المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الأيمان والنذور] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٦

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَحَضَانَتِهِ فِي الصِّغَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[بَابٌ فِي النُّذُورِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُضَمَّنُ مِنَ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ قَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالسِّعَايَةِ بِالْفَسَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ]

- ‌[بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يُدْعَى عَلَى الْمَحْدُودِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَمْرِ وَوَعِيدِ شَارِبِهَا]

- ‌[كِتَابُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْوُلَاةِ مِنَ التَّيْسِيرِ]

- ‌[بَابُ الْعَمَلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ رِزْقِ الْوُلَاةِ وَهَدَايَاهُمْ]

- ‌[بَابُ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ إِعْدَادِ آلَةِ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ آدَابِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ]

- ‌[بَابُ الْقِتَالِ فِي الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْأُسَرَاءِ]

- ‌[بَابُ الْأَمَانِ]

- ‌[بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَالْغُلُولِ فِيهَا]

- ‌[بَابُ الْجِزْيَةِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[بَابُ الْفَيْءِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

الفصل: ‌[باب الأيمان والنذور]

3404 -

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمٍ نَامَهُ، فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أُخْتُهُ رِقَابًا كَثِيرَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

3404 -

(وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) : أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدِينِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا، رَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَشُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ رحمه الله. كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَالِمًا وَرِعًا صَالِحًا زَاهِدًا مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالدِّينِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ. (قَالَ: تُوِفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) : أَيِ الصِّدِّيقِ (فِي نَوْمٍ) : أَيْ فِي وَقْتِ نَوْمٍ (نَامَهُ) : أَيْ نَامَ فِيهِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِنَوْمٍ، وَالْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهُ مَاتَ فَجْأَةً، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ عِتْقٌ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِمَا فَاجَأَهُ (فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها أُخْتُهُ رِقَابًا كَثِيرَةً) : وَأَنْ تَكُونَ فُجِعَتْ عَلَيْهِ وَحَزِنَتْ ; لِأَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ أَسَفٌ مِنَ اللَّهِ فَفَدَتْ عَنْهُ رِقَابًا كَثِيرَةً (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 2234

3405 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

3405 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : بِلَا وَاوٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالَهُ ") : أَيْ مَالَ الْعَبْدِ وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهِيَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَمَا لِلْعَبْدِ مِنَ الْمَالِ. (" فَلَا شَيْءَ ") : أَيْ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ (" لَهُ ") : أَيْ لِلْمُشْتَرِي (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 2234

[بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3406 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: " لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[14]

بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنَّمَا أُلْحِقَ النَّذْرُ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَالْأَيْمَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ يَمِينٍ وَهِيَ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ خِلَافُ الْيَسَارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَحُونَ بِأَيْمَانِهِمْ حَالَةَ التَّحَالُفِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِهَا. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي، وَيُجْمَعُ عَلَى أَيْمُنٍ كَرَغِيفٍ وَأَرْغُفٍ، وَأَيْمٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ وَالْهَمْزَةُ لِلْقَطْعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ، وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ هِيَ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا وُضِعَتْ لِلْقَسَمِ لَيْسَتْ جَمْعًا لِشَيْءٍ وَالْهَمْزَةُ فِيهَا لِلْوَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْيَمِينُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِحَةِ وَالْقَسَمِ، وَالْقُوَّةُ لُغَةٌ وَالْأَوَّلَانِ ظَاهِرَانِ وَشَاهِدُ الْقُوَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] ثُمَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِالْأَقْسَامِ عَلَى الْحَمْلِ أَوِ الْمَنْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِأَيْمَانِهِمْ عِنْدَ قَسَمِهِمْ، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ بَعْدُ. إِذْ فِيهِ لَفْظٌ مَنْقُولٌ عَنْ مَفْهُومِهِ اللُّغَوِيِّ، وَسَبَبُهَا الْعَادِيُّ تَارَةً إِيقَاعُ صِدْقِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَتَارَةً حَمْلُ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَبَيْنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِتَصَادُقِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قِيلَ: يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "«مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ» ". الْحَدِيثَ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَحَلُّ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ، وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَشَرْطُهَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، وَحُكْمُهَا الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهَا وُجُوبُ الْبِرِّ فِيمَا إِذَا عُقِدَتْ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، فَيَثْبُتُ وُجُوبًا لِأَمْرَيْنِ: الْفِعْلُ وَالْبِرُّ، وَوُجُوبُ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى ضِدِّهِمَا وَنَدْبُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَدَمُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَائِزًا، وَإِذَا حَنِثَ إِذْ يَحْرُمُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، ثُمَّ الْحَلِفُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ، بَلْ هُوَ يَمِينٌ تَعَارَفُوهُ أَوْ يَتَعَارَفُوهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ

ص: 2234

مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: وَالنَّذْرُ عَلَى مَا فِي الرَّاغِبِ أَنْ تُوجِبَ عَلَى نَفْسِكَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِحُدُوثِ أَمْرٍ يُقَالُ: نَذَرْتُ لِلَّهِ نَذْرًا، وَفِي التَّنْزِيلِ:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ طَاعَةً، فَإِنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا كَدُخُولِ السُّوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ اهـ. وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3406 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَكْثَرُ مَا) : أَيْ أَكْثَرُ يَمِينٍ أَوِ الْيَمِينِ الَّذِي (مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ) : أَيْ يُقْسِمُ بِهَا فِي النَّفْيِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ قَوْلُهُ: (" لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ") : دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكْثَرُ: مُبْتَدَأٌ، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَكَانَ: تَامَّةٌ، وَيَحْلِفُ: حَالٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ:" وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ يَحْلِفُ أَيْ يَحْلِفُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَ " لَا " نَفْيٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ " مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " الْقُلُوبُ إِنْشَاءُ قَسَمٍ وَنَظِيرُهُ.

وَأَخْطَبُ مَا يَكُونُ الْأَمِيرُ قَائِمًا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْقَوْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2234

3407 -

وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3407 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» ") : أَيْ مَثَلًا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْهِيِّ غَيْرُ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالْآبَاءِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَادَةَ الْأَبْنَاءِ (" مَنْ كَانَ حَالِفًا ") : أَيْ مُرِيدًا لِلْحَلِفِ (" فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ") : أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ (" أَوْ لِيَصْمُتْ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ عَيْنِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ، قَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحَلِفَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَحَقِيقَةُ الْعَظَمَةِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى فَلَا يُضَاهِي بِهِ غَيْرَهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ فَآثَمُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ. وَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْكَعْبَةُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالْحَيَاةُ وَالرُّوحُ وَغَيْرُهَا، وَمِنْ أَشَدِّهَا كَرَاهَةً الْحَلِفُ بِالْأَمَانَةِ، وَأَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ، وَأُنْشِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الشَّيْءُ عِنْدِي

وَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا

قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْيَمِينُ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُزَادُ الْكَلَامُ لِمُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْقَسَمُ كَمَا يُرَادُ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ مُجَرَّدُ الِاخْتِصَاصِ دُونَ الْقَصْدِ إِلَى النِّدَاءِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ أَوْ بَعْدَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

ص: 2234

3408 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3408 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) : أَيِ الْقُرَشِيِّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَخَلْقٌ سِوَاهُمَا. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي» ") : جَمْعُ طَاغِيَةٍ فَاعِلَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا سَبَبُ الطُّغْيَانِ، فَهِيَ كَالْفَاعِلَةِ لَهُ، وَقِيلَ: الطَّاغِيَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَافِيَةِ سُمِّيَ بِهَا الصَّنَمُ لِلْمُبَالَغَةِ ثُمَّ جُمِعَتْ عَلَى طَوَاغٍ (" وَلَا بِآبَائِكُمْ ") : كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَحْلِفُونَ بِهَا وَبِآبَائِهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونُوا عَلَى تَيَقُّظٍ فِي مُحَاوَرَتِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُمْ جَرْيًا عَلَى مَا تَعَوَّدُوهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2235

3409 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ; فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ ; فَلْيَتَصَدَّقْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3409 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى ") : صَنَمَانِ مَعْرُوفَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (" فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : أَيْ فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا جَرْيًا عَلَى الْمُعْتَادِ السَّابِقِ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَجَدِّدِ (" فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ")، أَيْ: فَلْيَتُبْ كَفَارَّةً لِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنَ الْغَفْلَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَقْصِدَ تَعْظِيمَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَجْدِيدًا لِإِيمَانِهِ. فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَأْثَمُ بِهِ وَيَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ عُقُوبَتَهُ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِي مَالِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَعْقُودِ، وَإِذَا حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَدْ ضَاهَى الْكُفَّارَ فِي ذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ اهـ.

وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالصَّنَمِ مَذْمُومٌ، فَيَنْبَغِي أَنَّ يُتَدَارَكَ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَسَيَأْتِي دَلِيلُ مَذْهَبِنَا. (" وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ ") : بِفَتْحِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنْ تَعَالَى يَتَعَالَى، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَالِيَ يَطْلُبُ السَّافِلَ ثُمَّ تَوَسَّعَ أَيِ ائْتِ (" أُقَامِرْكَ ") : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: أَفْعَلِ الْقِمَارَ مَعَكَ (" فَلْيَتَصَدَّقْ ") : أَيْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ كَفَّارَةً لِمَقَالِهِ، وَقِيلَ: يَتَصَدَّقُ وَبِقَدْرِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا قَرَنَ الْقِمَارَ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ تَأَسِّيًا بِالتَّنْزِيلِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] فَمَنْ حَلَفَ بِالْأَصْنَامِ فَقَدْ أَشْرَكَهَا بِاللَّهِ فِي التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ تَدَارُكُهَا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى الْمُقَامَرَةِ، فَوَافَقَ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَصْدِيقِهِ بِالْمَيْسِرِ فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِ مَا جَعَلَهُ خَطَرًا، أَوْ بِمَا تَيَسَّرَ، فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى اللَّعِبِ فَكَفَّارَتُهُ التَّصَدُّقُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَعِبَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ، أَوْ تُكُلِّمَ بِاللِّسَانِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2235

3410 -

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3410 -

(وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَاتَ فِي فِتْنَةِ الزُّبَيْرِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ ") : صِفَةٌ لِمِلَّةٍ. كَإِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِئٌ مِنَ الْإِسْلَامِ (" كَاذِبًا ") : أَيْ فِي حَلِفِهِ (" فَهُوَ كَمَا قَالَ ") : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَخْتَلُّ بِهَذَا الْحَلِفِ إِسْلَامُهُ وَيَصِيرُ كَمَا قَالَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْحِنْثِ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» ". وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّهْدِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْوَعِيدِ، لَا الْحُكْمُ بِأَنَّهُ صَارَ يَهُودِيًّا أَوْ بَرِيئًا مِنَ الْإِسْلَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ كَالْيَهُودِيِّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً فَقَدْ كَفَرَ» ". أَيِ اسْتَوْجَبَ عُقُوبَةَ مَنْ كَفَرَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ هَلْ يُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينًا، وَهَلْ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ، فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ

ص: 2235

إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ آثِمٌ صَدَقَ فِيهِ أَوْ كَذَبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَفَّارَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا، فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجْهُ الْحَلِفِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ وَهُوَ فِعْلُ كَذَا عَلَمًا عَلَى كُفْرِهِ، وَمُعْتَقَدُهُ حُرْمَتُهُ، فَقَدِ اعْتَقَدَهُ أَيِ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي فِعْلَ كَذَا، كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا. وَلَوْ قَالَ: دُخُولُ الدَّارِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا، فَكَانَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ يَمِينًا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ كَأَنْ قَالَ: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ غَمُوسٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَهَلْ يَكْفُرُ حَتَّى تَكُونَ التَّوْبَةُ اللَّازِمَةُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَتَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً هُوَ كَافِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَمُوسًا لَا يَكْفُرْ، وَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَيَكْفُرْ فِيهَا بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ كُفْرَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إِذَا فَعَلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ:" «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» ". فَهَذَا يُتَرَاءَى أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ يَمِينًا أَوْ كُفْرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ مُخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَحْلِفُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ أَهْلَ الْجَهْلِ وَالشَّرِّ، لَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا لُزُومَ الْكُفْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا فَالْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِ. (" وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ ") : أَيْ لَا يَلْزَمُهُ (" نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: كَأَنْ يَقُولَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَفُلَانٌ حُرٌّ وَهُوَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ أَوِ التَّضَحِّيَ بِشَاةِ غَيْرِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. أَيْ: لَا صِحَّةَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ. قُلْتُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطَّلَاقِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. (" «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ» ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عُوقِبَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِهِ حَقِيقَةً (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ ") أَيْ: لَعْنُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : أَيْ فِي أَصْلِ الْإِثْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ فِي الْعِقَابِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ فَلَعْنُهُ كَقَتْلِهِ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:(" وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ ") : أَيْ قَذْفُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ، فَكَانَ الرَّمْيُ بِهِ كَالْقَتْلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُنَا أَظْهَرُ ; لِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ، فَالْقَاذِفُ بِالْكُفْرِ تَسَبَّبَ إِلَيْهِ وَالْمُتَسَبِّبُ إِلَى الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ، وَالْقَذْفُ فِي الْأَصْلِ الرَّمْيُ، ثُمَّ شَاعَ عُرْفًا فِي الرَّمْيِ بِالزِّنَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُعَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَحِيقُ بِهِ ضَرَرُهُ، (" وَمَنِ ادَّعَى ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ أَظْهَرَ (" دَعْوَى ") : بِغَيْرِ تَنْوِينٍ (" كَاذِبَةً ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِدَعْوَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ (" لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ") : مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِيَسْتَكْثِرَ مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ. وَفِي نُسْخَةٍ يَسْتَكْثِرُ بِحَذْفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى لِيُحَصِّلَ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَالًا كَثِيرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ قَيْدٌ لِلدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ اسْتِكْثَارَ الْمَالِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ قُلْتُ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ سِوَى الْمَفْهُومِ وَهُوَ

ص: 2236

مَزِيدُ الشَّفَاعَةِ عَلَى الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَاسْتِهْجَانُ الْعَرْضِ فِيهَا يَعْنِي: ارْتِكَابُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لِهَذَا الْغَرَضِ الْحَقِيرِ غَيْرُ مُبَارَكٍ. (" لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً ") : أَيْ عَكْسَ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِاسْتِكْثَارِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [النبأ: 35] يَعْنِي إِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ زِيَادَةً فَهُوَ يَزِيدُهُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْقِلَّةَ لَيْسَتْ بِزِيَادَةٍ فَلَا يَزِيدُ أَلْبَتَّةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ.

ص: 2237

3411 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ; إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3411 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ ") : هَذَا قَسَمٌ وَشَرْطٌ (" لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ") : جَوَابُ الْقَسَمِ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْقَسَمِيَّةُ خَبَرُ إِنَّ، الْكَشَّافَ: سُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، قَالَ الشَّمَنِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَى يَمِينٍ أَيْ مُقْسَمٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَمِينِ جُمْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: مُقْسَمٌ بِهِ وَالْأُخْرَى مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ الْكُلُّ، وَأُرِيدَ الْبَعْضُ، وَقِيلَ: ذُكِرَ اسْمُ الْحَالِ، وَأُرِيدَ الْمَحَلُّ ; لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ (" فَأُرَى ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: فَأَظُنُّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ فَأَعْلَمُ (غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ ") : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: أَعْطَيْتُ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ حِنْثِهَا أَوْ نَوَيْتُ دَفْعَ الْكَفَّارَةِ (" عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ ") أَيْ فَعَلْتُ (" الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ") : وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ عَلَى الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَفِيهِ نَدْبُ الْحِنْثِ إِذَا كَانَ خَيْرًا كَمَا إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ، فَإِنَّ فِيهِ قَطْعَ الرَّحِمِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْحِنْثِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ: إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعِتْقُ أَوِ الْإِطْعَامُ أَوِ الْكُسْوَةُ، كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله الْمَنَّانُ فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: إِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينَ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي النَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يَقُولُونَ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ، فَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِلْمُضَافِ الْوَاقِعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ، وَإِذَا ثَبَتَ سَبَبِيَّتُهُ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَرْطٌ، وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ثَابِتٌ شَرْعًا كَمَا جَازَ فِي الزَّكَاةِ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النَّصَّابِ، وَكَمَا فِي تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجَرْحِ عَلَى الْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْمَالُ وَالصَّوْمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي الْجَدِيدِ: لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ الْوَاجِبِ بَعْدَ السَّبَبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُعْرَفْ شَرْعًا إِلَّا فِي الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ مُطْلَقًا صَوْمًا كَانَ أَوْ مَالًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّقْدِيمِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَلَنَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ قَالَ الْقَائِلُ:

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلَامُهَا

وَبِهِ سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا

لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا جِنَايَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ ; لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِالْأَيْمَانِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ، وَكَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا، إِذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ الْكَلَامُ مُخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إِحْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا سَبَبُ الْحِنْثِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْصِيَةً أَوْ لَا. وَالْمَدَارُ تَوْقِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2237

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". قُلْنَا: الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلِيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ، إِلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُدَ وَقَالَ فِيهِ:" «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ، كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ عليه الصلاة والسلام إِذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ:" لَا أَحْلِفُ ". إِلَى أَنْ قَالَ: " إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَهَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِلَى آخِرِ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ شَذَّتْ لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، فَصَدَقَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا خَالَفَ الْحَافِظُ فِيهَا الْأَكْثَرَ، يَعْنِي مَنْ سِوَاهُ مِنْهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ بِالْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا فِي: ادْخُلِ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَفَاكِهَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْقِيبُ دُخُولِ السُّوقِ بِشِرَاءِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ. وَهَكَذَا ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا لَمْ تَقْتَضِ التَّعْقِيبَ كَانَ قَوْلُهُ: " فَلْيُكَفِّرْ ". لَا يَلْزَمُ تَعْقِيبُهُ لِلْحِنْثِ، بَلْ جَازَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ كَمَا بَعْدَهُ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْحَاصِلِ فَلْيَفْعَلِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُعَقَّبُ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ بِعَكْسِهِ، مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: "«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام: «وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَسْأَلُنِي ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي وَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ لَمْ يَفْرِضْ صِحَّةَ رِوَايَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ تَغْيِيرِ الرُّوَاةِ، إِذْ قَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْوَاوِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَاجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا حَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ الشَّهِرِ لَا عَكْسُهُ، فَيُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي امْتَلَأَتْ كُتُبُ الْحَدِيثِ مِنْهَا دُونَ ثُمَّ اهـ. وَفِي الْمُغْنِي: خَالَفَ قَوْمٌ فِي اقْتِضَاءِ ثُمَّ التَّرْتِيبَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا - وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 189 - 7]، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] ، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] .

ص: 2238

3412 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3412 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) : تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ ") : بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَرُوِيَ بِالنَّفْيِ أَيْ: لَا تَطْلُبِ (" الْإِمَارَةَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيِ: الْحُكُومَةَ (" فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا ") : أَوْ أُعْطِيتَهَا (" عَنْ مَسْأَلَةٍ ") أَيْ: بَعْدَ سُؤَالِكَ إِيَّاهَا أَوْ إِعْطَاءً صَادِرًا عَنْ مَسْأَلَةٍ (" وُكِلْتَ إِلَيْهَا ") : بِضَمِّ وَاوٍ وَكَسْرِ كَافٍ مُخَفَّفَةٍ وَفَتْحِ تَاءٍ أَيْ: خُلِّيتَ إِلَيْهَا وَتُرِكْتَ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةٍ فِيهَا (" وَإِنْ أُوتِيتَهَا

ص: 2238

عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَعَانَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَارَةَ أَمْرٌ شَاقٌّ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ مِنْهُ الرِّجَالُ، فَلَا تَسْأَلْهَا مِنْ تَشَرُّفِ نَفْسٍ ; فَإِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَهَا تُرِكْتَ مَعَهَا فَلَا يُعِينُكَ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أَعَانَكَ اللَّهُ عَلَيْهَا. ("«فَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» ") : قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلِ: لَا يُصَلِّي أَوْ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ: فِعْلُ مَعْصِيَةٍ، أَوْ تَرْكُ فَرْضٍ، فَالْحِنْثُ وَاجِبٌ أَوْ أَيٌّ غَيْرُهُ أَيْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ، فَإِنَّ الْحِنْثَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الرِّفْقُ، وَكَذَا الْحِنْثُ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ، وَهُوَ يَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ، أَوْ لَيَشْكُوَنَّ مَدْيُونَهُ إِنْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا ; لِأَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ، وَكَذَا تَيْسِيرُ الْمُطَالَبَةِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ وَضِدُّهُ مِثْلُهُ، كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخُبْزَ وَلَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، فَالْبِرُّ فِي هَذَا وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ فِيمَا أَمْكَنَ لَا يَبْعُدُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2239

3413 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3413 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ") أَيْ: مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ (" فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ") أَيْ: فَيَلْتَزِمْ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ (" وَلْيَفْعَلْ ") أَيِ: الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2239

3414 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3414 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَاللَّهِ ; لَأَنْ يَلَجَّ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَبِكَسْرٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: لَجِجْتُ أَلَجُّ بِكَسْرِ الْمَاضِي وَفَتْحِ الْمُضَارِعِ وَبِالْعَكْسِ لَجَاءً وَلَجَاجَةً اهـ. وَوَافَقَ الْقَامُوسَ، وَاقْتَصَرَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَلَى فَتْحِ الْمُضَارِعِ أَيْ: يُصِرَّ وَيُقِيمَ (" أَحَدُكُمْ ") أَيْ: عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ (" بِيَمِينِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِهَا (" فِي أَهْلِهِ ") : وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ (" آثَمُ ") : بِمَدِّ أَوَّلِهِ أَيْ: أَكْثَرُ إِثْمًا (" لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ ") أَيْ: بَعْدَ الْحَلِفِ (" كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ فَرَضَ (" اللَّهُ عَلَيْهِ ") : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: يُرِيدُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ لَجَاجًا مَعَ أَهْلِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْوِزْرِ، وَأَفْضَى إِلَى الْإِثْمِ مِنْ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ عُرْضَةَ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْبِرِّ وَالْمُوَاسَاةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْإِلْجَاجِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [البقرة: 224] أَيْ: لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ أَيْ: بِنِيَّاتِكُمْ، وَآثَمُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ لِلَاجِّ الْإِثْمِ، فَأَطْلَقَهُ لِلَّجَاجِ الْمُوجِبِ لِلْإِثْمِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ مَزِيدًا ثُمَّ مُطْلَقًا لَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمُ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، يَعْنِي: إِثْمُ اللَّجَاجِ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنْ ثَوَابِ إِعْطَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي بَابِهِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِمْرَارَهُ عَلَى عِلْمِ الْحِنْثِ وَإِدَامَةِ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ الْمُطْلَقِ. قَالَ الْبَرَمَاوِيُّ: آثَمُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ إِعْطَاءَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ إِثْمٌ لِمَا فِي الْحِنْثِ مِنْ عَدَمِ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ مُلَازَمَةُ عَادَةٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: بَنَى الْكَلَامَ عَلَى تَوَهُّمِ الْحَالِفِ، فَإِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا، وَلِهَذَا يَلَجُّ فِي عَدَمِ التَّحَلُّلِ بِالْكَفَّارَةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّجَاجِ الْإِثْمُ أَكْثَرُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَهْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْمُبَالَغَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2239

3415 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3415 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَمِينُكَ ") أَيْ: حَلِفُكَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ ") أَيْ: خَصْمُكَ وَمُدَّعِيكَ وَمُحَاوِرُكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّوْرِيَةُ. فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْيَمِينِ بِقَصْدِ الْمُسْتَحْلِفِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، فَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِ الْحَالِفِ، فَلَهُ التَّوْرِيَةُ. هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ رحمهم الله.

وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ: يَجِبُ عَلَيْكَ لَهُ أَنْ تَحْلِفَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ إِذَا حَلَفْتَ لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِحْلَافِ الْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ فِي دَعْوَةٍ أُوجِبَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَحْلِفْهُ، فَالِاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَيَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْرِيَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْنَثُ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا حَيْثُ يَبْطُلُ بِهَا حَقُّ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَيُحْكَى عَنْ مَالِكٍ رحمه الله: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فَهُوَ فِيهِ حَانِثٌ آثِمٌ، وَمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعُذْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اهـ. كَلَامُهُ.

وَرُوِيَ «عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيُّ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2240

3416 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

3416 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْيَمِينُ ") أَيْ: يَمِينُ الْحَالِفِ (" عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ ") أَيْ: إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلتَّحْلِيفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي الْيَمِينِ عَلَى نِيَّةِ طَالِبِ الْحِنْثِ، فَإِنْ أَضْمَرَ الْحَالِفُ تَأْوِيلًا عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لَمْ يُسْتَخْلَصْ مِنَ الْحِنْثِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2240

3417 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

ــ

3417 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ} [البقرة: 225] : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَاوًا أَيْ لَا يُعَاقِبُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ: الْكَشَّافَ: اللَّغْوُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ الَّذِي عُقِدَ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] (فِي قَوْلِ الرَّجُلِ) أَيْ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الشَّخْصِ (لَا وَاللَّهِ) أَيْ: فِي يَمِينِ النَّفْيِ (وَبَلَى وَاللَّهِ) : فِي يَمِينِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى الْيَمِينِ بَلِ الْقَصْدُ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْعَارِي عَنِ الْيَمِينِ الْمُجَرَّدِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ بِالْجَنَانِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ) : مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ أَيِ: الْحَدِيثُ وَاقِعٌ بِلَفْظِهِ (وَقَالَ) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (رَفَعَهُ) أَيْ: الْحَدِيثَ (بَعْضُهُمْ) أَيْ: بَعْضُ الْمُخَرِّجِينَ (عَنْ عَائِشَةَ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: رَفَعَ الْحَدِيثَ بَعْضُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَجَاوِزًا عَنْ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَاغَ ذِكْرُ الْمَوْقُوفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ؟ قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ.

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفٌ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ آيَةٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اهـ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ قَدْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، فَإِنَّ مَدَارَ الضَّعْفِ وَضِدِّهِ عَلَى إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَوْقُوفًا حَقِيقِيًّا أَوْ مَرْفُوعًا حُكْمِيًّا، فَحُكْمٌ آخَرُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ كُلَّ مَوْقُوفٍ غَيْرُ ضَعِيفٍ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَرْفُوعٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ كَثُرَ وُجُودُ الْمَوْقُوفِ مُطْلَقًا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ الْأَثَرُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَيَمِينُ اللَّغْوِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ. وَالْأَمْرُ

ص: 2240

بِخِلَافِهِ مِثْلَ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلْتُ الدَّارَ وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَنَحْوَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كُلُّ يَمِينٍ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ، كَلَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَفِي الْهِدَايَةِ: الْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي، وَهُوَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ ذَاهِلًا عَنْهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْخَاطِئُ وَهُوَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِ الْحَلِفِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ حِنْثٌ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْخُلَاصَةِ جَعَلَ مَكَانَ الْيَمِينِ الْعِتَاقَ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» ". وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ الْعِتَاقِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ طَلَّقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَطَلَاقُهُ جَائِزٌ، وَمَنْ أَعْتَقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ» ". وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ:" «ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ، مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَاعِبًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ: الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ» ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ مَوْقُوفًا أَنَّهُمَا قَالَا: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: أَرْبَعٌ، وَزَادَ النَّذْرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ فِي مَعْنَى النَّذْرِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ بِتَفْسِيرِهِمْ وَهْمًا أَمْ يَقْصِدُ الْيَمِينَ مَعَ ضِدِّ الْبِرِّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ فَمَا لَنْ يَقْصِدَهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ لَا حُكْمَ بِهِ وَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ، وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ نَفْسَ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ النَّاسِيَ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ فِي بَيْتِهِ لَا يَقْصِدُ التَّكَلُّمَ بِهِ، بَلْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ غَيْرُ مُرَادِ لَفْظِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَازِلِ، فَحَمْلُ النَّاسِي عَلَى اللَّاغِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْهَازِلِ، وَهَذَا الَّذِي أَدَّيَّنُهُ، وَتَقَدَّمَ لَنَا فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ. قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ. لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:" «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ".

قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ رَفْعُ الْوِزْرِ لَا الْعَقْدِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمهم الله فِي التَّحْقِيقِ مِنْ عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» ". ثُمَّ قَالَ عَنْبَسَةُ: ضَعِيفٌ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاجْتِمَاعُ بِهِمْ، ثُمَّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ أَيِ الَّتِي تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ، فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ هُوَ الْحَالِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ بِهِ لِمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: " لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ". قُلْتُ: رَوَاهُمَا الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ قَالَ: وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". وَالْمُرَادُ بِالْمَصْبُورَةِ الْمُلْزِمَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ أَيِ الْمَحْبُوسُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مَصْبُورٌ عَلَيْهَا وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَتَمَامُ بَحْثِ الْمَقَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ هَمَّامٍ: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الْغَمُوسُ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ وَالْمَكْسُوبَةُ يُؤْخَذُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَفَّارَةُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مُطْلَقًا فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَمُوسِ وَفِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْمَكْسُوبَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَعْقُودَةُ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ قَالَ فِيهِ:" «خَمْسٌ لَيْسَ فِيهِنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عز وجل، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَهْبُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْطَعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» ". اهـ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَاذِبًا وَغَيْرِهَا، وَصَابِرَةٌ بِمَعْنَى مَصْبُورَةٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.

ص: 2241

الْفَصْلُ الثَّانِي

3418 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3418 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ» ") ، أَيْ بِأُصُولِكُمْ فَبِالْفُرُوعِ أَوْلَى (" وَلَا، بِالْأَنْدَادِ ") ، أَيِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُرَادُ بِمَا سِوَاهُ. فِي النِّهَايَةِ: الْأَنْدَادُ جَمْعُ نِدٍّ بِالْكَسْرِ وَهُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ يُضَادُّهُ فِي أُمُورِهِ، وَيُنَادُّهُ أَيْ يُخَالِفُهُ، وَيُرِيدُ بِهَا مَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. (" «وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 2242

3419 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

3419 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ ") : أَيْ مُعْتَقِدًا تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْغَيْرِ (" فَقَدْ أَشْرَكَ ") . أَيْ إِشْرَاكًا جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا لِأَنَّهُ أَشْرَكَ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّعْظِيمِ الْمَخْصُوصِ بِهِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّعْظِيمِ الْبَلِيغِ، فَكَأَنَّهُ مُشْرِكٌ إِشْرَاكًا جَلِيًّا فَيَكُونُ زَجْرًا بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَكَذَا إِذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ يَعْنِي: وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ صِفَةَ اللَّهِ لَا تَكُونُ يَمِينًا إِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله الْمَلِكُ الْعَلَّامُ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ بِذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ كَانَ يَمِينًا ; لِأَنَّ التَّبَرُّأَ مِنْهُمَا كُفْرٌ، فَيَكُونُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ: ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْآنَ مُتَعَارَفٌ، فَيَكُونُ يَمِينًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِحَيَاةِ شَرِيفٍ، وَمِثْلُهُ بِحَيَاةِ رَأْسِكَ وَحَيَاةِ رَأْسِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ يَكْفُرُ، وَفِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى. قَالَ عَلِيٌّ الرَّازِيُّ: أَخَافُ عَلَى مَنْ قَالَ: وَحَيَاتِي وَحَيَاتِكَ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ لَقُلْتُ: إِنَّهُ شِرْكٌ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ:" «مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ» ".

ص: 2242

3420 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3420 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ ") : أَيْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ (" فَلَيْسَ مِنَّا ") . أَيْ مِمَّنِ اقْتَدَى بِطَرِيقَتِنَا. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ مِنْ ذَوِي أُسْوَتِنَا، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِغَيْرِنَا، فَإِنَّهُ مِنْ دَيْدَنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وِفَاقًا، وَاخُتَلِفَ فِيمَا إِذَا قَالَ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إِنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ عِلْمِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِهِ إِذْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَمِينُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَرِهَ صلى الله عليه وسلم الْحَلِفَ بِالْأَمَانَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَارَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَمَانَةِ الْفَرَائِضَ وَلَا تَحْلِفُوا بِالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا الْحَلِفِ اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ قَالَ:

ص: 2242

وَأَمَانَةِ اللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَلَعَلَّهُ جَعَلَ الْأَمَانَةَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَقَدْ قِيلَ: الْأَمِينُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الْمُرَادُ أَمَانَةُ اللَّهِ كَلِمَتُهُ وَهَى كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَأَمَّا الصِّفَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا اسْمُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ذَاتًا وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَهُوَ كَالْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْعَظِيمِ، فَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِهَا مُتَعَارَفًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوِ الذَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي قَوْلِهِمْ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ إِنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَحْلِفُونَ بِهِ، فَحَكَمَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى وَاللَّهِ الْأَمِينِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْيَمِينِ، كَعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي فِي ضِمْنِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْغَيْرَ هُوَ مَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ وُجُودًا، وَلَوْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَفِي الْهِدَايَةِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إِذَا قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي إِذَا أُطْلِقَ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ عُدَّ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى، وَقَالَ تَعَالَى جل جلاله:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71] وَهُوَ حَقِيقَةٌ أَيْ كَوْنُهُ تَعَالَى ثَابِتَ الذَّاتِ أَيْ مَوْجُودَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ يَمِينًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَهُمَا: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ، إِذِ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ وَصَارَ ذَلِكَ مُتَبَادِرًا شَرْعًا وَعُرْفًا، حَتَّى كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَا يَتَبَادَرُ سِوَاهُ، أَمَّا لَوْ قَالَ: وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ يَمِينٌ إِذَا أُطْلِقَ عِنْدَنَا، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ يَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ، وَكَذَا أَمَانَةُ اللَّهِ. عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَعِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله: هُوَ يَمِينٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهَا فُسِّرَتْ بِالْعِبَادَاتِ. قُلْنَا: غَلَبَ إِرَادَةُ الْيَمِينِ إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَوَجَبَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ أَيِ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِهِ يَمِينًا، وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي مِنْهُ الْحَلِفَ بِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2243

3421 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ ; فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3421 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ بُرَيْدَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ ") : أَيْ لَوْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ (" فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا ") : أَيْ فِي حَلِفِهِ عَلَى زَعْمِهِ (" فَهُوَ كَمَا قَالَ ") . فِيهِ مُبَالَغَةُ تَهْدِيدٍ وَزَجْرٍ مَعَ التَّشْدِيدِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَمِينٌ غَمُوسٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ عُقُوبَتَهُ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ اهـ. وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِيمَا مَضَى (وَإِنْ كَانَ صَادِقًا) : أَيْ فِي حَلِفِهِ عَلَى زَعْمِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا فِي الْوَاقِعِ أَمْ لَا (" فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا ") . أَيْ يَكُونُ بِنَفْسِ هَذَا الْحَلِفِ آثِمًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْيَمِينِ بِالْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ صَادِقٌ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ اهـ. فَتَأَمَّلْ فِيمَا مَضَى قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَوْلُهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ إِنْ فَعَلَ كَذَا يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَكَذَا إِذَا قَالَ: هُوَ بَرِيءٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2243

3422 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: " لَا، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

3422 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اجْتَهَدَ) : أَيْ بَالَغَ فِي الْيَمِينِ (" قَالَ: لَا ") ، أَيْ لَيْسَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فَيَشْمَلُ الْيَمِينَ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ أَوَّلًا عَنِ الشَّيْءِ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْيَمِينِ قَالَ ذَلِكَ. (" وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ ") : أَيْ رُوحُهُ أَوْ ذَاتُهُ (" بِيَدِهِ ") . أَيْ بِتَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فِي النِّهَايَةِ: الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْأَمْرِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْجُهْدِ وَهُوَ الطَّاقَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَسَمُ بَلِيغًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ لِنَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ عَنْ دَنَسِ الْآثَامِ، وَأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى شَأْنُهُ، فَيَكُونُ أَشْرَفَ أَقْسَامِ الْقَسَمِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ.

ص: 2243

3423 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَلَفَ: " لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3423 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَلَفَ) : يَعْنِي أَحْيَانًا (" لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ") . قَالَ الْقَاضِي: أَيْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لَكِنْ شَابَهَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَكَّدَ الْكَلَامَ وَقَرَّرَهُ، وَأَعْرَبَ عَنْ مَخْرَجِهِ بِالْكَذِبِ فِيهِ وَتَحَرُّزِهِ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ يَمِينًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْعَطْفِ، وَهُوَ يَقْتَضِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا وَالْقَرِينَةُ لَفْظَةُ لَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَوْطِئَةً لِلْقَسَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ:{لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1] رَدًّا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَإِنْشَاءَ قَسَمٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُظْهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَ لَغْوٍ كَانَ يَقُولُ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَقِيبَهُ تَدَارُكًا لِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لِمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ لِيَكُونَ بِهِ دَلِيلًا لِأُمَّتِهِ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ: أَيْ إِذَا حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الْمُحَاوَرَاتِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ اسْتَدْرَكَهُ بِذَلِكَ نَافِيًا كَوْنَهُ يَمِينًا مَعْقُودًا عَلَيْهِ اهـ.

وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ حَمْلَ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اللَّغْوِ مُنَافٍ لِمَقَامِ الرِّسَالَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ قَدْ ذُكِرَ سَابِقًا فِي يَمِينِ اللَّغْوِ هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا حَلَفَ مَقْرُونَةً " لَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ". يَعْنِي إِذَا حَلَفَ وَبَالَغَ بِقَوْلِهِ لَا قَالَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَعْنِي مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ اللَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ مِنِّي وَصَدَرَ عَنِّي، فَإِنَّهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ، لَكِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْحَلِفِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُهَا إِلَّا لِمَكَانِ ضَرُورَةٍ بِهَا، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ عُرْضَةٌ وَهِيَ مَنْهِيَّةٌ، وَلِذَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَلِفِ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا، فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ مِنْ تَأْكِيدِ حُكْمٍ أَوْ بَيَانِ جَوَازٍ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا أَرَادَ الْحَلِفَ ذَكَرَ هَذَا بَدَلًا عَنِ الْحَلِفِ وَلَمْ يَحْلِفْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2244

3424 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ.

ــ

3424 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ") : أَيْ عَلَى مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ (" فَقَالَ:: إِنْ شَاءَ اللَّهُ ") : أَيْ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ (" فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ") . بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: فَلَا يَمِينَ لَهُ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي مُوَطَّئِهِ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إِذَا قَالَ: إِنْ شَاءَ وَوَصَلَهَا بِيَمِينِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَكَذَا قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصِرْ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمٌ، وَلِلْجُمْهُورِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْيَمِينِ أَوْ مَفْصُولًا عَنْهَا بِسَكْتَةٍ يَسِيرَةٍ كَالسَّكْتَةِ لِلذِّكْرِ أَوْ لِلْعِيِّ أَوْ لِلتَّنَفُّسِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْعِتَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْيَمِينِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، أَوِ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اسْتَثْنَى وَقِيلَ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مَا دَامَ الْحَالِفُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقِيلَ: مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ حِينٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْدَ سِنِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 69] يُشْعِرُ بِالِاتِّصَالِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِغَيْرِ التَّرَاخِي، وَأَمَّا إِجْرَاءُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فَعَلَى الْمَجَازِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنِّي أَفْعَلُ كَذَا، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ مَانِعٍ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : لَكِنَّ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى. (وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ) : أَيِ الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عُمَرَ) : لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

ص: 2244