
وَصُحْبَتِهَا فَإِنَّ الْقِلَادَةَ كَانَتْ لَهَا وَفِي عُنُقِهَا (وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي لَرَأَيْتُمْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفَانِ ; أَيْ إِنْ رَأَيْتُمُ الْإِطْلَاقَ وَالرَّدَّ حَسَنًا فَافْعَلُوهُمَا (قَالُوا نَعَمْ) ; أَيْ رَأَيْنَا ذَلِكَ (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَلَيْهِ) ; أَيْ عَلَى أَبِي الْعَاصِ عَهْدًا عِنْدَ إِطْلَاقِهِ (أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ) ; أَيْ يُرْسِلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَأْذَنَ لَهَا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ الْقَاضِي وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ زَوْجِهَا مِنْهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ (وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ كُونَا بِبَطْنِ يَأْجِجَ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ جِيمٍ مُنَوَّنَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ مَفْتُوحَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّنْعِيمِ وَقِيلَ مَوْضِعُ إِمَامٍ بِمَسْجِدِ عَائِشَةَ وَقَالَ الْقَاضِي بَطْنُ يَأْجِجَ مِنْ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ الَّتِي حَوْلَ الْحَرَمِ وَالْبَطْنُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ هُوَ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ وَالْخَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ فِي فَصْلِ الْيَاءِ مِنْ بَابِ الْجِيمِ يَأْجَجُ بِالْأَلِفِ كَيَمْنَعُ وَيَضْرِبُ مَوْضِعٌ وَذُكِرَ فِي أَحَاجٍ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ مُلْحَقٌ بِجَعْفَرٍ وَذُكِرَ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ بَابِ الْجِيمِ كَيَسْمَعُ وَيَنْصُرُ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ اهـ. وَفِي فَصْلِ النُّونِ مِنْ بَابِ الْحَاءِ لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُ ذِكْرٌ وَذُكِرَ فِي الْمُغْنِي فِي حَرْفِ الْيَاءِ بَطْنُ يَأْجِجَ بِجِيمٍ فَحَاءٍ مَوْضِعٌ (حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ) ; أَيْ مَعَ مَنْ يَصْحَبُهَا (فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا) ; أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ الْأَشْرَافُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ عَلَى الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ فِدَاءٍ وَعَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُرْسِلَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنَ الرِّجَالِ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي طَرِيقٍ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ قُلْتُ الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي فِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ وَكَانَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فَتَذَكَّرْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفَادَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَدِّهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ إِذْ لَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ فِي شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْمُفَادَاةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدْرٍ بِالْمَالِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ تِلْكَ الْمُفَادَاةِ مِنَ الْعَتْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ; أَيْ حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَيَنْفِيَهِمْ عَنْهَا {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] وَقَوْلِهِ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وَهُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْأُسَارَى عَذَابٌ عَامٌّ، ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] هِيَ الْمَجْمُوعُ مِنَ الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِلْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُسَلَّمُ تَقْيِيدُهُ مَا إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَّةٍ، وَفِي رَدِّ تَكْبِيرِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَفِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ وَأَبَا بَكْرٍ بَأَخْذِ الْفِدَاءِ تَقَوِّيًا وَرَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا، قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الْفِدَاءَ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ ابْكِ عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنَ الشَّجَرَةِ قَالَ وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِقَوْلِهِ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ أَحَبُّ إِلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ أَبَا الْعَاصِ هُوَ الرَّبِيعُ ابْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ «وَكَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَهَاجَرَتْ وَأَبُو الْعَاصِ عَلَى دِينِهِ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ فَلَمَّا كَانَ قُرَيْبَ الْمَدِينَةِ أَرَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ وَيَقْتُلُوهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ زَيْنَبَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ عَهْدُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: فَأَشْهَدْتُ أَنِّي أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجُوا عُزْلًا بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَقَالُوا يَا أَبَا الْعَاصِ إِنَّكَ فِي شَرَفٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَلْ لَكَ أَنْ تُسْلِمَ فَتَغْتَنِمَ مَا مَعَكَ مِنَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ بِئْسَ مَا أَمَرْتُمُونِي بِهِ أَنْ أَنْسَخَ دِينِي بِعُذْرَةٍ فَمَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَرَفَعَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَوْفَيْتُ ذِمَّتِي قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.»
3971 -
وَعَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَسَرَ أَهْلَ بَدْرٍ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَمَنَّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ.» رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
3971 -
(وَعَنْهَا) ; أَيْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَسَرَ أَهْلَ بَدْرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَتَلَ عُقْبَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (ابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ) فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَتَلَ مِنَ الْأَسْرَى إِذْ لَا شَكَّ فِي قَتْلِهِ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَغَيْرَهُ ; لِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ الْكَائِنِ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ ; لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرًا بِنَفْسِهِ ; لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إِلَى الْإِمَامِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ إِلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ إِذَا أُسِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَلْ إِمَّا الْإِسْلَامَ وَإِمَّا السَّيْفَ فَإِنْ أَسْلَمَ الْأُسَارَى بَعْدَ الْأَسْرِ لَا نَقْتُلُهُمْ وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي الرِّقَّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ وُجِدَ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُشْرِكِ مِنَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَخْذِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ; لِأَنَّهُ إِسْلَامٌ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِمْ (وَمَنَّ) ; أَيْ بِالتَّخْلِيصِ (عَلَى أَبِي عَزَّةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ (الْجُمَحِيِّ) بِمَضْمُومِهِ وَفَتْحِ مِيمٍ وَإِهْمَالِ حَاءٍ، مَنْسُوبٍ إِلَى جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو كَذَا فِي الْمُغْنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) كَذَا فِي أَصَحِّ النُّسَخِ وَفِي نُسْخَةٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنْ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَعَ بَيَاضٍ وَفِي آخِرِهِ رَوَاهُ وَبَيَاضٌ بَعْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3972 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ مَنْ لِلصِّبْيَةِ قَالَ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3972 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ مَنْ لِلصِّبْيَةِ» ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ صَبِيٍّ كَفِتْيَةٍ وَالْقِيَاسُ صِبْوَةٌ وَالْمَعْنَى مَنْ يَكْفُلُ بِصِبْيَا لِي وَيَتَصَدَّى لِتَرْبِيَتِهِمْ وَمُؤْنَتِهِمْ وَأَنْتَ تَقْتُلُ كَافِلَهُمْ (قَالَ) ; أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (النَّارُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ النَّارُ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّيَاعِ يَعْنِي إِنْ صَلَحَتِ النَّارُ أَنْ تَكُونَ كَافِلَةً فَهِيَ هِيَ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; أَيْ لَكَ النَّارُ وَالْمَعْنَى اهْتَمَّ بِشَأْنِ نَفْسِكَ وَمَا هُيِّئَ لَكَ مِنَ النَّارِ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الصِّبْيَةِ فَإِنَّ كَافِلَهُمْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَيْهِ رِزْقُهَا وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ ذِكْرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْوَجْهُ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ بَدَلَ النَّارِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3973 -
وَعَنْ عَلِيٍّ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَكَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ قَابِلًا مِثْلُهُمْ قَالُوا الْفِدَاءَ وَيُقْتَلَ مِنَّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
3973 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ) ; أَيْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ خَيِّرْهُمْ يَعْنِي) ; أَيْ يُرِيدُ بِالضَّمِيرِ (أَصْحَابَكَ) وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابَكَ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنْ عَلِيٌّ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ وَالْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ (فِي أُسَارَى بَدْرٍ الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا ; أَيْ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، أَوِ الْفِدَاءَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ تُقْتَلُوا أُسَارَى وَلَا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَبَيْنَ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ (عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ) ; أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَابِلًا) ; أَيْ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ الْآتِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا السَّنَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا غَزْوَةُ أُحُدٍ (مِثْلُهُمْ) يَعْنِي بِعَدَدِ مَنْ يُطْلِقُونَ مِنْهُمْ يَكُونُ الظَّفَرُ لِلْكُفَّارِ فِيهَا وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ (قَالُوا) ; أَيِ الصَّحَابَةُ (الْفِدَاءَ) ; أَيِ اخْتَرْنَا الْفِدَاءَ (وَيُقْتُلَ مِنَّا) بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَى الْفِدَاءِ ; أَيْ وَأَنْ يُقْتَلَ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا ; أَيِ اخْتِيَارُنَا فَدَاؤُهُمْ وَقَتْلُ بَعْضِنَا فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ مِثْلُ مَا افْتَدَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ
سَبْعُونَ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وَإِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي إِسْلَامِ أُسَارَى بَدْرٍ فِي نَيْلِهِمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَشَفَقَةً مِنْهُمْ عَلَى الْأُسَارَى بِمَكَانِ قَرَابَتِهِمْ مِنْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِمُخَالَفَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلِمَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رَأْيًا رَأَوْهُ فَعُوتِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ تَخْيِيرٌ بِوَحْيٍ سَمَاوِيٍّ لَمْ تَتَوَجَّهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وَأَظْهَرَ لَهُمْ شَأْنَ الْعَاقِبَةِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ عَنْ نُزُولِ قَوْلِهِ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] وَمِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَلَعَلَّ عَلِيًّا ذَكَرَ هُبُوطَ جِبْرِيلَ فِي شَأْنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِهَا فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ وَمِمَّا جَرَّأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ ذَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سُفْيَانَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَالسَّمْعُ قَدْ يُخْطِئُ وَالنِّسْيَانُ كَثِيرًا قَدْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ لِظَاهِرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْحَدِيثِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ امْتَحَنَ اللَّهُ تَعَالَى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] الْآيَتَيْنِ وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102] وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ وَجَعَلَ الْمِحْنَةَ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْعَامِلُ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَيَكْفُرَ، وَيُؤْمِنَ بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ عليه السلام بِذَلِكَ هَلْ هُمْ يَخْتَارُونَ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِ أَمْ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدَاءِ فَلَمَّا اخْتَارُوا الثَّانِيَ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قُلْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ وَمَدْخُولٌ فَإِنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّخْيِيرُ لَمْ يُجْزِ الْعِتَابُ وَالتَّعْيِيرُ فَضْلًا عَنِ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيزِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَخْيِيرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا لَعُذِّبْنَ فِي الْعُقْبَى وَلَا فِي الْأُولَى وَغَايَتُهُ أَنَّهُنَّ يُحْرَمْنَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْمُصْطَفَى لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِنَّ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمَلَكَيْنِ وَقَضِيَّةُ تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَنَعَمِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَابْتِلَاءٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ لَا تَخْيِيرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُمْ يُؤَثِرُونَ الْأَعْرَاضَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدْيَةِ فَلَمَّا اخْتَارُوهُ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ الْجَسِيمَةِ فَإِنَّهُمْ مَا اخْتَارُوا الْفِدْيَةَ إِلَّا لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَلِلشَّفَقَةِ عَلَى الرَّحِمِ وَلِرَجَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، أَوْ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمَنُ وَلَا شَكَّ أَنْ هَذَا وَقَعَ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا وَافَقَ رَأْيَهُ صلى الله عليه وسلم غَايَتُهُ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ وَقَعَ أَصْوَبَ عِنْدَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُوَافِقَاتِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَيُسَاعِدُنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُعَضِّدُهُ سَبَبُ الزَّوَالِ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي وَصَاحِبُكَ فَقَالَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ اهـ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُجْتَهِدُونَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خَطَأً وَلَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] ; أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ الْمُخْطِئَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ، أَوْ قَوْمًا لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ الْفِدْيَةَ الَّتِي أَخَذُوهَا سَتَحُلُّ لَهُمْ لَمَسَّكُمْ ; أَيْ لَنَالَكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَانَ بِالْإِطْلَاقِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرَهِ فَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا اعْتَضَدَ بِضَعِيفٍ مُتَّصِلٍ يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ فَيَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْحَسَنِ، فَكَيْفَ يُقَالُ عِنْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرِهِ، قُلْتُ لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ فِي إِسْنَادِهِ وَالْمُضْطَرِبُ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ السَّهْوَ وَقَعَ مِنَ الْمُرْسِلِ أَوْ مِنَ الْمُوَصِّلِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَدْخُلُ الضَّعْفُ فِي سَنَدِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ إِمَامُ الشَّيْخِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَانَ ذَلِكَ فَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْآيَةِ وَانْفِرَادِ إِسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُشْعِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِ ; لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا قُلْتُ وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَصْلُحُ لِلطَّعْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3974 -
«وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعَرَ قُتِلَ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تُنْبِتْ فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
3974 -
(وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ فِي سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ) ; أَيْ وَقَعْتُ فِي أُسَرَائِهِمْ (عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا) ; أَيِ الصَّحَابَةُ (يَنْظُرُونَ) ; أَيْ فِي صِبْيَانِ السَّبْيِ (بِكَشْفِ عَانَتِهِمْ لِمَنْ أَنْبَتَ الشَّعَرَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ (قُتِلَ) فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ) ; أَيِ الشِّعَرَ (فَلَمْ يُقْتَلْ) ; لِأَنَّهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ ( «فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تُنْبِتْ فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الْإِنْبَاتُ فِي حَقِّهِمْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ إِذْ لَوْ سُئِلُوا عَنْ الِاحْتِلَامِ، أَوْ مَبْلِغِ سِنِّهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَحَدَّثُوا بِالصِّدْقِ إِذْ رَأَوْا فِيهِ الْهَلَاكَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .
3975 -
ــ
3975 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ خَرَجَ عِبْدَانٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِضَمٍّ وَبِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي نُسْخَةٍ " عِبِدَّانٌ " بِكَسْرِهِمَا وَتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعُ عَبْدٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالصِّيغَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ وَيُشَدَّدُ (قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ) ; أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مُوَالِيهِمْ) ; أَيْ سِيَادُهُمْ، أَوْ مُعْتِقُوهُمْ (قَالُوا؟ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا خَرَجُوا إِلَيْكَ رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا) بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ خَلَاصًا (مِنَ الرِّقِّ) ; أَيْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ أَثَرِهَا وَهُوَ الْوَلَاءُ (فَقَالَ نَاسٌ) ; أَيْ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ (صَدَقُوا) ; أَيِ الْكُفَّارُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ) ; أَيْ عَبِيدَهُمْ (إِلَيْهِمْ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُمْ عَارَضُوا حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِمْ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ وَشَهِدُوا لِأَوْلِيَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا ادَّعَوْهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا هَرَبًا مِنَ الرِّقِّ لَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِمْ أَنَّهُ صَارُوا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ دِيَارِ الْحَرْبِ مُسْتَعْصِمِينَ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَامِ أَحْرَارًا لَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ إِلَيْهِمْ فَكَانَ مُعَاوَنَتُهُمْ لِأَوْلِيَائِهِمْ تَعَاوُنًا عَلَى الْعُدْوَانِ (وَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ (مَا أُرِيكُمْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ; أَيْ مَا أَظُنُّكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا ; أَيْ مَا أَعْلَمُكُمْ (تَنْتَهُونَ) ; أَيْ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ، أَوْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الرَّدُّ (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا) ; أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعَصُّبِ، أَوِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ قَالَ فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ حَيْثُ نَفَى الْعِلْمَ بِانْتِهَائِهِمْ وَأَرَادَ مَلْزُومَهُ وَهُوَ انْتِهَاؤُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] ; أَيْ بِمَا لَا ثُبُوتَ لَهُ وَلَا عِلْمَ لِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ (وَأَبَى أَنَّ يَرُدَّهُمْ وَقَالَ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ مَا أُرِيكُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا قَوْلُ الرَّاوِي مُعْتَرِضٌ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3976 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3976 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ» ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَبِيلَةٍ (فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا) ; أَيْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَدَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ