الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
Arabische Amen-Formeln: Goldziher في Rivista degli studi rientali، جـ 1
آيا صوفيا
أكبر مسجد فى الفسطنطينية (إستانبول)، وكان فى وقت من الأوقات طليعة كنائس العواصم فى الشرق المسيحي. وقد عرفت بعامة حتى سنة 1453 باسم "آمكالى إكليزيا" وكانت تسمى حوالى سنة 400 م: صوفا. من غير الأداة)، كما كانت تسمى منذ القرن الخامس الميلادى "اكياصوفيا" وجاءت احدث الأبحاث بأن آيا صوفيا الأصلية لم يشيدها قسطنطين الأكبر وإنما شيدها ابنه قسطنطيوس، بناء على رغبة أبيه، بعد انتصار الأخير على صهره لكينيوس. وقد بنيت آنذاك على هيئة بازيليكا ودشنت فى الخامس من فبراير سنة 360 م (Die varjustinia-: A.M.Schneider nische Sophienkirche في Bysantinische Zeitschrift سنة 1936، ص 36). وقد تعرضت هذه "الكنيسة العظيمة" لتغيرات كثيرة شتى، فقد نكبت بحرائق وزلازل خربتها (أتت النيران على أول بازيليكا مسقوفة بالخشب فى العشرين من يونية سنة 404 فى حادث طرد الأسقف يوحنا كريسوستوم)؛ وأعيد افتتاحها فى الثامن من أكتوبر سنة 415، وظلت سليمة من الدمار نيفا وقرنا من الزمان حتى إذا كانت ليلة اليوم الثالث عشر من يناير سنة 532 أتت عليها النيران مرة أخرى (وكذلك كان مصير الجزء الأكبر من المدينة بما فيها المحفوظات الإمبراطورية).
وأصدر الأمبراطور يوستنيانوس قراره بإعادة بناء الكنيسة بحيث لا يضارعها فى الفخامة بناء اقيم من قبل قط. وكان من قبل قد أمر بان تحمل إلى قاعدة إمبراطوريته كل المواد النفيسة من الآثار القديمة القائمة فى ولاياته (حيث كانت التحف الفنية الوثنية قد أهملت عمدا حتى أتى عليها التلف)، واستخدمت هذه المواد على نطاق واسع، بعد الحريق، لإعادة بناء آيا صوفيا؛ وعهد بهذا العمل إلى مهندسين من أعظم المهندسين على مدار العصور، هما: اثناسيوس الترالسِّى
وايزيدورس الملطى؛ واذ أمر الامبراطور بأن البناء الجديد يجب أن يكون آمنا من الحريق والزلازل، فقد استقر رأيهما على أن تكون خطة البناء قائمة على القباب والأقبية الصغيرة. وافتتح هذا البناء الباذخ فى السابع والعشرين من ديسمبر سنة 537 فى حفل بالغ الفخامة حتى أن يوستنيانوس الفخور قد صاح قائلا:"يا سليمان، لقد تفوقت عليك! ". على أنه حدث فى عهد هذا الإمبراطور نفسه أن انهار الجزء الشرقى من القبة بفعل زلزال (فى السابع من مايو سنة 558)، ودمرت
مقرأة الكنيسة والهيكل والمذبح. لقد كانت القبة قد خططت بحيث تكون شديدة التفلطح، أما بعدُ فقد رفعت أكثر من عشرين قدما على حين قويت دعائم العمد الكبيرة حتى أصبحت الكنيسة مهياة لافتتاحها من جديد فى الرابع والعشرين من ديسمبر سنة 562. وموقع الكنيسة مما تحسد عليه، ففى جنوبها يقوم الأغسطيوم المشيد للاحتفالات القومية، وبه تمثال ليوستنيانوس على هيئة فارس؛ والى الشمال (فى الصميم من رحاب أسوار السراى اليوم) بيع البلاط، وأديرة جليلة وقصور رجال البلاط؛ وإلى الشرق، أى تجاه البحر، يقوم القصر الإمبراطورى.
ويتمثل غربها للزائر فى فناء رئيسى تكتنفه دهاليز مكشوفة. ومن هنا تؤدى عدة أبواب (ربما أربعة أبواب أو خمسة) الى بهو خارجى مقفل لا يزال يتبع الفناء، ومنه تؤدى خمسة أبواب إلى بهو داخلى، ثم بابان فى كل من الطرفين الشمالى والجنوبى، وتتشعب ممرات أخرى وتؤدى تسع فتحات مستطيلة من المداخل الى قلب الكنيسة، والفتحة الوسطى منها قد زخرفت فى تأنق وإبداع وجرى استخدامها بابًا للملك.
والأرض التى تشغلها الكنيسة مربعة الشكل تقريبا يبلغ طولها من الداخل حوالى 75 مترا مع استثناء المحراب الأكبر فى الجناح الشرقى، . وعرضها حوالى 70 مترا. وقد صورت أرضية الكنيسة على هيئة الصليب تعلوها قبة معلقة نصف كرية تقريبًا ترتفع 56 مترًا. ولما كانت الجدران
الخارجية لا تستطيع وحدها حمل القبة، لذلك لم يكن بد من تقويتها بأربعة عمد، ودعمت هذه العمد أيضًا بعقود صغيرة وما يشاكلها من عمد لا غنى عنها فى قيام البناء. وعلى الجانبين الشرقى والغربى من القبة غرفتان واسعتان تشبه هيئة كل منهما نصف الدائرة ويتوج كلا منهما ثلاث من اشباه القباب. وكان من أهم الأمور فى تشكيل داخل الكنيسة خطة الطابقين اللذين تتكون منهما جميع الغرف الجانبية المجاورة للصحن الأكبر، إذ كان الطابق الأعلى يخصص للنساء جريا على السنة المرعية فى الكنائس البوزنطية.
ويبلغ عدد الأعمدة التى تحمل ثقل البناء 107: 40 عمودا سفليا و 67 عمودًا علويًا، وأغلبها قطعة واحدة من المرمر الملون، وبعضها من الحجر السماقى الأحمر.
وكان الزائر لهذه الكنيسة فى العصور الوسطى يروعه أشد الروعة ذلك الزخرف الباذخ، فمن مرمر وافر بالغ الوفرة منتشر فى جميع الأرجاء، إلى صور للمسيح والعذراء والأنبياء والرسل وغيرهم من القديسين تغمر الحوائط ببحر من الألوان، ناهيك بصورة إسرافيل العظيم تتمثل فى المثلثات الكرية للقبة الكبرى، كما أن الفسيفساء الذهبية التى تغطى القبة والحوائط تكسبها بهاءً لم تر العيون مثله من قبل قط. والراجح ان زخارف الفسيفساء لم تكن قد اكتملت حتى السنوات الأخيرة من عهد يوستنيانوس، وكذلك فى عهد يوستنيوس الثانى.
وكانت الجدران الأولى والقبو فى الكنيسة الأصلية مشيدة كلها بالآجر؛ وكان الهيكل أو الحرم (بيما) يقوم إلى الشرق من قلب الكنيسة ويفصله عنه حاجز ذو أبواب كثيرة الارتفاع مزينة بصور ونقوش مخرمة لعمد. وكان هذا الهيكل يشمل المذبح والمقصورة ويؤدى إلى المحراب الأكبر. وكان عدد القساوسة فى ايام يوستنيانوس 425 قسيسًا (ومن المسلم به أنهم كانو يخدمون أيضا ئلاث كنائس أخرى)، وعدد البوابين مائة بواب. وقدّر عدد موظفى هذه الكنيسة قبيل انهيار الإمبراطورية البوزنطية بثمانمائة موظف.
وحدثت أولى الإصلاحات الكبرى فى آيا صوفيا على عهد الإمبراطور بازيل الثاني. فقد تداعى جزء من القبة أثناء الزلزال الذى وقع فى 26 أكتوبر سنة 986، فامر الإمبراطور بإصلاحه. (والراجح أن الركائز المحلّقة الفجة فى الواجهة الغربية ترجع إلى هذا العهد" انظر Die Grabungen in: A.M.Schneider Westhof der Sophienkirche برلين سنة 1941، ص 32 وما بعدها)؛ وفى سنة 1204 حل بالكنيسة دمار شديد أثناء نهب اللاتين للقسطنطينية، فقد أعملوا فيها السلب فى قسوة وجور حتى لقد استخدموا الملابس والأوانى المقدسة فى تنظيف جياد الغزاة وإطعامها. ومع ذلك فقد أصبحت آيا صوفيا أهم كنيسة للدولة الجديدة وأهم مكان يتوج فيه ملوكها. وكانت أوسع تغييرات اتخذت بعد فى أيام البوزنطيين هى التى حدثت فى القرن الرابع عشر. ففى النصف الأول من هذا القرن دعمت الجدران من جميع الجهات، ودعم الجناح الشرقى خاصة بركائز عالية عريضة من الخارج.
وليس بين أيدينا أية رواية إسلامية فى وصف آيا صوفيا من الداخل أيام البوزنطيين. وأول مسلم ذكر الكاتدرائية بالتفصيل هو أحمد بن رسته (ص 124 وما بعدها؛ ترجمة. G Wiet، القاهرة سنة 1955، ص 139 وما بعدها)، وقد عاش ابن رسته حوالى سنة 290 هـ (902 - 903 م)، ولكنه يستقى وصفه من هارون بن يحيى الذى كان أسيرا فى القسطنطينية ردحا من الزمن فى القرن التاسع الميلادي. والحق إن هارون لم يصف البناء الذى أسماه الكنيسة العظمى (مكالى إكليزيا)، بل وصف مركب الإمبراطور البوزنطى فى ذهابه إلى الكنيسة يوم عيد وصفا تفصيليا حيا، وقد اقتيد أسرى الحرب المسلمون إلى الكنيسة (وربما كان المقصود بذلك حرمها) وهناك حيوا الإمبراطور هاتفين:"أطال الله بقاء الملك سنين كثيرة"(الكتاب المذكور ص 125). ومن التفصيلات التى ذكرها أمر له أهمية خاصة: وهو قوله أنه كان وراء "المجلس"(والمظنون أنه يقصد بذلك المقاعد) أربعة وعشرون باباً صغارًا كل
باب شبر فى شبر تنفتح فى البوابة الغربية (ولم تذكر هذه التفصيلات فى أى مصدر آخر). وكان أحد هذه الأبواب الصغار ينفتح وينغلق من تلقاء نفسه فى نهاية كل أربع وعشرين ساعة. ولما اضمحلت الخلافة أخذ المسلمون بعد ابن رسته يمسكون شيئا فشيئا عن الكلام عن القسطنطينيه القاصية. وإنما حدث بعد ذلك بأربعة قرون عقب استيلاء القبائل التركية على آسية الصغرى أن ذكر شمس الدين الدمشقى (طبعة Frahn & Mehren، سانت بطرسبرغ سنة 1865، ص 227) آياصوفيا فى سطور قليلة، على أنه يعتمد فيما رواه على كتاب وراق اسمه أحمد كان يسبقه فى الزمن بقليل (انظر المصدر المذكور، ب 8). وأهم ما رواه هو أن الكنيسة كانت تأوى ملكًا وأن مأواه كان يحيط به "درابزين"، والمفروض أنه يشير بذلك إلى منطقة المذبح والمقرأة جميعًا بما فى دلك الحاجز نفسه دى الأبواب المزين بالأيقونات.
وجاء بعد دلك بعشرات قليلة من السنين محمد ابن بطوطة (طبعة- De fremery & Sanguinetti جـ 2، 434) فكان أول من نسب بناء آيا صوفيا لآصف ابن برخيا المظنون أنه كان ابن خالة الملك سليمان. وأهم ميزة لابن بطوطة وصفه المفصل لفناء الكنيسة؛ وهو يؤكد أنه لم يسمح له بدخول الكنيسة نفسها، وربما كان السبب فى دلك أنه أبى أن يخضع للأمر (الذى دكره) بأن يركع للصليب الذى بمدخلها.
ولما فتح الترك القسطنطنية فى التاسع والعشرين من مايو سنة 1453 فر السكان العزل زرافات إلى الكنيسة معتقدين اعتقادًا راسخًا بأن ملكًا سوف يظهر فى السماء ويرد الظافرين على أعقابهم إلى غير رجعة، ويعود بهم إلى وطنهم الآسيوى بمجرد أن يبلغوا فى تقدمهم عمود قسطنطين الأكبر. ومع دلك فقد تقدم الترك وحطموا أبواب بيت الله وجروا السكان المروعين رجالا ونساء إلى قيود الأسر والعبودية. على أن شهود العيان لم يذكروا لنا وقوع أى مجزرة فى دلك المكان المقدس كما
جرى القول بذلك كثيرًا. ودخل الفاتح الكنيسة بعد هذا المشهد الوحشى من مشاهد النهب والسلب، لا على صهوة جواده كما جرى القول، ودعا مؤذنه إلى الصلاة هاتفًا بالشهادة، وخر ساجدًا هو وأتباعه أمام الله الواحد الأحد، وهكذا آل المعبد الذى أقامه قسطنطيوس ويوستنيانوس للإسلام.
وحدثت تغييرات كبيرة جدًا فى داخل الكنيسة تمشيًا مع قواعد الدين المظفر. فقد اختفت الفسيفساء التى كانت تزين الحوائط والأقبية والتى بدت فى عيون مبدعيها من الإغريق أنها صورت لتبقى أبد الدهر، اختفت تحت طلاء من الجير فى لون الرماد (لا شك أن الفسيفساء منذ وصفها أوليا جلبى فى كتابه سياحتنامه، جـ 1، لم يبق ظاهرًا منها للمشاهدين فى أيامه، أى فى القرن السابع عشر، إلا القليل)، وحطموا الحاجز ذا الإيقونات الذى كان يفصل بين القسس وعامة الناس، ونزعوا الزخارف الثمينة التى كانت تزين الجناح الشرقى (الحرم = البيما).
ولما كانت الكنائس البوزنطية القديمة تتجه صوب بيت المقدس، وكان المسلمون يولون وجوههم شطر مكة، فإن الترك منذ الفتح لم يتوجهوا بالدقة نحو الجناح الشرقى للمسجد بل انحرفوا قليلا ناحية الجنوب، وكان الخطيب منذ أيام محمد الثانى يرتقى المنبر متقلدًا سيفا خشبيًا أيام الجمع وعصر كل يوم من رمضان وفى العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى؛ انظر .. Handbuch des Islam.: Juynbool Gesetzes، ص 84، 87)، وكان يقام دائمًا علم على كل جانب من جانبى المنبر، ونحن نعلم، زيادة على ذلك، أن محمدا الثانى قد أقام الركائز الضخمة تدعيما للجدار الجنوبى حيث أقام أيضًا أول مئذنة من تلدُ المآذن السامقة الرفيعة. وبنى سليم الثانى الركيزتين القائمتين فى الشمال والمئذنة الثانية فى الركن الشمالى الشرقي، وابنه مراد الثالث هو الذى بنى المئذنتين الأخريين.
وقد قام السلطان مراد الثالث بإصلاحات شاملة فى المسجد، وكان المقصود بذلك أولا إصلاح العيوب
اليسيرة التى ظهرت بمرور الزمن، على أنه أسهم أيضًا إسهامًا كبيرًا فى زخرفة الغرفة العاطلة من الزينة؛ فقد وضع الوعائين الضخمين من المرمر فى الداخل قرب المدخل الرئيسى، وكان كل منهما يسع 1250 لترا، وأهدى المسجد أيضا المصطبتين الكبيرتين اللتين كانت يمناهما مخصصة لتلاوة القرآن معظم النهار، أما الثانية فقد خصصت لأئمة الصلاة. ثم عمد إلى الصليب الذى كان يتوج القبة فوضع مكانه هلالا قطره خمسون ذراعًا وأنفق فى تذهيبه مالا طائلا، حتى أصبح الرعايا المسلمون للباب العالى يستطيعون أن يروا رمز دينهم على مسافة بعيدة من فوق قمة الأوليمب ببثينيا.
وفى النصف الثانى من القرن السادس عشر شرع فى تحويل فناء الكنيسة القائم إلى الجنوب من المسجد مباشرة إلى أضرحة لسلاطين الترك، وأقدمها ضريح السلطان سليم الثاني، وهناك أيضًا دفن ابنه مراد الثالث وحفيده محمد الثالث وإخوة محمد الثالث التسعة عشر الذين قتلهم هذا السلطان بعد اعتلائه العرش. وبعد ذلك بعقود قليلة من السنين توفى السلطان المخلوع مصطفى الأول فجأة فلم يجد الترك فى الحال قبرًا مناسبًا لدفنه، فعمدوا إلى مكان التعميد القديم على الجانب الجنوبى من الدهليز الذى كانوا يستعملونه مخزنا للزيت منذ الفتح فهيأوه لهذا الغرض. وكذلك دفن فى هذه المقبرة من بعد السلطان إبراهيم ابن أخى السلطان مصطفى الأول. ومن يومها حفظت مخازن الزيت الكبرى فى الردهة والفناء القائمين فى الجانب الشمالى من مكان التعميد.
وأمر السلطان مراد الرابع (1623 - 1640)، الذى شهد عهده إلى حد ما انتعاشًا عامًا، بتزيين الحوائط العاطلة تزيينًا مشهودًا على يد الخطاط العظيم "بجاقجى زاده مصطفى شلبى، فكتب هذا الخطاط عليها شواهد من القرآن بحروف كبيرة من الذهب، وبلغ طول بعض هذه الحروف، مثل حرف الألف، مبلغًا كبيرًا ارتفع إلى عشر أذرع. على أن هذه الآيات الجميلة التصوير التى تتشابك فى كثير من
الأحيان قد حدت من كبرها أسماء الخلفاء الأربعة الراشدين التى نقشت فى وضوح وجزالة (نقشها الخطاط تكنجى زاده إبراهيم أفندي، انظر حديقة الجوامع، جـ 1، ص 4). وهناك منبر رائع يرجع تاريخه إلى تلك الأيام، ومن المعروف أيضا أن أحمد الثالث هو الذى أقام لجلوس السلطان "المقصورة" فى الجانب الشمالى من المحراب الرئيسي، وأضاف محمود الأول (1730 - 1754) شرفة السلطان الكبيرة المكشوفة بالطابق الأول فى الرواقء كما أقام نافورة فائقة الحسن ومدرسة (وكلتاهما فى الفناء على الجانب الجنوبى)، وقاعة كبيرة للطعام (عمارت) إلى الشمال، وأهم من ذلك كله المكتبة الثمينة التى أقامها فى المسجد نفسه، وإن كان ثمة شاهد لا شك فيه على أن هذه المكتبة شيدت فوق أساس قديم كان قائمًا فى المسجد من قبل. وكل هذه المنشآت تعد جزء، لا يتجزأ من بيوت الله فى المشرق.
ونحن نلمس منذ أيام مراد الرابع فاتح بغداد، إهمالا محسوسًا فى صيانة المسجد اقترن بالاضمحلال العام الذى حل بالإمبراطورية العثمانية. وقد عهد السلطان عبد المجيد سنة 1847 إلى إخوان فوسّاتى المهندسين المعماريين الايطاليين بتجديد البناء تحاشيا لانهيار بعض اْجزائه المهددة بالسقوط وإكسابا للبناء كله رونقًا أكثر جلالا. واستغرق العمل سنتين، وأبقى الطلاء الجيرى على الأماكن التى تصور الإنسان فحسب، أما فيما عدا ذلك فقد كشف عن الحوائط فتجلت واستردت بهاءها القديم. ويرجع إلى تلك الأيام الطلاء المخطط بالأحمر والأصفر على الحائط الخارجي. والطريقة التى عبر بها هذا السلطان عن إكباره لمآثر أجداده جديرة بالتسجيل، ذلك أنه أصلح جميع المآذن فيما عدا مئذنة محمد الثانى الذى وجه إلى الإمبراطورية البوزنطية الضربة الحاسمة القاضية. على أن المهندسين المعماريين الإيطاليين قد سمح لهم آخر الأمر بتعليتها حتى تصبح فى ارتفاع أخواتها. أما اللوحات المستديرة الثمانى التى نقشها الخطاط مصطفى عزت أفندى فقد أقيمت فى آيا صوفيا على عهد السلطان عبد المجيد.
ومن حسن التوفيق حقًا أن المسجد
لم يصب بأذى من جراء الزلازل منذ القرن العاشر، ويجب أن نسلم أن ذلك يرجع بصفة عامة إلى الركائز التى أقامها أواخر الأباطرة البوزنطيين والترك من بعدهم مدعمين الجوانب الأربعة من جدران ذلدُ البناء الضخم (المقام فى أرض معرضة للزلازل) مما جعله يخدم الناس مدة أطول من اْى بناء آخر شيد فى أوروبا. على أن العواصف التى تهب من البلقان أو من البحر كانت تعرض المسجد لخطر يتزايد شأنه.
وفى صيف عام 1906 أمر وزير المعارف بإجراء إصلاحات شاملة فى بناء المكتبة التى كان يتناوب الإشراف عليها خمسة "خوجات" لكل منهم يوم من أيام الأسبوع.
وكان منظر المسجد بهيجًا فى شهر رمضان إذ يجتمع الأمراء ورجال الدولة فى صلاة العصر. أما صلاة التراويح التى تقام بعد المغرب بساعة ونصف الساعة فكان الاحتفال بها دون ذلك. وكانت القبة تضاء بمصابيح لا تحصى منتظمة فى دائرة. ويظهر المسجد فى أبهى حلة ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهى ليلة القدر (بالتركية: قدر كيجه سي) التى أنزل فيها القرآن. وكثيرًا ما كان السلاطين الأولون يشتركون فى هذا الاحتفال، ولكن السلطان عبد الحميد كان لا يشرف بحضوره المسجد (إذا شرفه على الإطلاق) إلا فى ليلة النصف من شهر رمضان، فيركب قاربًا ليتبرك بآثار النبى بقلعة أسلافه القدامى فى زيارة قصيرة (يوم زيارت خرقهْ سعادت).
وحدث بعد الفتح مباشرة أن عمد الترك إلى القصص الكثيرة التى نمت حول أصل الكنيسة وفضلها فى الأيام الأخيرة من حكم البوزنطيين وألبسوها ثوبًا إسلاميًا. فما إن دخل محمد الفاتح القسطنطينية دخول المظفرين حتى أمر أحمد بن أحمد الجيلانى أن يكتب باللغة الفارسية تاريخًا لآياصوفيا (مكتبة آباصوفيا، رقم 3025) على نسق تاريخ رومي. وقد ترجم تاريخ أحمد هذا إلى التركية نعمت الله المتوفى سنة 969 هـ (1561 - 1562 م).
ويقول كاتب جلبى (طبعة فلو كل،
جـ 2، ص 116) إن على بن محمد القوشجى وهو من علماء الفلك والهيئة، وضع كتابًا آخر بالفارسية فى الموضوع نفسه. على أننا لا نستطيع فيما يظهر أن نتحقق بعد من هذا الكتاب. وهناك نسخة أخرى تاريخها سنة 888 هـ (1483 - 1484 م) كتبها مصنف آخر، وهى موجودة الآن فى متحصْ الدولة ببرلين، Staatsbibliothek Berlin، ذيلا لتاريخ عثمانى ("تواريخ قسطنطينية " [Kat. Dresden: Fleischer رقم 113؛ Turkische Hss. W: Pertsch Berlin، رقم 1231 الذى كتب بعد ذلك بثلاث سنين) وهى أكثر طرافة وإن كانت فيما عدا ذلك تجرى فى هذا المجرى من حيث الفكر والمصادر. وقد جاء فى كتاب "تواريخ قسطنطينية"
قصة تقول إن آصفية زوجة قسطنطين بن علانية الأكبر، وكانت ذات ثروة طائلة، قد توفيت فى ريق شبابها وأمرت فى وصيتها الأخيرة بإقامة كنيسة تفوق فى الارتفاع جميع أبنية الدنيا. ويقال إن مهندسًا معماريًا حضر لهذا الغرض من فرنكستان. وروى أنه بدأ بأن أمعن الحفر حتى بلغ عمق 40 ذراعًا ليصل إلى الماء. فلما أتم البناء كله فيما عدا القبة فر فيما يقال. وظل البناء على حاله لا يمس عشر سنين حتى عاد وأقام القبة. ويروى أيضا أن المعدن الخاص الذى لم يكن يعرفه إلا الى "ديوات"(وهو فى الواقع "مرمر معدنى") قد جلب من عدة بلاد. ويقال إن "المعدن" الذى صنعت منه الأعمدة الأربعة المرقشة (صوماقي؛ والحق إنها كانت قد صنعت بطبيعة الحال من أصلد أنواع المرمر) قد جلب من جبل قاف، أما الأبواب الكبيرة فقد زعم أنها صنعت من ألواح الخشب فى سفينة نوح، وكان سليمان قد استخدم هذه الألواح من قبل فى إقامة مبانيه بأورشليم وكيزيكوس (أيدينجق)، ويقال إن نفقات بناء الكنيسة بلغت 360000 قضيب من الذهب، قيمة كل قضيب 360000 فلوري. ويقال إنه حدث فى أيام حفيد قسطنطين الأكبر: الإمبراطور هرقل (وكان من معاصرى النبى محمد ومن المؤمنين به فى السر) أن سقطت القبة فلم يلبث هذا الإمبراطور التقى أن أعاد إقامتها. وترجع "تواريخ قسطنطينية وآيا
صوفيا" لعلىّ العربى إلياس إلى أيام السلطان سليمان الأكبر، وعلىّ هذا كان وقتذاك فى خدمة الصدر الأعظم علىّ البدين المتوفى فى 28 يونية سنة 1565، كما كان مدرسًا (Kat.: Flugel Der Kais. Hofbibl. Vienna جـ 3، ص 97). وأقدم نسخ هذا الكتاب ترد إلى سنة 970 هـ (1562 - 1563 م). وقد زاد علىّ العربى بعد ذلك بهممنتين قليلا من التفضيلات القليلة الشأن على كتابه وأظهره بعنوان مختلف هو "تواريخ بنايه آيا صوفيا" (المكتبة الأهلية بباريس " ملحق المخطوطات التركية رقم 1546، "تواريخ قسطنطينية وآيا صوفيا وبعض حقائق " فى، Persch Catalogue of the Turkish manuscripts of the kgl. Bibl. Berlin رقم 232؛ ولدى Fourmont مخطوط آخر: Car.cod.man Bibl. Reg ص 319، رقم 147، 1) وفى رواية هذا الكتاب أن آياصوفيا قد بنيت فى عهد الإمبراطور "أوستونيانو" بناها المهندس المعمارى "إكنادوس"(هكذا جاء أيضا فى محمد عاشق). وصفوة القول أن صاحب هذا التاريخ جدير بمزيد من الحمد، فهو يزودنا أيضًا بتفصيلات أكثر بكثير مما فعله مؤرخ القرن الخامس عشر، ذلك أنه يورد روايات مختلفة. ومن ثم وجب أن يعد خير مصدر تركى عن تاريخ أعظم مساجدهم، وإن كان فى نظرنا لا يعتمد عليه قط.
وتختلف مادة القصص التى ظلت تحاك حول آيا صوفيا من عصر إلى عصر. والظاهر أنها بلغت أسمى مراتبها الروحية فى القرن السابع عشر، ذلك أن الترك بصفة عامة كانوا فى هذا العهد يظهرون بمظهر يدل على أنهم كانوا من أكثر الناس احتقارًا لأمور الدنيا. وفى ذلك العهد كان يشار إلى المكان الذى كان أبطال العرب فى القرن الأول الهجرى يصلون فيه بمناسبة حصارهم للقسطنطينية، وإلى المكان الكائن فى وسط صحن الكنيسة حيث كان الخضر فيما يقال يشرف منه على بنائها. وكان يشار فى الدهليز الجنوبى إلى صخرة مجوفة على اعتبار أنها مهد المسيح. وهناك قصة كان المرء لا يزال يستمع إليها من أفواه الفقهاء الشبان فى سنين متأخرة عن ذلك
كثيرا، وتذكر هذه القصة حسينا التبريزى والطريقة التى حصل بها فيما يظن على منصب الأستاذية فى المسجد، ومؤداها أن السلطان الصوفى محمدا الثانى بسط له راحة يده (آيا) ليقبلها بدلا من ظهرها، وهنالك بادر حسين بالتماس تعيينه مدير، لآياصوفيا. واشتهرت "العمد الرطبة"(ياش ديرك) و"النافذة الباردة"(صؤوق بنجره) قرب القبلة شهرة عظيمة بوصفها مزارات وكانت تحدث عندها فى رحاب الجدران المقدسة خوارق عجيبة أيام. عبد الحميد الثاني. وكانت هذه النافذة هى المكان الذى فسر فيه القراَن لأول مرة الشيخ آق شمس الدين الذى كان لكلماته وقع مثير فى نفوس الناس فى أيامهم ومن بينهم محمد الفاتح نفسه. وكان الاعتقاد سائدا إلى عهد قريب بأن البركات التى تحملها النسمات الرطيبة التى تتخلل هذه النافذة الباردة كان لها أثر مبارك يساعد على الغوص فى علوم الدين.
وفي سنة 1934 أمر الرئيس كمال أتاتورك بأن يبطل استخدام آيا صوفيا بيتًا لعبادة المسلمين وجعلها متحفًا تشرف عليه مصلحة. ومن ثم أزيل الطلاء الجيرى الذى كان يغطى صور الأشخاص فى الفسيفساء، فتجلت سنة 1936 الصور التالية فيما تجلى من أشياء: صورة جميلة للعذراء جالسة على العرش ومعها طفلها يحف بها؛ الإمبراطور قسطنطين (ومعه نموذج للبلدة التى أنشأها) والأمبراطور يوستنيانوس (ومعه نموذج لكنيسة آياصوفيا)، وتقوم هذه الصورة فوق باب الدهليز الجنوبي؛ وصورة أخرى فوق الباب الرئيسى المؤدى من الدهليز إلى الكنيسة (باب الإمبراطور القديم) تمثل المسيح جالسًا على العرش وقد ركع عند قدميه متعبدًا إمبراطور (ليو السادس؟ أو بازيل الأول وهو أمر أقرب احتمالا؛ انظر M.A. Schneider فى Oriens Christianus، سنة 1935، ص 75 - 79) ونذكر أخيرًا صورة للعذراء فى حنية المحراب.
المصادر:
(1)
أوثق المصادر البوزنطية فى عهد يوستنيانوس هى كتب - Agathias، Proco
pius،Paulus،Silentiarius
(2)
ومن المصادر الأكثر حداثة من ذلك نذكر اولا وقبل كل شئ: Pierre Gilles 'De Topographia Constantinopoleos الكتاب 4، ليون سنة 1561، وقد طبع بعد ذلك مرارًا.
(3)
الكاتب نفسه: - De Bosphoro Thra cio libri tres، ليون سنة 1561، وقد طبع بعد ذلك مرارًا.
(4)
: Charles du Fresne، sieur du Cange Historia Byzantina، باريس سنة 1680.
(5)
Constantinopolis: . von Hammer und Bospotus، جـ 1، بست سنة 1822.
(6)
Aya Sophia of Constan-: C. Fossati tinople as recentiy restored، لندن سنة 1852.
(7)
Altchristliche Bau-: W. Salzen berg denkmaler von Konstantionpel برلين سنة 1854.
(8)
L'art de batir chez: Auguste Choisy les Byzantins، باريس 1883.
(9)
Quellen der byzantinis-: P. Richter Chen Kunstgeschichte وهو عدد خاص من Quellenschriften fur Kunstgeschichte & Kunsttechnik Mittelalters، فينا سنة 1897، بقلم Eitelberger von Edelberg & Igi
(10)
: W. R. Lethaby and Har Swainson The Church of Sancta Sophia، Constanyin ople، a study in building، لندن ونيويورك سنة 1894.
(11)
Die Sophien-: Heinr. Holtzinger Kirche und verwandte Bauten der byzanti- nischen Architektur في Die Baukunst ويحررها R. Bormann & R. Graul، رقم 10، برلين وشتوتكارت سنة 1898.
(12)
Die Ha-: Alfons Maria Schnieider gia Sophia zu Konstantinopel برلين من غير تاريخ (1938).
(13)
رواية تركية تمدنا بالنقوش وبوصف للمبانى الإضافية التى أقيمت فى العهود التركية: حافظ حسين: حديقة الجوامع، إستانبول سنة 1281 هـ 1864، جـ 1، ص 3 - 8.
(14)
وثمة مصادر أخرى وردت فى