المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل كلام الرافضي على دلالة العقل عنده على الأفعال الاختيارية والرد عليه] - منهاج السنة النبوية - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل قول الرافضي إن اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعِبَادِ والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي في القضاء والقدر أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ]

- ‌[فصل كلام للرافضي في مسألة القدر يَسْتَلْزِمُ أَشْيَاءَ شَنِيعَةً مِنْهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَظْلَمَ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر إِفْحَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَانْقِطَاعُ حُجَّتِهِمْ والرد عليه]

- ‌[حَدِيثُ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عليهما السلام]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعتهِ]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ تَصْدِيقِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ عَفُوٌّ]

- ‌[فصل كلام الرافضي عن تكليف ما لا يطاق عند أهل السنة والرد عليه من وجوه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الأفعال الاختيارية عند أهل السنة والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر أنه لا فرق بين الإحسان والإساءة لأنهما صادران من الله والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر الْمَعْصِيَةُ إِمَّا مِنَ الْعَبْدِ أَوْ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْهُمَا]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر أن الْكَافِرَ يَكُونُ مُطِيعًا بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ فَعَلَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر يَلْزَمُ نِسْبَةُ السَّفَهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَأْمُرُ الْكَافِرَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يُرِيدُهُ مِنْهُ]

- ‌[فصل مَنْ نَفَى قِيَامَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً فَاسِدَةً]

- ‌[فصل كلام الرافضي على الرضا بقضاء الله وقدره والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي عن القدر عند أهل السنة " وَمِنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ نَسْتَعِيذَ بِإِبْلِيسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى " والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي قوله: لَا يَبْقَى وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ]

- ‌[الرد على قول الرافضي: وجاز منه إرسال الكذاب والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي قوله في مسألة القدر عند أهل السنة يَلْزَمُ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنِ الْمَعَاصِي]

- ‌[فصل كلام الرافضي على دلالة العقل عنده على الأفعال الاختيارية والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على دلالة النقل على الأفعال الاختيارية والرد عليه]

- ‌[فصل من كلام الرافضي على الأفعال الاختيارية " الْقَادِرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَجِّحَ مَقْدُورَهُ " والرد عليه]

- ‌[فصل الكلام على قول الرافضي أي شركة هنا والرد عليه]

- ‌[شرك الفلاسفة وَتَعْطِيلُهُمْ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ شِرْكِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَعْطِيلِهِمْ]

- ‌[أدلة الوحدانية عند الفلاسفة]

- ‌[الكلام على دليل التمانع عند المتكلمين]

- ‌[التعليق على كلام الرافضي عن قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ]

- ‌[فصل كلام الرافضي على إثبات الأشاعرة لرؤية الله تعالى والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على مقالة الأشاعرة في كلام الله تعالى والرد عليه]

- ‌[فصل زعم الرافضي بأن أهل السنة ينكرون عصمة الأنبياء وكلامه على مقالتهم في الإمامة والرد عليه]

- ‌[فصل التعليق على كلامه عن الإمامة " وَلَمْ يَجْعَلُوا الْأَئِمَّةَ مَحْصُورِينَ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ

- ‌[فصل تابع رد ابن تيميَّة على كلام ابن المطهر عن الإمامة عند أهل السنة]

- ‌[فصل كلام الرافضي على قول أهل السنة بالقياس وأخذهم بالرأي والرد عليه]

- ‌[فصل كلام الرافضي على أمور فقهية شنيعة يقول بها أهل السنة في زعمه والرد عليه]

- ‌[الكلام على زعم الرافضي بأن أهل السنة يبيحون النبيذ]

- ‌[الكلام على قول الرافضي بإباحة أهل السنة للصلاة في جلد الكلب]

- ‌[الكلام على زعم الرافضي بأن أهل السنة أباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة]

- ‌[التعليق على مزاعمه عن مقالة أهل السنة في الحدود]

- ‌[الرد على مزاعمه عن إباحة أهل السنة لأكل الكلب واللواط والملاهي]

- ‌[فصل قول الرافضي " الوجه الثاني في وجوب اتباع مذهب الإمامية أنها الفرقة الناجية " والرد عليه]

- ‌[فصل قول الرافضي " الوجه الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم " والرد عليه]

الفصل: ‌[فصل كلام الرافضي على دلالة العقل عنده على الأفعال الاختيارية والرد عليه]

[فصل كلام الرافضي على دلالة العقل عنده على الأفعال الاختيارية والرد عليه]

فَصْلٌ

قَالَ الرَّافِضِيُّ (1) : وَمِنْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ (2) الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ (3) فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِاسْتِنَادِ أَفْعَالِنَا الِاخْتِيَارِيَّةِ (4) إِلَيْنَا، وَوُقُوعِهَا بِحَسَبِ إِرَادَتِنَا، فَإِذَا أَرَدْنَا الْحَرَكَةَ (5) يَمْنَةً لَمْ تَقَعْ يَسْرَةً وَبِالْعَكْسِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ عَيْنُ (6) السَّفْسَطَةِ.

فَيُقَالُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَائِلُونَ بِهَذَا، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ لَهَا وَمُحْدِثٌ لَهَا. وَإِنَّمَا يُنَازِعُ (7) فِي هَذَا مِنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلًا لِلْعَبْدِ، وَلَا لِقُدْرَتِهِ تَأْثِيرٌ فِيهَا، وَلَا أَحْدَثَهَا الْعَبْدُ. وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (8) لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ فَإِنَّ (9) اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَصَفَ الْعَبْدَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ وَيَفْعَلُ.

(1) الرَّافِضِيُّ: زِيَادَةٌ فِي (ع) ، وَالْكَلَامُ التَّالِي فِي (ك) ، ص [0 - 9] 0 (م) .

(2)

ك: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ.

(3)

أ: فَالْمَعْقُولُ.

(4)

أ، ب: الضَّرُورِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(5)

أ: فَإِذَا أَرَادَ بِالْحَرَكَةِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(6)

أ: غَيْرُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(7)

أ، ب: تَنَازَعَ.

(8)

لَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(9)

أ، ب: بِأَنَّ.

ص: 235

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: بَلِ النُّفَاةُ خَالَفُوا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ (1) فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ مُرِيدًا فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا (2) أَمْرٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُحْدِثٌ (3) وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُ لَهُ مُحْدِثٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُحْدِثٌ لَزِمَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُحْدِثٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَبْدَ أَوِ الرَّبَّ تَعَالَى أَوْ غَيْرَهُمَا.

فَإِنْ كَانَ هُوَ (4) الْعَبْدَ فَالْقَوْلُ فِي إِحْدَاثِهِ لِتِلْكَ الْفَاعِلِيَّةِ كَالْقَوْلِ فِي إِحْدَاثِ أَحْدَاثِهَا، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ هُنَا بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ بِهِ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْعَبْدِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مُرِيدًا فَاعِلًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِهَذَا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ فَيَقُولُونَ (5) : إِنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ وَاللَّهُ خَلَقَهُ فَاعِلًا (6) وَالْعَبْدُ مُرِيدٌ مُخْتَارٌ وَاللَّهُ جَعَلَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْإِنْسَانِ 29، 30] وَقَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ التَّكْوِيرِ 28، 29] .

(1) ع: الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ.

(2)

فَاعِلًا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .

(3)

لَهُ مُحْدِثٌ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(4)

هُوَ: زِيَادَةٌ فِي (ع) .

(5)

ع: بِهَذَا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبِذَلِكَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ فَيَقُولُونَ.

(6)

أ: وَاللَّهُ خَالِقُهُ فَاعِلٌ، ب: وَاللَّهُ خَالِقُ فِعْلِهِ.

ص: 236

فَأَثْبَتَ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ، وَجَعَلَهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْخَلِيلُ صلى الله عليه وسلم:(1){رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 40] .

وَقَالَ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 37] .

وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ (2) : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ 128] .

وَقَالَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 73] .

وَقَالَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [سُورَةُ الْقَصَصِ 41] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَدَلِيلُهُمْ (3) اقْتَضَى مَشِيئَةَ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ (4) وَهَذَا الدَّلِيلُ اقْتَضَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ وَالِاخْتِيَارَ حَصَلَتْ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فَكِلَا (5) الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ.

فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا مَشِيئَةَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ لَا قُدْرَةَ [لَهُ](6) أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوْ لَا (7) أَثَرَ لِقُدْرَتِهِ فِيهِ وَلَمْ يُحْدِثْ تَصَرُّفَاتِهِ (8) فَقَدْ أَنْكَرَ مُوجِبَ الضَّرُورَةِ الْأُولَى.

(1) صلى الله عليه وسلم: لَيْسَتْ فِي (ع) .

(2)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ: لَيْسَتْ فِي (ع) .

(3)

عِنْدَ كَلِمَةِ " فَدَلِيلُهُمْ " يَنْتَهِي السَّقْطُ الطَّوِيلُ فِي نُسْخَتَيْ (ن) ، (م) الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، ص [0 - 9] 29

(4)

ع: فَعَلَ بِالِاخْتِيَارِ.

(5)

أ، ب: وَكِلَا.

(6)

لَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(7)

ن، م، ع: وَلَا.

(8)

ب فَقَطْ: وَلَمْ تُحْدِثْ تَصَرُّفًا بِهِ.

ص: 237

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ إِرَادَتَهُ وَفِعْلَهُ حَدَثَتْ بِغَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَبْدَ أَحْدَثَ ذَلِكَ وَحَالُهُ عِنْدَ إِحْدَاثِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ إِحْدَاثِهِ، بَلْ خَصَّ أَحَدَ الزَّمَانَيْنِ بِالْإِحْدَاثِ مِنْ غَيْرِ (1) سَبَبٍ اقْتَضَى تَخْصِيصَهُ، وَأَنَّهُ صَارَ مُرِيدًا فَاعِلًا مُحْدِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ (2) ، مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا فَاعِلٍ.

وَإِذَا قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تُعَلَّلُ كَانَ [هَذَا](3) كَلَامًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا: إِنِ الْبَارِئَ يُحْدِثُ إِرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ بِلَا سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهَا وَلَا إِرَادَةٍ فَارْتَكَبُوا (4) ثَلَاثَ مُحَالَاتٍ: حُدُوثَ حَادِثٍ (5) بِلَا إِرَادَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَحُدُوثَ حَادِثٍ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَقِيَامَ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا لَا فِي مَحَلٍّ.

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: كَوْنُهُ مُرِيدًا أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ (6) لَا يَتَرَجَّحُ [وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَا يَتَرَجَّحُ](7) أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ تَامٍّ.

وَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِيُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ تَنَاقَضٌ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ (8) .

(1) م: مِنْ دُونِ.

(2)

كَذَلِكَ، سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) ، (م) .

(3)

هَذَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(4)

ن، م: فَأَثْبَتُوا.

(5)

أ، ب: حَوَادِثَ.

(6)

وَالْمُمْكِنُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(7)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(8)

أ: فِي نَفْسِهِ يُنَاقِضُ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، ب: يُنَاقِضُ مَسْأَلَةَ حُدُوثِ الْعَالَمِ، ع: فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ تَنَاقُضٌ فِي نَفْسِ حُدُوثِ الْعَالَمِ.

ص: 238

وَالْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَذَا الْإِمَامِيُّ مَذْكُورَةٌ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ (1) وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَمَا أَنَّ الْأُخْرَى صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ الْقَوْلُ (2) بِهِمَا جَمِيعًا، [مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ (3) الْقَدَرِيَّةِ يَقُولُونَ: الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِأَفْعَالِهِ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ، وَهَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ أَبَا الْحُسَيْنِ.

وَأَبُو الْحُسَيْنِ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي وَالْقُدْرَةِ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، وَلِهَذَا يُعَبِّرُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

لَكِنْ إِذَا قِيلَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ.

وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ يَقُولُ: خَلَقَ الْفِعْلَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْقُدْرَةِ أَثَرًا فِي مَقْدُورِهَا كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ] (4) .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ اللَّهُ مُحْدِثًا لَهَا وَالْعَبْدُ مُحْدِثًا لَهَا.

قِيلَ: إِحْدَاثُ اللَّهِ لَهَا بِمَعْنَى أَنْ خَلَقَهَا [مُنْفَصِلَةً عَنْهُ قَائِمَةً بِالْعَبْدِ](5) فَجَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا لَهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ (6) الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ [تَعَالَى] ،

(1) ن: مَأْخُوذَةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، م: مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ.

(2)

ن، م: فَصَحَّ الْقَوْلُ.

(3)

عِنْدَ عِبَارَةِ مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْقَدَرِيَّةِ، يُوجَدُ سَقْطٌ فِي نُسْخَتَيْ (ن) ، (م) .

(4)

هُنَا يَنْتَهِي السَّقْطُ فِي نُسْخَتَيْ (ن) ، (م) .

(5)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(6)

ن، م: بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

ص: 239

وَإِحْدَاثُ الْعَبْدِ لَهَا (1) بِمَعْنَى أَنَّهُ حَدَثَ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ [الْقَائِمُ بِهِ](2) بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ.

وَكُلٌّ مِنَ الْإِحْدَاثَيْنِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ وَجِهَةُ الْإِضَافَةِ مُخْتَلِفَةٌ [فَمَا أَحْدَثَهُ الرَّبُّ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهُ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِي أَحْدَثَهُ قَائِمٌ بِهِ](3) فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ فَيُحْدِثَ (4) قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَالْفِعْلَ الَّذِي كَانَ بِذَلِكَ وَإِذَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَاعِلًا وَجَبَ (5) وُجُودُ ذَلِكَ.

فَخَلْقُ الرَّبِّ لِفِعْلِ الْعَبْدِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْفِعْلِ، وَكَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لَهُ، بَلْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ بِأَسْبَابِهَا هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ (6) .

[فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ هِيَ فِعْلٌ لِلرَّبِّ وَفِعْلٌ لِلْعَبْدِ.

قِيلَ: مَنْ قَالَ هِيَ فِعْلٌ لَهُمَا بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ فِعْلَ الرَّبِّ هُوَ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّهَا فِعْلٌ لَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُهُ بِشَيْءٍ يُعْقَلُ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهَا مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ

(1) ن، م: الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ بِغَيْرِ إِحْدَاثِ الْعَبْدِ لَهَا.

(2)

الْقَائِمُ بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(3)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(4)

ع: فَتَحْدُثَ.

(5)

أ، ب: وَإِذَا جَعَلَهُ الْفَاعِلَ.

(6)

بَعْدَ عِبَارَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ يُوجَدُ سَقْطٌ طَوِيلٌ فِي نُسْخَتَيْ (ن) ، (م) سَأُشِيرُ إِلَى نِهَايَتِهِ فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ص: 240

لَا فِعْلَ لَهُ إِذَا فَعَلَهُ مَا قَامَ بِهِ وَالْفِعْلُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، فَيَقُولُونَ إِنَّهَا مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ لَا فِعْلَ لَهُ (1) وَإِنَّهَا فِعْلٌ لِلْعَبْدِ.

كَمَا يَقُولُونَ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ: إِنَّهَا قُدْرَةٌ لِلْعَبْدِ مَقْدُورَةٌ لِلرَّبِّ لَا إِنَّهَا نَفْسُ قُدْرَةِ الرَّبِّ.

وَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْعَبْدِ هِيَ إِرَادَةٌ لِلْعَبْدِ مُرَادَةٌ لِلرَّبِّ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِ الْعَبْدِ هِيَ صِفَاتٌ لَهُ وَهِيَ (2) مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ مَخْلُوقَةٌ لَهُ لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ لَهُ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ كَثِيرًا مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَيْهِ وَأَضَافَهُ إِلَى بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِمَّا أَنْ يُضِيفَ عَيْنَهُ أَوْ نَظِيرَهُ.

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [سُورَةُ الزُّمَرِ 42]] .

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ 60] .

مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ 11] .

وَقَوْلِهِ: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ 61] .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرِّيحِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [سُورَةُ الْأَحْقَافِ: 25] .

(1) عِبَارَةُ " لَا فِعْلَ لَهُ "، سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .

(2)

ع: هِيَ صِفَاتُ الْعَبْدِ وَهِيَ.

ص: 241

وَقَالَ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ 137] .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ 9] .

وَقَالَ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ 16] .

وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [سُورَةُ يُوسُفَ 3] .

وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سُورَةُ النَّمْلِ 76] .

وَقَالَ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 127] .

أَيْ: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ.

وَقَالَ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 5] ، فَأَضَافَ الْإِنْبَاتَ (1) إِلَيْهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [سُورَةُ الْحِجْرِ 19] .

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ - يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سُورَةُ النَّحْلِ 10، 11] .

وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [سُورَةُ يُونُسَ 24] .

(1) أ: النَّبَاتَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

ص: 242

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [سُورَةُ الْكَهْفِ 7] .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ 6] .

وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 4] .

وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 2] .

وَقَالَ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 193] .

وَقَالَ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 105] .

وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 18] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 21]، وَقَالَ سُلَيْمَانُ عليه الصلاة والسلام:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 16] .

وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 23] ، فَهُمْ نَطَقُوا وَهُوَ أَنْطَقَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.

فَإِذَا كَانَ [تبارك وتعالى](1) قَدْ جَعَلَ فِي الْجَمَادَاتِ قُوًى تَفْعَلُ، وَقَدْ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِأَفْعَالِهَا، فَلَأَنْ لَا

(1) تبارك وتعالى لَيْسَتْ فِي (ع) .

ص: 243

يُمْنَعُ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَهُ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ لَا تُنَازِعُ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ مَا فِي الْجَمَادَاتِ مِنَ الْقُوَى وَالْحَرَكَاتِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ (1) أَنَّ الْأَرْضَ تُنْبِتُ، وَأَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 2] .

وَالرِّيحُ تَنْقُلُ السَّحَابَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 57] ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّيحَ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَاءَ طَغَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [سُورَةُ الْحَاقَّةِ: 11] .

بَلْ قَدْ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَسْبِيحِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 18] .

وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَمْنَعُ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً دَالَّةً عَلَى الْخَالِقِ وَأَنَّ الْمُرَادَ شَهَادَتُهَا بِلِسَانِ الْحَالِ فَإِنَّ هَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سُورَةُ سَبَأٍ: 10] .

وَقَالَ: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ - وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [سُورَةُ ص: 18، 19] .

(1) ع: وَاللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ.

ص: 244

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجِبَالَ تَئَوِّبُ مَعَهُ وَالطَّيْرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَخَّرَهَا تُسَبِّحُ.

وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [سُورَةُ النُّورِ: 41] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 44] .

وَقَالَ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [سُورَةُ الرَّعْدِ: 15] .

وَقَالَ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 74] .

وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى سُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَسْبِيحِهَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (1) .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ جَعْلِ ذَلِكَ فِعْلًا لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ فِي الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الرَّبِّ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ إِذَا جَعَلْنَا اللَّهَ فَاعِلًا وَجَبَ وُجُودُ ذَلِكَ الْفِعْلِ (2) وَخَلْقُ الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ وَجُودَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ يَقْتَضِي الْجَبْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ.

(1) وَهُوَ فِي " رِسَالَةٌ فِي قُنُوتِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى " وَهِيَ الَّتِي حَقَّقْتُهَا وَنَشَرْتُهَا فِي الْمَجْمُوعَةِ الْأُولَى مِنْ " جَامِعِ الرَّسَائِلِ " ص [0 - 9]- 45 ط الْمَدَنِيِّ الْقَاهِرَةِ، 1389 1969.

(2)

الْفِعْلِ: زِيَادَةٌ فِي (ب) فَقَطْ.

ص: 245

قِيلَ: لَفْظُ الْجَبْرِ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَاللَّفْظُ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ إِذَا ثَبَتَ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَهِيَ أَلْفَاظُ النُّصُوصِ، فَتِلْكَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَعَانِيَهَا، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُحْدَثَةُ مِثْلُ لَفْظِ الْجَبْرِ فَهُوَ مِثْلُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلِهَذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى مُطْلَقًا، فَلَا يُقَالُ مُطْلَقًا: جَبَرَ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يُجْبِرْ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ.

وَمِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ (1) مَنْ أَطْلَقَ نَفْيَهُ، كَالزُّبَيْدِيِّ صَاحِبِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا نَظَرٌ إِلَى الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجَبْرِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى مَا يُفْعَلُ بِدُونِ إِرَادَةِ الْمَجْبُورِ بَلْ مَعَ كَرَاهَتِهِ كَمَا يُجْبِرُ الْأَبُ ابْنَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْلُقُ فِعْلَ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، بَلْ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا، وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ.

وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: اللَّهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ (2) مِنْ أَنْ يُجْبِرَ، إِنَّمَا يُجْبِرُ غَيْرَهُ مَنْ لَا (3) يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِ مُخْتَارًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْعَبْدَ مُخْتَارًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِجْبَارِهِ.

(1) ع: السُّنَّةِ.

(2)

وَأَجَلُّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .

(3)

لَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) .

ص: 246

وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَقُولُ جَبَلَ وَلَا نَقُولُ جَبَرَ، لِأَنَّ الْجَبْلَ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: إِنَّ فِيكَ خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ» (1) .

فَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْجَبْرِ (2) نَفْسُ فِعْلِ مَا يَشَاؤُهُ، وَإِنْ خَلَقَ اخْتِيَارَ الْعَبْدِ؛ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرْظِيُّ: الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَهُ (3) .

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ: اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ، وَسَامِكَ الْمَسْمُوكَاتِ، جَبَّارَ (4) الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا (5) شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا.

فَإِذَا أُرِيدَ بِالْجَبْرِ هَذَا فَهَذَا حَقٌّ (6) وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّ الْإِطْلَاقَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَوَّلُ، فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ، فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: أَنَا أُرِيدُ بِالْجَبْرِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ جَعْلِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ (7) فَاعِلًا قَادِرًا

(1) مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا الْجُزْءِ، ص [0 - 9] 6

(2)

ع: فَقَدْ يُرَادُ بِالْجَبْرِ.

(3)

أ، ب: عَلَى مَا أَرَادَ.

(4)

ع: جَابِرَ.

(5)

ع: فِطْرَاتِهَا.

(6)

أ، ب: فَالْجَبْرُ حَقٌّ.

(7)

أ، ب: الْعَبْدَ.

ص: 247

يَسْتَلْزِمُ الْجَبْرَ، وَنَفْسَ كَوْنِ الدَّاعِي وَالْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْفِعْلِ " جَبَرَ ".

قِيلَ: هَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَلَا دَلِيلَ لَكَ عَلَى إِبْطَالِهِ، وَحُذَّاقُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ يُسَلِّمُونَ هَذَا فَيُسَلِّمُونَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ.

وَصَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ قَدْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ هَذَا إِنْكَارُ الْجَبْرِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَلِهَذَا (1) نُسِبَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى التَّنَاقُضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ حُذَّاقِ الْمُعْتَزِلَةِ إِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ مَعَ الدَّاعِي وَالْقُدْرَةِ، يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ، وَسَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الدَّاعِيَ وَالْقُدْرَةَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ (2) اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

فَحُذَّاقُ الْمُعْتَزِلَةِ سَلَّمُوا الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَمَنَعُوا النَّتِيجَةَ، وَالطُّوسَيُّ الَّذِي قَدْ عَظَّمَهُ هَذَا الْإِمَامِيُّ ذَكَرَ فِي تَلْخِيصِ الْمُحَصَّلِ لَمَّا ذَكَرَ احْتِجَاجَ الرَّازِيِّ: بِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَبَطَلَ (3) قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ (4) يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ

(1) أ، ب: وَبِهَذَا.

(2)

يَكُونَ سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(3)

ب فَقَطْ: فَقَدْ بَطَلَ.

(4)

يَقُولُ الرَّازِيُّ فِي " الْمُحَصِّلِ " ص 141: وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ لَا عَلَى نَعْتِ الْإِيجَابِ بَلْ عَلَى صِفَةِ الِاخْتِيَارِ. لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ حَالَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَهُ التَّرْكُ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّرْكُ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَفْتَقِرَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ إِلَى مُرَجِّحٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَجْوِيزٌ لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، أَوْ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ، إِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَإِلَّا يَتَسَلْسَلُ، بَلْ يَنْتَهِي لَا مَحَالَةَ إِلَى مُرَجِّحٍ لَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَتَحَصَّلَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فَلْنَفْرِضْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْفِعْلُ تَارَةً، وَلَا يَحْصُلُ أُخْرَى، مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ إِلَى الْوَقْتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِالْحُصُولِ، وَوَقْتِ الْآخَرِ بِعَدَمِ الْحُصُولِ، يَكُونُ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ الْمُتَسَاوِي عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَحْصُلَ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْمُرَجِّحُ وَجَبَ الْفِعْلُ، وَمَتَى لَمْ يَحْصُلِ امْتَنَعَ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالِاخْتِيَارِ، فَهَذَا كَلَامٌ قَاطِعٌ.

ص: 248

الْجَوَازِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، فَاعْتَرَضَ (1) عَلَيْهِ الطُّوسِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ (2) فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْمُخْتَارَ مُتَمَكِّنٌ (3) مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ، (4) بِلَا مُرَجِّحٍ وَهُنَا حُكْمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ (5) مُحَالٌ، (6) ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ (7) وَامْتِنَاعِ عَدَمِ حُصُولِ الْأَثَرِ (8)، قَالَ: فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.

قَالَ (9) : وَذَلِكَ غَيْرُ وَارِدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ

(1) أ: الْمُعْتَرِضُ، ب: اعْتَرَضَ.

(2)

أ، ب: فَقَالَ إِنَّهُ ذَكَرَ.

(3)

أ، ب: مُمْكِنٌ

(4)

عَلَى الْآخَرِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(5)

أ، ب: ذَاكَ.

(6)

لَمْ أَجِدْ هَذَا الْكَلَامَ فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ " لِلطُّوسِيِّ مَعَ طُولِ بَحْثِي عَنْهُ، وَلَكِنَّ الطُّوسِيَّ يُقَرِّرُ أَنَّ الرَّازِيَّ مُتَنَاقِضٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ص [0 - 9] 22 عِنْدَ تَعْلِيقِهِ عَلَى كَلَامِ الرَّازِّيِّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ، إِذْ يَقُولُ: وَقَوْلُهُ: الْمُخَصَّصُ لَيْسَ الْقُدْرَةَ، مُنَاقِضٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِيمَا مَرَّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ يُمْكِنُهُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.

(7)

أ، ب: الْمُرَجِّحِ.

(8)

ع: الْمُؤَثِّرِ.

(9)

لَمْ أَجِدْ هَذَا الْكَلَامَ لِلطُّوسِيِّ فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ "، وَلَعَلَّهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ لَهُ، وَانْظُرْ: كِتَابَ (فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَآرَاؤُهُ الْكَلَامِيَّةُ وَالْفَلْسَفِيَّةُ) ، لِلْأُسْتَاذِ مُحَمَّدِ صَالِحٍ الزَّرْكَانِ رحمه الله ص [0 - 9] 29 - 536 ط. دَارِ الْفِكْرِ، بَيْرُوتَ، بِدُونِ تَارِيخٍ.

ص: 249

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ رَجُلُ الْمُعْتَزِلَةِ (1) وَقَالَ هُنَا (2) : إِنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ يُوجِبَانِ وُجُودَ الْمَقْدُورِ فَكَيْفَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ هُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَحْدَهَا وَوُجُوبُ وُقُوعِ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ، فَمَتَى حَصَلَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ (3) وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَجَبَ الْفِعْلُ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلِ امْتَنَعَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَافٍ لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَحْدَهَا، فَإِذًا اللُّزُومُ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ قَاطِعٍ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ.

قُلْتُ: الْقَوْلُ الَّذِي قَطَعَ بُطْلَانَهُ الرَّازِيُّ هُوَ الْقَوْلُ (4) الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي بَلِ الْقَادِرُ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ (5) عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَيُحْدِثُ الدَّاعِي لَهُ الْفِعْلَ كَالْإِرَادَةِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَادِرًا مَعَ اسْتِوَاءِ الْقُدْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ وَعَدَمِهِ.

وَالدَّاعِي قَدْ يُفَسَّرُ بِالْعِلْمِ أَوِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الظَّنِّ (6) وَقَدْ يُفَسَّرُ بِالْإِرَادَةِ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِالْمَجْمُوعِ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُرَادُ مِمَّا يَقْتَضِي إِرَادَتَهُ.

وَالرَّازِيُّ يَقُولُ: إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الرَّازِيَّ ذَكَرَ فِي الْأَقْوَالِ

(1) ع: إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

(2)

ع: وَهُنَا قَالَ.

(3)

ع: فَمَتَى حَصَلَ حَصَلَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ.

(4)

الْقَوْلُ سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(5)

أ: أَحَدَ مَقْدُورَاتِهِ.

(6)

ع: وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ.

ص: 250

قَوْلَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّاعِي، فَإِذَا حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ وَانْضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِي صَارَ مَجْمُوعُهُمَا عِلَّةً لِوُجُوبِ الْفِعْلِ.

قَالَ (1) : وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْغُلُوَّ فِي الِاعْتِزَالِ، حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ ضَرُورِيٌّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّاعِي، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، فَحَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَرْجُوحُ وَجَبَ الرَّاجِحُ لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنِ النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا عَيْنُ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ (2) وَاجِبُ الْوُقُوعِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُرَجِّحِ، وَمُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَانَ عَظِيمَ الْغُلُوِّ فِي الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُ عَظِيمُ الْغُلُوِّ فِي الِاعْتِزَالِ.

قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ (3) قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّتِهِمْ (4) وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي خَازِمٍ (5) ابْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَقَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى (6) قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْأَسْبَابِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَأْثِيرٌ فِي الْفِعْلِ.

(1) لَمْ أَتَمَكَّنْ مِنَ الْعُثُورِ عَلَى النَّصِّ التَّالِي مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ فِيمَا هُوَ مَطْبُوعٌ مِنْ كُتُبِهِ.

(2)

أ، ب: لِأَنَّ الْمُرَادَ.

(3)

هُوَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(4)

ع: وَأَئِمَّتِهَا.

(5)

فِي النُّسَخِ الثَّلَاثِ: أَبِي حَازِمٍ، وَهُوَ حَازِمٌ.

(6)

عَلَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

ص: 251

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا تَأْثِيرَ لَهَا كَالْأَشْعَرِيِّ، فَإِذَا فَسَّرَ الْوُجُوبَ بِالْوُجُوبِ الْعَادِيِّ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ، وَإِنْ فَسَّرَ (1) بِالْعَقْلِيِّ امْتَنَعَ.

وَأَمَّا لَفْظُ الْجَبْرِ فَالنِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ فِي اللُّغَةِ ظَاهِرًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلِهَذَا أَنْكَرَ السَّلَفُ إِطْلَاقَهُ، فَإِذَا قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: هَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْمُخْتَارِ إِلَّا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ فَعَلَ هَذَا وَإِذَا شَاءَ فَعَلَ هَذَا.

قِيلَ لَهُمْ: هَذَا مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ يُقَالُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ فَاعِلًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا مَعَ كَوْنِهِ فَاعِلًا، وَكَذَلِكَ حَالُ كَوْنِهِ تَارِكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا مَعَ كَوْنِهِ تَارِكًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ ضِدَّانِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْتَنِعٌ، وَالْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ عَلَى مُمْتَنِعٍ.

فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَنَا قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، أَيْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ فِي حَالِ عَدَمِ التَّرْكِ، وَيَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَ فِي حَالِ عَدَمِ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْقَادِرُ (2) إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشَاءَ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ مَعًا، بَلْ حَالَ مَشِيئَتِهِ لِلْفِعْلِ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لِلتَّرْكِ (3 وَحَالَ مَشِيئَتِهِ لِلتَّرْكِ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ (3) 3) .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقَادِرُ الَّذِي (4) إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ حَالَ كَوْنِهِ

(1) ب فَقَطْ: فَسَّرَهُ.

(2)

الْقَادِرُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(3)

(3 - 3) سَاقِطٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(4)

الَّذِي: سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .

ص: 252

شَاءَ الْفِعْلَ (1) مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ، وَحَالَ وُجُودِ الْفِعْلِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلتَّرْكِ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى وُجُودِ التَّرْكِ مَعَ الْفِعْلِ، بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ (2) بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْفِعْلِ تَارِكًا لَهُ، فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى التَّرْكِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي مِنْ وُجُودِ الْفِعْلِ، لَا حَالَ وُجُودِ الْفِعْلِ.

وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: (3) هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ وَاجِبًا لَا مُمْكِنًا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ (4) وَاجِبًا بِغَيْرِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، فَهَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا، وَفِي حَالِ وُجُودِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا.

وَكُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ (5) ، فَوَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ لَهُ، مَعَ أَنَّ مَا شَاءَهُ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ مَفْعُولٌ لَهُ، وَكَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ يُمْكِنُ (6) أَنْ يُوجَدَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يُوجَدَ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ صَارَ مَوْجُودًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، (* وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْدَمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَدَلًا عَنْ عَدَمِهِ وَعَدَمُهُ بَدَلٌ عَنْ وُجُودِهِ

(1) ع: شَاءَ لِلْفِعْلِ.

(2)

ب فَقَطْ عَلَى التَّرْكِ.

(3)

ب فَقَطْ: قَائِلٌ.

(4)

أ: فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَصِيرُ، ب: فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَصِيرُ.

(5)

ع: فَإِنَّ مَا شَاءَ كَانَ.

(6)

أفَقَطْ: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ.

ص: 253

فَإِذَا وُجِدَ كَانَ وُجُودُهُ مَا دَامَ مَوْجُودًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ، وَإِذَا سُمِّيَ مُمْكِنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَمَفْعُولٌ وَحَادِثٌ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَالَ وُجُودِهِ يُمْكِنُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِهِ *) (1) فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ (2) أَنَّهُ حَالَ وُجُودِهِ يُمْكِنُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

وَإِنْ أَرَادَ (3) أَنَّهُ يُمْكِنُ عَدَمُهُ بَعْدَ هَذَا الْوُجُودِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ وُجُوبَ وَجُودِهِ بِغَيْرِهِ مَا دَامَ مَوْجُودًا وَهَذَا مَوْجُودٌ (4) بِالْقَادِرِ لَا بِنَفَسِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ (5) فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمَعْنَى كَوْنِهِ (6) يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا حَالَ وُجُودِهِ.

وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ أُشْكِلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ، بَلْ وَفِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الرَّبِّ قَادِرًا مُخْتَارًا مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَالْقَدَرُ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: (7) الْقَدَرُ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ فَقَدْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى (8) وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَلِهَذَا جَعَلَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَخَصَّ وَصْفِ الرَّبِّ تبارك وتعالى قُدْرَتَهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ.

(1) الْكَلَامُ بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ فِي (ع) فَقَطْ.

(2)

ع: فَإِذَا أُرِيدَ.

(3)

ب فَقَطْ: وَإِنْ أُرِيدَ.

(4)

أ، ب: وَهَذَا وُجُودٌ.

(5)

ب: فَهُوَ.

(6)

ع: لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ.

(7)

ع: أَحْمَدُ رضي الله عنه.

(8)

تبارك وتعالى: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

ص: 254

وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْقَادِرُ (1) هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنْ شَاءَ وُجُودَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي وَإِنْ شَاءَ التَّرْكَ فِيهِ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا جَمِيعًا، فَأَمَّا حَالَ الْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ التُّرْكُ، وَحَالَ التُّرْكِ فَيَمْتَنِعُ الْفِعْلُ، وَحِينَئِذٍ فَالْفِعْلُ وَاجِبٌ حَالَ وُجُودِهِ لَا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ (2) مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَحَالَ التَّخْيِيرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَحَالَ وُجُوبِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا.

نَعَمْ قَدْ يَكُونُ حَالَ الْفِعْلِ شَائِيًا لِلتَّرْكِ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَهَذَا تَرْكٌ ثَانٍ لَيْسَ (3) هُوَ تَرْكُ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَالِ وُجُودِهِ، فَالْقَادِرُ قَطُّ لَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي حَالِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا (4 إِلَّا بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي وَإِلَّا فَفِي حَالِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا لَا (4) 4) يَكُونُ (5) مُخَيَّرًا بَيْنَ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ مَعَ وُجُودِهِ، وَحَالَمَا يَكُونُ الْفَاعِلُ فَاعِلًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْكُ مَقْدُورًا لَهُ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الضِّدَّيْنِ قُدْرَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَيْسَتْ قُدْرَةً عَلَى جَمْعِهِمَا، (6) وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْوِيدِ الثَّوْبِ وَتَبْيِيضِهِ وَيُسَافِرُ إِلَى الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَيَذْهَبُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْأُخْتَ وَهَذِهِ الْأُخْتَ (7) .

(1) أ: الْقَدَرُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(2)

ع: الَّتِي كَانَ.

(3)

أ: وَهَذَا تَرْكٌ بِأَنْ لَيْسَ، ب: وَهَذَا التَّرْكُ لَيْسَ.

(4)

(4 - 4) سَاقِطٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(5)

ب فَقَطْ: فَلَا يَكُونُ.

(6)

ع: عَلَى جَمِيعِهَا.

(7)

ع: وَهَذِهِ الْأُخْتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعِنْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْتَهِي السَّقْطُ الطَّوِيلُ فِي نُسْخَتَيْ (ن) ، (م) وَهُوَ الَّذِي بَدَأَ فِي ص [0 - 9]40.

ص: 255