المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كلام الرافضي على يوم مقتل الحسين رضي الله عنه والرد عليه] - منهاج السنة النبوية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كلام الرافضي على خصائص الأئمة الاثنى عشر]

- ‌[الجواب على قول الرافضي إن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت]

- ‌[كلام الرافضي عن علي رضي الله عنه " وَظَهَرَتْ مِنْهُ مُعْجِزَاتٌ كَثِيرَةٌ " والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي عن زين العابدين ومحمد الباقر والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي عن موسى بن جعفر والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا والرد عليه]

- ‌[كَلَامُ الرَّافِضِيُّ على مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوَادُ والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على علي الهادي ولد محمد بن علي الجواد]

- ‌[كلام الرافضي على الْحَسَن الْعَسْكَرِيّ والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على محمد بن الحسن المهدي عندهم والرد عليه]

- ‌[الجواب عن كلام الرافضي على حديث المهدي من وجوه]

- ‌[كلام الرافضي على عصمة الأئمة والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على اختيار الناس لمذهب أهل السنة طلبا للدنيا والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على تدين بعض أهل السنة بمذهب الإمامية في الباطن والرد عليه]

- ‌[كلام الرَّافِضِيُّ على وُجُوبِ اتِّبَاعِ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى التَّعَصُّبِ فِي غَيْرِ الْحَقِّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ]

- ‌[زعم الرافضي بأن المنصور ابتدع ذكر الخلفاء الراشدين في خطب الجمعة]

- ‌[الجواب على زعم الرافضي بأن المنصور ابتدع ذكر الخلفاء الراشدين في خطب الجمعة من وجوه]

- ‌[كلام الرافضي على مسح الرجلين في الوضوء بدلا من غسلهما والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على متعة الحج والنساء والتعليق على كلامه]

- ‌[كلام الرافضي على مَنْعِ أَبي بَكْرٍ فَاطِمَةَ إِرْثَهَا]

- ‌[الْجَوَابُ على كلام الرافضي مَنْعَ أَبي بَكْرٍ فَاطِمَةَ إِرْثَهَا مِنْ وُجُوهٍ]

- ‌[كلام الرافضي على منع فاطمة من إرث فدك]

- ‌[كلام الرافضي على أبي ذر الغفاري وأبي بكر الصديق والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه " وَسَمَّوْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ وَفَاتِهِ عِنْدَهُمْ " والرد عليه]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن النبي قال لعلي إِنِ الْمَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِي أَوْ بِكَ]

- ‌[الرد على قول الرافضي أن النبي أَمَّرَ أُسَامَةَ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِينَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ]

- ‌[زعم الرافضي أن رسول الله سمى عليا فاروق أمته والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على خديجة وعائشة رضي الله عنهما والجواب عليه]

- ‌[كلام الرافضي على عائشة رضي الله عنها أنها أذاعت سر رسول الله وخالفت أمر الله بالخروج على علي والرد عليه]

- ‌[زعم الرافضي أن الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ وجوابه من وجوه]

- ‌[الرد على قوله إن عائشة كانت تأمر بقتل عثمان من وجوه]

- ‌[كلام الرافضي على عائشة مع كلامه على معاوية والرد عليه]

- ‌[مزاعم الرافضي عن معاوية رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الرد على مزاعم الرافضي عن معاوية رضي الله عنه " وَسَمَّوْهُ كَاتِبَ الْوَحْيِ وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ كَلِمَةً

- ‌[مزاعم الرافضي عن معاوية بقوله " وَكَانَ بِالْيَمَنِ يَوْمَ الْفَتْحِ يَطْعَنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ

- ‌[الرد على مزاعم الرافضي عن معاوية من أنه كَانَ بِالْيَمَنِ يَوْمَ الْفَتْحِ يَطْعَنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ]

- ‌[فصل وقوع أمور فِي الأمة بالتأويل في دِمَائِهَا وَأَمْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا]

- ‌[الراففضة يُعَظِّمُونَ الْأَمْرَ عَلَى مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وَيَمْدَحُونَ مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ]

- ‌[كلام الرافضي على خالد بن الوليد رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على خالد بن الوليد رضي الله عنه بأنه قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ صَبْرًا وَهُوَ مُسْلِمٌ وَعَرَّسَ بِامْرَأَتِهِ والرد عليه]

- ‌[عود الرافضي إلى الكلام على معاوية رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على يوم مقتل الحسين رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الناس في يزيد طرفان ووسط]

- ‌[النَّاسُ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنه طرفان ووسط]

- ‌[أحدث الناس بدعتين يوم عاشوراء بِدْعَةَ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ وبِدْعَةُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ]

- ‌[عود إلى الكلام على مقتل الحسين رضي الله عنه]

- ‌[مزاعم الرافضي عن يزيد بن معاوية]

- ‌[زعم الرافضي أن الإمامية ينزهون الله وملائكته وأنبياءه وأئمته]

الفصل: ‌[كلام الرافضي على يوم مقتل الحسين رضي الله عنه والرد عليه]

الْكَلَامِ (1) ، وَيَنْتَصِرَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ - مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ الظَّالِمِينَ (2) .

[كلام الرافضي على يوم مقتل الحسين رضي الله عنه والرد عليه]

(فَصْلٌ) .

قَالَ الرَّافِضِيُّ (3) : " وَتَمَادَى بَعْضُهُمْ فِي التَّعَصُّبِ حَتَّى اعْتَقَدَ (4) إِمَامَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ مَا صَدَرَ عَنْهُ (5) مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ مِنْ قَتْلِ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِ وَسَبْيِ نِسَائِهِ وَدَوَرَانِهِمْ (6) فِي الْبِلَادِ عَلَى الْجَمَالِ بِغَيْرِ قَتَبٍ، وَمَوْلَانَا زَيْنُ الْعَابِدِينَ مَغْلُولُ الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يَقْنَعُوا بِقَتْلِهِ حَتَّى رَضُّوا أَضْلَاعَهُ وَصَدْرَهُ بِالْخُيُولِ، وَحَمَلُوا رُءُوسَهُمْ عَلَى الْقَنَا مَعَ أَنَّ مَشَايِخَهُمْ رَوَوْا (7) أَنَّ يَوْمَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ مَطَرَتِ (8) السَّمَاءُ دَمًا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ فِي " شَرْحِ الْوَجِيزِ " وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ " أَنَّ الْحُمْرَةَ ظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَمْ تُرَ (9) قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا رُفِعَ حَجَرٌ فِي الدُّنْيَا

(1) ص: مِثْلَ أَصْحَابِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ; ب: مِثْلَ أَصْحَابِ هَذَا الْكَلَامِ.

(2)

و:. . وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ.

(3)

فِي (ك) ص [0 - 9] 16 (م) .

(4)

ك، ر: اعْتَقَدُوا.

(5)

أ، ب: مِنْهُ.

(6)

ك: الدَّوَرَانِ، وَسَائِرُ النُّسَخِ: وَذَرَارِيَّهُمْ.

(7)

ص، ب: رَأَوْا.

(8)

أ، ب: أَمْطَرَتْ ; ك: قَطَرَتْ.

(9)

ك: مُنْذُ يَوْمِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ عليه السلام وَلَمْ يُرَ.

ص: 517

إِلَّا وَتَحْتَهُ دَمٌ عَبِيطٌ، وَلَقَدْ مَطَرَتِ (1) السَّمَاءُ مَطَرًا بَقِيَ (2) أَثَرُهُ فِي الثِّيَابِ (3) مُدَّةً حَتَّى تَقَطَّعَتْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ قَاتِلِي (4) الْحُسَيْنِ إِلَّا وَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا (5) : إِمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِالْعَمَى (6) أَوْ سَوَادِ الْوَجْهِ أَوْ زَوَالِ الْمُلْكِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ.

وَكَانَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الْوَصِيَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ (8) فِي وَلَدَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَيَقُولُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ وَدِيعَتِي (9) عِنْدَكُمْ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [سُورَةُ الشُّورَى: 23] .

وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: " وَتَمَادَى بَعْضُهُمْ فِي التَّعَصُّبِ حَتَّى اعْتَقَدَ إِمَامَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ".

إِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ (10) ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَهَذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ (11) الْمُسْلِمِينَ.

(1) أ، ب: أَمْطَرَتْ، ك: وَقَدْ قَطَرَتْ.

(2)

ك: أَبْقَى

(3)

أ، و، ص، ر، هـ: النَّبَاتِ.

(4)

ب، ص: قَتَلَةِ ; وَفِي (و) : مِمَّنْ قَاتَلَ ; ن، م، ك: مَنْ قَاتَلَ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ.

(5)

فِي الدُّنْيَا: لَيْسَتْ فِي (ك) ز

(6)

ك: أَوِ الْعَمَى.

(7)

ك: وَقَدْ كَانَ.

(8)

ن، م: بِالْمُسْلِمِينَ.

(9)

وَدِيعَتِي: كَذَا فِي: (ب) ، (ك)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَلَدَيَّ.

(10)

ب، ص: الْمُهْتَدِينَ.

(11)

ب: الْعُلَمَاءِ

ص: 518

وَإِنِ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجُهَّالِ، كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنَ الْأَكْرَادِ (1) وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ يَزِيدَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (2) ، وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ [الْمَهْدِيِّينَ](3) ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يُحْكَى قَوْلُهُمْ. وَهُمْ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ خَيْرٌ مِنْ جُهَّالِ الشِّيعَةِ وَمَلَاحِدَتِهِمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ بَاطِنَ الشَّرِيعَةِ يُنَاقِضُ (4) ظَاهِرَهَا، كَمَا تَقُولُهُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ (5) وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ خَوَاصِّهِمُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ، وَيُنْكِرُونَ الْمَعَادَ، بَلْ غُلَاتُهُمْ يَجْحَدُونَ الصَّانِعَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَنَّهُ نَسَخَ شَرِيعَتَهُ، وَيَعْتَقِدُونَ فِي أَئِمَّتِهِمْ، كَالَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمَهْدِيَّ وَأَوْلَادِهِ، مِثْلِ الْمُعِزِّ وَالْحَاكِمِ وَأَمْثَالِهِمْ: أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ عِصْمَةَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ كُلِّهِمْ كَانَ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ; فَإِنَّ خُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ مُسْلِمُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَذُنُوبُهُمْ مِنْ جِنْسِ ذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسُوا كُفَّارًا مُنَافِقِينَ.

وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ هُمْ فِي الْبَاطِنِ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَمَنِ اعْتَقَدَ عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ كَانَ أَعْظَمَ جَهْلًا وَضَلَالًا مِمَّنِ اعْتَقَدَ عِصْمَةَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ

(1) ن، م: بَعْضِ جُهَّالِ الْأَكْرَادِ.

(2)

(ن) فَقَطْ: مِنَ الْأَنْصَارِ.

(3)

الْمَهْدِيِّينَ: سَاقِطَةٌ مِنْ: (ن) ، (م) .

(4)

أ، ب: يُخَالِفُ.

(5)

أ، ب: كَمَا تَقُولُهُ مَلَاحِدَةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ.

ص: 519

وَبَنِي الْعَبَّاسِ، بَلْ وَلَوِ اعْتَقَدَ مُعْتَقِدٌ عِصْمَةَ سَائِرِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَكَانَ خَيْرًا مِمَّنِ اعْتَقَدَ عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَهْلَ الَّذِي يُوجَدُ فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، يُوجَدُ فِي الشِّيعَةِ مِنَ الْجَهْلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ [مِنْهُ](1) ، لَا سِيَّمَا وَجَهْلُ أُولَئِكَ أَصْلُهُ جَهْلُ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ لَا جَهْلُ تَأْوِيلٍ وَبِدْعَةٍ. وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ جَهْلِهِمْ لَمْ يَكُنْ جَهْلَ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ، بَلْ جَهْلَ بِدْعَةٍ وَتَأْوِيلٍ وَقِلَّةِ عِلْمٍ بِالشَّرِيعَةِ.

وَلِهَذَا إِذَا تَبَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ [مُحَمَّدًا](2) رَسُولَهُ رَجَعُوا عَنْ جَهْلِهِمْ وَبِدْعَتِهِمْ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْمَلَاحِدَةِ فَيَعْلَمُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ مُنَاقِضٌ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُخَالِفُونَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ وَضَعَ نَامُوسًا بِعَقْلِهِ وَفَضِيلَتِهِ، فَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نَضَعَ نَامُوسًا كَمَا وَضَعَ نَامُوسًا، إِذْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ مُكْتَسَبَةً، وَهِيَ [عِنْدَهُمْ](3) مِنْ جِنْسِ فَضِيلَةِ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ، وَالشَّرَائِعُ مِنْ جِنْسِ سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ الْعَادِيَّةِ، فَيُجَوِّزُونَ أَنْ تُنْسَخَ شَرِيعَتُهُ بِشَرِيعَةٍ يَضَعُهَا الْوَاحِدُ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْعَامَّةِ، فَأَمَّا الْخَاصَّةُ إِذَا عَلِمُوا بَاطِنَهَا فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْوَاجِبَاتُ وَتُبَاحُ لَهُمُ الْمَحْظُورَاتُ.

وَهَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَلْ إِذَا قُدِّرَ قَوْمٌ يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ الْوَاحِدِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَوْ بَنِي الْعَبَّاسِ، أَوْ أَنَّهُ لَا ذُنُوبَ لَهُمْ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ

(1) مِنْهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.

(2)

مُحَمَّدًا: لَيْسَتْ فِي (ن) ، (م) .

(3)

عِنْدَهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

1 -

ص: 520

لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ الْحَسَنَاتِ وَيَتَجَاوَزُ لَهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ ; فَهَؤُلَاءِ مَعَ ضَلَالِهِمْ أَقَلُّ ضَلَالًا مِمَّنْ يَقُولُ بِإِمَامَةِ الْمُنْتَظَرِ وَالْعَسْكَرِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ. وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا (1) الْعِصْمَةَ وَالْإِمَامَةَ فِي مَعْدُومٍ أَوْ فِيمَنْ [لَيْسَ](2) لَهُ سُلْطَانٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرُ مِمَّا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُولَئِكَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْإِمَامَ لَهُ حَسَنَاتٌ (3) كَثِيرَةٌ تَغْمُرُ سَيِّئَاتِهِ. وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ حَسَنَاتٌ تَغْمُرُ سَيِّئَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُشْهَدُ بِهِ لِمُعَيَّنٍ إِلَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. أَمَّا كَوْنُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَدْيَنُ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ; بَلْ دَعْوَى الْعِصْمَةِ فِيمَنْ سِوَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم دَعْوَى بَاطِلَةٌ قَطْعًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ مَعَ جَهَالَتِهِمْ (4) هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَأَقَلُّ جَهْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ (5) ، وَأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ يَزِيدَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ جَهْلُهُ وَضَلَالُهُ أَعْظَمَ مِنْ جَهْلِ وَضَلَالِ مَنِ اعْتَقَدَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ فِي شُيُوخِ الشِّيعَةِ، لَا سِيَّمَا شُيُوخِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالنُّصَيْرِيَّةِ، الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَتْبَاعُهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ.

(1)(ن) فَقَطْ: إِنِ اعْتَقَدُوا.

(2)

لَيْسَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(3)

أ، ب: أَنَّ لِلْإِمَامِ حَسَنَاتٍ.

(4)

مَعَ جَهَالَتِهِمْ: كَذَا فِي (أ)، (ب) . وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: مَعَ جَهْلٍ فِيهِمْ.

(5)

أ، ب: الرَّافِضَةِ.

ص: 521

وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ (1) السُّنَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ قَوْلٌ [يُحْكَى](2) فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ يَزِيدَ وَأَمْثَالَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ (3)، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم بَلْ أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ:" «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ (4) ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا» "(5) .

وَإِنْ أَرَادَ بِاعْتِقَادِهِمْ (6) إِمَامَةَ يَزِيدَ، أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَانَ (7) مَلِكَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَخَلِيفَتَهُمْ فِي زَمَانِهِ (8) صَاحِبَ السَّيْفِ، كَمَا كَانَ أَمْثَالُهُ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا كَانَ مُكَابِرًا ; فَإِنَّ يَزِيدَ بُويِعَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ، وَصَارَ مُتَوَلِّيًا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنه اسْتُشْهِدَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَهِيَ أَوَّلُ سَنَةٍ فِي مُلْكِ يَزِيدَ. وَالْحُسَيْنُ اسْتُشْهِدَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْبِلَادِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا (9) جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَزِيدَ مَا جَرَى مِنَ الْفِتْنَةِ، وَاتَّبَعَهُ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ إِظْهَارُهُ طَلَبَ الْأَمْرِ لِنَفْسِهِ (10) بَعْدَ

(1) أَهْلِ: زِيَادَةٌ فِي (ر) ، (ص) ، (هـ) .

(2)

يُحْكَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(3)

ص، ب: الْمُهْتَدِينَ.

(4)

ب (فَقَطْ) : بِالنُّبُوَّةِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(5)

مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 1/515.

(6)

ب (فَقَطْ) : اعْتِقَادَهُمْ.

(7)

كَانَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ص) ، (ب) .

(8)

ص، ب: زَمَانِهِمْ.

(9)

لَمَّا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.

(10)

ص: وَكَانَ مِنْ إِظْهَارِهِ طَلَبَ إِمْرِهِ لِنَفْسِهِ ; ر: وَكَانَ إِظْهَارُهُ طَلَبَ إِمْرِهِ لِنَفْسِهِ.

ص: 522

مَوْتِ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَايَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ إِلَّا أَهْلَ الشَّامِ. وَلِهَذَا إِنَّمَا تُعَدُّ وِلَايَتُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ يَزِيدَ، وَأَمَّا فِي حَيَاةِ يَزِيدَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ مُبَايَعَتِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَذَلَ الْمُبَايَعَةَ لَهُ، فَلَمْ يَرْضَ يَزِيدُ إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَهُ أَسِيرًا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا فِتْنَةٌ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَزِيدُ مَنْ حَاصَرَهُ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ يَزِيدُ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بَايَعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ. وَتَوَلَّى بَعْدَ يَزِيدَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ (1) وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ (2) ، بَلْ أَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا، وَكَانَ فِيهِ صَلَاحٌ وَزُهْدٌ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا، فَتَأَمَّرَ بَعْدَهُ مَرْوَانُ [بْنُ الْحَكَمِ](3) عَلَى الشَّامِ، وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ (4) ، ثُمَّ تَأَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَسَارَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَائِبِ أَخِيهِ عَلَى الْعِرَاقِ، فَقَتَلَهُ حَتَّى مَلَكَ الْعِرَاقَ، وَأَرْسَلَ الْحَجَّاجَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ [فَحَاصَرَهُ](5) وَقَاتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَوْثَقَ الْأَمْرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفُتِحَ فِي أَيَّامِهِ بُخَارَى وَغَيْرُهَا مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَتَحَهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ، مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ، وَقَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ مَلِكَ التُّرْكِ خَاقَانَ وَهَزَمُوهُ وَأَسَرُوا أَوْلَادَهُ، وَفَتَحُوا أَيْضًا بِلَادَ السِّنْدِ، وَفَتَحُوا أَيْضًا بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَغَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَحَاصَرُوهَا مُدَّةً، وَكَانَتْ لَهُمُ الْغَزَوَاتُ الشَّاتِيَةُ (6) وَالصَّائِفَةُ.

(1) بْنُ يَزِيدَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(2)

ن: إِمَامَتُهُ ; م: مُدَّتُهُ.

(3)

بْنُ الْحَكَمِ: لَيْسَتْ فِي (أ) ، (ن) ، (م) ، (و) .

(4)

أ، ب: فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ.

(5)

فَحَاصَرَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(6)

ن، م: الْعِرَاقُ الشَّاتِيَةُ. . .، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

ص: 523

ثُمَّ لَمَّا انْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ (1) تَوَلَّوْا عَلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا كَانَ قَدْ تَوَلَّى عَلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ، إِلَّا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّ الْأَنْدَلُسَ تَوَلَّى عَلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ، وَبِلَادُ الْقَيْرَوَانِ كَانَتْ دَوْلَةً بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.

فَيَزِيدُ فِي وِلَايَتِهِ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ، مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخْلَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ بَايَعَهُ بِمَكَّةَ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، لَمْ يَتَوَلَّ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْعَبَّاسِ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَوْلَادِهِ فَإِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ وَمُعَاوِيَةُ تَوَلَّوْا عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه لَمْ يَتَوَلَّ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَكَوْنُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ إِمَامًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ وَمَعَهُ السَّيْفُ يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، وَيُعْطِي وَيَحْرِمُ، وَيَحْكُمُ وَيُنَفِّذُ (2) ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ وَيُجَاهِدُ الْكُفَّارَ، وَيَقْسِمُ الْأَمْوَالَ - أَمْرٌ مَشْهُورٌ (3) مُتَوَاتِرٌ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ إِمَامًا وَخَلِيفَةً وَسُلْطَانًا، كَمَا أَنَّ إِمَامَ الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَإِذَا رَأَيْنَا رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إِمَامٌ أَمْرًا مَشْهُودًا مَحْسُوسًا لَا يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، أَوْ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، فَذَاكَ أَمْرٌ آخَرُ.

(1) بَنِي الْعَبَّاسِ: كَذَا فِي (أ)، (ب) . وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَلَدِ الْعَبَّاسِ.

(2)

ص: وَيَنْفِي.

(3)

ر، ص، هـ: مَشْهُودٌ

ص: 524

فَأَهْلُ السُّنَّةِ إِذَا اعْتَقَدُوا إِمَامَةَ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ: يَزِيدَ، أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَوِ الْمَنْصُورِ، أَوْ غَيْرِهِمْ - كَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ نَازَعَ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَفِي مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ.

وَأَمَّا كَوْنُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعْصُومًا، فَلَيْسَ هَذَا اعْتِقَادَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ (1) ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عَادِلًا فِي كُلِّ أُمُورِهِ، مُطِيعًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، لَيْسَ هَذَا اعْتِقَادَ أَحَدٍ (2) مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ وُجُوبُ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ، لَيْسَ هُوَ اعْتِقَادَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَكِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يُشَارِكُونَ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَتُصَلَّى خَلْفَهُمُ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدَانِ (3) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُقِيمُونَهَا هُمْ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُصَلَّ خَلْفَهُمْ أَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِهَا، وَنُجَاهِدُ مَعَهُمُ الْكُفَّارَ، وَنَحُجُّ مَعَهُمُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حَجَّ (4) فِي رُفْقَةٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ وَقَدْ جَاءُوا يَحُجُّونَ، لَمْ يَضُرَّهُ هَذَا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ الْغَزْوُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، إِذَا فَعَلَهَا الْبَرُّ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْفَاجِرُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُهَا (5) إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ

(1) أ، ب: مِنَ الْعُلَمَاءِ.

(2)

ص: وَاحِدٍ.

(3)

ب: فَنُصَلِّي خَلْفَهُمُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ ; أ: فَيُصَلِّي خَلْفَهُمُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ.

(4)

أ، ب: أَنْ يَحُجَّ.

(5)

ن، أ، ب، و، ر: لَمْ يَكُنْ فَعَلَهَا.

ص: 525

الْوَالِي الَّذِي يَفْعَلُهَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ؟ ! وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ أَيْضًا فِي الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ وَالْقَسْمِ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ عَاقِلٌ (1) أَنْ يُنَازِعَ فِي أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَقَسْمِهِمْ، وَيُعَاوِنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا يُعَاوِنُونَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

وَلِلنَّاسِ نِزَاعٌ فِي تَفَاصِيلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، مِثْلَ إِنْفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ عَدْلًا، وَمِثْلَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ هَلْ تُعَادُ أَمْ لَا؟ وَالصَّوَابُ (2) الْجَامِعُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِعَدْلٍ أَوْ قَسَمَ بِعَدْلٍ نَفَذَ حُكْمُهُ وَقَسْمُهُ (3) ، وَمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ أُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَوْلِيَةُ إِمَامٍ [بَرٍّ] لَمْ [يَجُزْ] تَوْلِيَةُ فَاجِرٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ (4) يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يَجُوزُ (5) تَوْلِيَتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا تَوْلِيَةُ أَحَدِ رَجُلَيْنِ كِلَاهُمَا فِيهِ بِدْعَةٌ وَفُجُورٌ، كَانَ تَوْلِيَةُ أَصْلَحِهِمَا وِلَايَةً هُوَ الْوَاجِبُ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ فِي الْغَزْوِ إِلَّا تَأْمِيرُ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِيهِ دِينٌ وَضَعْفٌ عَنِ الْجِهَادِ، وَالْآخَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الْجِهَادِ مَعَ ذُنُوبٍ لَهُ، كَانَ تَوْلِيَةُ هَذَا الَّذِي وِلَايَتُهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ، خَيْرًا مِنْ تَوْلِيَةِ مَنْ وِلَايَتُهُ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ

(1) فِي كُلِّ النُّسَخِ: عَاقِلًا.

(2)

ن، م: وَالْجَوَابُ.

(3)

أ، ب: وَقِسْمَتُهُ.

(4)

ن، م: فَإِنْ أَمْكَنَ تَوْلِيَةُ إِمَامٍ لَمْ يُوَلَّ مُبْتَدِعٌ وَلَا فَاجِرٌ.

(5)

ن، و: فَلَا يَجُوزُ.

ص: 526

وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا خَلْفَ الْفَاجِرِ وَالْمُبْتَدِعِ صُلِّيَتْ خَلْفَهُ وَلَمْ تُعَدْ، وَإِنْ أَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ (1) ، وَكَانَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ هَجْرٌ لَهُ، لِيَرْتَدِعَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ بِهِ عَنِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ، فُعِلَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ صُلِّيَ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ.

فَفِي الْجُمْلَةِ أَهْلُ السُّنَّةِ يَجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سُورَةُ التَّغَابُنِ: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» "(2) ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِصَلَاحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ وَنَهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِيهِ صَلَاحٌ وَفَسَادٌ رَجَّحُوا الرَّاجِحَ مِنْهُمَا، فَإِذَا كَانَ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ رَجَّحُوا فِعْلَهُ، وَإِنْ كَانَ فَسَادُهُ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاحِهِ رَجَّحُوا تَرْكَهُ.

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، كَيَزِيدَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَالْمَنْصُورِ وَغَيْرِهِمْ، * فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى (3) غَيْرُهُ * (4) كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ، فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا (5) أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ

(1) ن، م: غَيْرِهِمْ.

(2)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ 1/551.

(3)

ن، م: يَتَوَلَّى.

(4)

مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و) .

(5)

أ، ب، هـ، ر، ص: فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ.

ص: 527

مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. كَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى يَزِيدَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْعِرَاقِ، وَكَابْنِ الْمُهَلَّبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى ابْنِهِ (1) بِخُرَاسَانَ، وَكَأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِمْ بِخُرَاسَانَ [أَيْضًا](2) ، وَكَالَّذِينَ (3) خَرَجُوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.

وَغَايَةُ هَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَغْلِبُوا وَإِمَّا أَنْ يُغْلَبُوا، ثُمَّ يَزُولُ مُلْكُهُمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةٌ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ وَأَبَا مُسْلِمٍ هُمَا اللَّذَانِ (4) قَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ (5) فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ (6) الْمُتَّقِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ (7) مِنَ الْقِتَالِ، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرَّةِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ خَلْقٌ. وَكَذَلِكَ

(1) أ، ب، و، هـ، ص: أَبِيهِ.

(2)

أَيْضًا: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(3)

ن، م: وَالَّذِينَ.

(4)

ن: هُمُ الَّذِينَ ; م هُمَا الَّذَيْنِ، وَمَا أَثْبَتُّهُ مِنْ (و) ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ سَائِرِ النُّسَخِ.

(5)

وَغَيْرُهُمْ: زِيَادَةٌ فِي (ن) ، (م) ، (و) .

(6)

أ، ب: عِبَادِ اللَّهِ.

(7)

أ، و: لَمْ يُحْمَدُوا عَلَى مَا فَعَلُوهُ.

ص: 528

أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ كَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ [كُلِّهِمْ](1) .

وَقَدْ قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَيْنَ كُنْتَ يَا عَامِرُ؟ قَالَ: كُنْتُ حَيْثُ يَقُولُ الشَّاعِرُ

عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى

وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ.

أَصَابَتْنَا فِتْنَةٌ لَمْ نَكُنْ فِيهَا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ، وَلَا فَجَرَةً أَقْوِيَاءَ.

وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ عَذَابُ اللَّهِ، فَلَا تَدْفَعُوا عَذَابَ اللَّهِ بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِكَانَةِ وَالتَّضَرُّعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 76] وَكَانَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ يَقُولُ: اتَّقَوُا الْفِتْنَةَ بِالتَّقْوَى. فَقِيلَ لَهُ: أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى. فَقَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

وَكَانَ أَفَاضِلُ الْمُسْلِمِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُمْ يَنْهَوْنَ عَامَ الْحَرَّةِ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى يَزِيدَ، وَكَمَا كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْخُرُوجِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ. وَلِهَذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَارُوا يَذْكُرُونَ هَذَا فِي عَقَائِدِهِمْ، وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ

(1) كُلِّهِمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) .

ص: 529

الْأَئِمَّةِ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَاتَلَ فِي الْفِتْنَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

وَبَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَشْتَبِهُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ وَاعْتَبَرَ أَيْضًا اعْتِبَارَ أُولِي الْأَبْصَارِ، عَلِمَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ خَيْرُ الْأُمُورِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ الْحُسَيْنُ رضي الله عنه أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ لَمَّا كَاتَبُوهُ كُتُبًا كَثِيرَةً أَشَارَ عَلَيْهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا الشَّفَاعَةُ لَأَمْسَكْتُكَ وَمَنَعْتُكَ مِنَ الْخُرُوجِ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ قَاصِدُونَ نَصِيحَتَهُ طَالِبُونَ لِمَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ لَا بِالْفَسَادِ، لَكِنَّ الرَّأْيَ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ أُولَئِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُرُوجِ لَا مَصْلَحَةُ دِينٍ وَلَا مَصْلَحَةُ دُنْيَا (1) ، بَلْ تَمَكَّنَ أُولَئِكَ الظَّلَمَةُ الطُّغَاةُ مِنْ سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَتَلُوهُ مَظْلُومًا شَهِيدًا، وَكَانَ فِي خُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ حَصَلَ (2) لَوْ قَعَدَ فِي بَلَدِهِ، فَإِنَّ مَا قَصَدَهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ زَادَ الشَّرُّ بِخُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ، وَنَقَصَ

(1) أ، ب: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْخُرُوجِ مَصْلَحَةٌ لَا فِي دِينٍ وَلَا فِي دُنْيَا.

(2)

أ، ب، و: يَحْصُلُ.

ص: 530

الْخَيْرُ بِذَلِكَ، وَصَارَ ذَلِكَ (1) سَبَبًا لِشَرٍّ عَظِيمٍ. وَكَانَ قَتْلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا أَوْجَبَ الْفِتَنَ، كَمَا كَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ مِمَّا أَوْجَبَ الْفِتَنَ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ هُوَ أَصْلَحُ الْأُمُورِ لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ صَلَاحٌ بَلْ فَسَادٌ. وَلِهَذَا أَثْنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ:" «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» "(2) وَلَمْ يُثْنِ عَلَى أَحَدٍ لَا بِقِتَالٍ فِي فِتْنَةٍ وَلَا بِخُرُوجٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَلَا نَزْعِ يَدٍ مِنْ طَاعَةٍ وَلَا مُفَارَقَةٍ لِلْجَمَاعَةِ.

وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً وَيَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ". فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيِّدٌ، وَحَقَّقَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ [عَظِيمَتَيْنِ](3) مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ مَحْبُوبًا (4) مَمْدُوحًا يُحِبُّهُ اللَّهُ

(1) ذَلِكَ سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(2)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْكِتَابِ: 1/539 540.

(3)

عَظِيمَتَيْنِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(4)

مَحْبُوبًا: فِي (ن) ، (م) ، (و) فَقَطْ.

ص: 531

وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ الَّتِي أَثْنَى بِهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَمْ يُثْنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ (1) بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ. وَلِهَذَا لَمْ يُثْنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ (2) بِمَا جَرَى مِنَ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ فَضْلًا عَمَّا جَرَى فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَمَا جَرَى بِمَكَّةَ فِي حِصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَا جَرَى فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَابْنِ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ. وَلَكِنْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِالنَّهْرَوَانِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ بِحَرُورَاءَ ; فَهَؤُلَاءِ اسْتَفَاضَتِ السُّنَنُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَلَمَّا قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَرِحَ بِقِتَالِهِمْ، وَرَوَى الْحَدِيثَ فِيهِمْ. وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِتَالُ [عِنْدَهُمْ](3) كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَلَا حَمِدَهُ أَفَاضِلُ الدَّاخِلِينَ فِيهِ، بَلْ نَدِمُوا عَلَيْهِ وَرَجَعُوا عَنْهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ ذَكَرَ فِي الْحَسَنِ مَا ذَكَرَهُ، وَحَمِدَ مِنْهُ مَا حَمِدَهُ، [فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ وَمَا حَمِدَهُ](4) مُطَابِقًا لِلْحَقِّ الْوَاقِعِ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً ; فَإِنَّ إِصْلَاحَ اللَّهِ بِالْحَسَنِ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ

(1) عَلَى أَحَدٍ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(2)

عِنْدَهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و)

(3)

عِنْدَهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ز

(4)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

ص: 532

كَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه اسْتُشْهِدَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَالْحَسَنُ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عُمُرُهُ نَحْوَ سَبْعِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ وُلِدَ عَامَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَبُو بَكْرَةَ أَسْلَمَ عَامَ الطَّائِفِ، تَدَلَّى بِبَكْرَةٍ فَقِيلَ لَهُ أَبُو بَكْرَةَ (1) . وَالطَّائِفُ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَسَنِ كَانَ بَعْدَ مَا مَضَى ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِينَ سَنَةً الَّتِي هِيَ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَهً، فَإِنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (2) مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ «عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» "(3) . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَمْعُهُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ رضي الله عنهما وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يُحِبُّهُمَا [وَدُعَاؤُهُ اللَّهَ أَنْ يُحِبَّهُمَا](4) . وَحُبُّهُ صلى الله عليه وسلم لِهَذَيْنِ (5) مُسْتَفِيضٌ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ (6) : «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1) فِي الْإِصَابَةِ 3/542 أَنَّ اسْمَهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَيُقَالُ ابْنُ مَسْرُوحٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:" وَكَانَ تَدَلَّى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ بِبَكْرَةٍ فَاشْتُهِرَ بِأَبِي بَكْرَةَ ".

(2)

ن، م: وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحِ.

(3)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ص 39.

(4)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(5)

ن: لِهَذَا ; م: لَهُمَا.

(6)

أ، ب: يَقُولُ.

ص: 533

وَالْحَسَنَ [بْنَ عَلِيٍّ](1) عَلَى عَاتِقِهِ [وَهُوَ](2) يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ» "(3) .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:«أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ [شَأْنُ] (4) الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ [قَالُوا] (5) : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ (6) بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ؟ (7) وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: نَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى رَجُلٍ يَسْحَبُ ثِيَابَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: انْظُرْ مَنْ هَذَا؟ لَيْتَ هَذَا

(1) بْنَ عَلِيٍّ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(2)

وَهُوَ: لَيْسَتْ فِي (ن) ، (م) ، (و) .

(3)

سَبَقَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِيمَا مَضَى 4/48. وَأَمَّا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه فَهُوَ فِي: الْبُخَارِيِّ 5/26 (كِتَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ. . .، بَابُ مَنَاقِبِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ) ; مُسْلِمٍ 4/1883 ((كِتَابُ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، بَابُ فَضَائِلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. . .) ; سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 5/327 (كِتَابُ الْمَنَاقِبِ، بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ. .) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4/283 284 ; فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ 2/768، 781.

(4)

شَأْنُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(5)

قَالُوا: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(6)

و: رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أُسَامَةُ. .

(7)

الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَجَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: 5/23 (كِتَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ. . ; بَابُ ذِكْرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) ; 4/175 (كِتَابُ الْأَنْبِيَاءِ، بَابُ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ. . . .) ، 8/160 (كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ) ; مُسْلِمٍ 3/1315 1316 (كِتَابُ الْحُدُودِ بَابُ قِطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ. .) ; سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/188 (كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابٌ فِي الْحَدِّ يُشْفَعُ فِيهِ) . وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ.

ص: 534

عِنْدِي! قَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: أَمَا تَعْرِفُ هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ. قَالَ: فَطَأْطَأَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه رَأْسَهُ، وَنَقَرَ بِيَدَيْهِ (1) عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: لَوْ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَحَبَّهُ (2) .

وَهَذَانِ اللَّذَانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَحَبَّتِهِ، وَدَعَا اللَّهَ لَهُمَا بِالْمَحَبَّةِ، وَكَانَ يُعْرَفُ حُبُّهُ لِكُلِّ [وَاحِدٍ](3) مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، لَمْ يَكُنْ رَأْيُهُمَا الْقِتَالَ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، بَلْ أُسَامَةُ قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ يَوْمَ صِفِّينَ: لَمْ يُقَاتِلْ مَعَ هَؤُلَاءِ وَلَا [مَعَ] هَؤُلَاءِ (4) .

وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ كَانَ دَائِمًا (5) يُشِيرُ عَلَى أَبِيهِ وَأَخِيهِ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ تَرَكَ الْقِتَالَ، وَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ.

وَعَلِيٌّ رضي الله عنه فِي آخِرِ الْأَمْرِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي فِعْلِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُسَيْنُ رضي الله عنه لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا مَظْلُومًا شَهِيدًا، تَارِكًا لِطَلَبِ الْإِمَارَةِ (6)، طَالِبًا لِلرُّجُوعِ: إِمَّا إِلَى بَلَدِهِ، أَوْ إِلَى الثَّغْرِ (7) ، أَوْ إِلَى الْمُتَوَلِّي عَلَى النَّاسِ يَزِيدَ.

(1) بِيَدَيْهِ: كَذَا فِي (ن) ، (م) ، (و)، الْبُخَارِيِّ. وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: بِيَدِهِ.

(2)

هَذَا الْأَثَرُ فِي الْبُخَارِيِّ 5/24 (كِتَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَابُ ذِكْرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) .

(3)

وَاحِدٍ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(4)

ن، م: وَلَا هَؤُلَاءِ.

(5)

أ، ب: دَائِمًا كَانَ. وَسَقَطَتْ " دَائِمًا " مِنْ (ص) .

(6)

ن، م، و: تَارِكًا لِلْقِتَالِ.

(7)

ن، م: وَإِمَّا إِلَى الثَّغْرِ.

ص: 535

وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ عَلِيًّا وَالْحُسَيْنَ إِنَّمَا تَرَكَا الْقِتَالَ [فِي آخِرِ الْأَمْرِ](1) لِلْعَجْزِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْصَارٌ (2) ، فَكَانَ فِي الْمُقَاتَلَةِ قَتْلُ النُّفُوسِ بِلَا حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ.

قِيلَ لَهُ: وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي رَاعَاهَا الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَنَدَبَ إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُونَ لِذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَالَّذِينَ خَرَجُوا بِالْحَرَّةِ وَبِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ عَلَى يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِمَا.

لَكِنْ إِذَا لَمْ يُزَلِ الْمُنْكَرُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ، صَارَ (3) إِزَالَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُنْكَرًا، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِمُنْكَرٍ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ، كَانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُنْكَرًا.

وَبِهَذَا الْوَجْهِ صَارَتِ الْخَوَارِجُ تَسْتَحِلُّ السَّيْفَ (4) عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى قَاتَلَتْ عَلِيًّا وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالسَّيْفِ [فِي الْجُمْلَةِ](5) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَالَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ، وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ](6) وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُونَ تَحْصِيلَ مَا يَرَوْنَهُ دِينًا.

(1) فِي آخِرِ الْأَمْرِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(2)

ن: أَبْصَارٌ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(3)

ب: صَارَتْ ; ن: فَصَارَ.

(4)

أ، ب: يَسْتَحِلُّونَ السَّيْفَ ; ص: تَسْتَحِلُّ سَلَّ السَّيْفِ.

(5)

فِي الْجُمْلَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(6)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.

ص: 536

لَكِنْ قَدْ يُخْطِئُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا رَأَوْهُ دِينًا لَيْسَ بِدِينٍ (1) ، كَرَأْيِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ; فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ رَأْيًا هُوَ خَطَأٌ وَبِدْعَةٌ، وَيُقَاتِلُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَيَصِيرُونَ مُخْطِئِينَ فِي رَأْيِهِمْ، وَفِي قِتَالِ (2) مَنْ خَالَفَهُمْ أَوْ تَكْفِيرِهِمْ وَلَعْنِهِمْ.

وَهَذِهِ حَالُ (3) عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَالْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى إِنْكَارِ حَقِيقَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى (4)، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ إِلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّهُ لَا يُرَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَامْتَحَنُوا النَّاسَ لَمَّا مَالَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، فَصَارُوا يُعَاقِبُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي رَأْيِهِمْ: إِمَّا بِالْقَتْلِ، وَإِمَّا بِالْحَبْسِ، وَإِمَّا بِالْعَزْلِ وَمَنْعِ الرِّزْقِ. وَكَذَلِكَ قَدْ (5) فَعَلَتِ الْجَهْمِيَّةُ ذَلِكَ (6) غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاللَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ.

وَالرَّافِضَةُ شَرٌّ مِنْهُمْ: إِذَا تَمَكَّنُوا فَإِنَّهُمْ يُوَالُونَ الْكُفَّارَ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَيُعَادُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْبِدَعِ: إِمَّا مِنْ بِدَعِ الْحُلُولِيَّةِ: حُلُولِيَّةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، وَإِمَّا مِنْ بِدَعِ النُّفَاةِ أَوِ الْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِمَّا [مِنْ](7) بِدَعِ الْقَدَرِيَّةِ أَوِ الْإِرْجَاءِ

(1) ن: وَلَيْسَ بِدِينٍ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(2)

ن، م، و: وَفِي قِتَالِهِمْ.

(3)

ص، ب: حَالَةُ.

(4)

أ، ب: الْعُلْيَا.

(5)

قَدْ: فِي (ن) ، (و) فَقَطْ.

(6)

ن، م: وَذَلِكَ.

(7)

مِنْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (و) ، (ر) ، (ص) ، (هـ) .

ص: 537

أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - تَجِدُهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً، وَيُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ يَلْعَنُهُ. وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِي قِتَالِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مَنْ يُقَاتِلُ (1) عَلَى اعْتِقَادِ رَأْيٍ يَدْعُو إِلَيْهِ مُخَالِفٍ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَأَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالْحَرَّةِ وَالْجَمَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ يَظُنُّ أَنَّهُ بِالْقِتَالِ تَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الْمَطْلُوبَةُ، فَلَا يَحْصُلُ بِالْقِتَالِ ذَلِكَ، بَلْ تَعْظُمُ الْمَفْسَدَةُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ، فَيَتَبَيَّنُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا كَانَ الشَّارِعُ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ.

وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ نُصُوصُ الشَّارِعِ، أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ. وَفِيهِمْ مَنْ يَظُنُّهَا مَنْسُوخَةً كَابْنِ حَزْمٍ. وَفِيهِمْ مَنْ يَتَأَوَّلُهَا كَمَا يَجْرِي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ.

فَإِنَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ [الثَّلَاثَةِ](2) يَتْرُكُ مَنْ يَتْرُكُ (3) مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَمَلَ بِبَعْضِ النُّصُوصِ ; إِمَّا أَنْ لَا يَعْتَقِدَ ثُبُوتَهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَهَا غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى مَوْرِدِ الِاسْتِدْلَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَهَا مَنْسُوخَةً.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الْفِتَنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً، فَيَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنَ الْوَارِدَاتِ مَا يَمْنَعُ الْقُلُوبَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. وَلِهَذَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ لَيْسَ فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَلَا قَصْدُهُ، وَالْإِسْلَامُ جَاءَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. فَيَتَّفِقُ أَنَّ بَعْضَ

(1) مَنْ يُقَاتِلُ: كَذَا فِي (ص)، (ب) وَهُوَ الصَّوَابُ. وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: مَنْ لَا يُقَاتِلُ.

(2)

الثَّلَاثَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(3)

أ: بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ ; ب: تَرَكَ مَنْ تَرَكَ.

ص: 538

الْوُلَاةِ يَظْلِمُ بِاسْتِئْثَارٍ (1) فَلَا تَصْبِرُ النُّفُوسُ عَلَى ظُلْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُهَا دَفْعُ ظُلْمِهِ إِلَّا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْهُ. وَلَكِنْ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِأَخْذِ حَقِّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، لَا يَنْظُرُ فِي الْفَسَادِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» "(2) .

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ قَالَ: " سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» " (3) .

وَفِي رِوَايَةٍ [لِلْبُخَارِيِّ](4) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ: «دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يَقْطَعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ تَقْطَعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ

(1) هَذَا بِاسْتِئْثَارِهِ.

(2)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا فِي هَذَا الْجُزْءِ، ص 240. وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْبُخَارِيِّ 5/33 ; مُسْلِمٍ 3/1474. وَانْظُرْ مَا سَبَقَ.

(3)

سَبَقَ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا فِي هَذَا الْجُزْءِ ص 240 وَتَكَرَّرَ بِهَذَا اللَّفْظِ ص 257. وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه بِلَفْظِ " إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي. . .) وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِ: " سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي. .) فِي الْبُخَارِيِّ 5/33 (كِتَابُ مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) . وَجَاءَتِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي مُسْلِمٍ 3/1474 (كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ ظُلْمِ الْوُلَاةِ وَاسْتِئْثَارِهِمْ) . وَجَاءَ الْحَدِيثُ بِأَلْفَاظٍ مُقَارِبَةٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/166، 171.

(4)

لِلْبُخَارِيِّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

ص: 539

الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا. فَقَالَ: " أَمَّا لَا، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي [عَلَى الْحَوْضِ] (1) فَإِنَّهُ سَتُصِيبُكُمْ أَثَرَةٌ بَعْدِي» "(2) .

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ، وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْهِ» "(3) .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (4) عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: " «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» "(5) .

فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُطِيعُوا وُلَاةَ [أُمُورِهِمْ وَإِنِ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يُنَازِعُوهُمُ الْأَمْرَ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى وُلَاةِ](6) الْأُمُورِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُنَازِعَهُمْ مَعَ اسْتِئْثَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصْبِرُوا (7) عَلَى الِاسْتِئْثَارِ. ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ذُنُوبٌ أُخْرَى، فَيَبْقَى بُغْضُهُ لِاسْتِئْثَارِهِ يُعَظِّمُ (8) تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَيَبْقَى

(1) عَلَى الْحَوْضِ: فِي (أ) ، (ب) فَقَطْ.

(2)

هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي: الْبُخَارِيِّ 5/33 34 (الْمَوْضِعُ السَّابِقُ) .

(3)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/564.

(4)

عِبَارَةُ " عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " سَاقِطَةٌ مِنْ (ر) ، (ص) ، (ب) .

(5)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/118.

(6)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ، (أ) .

(7)

ن، م، و، أ: وَلَمْ يَصْبِرْ

(8)

ص، ب: يُغَطِّي.

ص: 540

الْمُقَاتِلُ لَهُ ظَانًّا أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّكَهُ عَلَيْهِ (1) طَلَبُ غَرَضِهِ: إِمَّا وِلَايَةٌ، وَإِمَّا مَالٌ (2) .

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 58] وَفِي الصَّحِيحِ (3) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ مِنِ (4) ابْنِ السَّبِيلِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُ [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (5) : الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي (6) كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا: إِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ: وَإِنْ مَنَعَهُ سَخِطَ. وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا: لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى» "(7) .

فَإِذَا اتَّفَقَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شُبْهَةٌ وَشَهْوَةٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ قَامَتِ الْفِتْنَةُ. وَالشَّارِعُ أَمَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ الْوُلَاةَ بِالْعَدْلِ وَالنُّصْحِ لِرَعِيَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ: " «مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ

(1) و: جَرَى عَلَيْهِ.

(2)

ص، ب: وَإِمَّا مَالًا.

(3)

ص: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ.

(4)

مِنْ: لَيْسَتْ فِي (أ) ، (ر) ، (ب) .

(5)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ، (هـ) ، (أ) .

(6)

و: أَمْنَعُكَ مِنْ فَضْلِي.

(7)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ص 412.

ص: 541

رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» " (1) .

وَأَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ (2) الصَّحِيحِ:" «الدِّينُ النَّصِيحَةُ " - ثَلَاثًا - قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» "(3) .

وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى اسْتِئْثَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ وَمُنَازَعَتِهِمُ الْأَمْرَ مَعَ ظُلْمِهِمْ، لِأَنَّ الْفَسَادَ النَّاشِئَ مِنَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ ظُلْمِ وُلَاةِ الْأَمْرِ (4) ، فَلَا يُزَالُ أَخَفُّ الْفَسَادَيْنِ بِأَعْظَمِهِمَا.

وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِمَا يَجِدُهُ فِي (5) نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 53] .

(1) الْحَدِيثُ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 9/64 (كِتَابُ الْأَحْكَامِ، بَابُ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ) ; مُسْلِمٍ 1/125 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ اسْتِحْقَاقِ الْوَالِي الْغَاشِّ لِرَعِيَّتِهِ النَّارَ) ، 3/1460 (كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ) ; سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 2/324 (كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابٌ فِي الْعَدْلِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 5/25.

(2)

الْحَدِيثِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) .

(3)

الْحَدِيثُ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي: مُسْلِمٍ 1 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ) ; سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/217 (كِتَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، بَابٌ فِي النَّصِيحَةِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَجَرِيرٍ وَحَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ، وَثَوْبَانَ " ; الْمُسْنَدِ (ط. دَارِ الْمَعَارِفِ) 5/96 وَانْظُرْ تَعْلِيقَ الْأُسْتَاذِ الْمُحَقِّقِ رحمه الله عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.

(4)

أ، ب: مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ; ر، ص، هـ، مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ.

(5)

ن، م، أ، ب: مِنْ.

ص: 542

; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِي عِبَادَهُ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، فَخَبَرُهُ صِدْقٌ (1) وَأَمْرُهُ عَدْلٌ:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 115] .

وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ، قَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ نَوْعٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ مَقْرُونًا بِالظَّنِّ، وَنَوْعٌ مِنَ الْهَوَى الْخَفِيِّ، فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ [فِيهِ](2) ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ.

وَمِثْلُ هَذَا إِذَا وَقَعَ يَصِيرُ (3) فِتْنَةً لِطَائِفَتَيْنِ (4) : طَائِفَةٌ تُعَظِّمُهُ فَتُرِيدُ تَصْوِيبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَاتِّبَاعَهُ عَلَيْهِ، وَطَائِفَةٌ تَذُمُّهُ فَتَجْعَلُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي وِلَايَتِهِ وَتَقْوَاهُ، بَلْ فِي بِرِّهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ فِي إِيمَانِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ عَنِ الْإِيمَانِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ (5) فَاسِدٌ.

وَالْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ (6) وَغَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَهْوَاءِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الدَّاخِلُ مِنْ هَذَا. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الِاعْتِدَالِ عَظَّمَ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، وَأَحَبَّهُ وَوَالَاهُ، وَأَعْطَى الْحَقَّ حَقَّهُ، فَيُعَظِّمُ الْحَقَّ، وَيَرْحَمُ الْخَلْقَ، وَيَعْلَمُ

(1) أ، ب: صَادِقٌ.

(2)

فِيهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(3)

أ، ب: صَارَ.

(4)

م، ص، ر، هـ: لِلطَّائِفَتَيْنِ.

(5)

ن: الطَّرِيقَيْنِ.

(6)

أ، ب: وَالرَّافِضَةُ.

ص: 543

أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَيُحْمَدُ وَيُذَمُّ، وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ، وَيُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ وَيُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ.

هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ فِي يَزِيدَ كَالْقَوْلِ فِي أَشْبَاهِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ: مَنْ وَافَقَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى: كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ - كَانَ مَأْجُورًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ (1) يَفْعَلُونَ (2) ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَمْثَالِهِ. وَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، كَانَ مِنَ الْمُعِينِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، الْمُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ.

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَغْزُونَ مَعَ يَزِيدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَكَانَ مَعَهُمْ (3) فِي الْجَيْشِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه وَذَلِكَ الْجَيْشُ أَوَّلُ جَيْشٍ غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَغْفُورٌ لَهُمْ» "(4) .

(1) ر، ص، هـ: الْمُسْلِمِينَ.

(2)

يَفْعَلُونَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .

(3)

ب (فَقَطْ) : مَعَهُ.

(4)

سَيَرِدُ هَذَا الْحَدِيثُ مَرَّةً أُخْرَى فِي هَذَا الْجُزْءِ ص 572 إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَانْظُرْ كَلَامِي عَلَيْهِ هُنَاكَ.

ص: 544

وَعَامَّةُ الْخُلَفَاءِ الْمُلُوكِ جَرَى فِي أَوْقَاتِهِمْ فِتَنٌ، كَمَا جَرَى فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَتْلُ الْحُسَيْنِ، وَوَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَحِصَارُ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. وَجَرَى فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِتْنَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَجَرَى فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِتْنَةُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَحِصَارُهُ أَيْضًا بِمَكَّةَ. وَجَرَى فِي زَمَنِ هِشَامٍ فِتْنَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَجَرَى فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ فِتْنَةُ أَبِي مُسْلِمٍ، حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمُ الْأَمْرُ إِلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ. ثُمَّ كَانَ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ فِتْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ، إِلَى فِتَنٍ يَطُولُ وَصْفُهَا.

وَالْفِتَنُ (1) فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِ رِجَالِهِ ; فَالْفِتْنَةُ الْأُولَى فِتْنَةُ قَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه هِيَ أَوَّلُ الْفِتَنِ وَأَعْظَمُهَا.

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ: " «ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا: مَوْتِي، وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُضْطَهَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالدَّجَّالُ» "(2) .

(1) ن، م، و: وَالْفِتْنَةُ.

(2)

الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4/105، 109، 5/33، 288 وَلَفْظُ الْحَدِيثِ:" مَنْ نَجَا مِنْ ثَلَاثٍ فَقَدْ نَجَا " قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالُوا: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَوْتِي، وَمِنْ قَتْلِ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ بِالْحَقِّ يُعْطِيهِ، وَالدَّجَّالِ ". وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَقَالَ: " حم (مُسْنَدُ أَحْمَدَ) طب (الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) : ك (الْمُسْتَدْرَكُ لِلْحَاكِمِ) ص (سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ (كَذَا) . وَرَوَى الْهَيْثَمِيُّ الْحَدِيثَ فِي (مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ " 7/334 335 فَقَالَ: " وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. " ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهَا نَجَا: مَنْ نَجَا عِنْدَ قَتْلِ مُؤْمِنٍ فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ نَجَا عِنْدَ قَتْلِ خَلِيفَةٍ يُقْتَلُ مَظْلُومًا وَهُوَ مُصْطَبِرٌ يُعْطِي الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ نَجَا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَقَدْ نَجَا " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْمِصْرِيُّ وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ ". وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ: إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْقَدِيدِ الْبَصْرِيَّ فِي " تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ " 1/181 كَذَلِكَ ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي " مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ " 1 وَقَالَ عَنْهُ " صَاحِبُ الْأَوْزَاعِيِّ " فَلَعَلَّهُ هُوَ.

ص: 545

وَلِهَذَا جَاءَ (1)

فِي حَدِيثِ عُمَرَ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ، وَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. فَقَالَ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ فَقَالَ: بَلْ يُكْسَرُ. فَقَالَ: لَوْ كَانَ يُفْتَحُ لَكَادَ يُعَادُ (2)

. وَكَانَ عُمَرُ هُوَ الْبَابَ، فَقُتِلَ عُمَرُ، وَتَوَلَّى عُثْمَانُ، فَحَدَثَتْ أَسْبَابُ الْفِتْنَةِ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ، حَتَّى قُتِلَ وَانْفَتَحَ بَابُ الْفِتْنَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَدَثَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتْنَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَلَا يُقَاسُ رِجَالُهُمَا بِأَحَدٍ، فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ.

وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الْحَرَّةِ وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ، كَانَ فِيهَا مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ مَنْ لَا يُقَاسُ بِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَلَيْسَ فِي وُقُوعِ هَذِهِ الْفِتَنِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ مَا يُوجِبُ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا شَرًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ فِتْنَةُ كُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِ رِجَالِهِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» "(3) .

وَفِتَنُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِحَسَبِ أَهْلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " «كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» "(4)

. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ( «أَنَا اللَّهُ عز وجل مَلِكُ

(1) جَاءَ فِي (ن) فَقَطْ.

(2)

هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُ - جَاءَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْهَا: 9/54 (كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابُ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) . وَهُوَ فِي: مُسْلِمٍ 1/128 130 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا) . وَالْحَدِيثُ فِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْمُسْنَدِ.

(3)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ 2/35.

(4)

رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ بِلَفْظِ " كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ " وَذَكَرَ " ضَعِيفُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " 4/160 وفر (مُسْنَدُ الْفِرْدَوْسِ لِلدَّيْلَمِيِّ) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، هب (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنْ أَبِي إِسْحَاقِ السَّبِيعِيِّ مُرْسَلًا " وَضَعَّفَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي " سِلْسِلَةِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ " 1/328 329. وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي " الدُّرَرِ الْمُنْتَثِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ "، ص 162، تَحْقِيقُ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد لُطْفِي الصَّبَّاغ، (ط. الرِّيَاضِ) ، 1403/1983 وَانْظُرْ كَلَامَ الْأُسْتَاذِ الْمُحَقِّقِ عَلَيْهِ.

ص: 546

الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِي، مَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً، فَلَا تَشْتَغِلُوا بِسَبِّ الْمُلُوكِ، وَأَطِيعُونِي أُعَطِّفْ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكُمْ» (1) .

وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزَمَهُمُ الْكُفَّارُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 165] .

وَالذُّنُوبُ تُرْفَعُ عُقُوبَتُهَا [بِالتَّوْبَةِ] وَالِاسْتِغْفَارِ (2)

وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ.

وَالْقَتْلُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ ذُنُوبَهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْفِتْنَةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ (3)، فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ: أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَبِالْهُدَى يُعْرَفُ الْحَقُّ، وَبِدِينِ الْحَقِّ يُقْصَدُ الْخَيْرُ وَيُعْمَلُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمٍ بِالْحَقِّ، وَقَصْدٍ لَهُ وَقُدْرَةٍ عَلَيْهِ. وَالْفِتْنَةُ تُضَادُّ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مَعْرِفَةَ

(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ 3/133.

(2)

ن، م، و: تُرْفَعُ عُقُوبَتُهَا بِالِاسْتِغْفَارِ.

(3)

ص: مُتَوَفِّرُونَ.

ص: 547

الْحَقِّ أَوْ قَصْدَهُ أَوِ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ فِيهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ مَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَيَكُونُ فِيهَا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ مَا يَمْنَعُ قَصْدَ الْحَقِّ وَإِرَادَتَهُ، وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ ظُهُورِ قُوَّةِ الشَّرِّ مَا يُضْعِفُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخَيْرِ (1) .

وَلِهَذَا يُنْكِرُ الْإِنْسَانُ قَلْبَهُ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَيَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ. وَيُقَالُ: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ ظُهُورُ الْجَهْلِ فِيهَا، وَخَفَاءُ الْعِلْمِ.

فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ (2) الْجَاهِلِيَّةِ (*، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ فِيهَا النُّفُوسُ وَالْأَمْوَالُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ يَكُونُ لِمَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ (3) أَتْلَفَ نَفْسَ غَيْرِهِ أَوْ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ *) (4) مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَالْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، [فَلَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ](5) ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يُضَمَّنُ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مُثَابًا مُصِيبًا.

وَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَتُوبُوا مِنْ تِلْكَ الْجَهَالَةِ (6) ، فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ جَاهِلِيَّتُهُمْ وَمَا كَانَ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ عَلَى

(1) ن، م: الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ.

(2)

أَهْلِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ص) ، (ب) .

(3)

ن، و: بِأَنَّهُ.

(4)

(**) : مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .

(5)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(6)

الْجَهَالَةِ: كَذَا فِي (أ)، (ب) . وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: الْجَاهِلِيَّةِ.

ص: 548