الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجوهر
لم يكن لفكرة الجوهر في الفلسفة المدرسية الشرقية ما كان لها من الشأن في مدارس الغرب. والجوهر هو ما يقوم بذاته، وما ليس مفتقرًا إلى غيره في وجوده، ولو من الناحية المنطقية على الأقل، فهو مختلف عن العرض الذي يوجد دائمًا شيء آخر غيره. وعلى هذا يكون الجسم سابقًا على اللون من الناحية المنطقية، فهو من حيث علاقته به يُعد جوهرًا، كما أن اللون من حيث علاقته بالجسم يعد عرضًا، على أن قيمة فكرة الجوهر ليست منطقية فحسب، وإنما هي ميتافيزقية أيضًا. فليس الأمر مقصورا على معرفة النظام الذي يعتمد فيه بعض العناصر المكونة للموجودات على بعضها الآخر، ولامعرفة أي هذه الموجودات مفتقر إلى غيره فحسب، بل لا بد كذلك من أن يفتش في قرار كل شيء عما هو ثابت دائم، أي عن الجوهر بمعناه الميتافيزيقى.
ويجب أن يلاحظ أن المفكرين المسلمين قد اشتغلوا -في حدود هذا المعنى الأخير- بالبحث في "الجوهر البسيط"، وهو ما ليس له أجزاء، ولا يقبل الفساد بالتالى. وعلى هذا فإن ابن سينا عندما أراد أن يبرهن عن خلود النفس، برهن أولًا على أنها جوهر بسيط ومن هنا تأدى مباشرة إلى أنها غير فانية. وهذا يعني أن قيمة النظرية تستند إلى فكرة "الجوهر" أقل مما تستند إلى فكرة البساطة.
ويعرف صاحب "التعريفات" الجوهر بأنه ماهية إذا وُجدت في الأعيان كانت لا في موضع؛ وهو منحصر في خمسة: هيولى وصورة وجسم ونفس وعقل. والهيولى هي الجوهر القابل للاتصال والانفصال وللصورتين الجسمية والنوعية. والصورة الجسمية هي المدركة من الجسم في بادى النظر. والجسم هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، أو هو الجوهر الممتد (الجسم التعليمى). والنفس أو الروح الحيوانية هي جوهر لطيف حامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وهي متعلقة بالبدن. والعقل أو النفُس الناطقة جوهر مجرد عن المادة في ذاته، يتعلق بالبدن تعلق
التدبير والتصرف. وتمثل هذه التعريفاتُ وجهة نظر الفلاسفة.
وللمتكلمين نظرية أخرى يستعملون فيها فكرة الجوهر البسيط استعمالا طريفًا. وأكثر ما يكون هؤلاء المتكلمون من أصحاب مذهب الجوهر الفرد؛ فالجوهر البسيط ليس عندهم غير الجوهر الفرد، وكذلك النفس التي هي جوهر بسيط يتمثلونها نوعًا من الجوهر الفرد، كأنها ذرة روحية (Monade) حقيقية والعلم قائم في الجوهر الفرد.
ولم يشارك الإمامان فخر الدين الرازي والغزالى في مشكلة مذهب الجوهر الفرد؛ إلا أن النسفى مؤلف "العقائد" وشارحه التفتازانى، كانا من أصحاب هذا المذهب: فقد قال النسفى: "إن العالم بكل أجزائه مخلوق؛ وهو مركب من جواهر (يسميها هو أعيانًا) وأعراض. والجواهر هي ما يوجد منطقيًا بذاته. وهي إما مركبة كالجسم، وإما بسيطة كالجوهر، أي الجزء الذي لايتجزأ (الجوهر الفرد) ". ويبين التفتازانى ما لقبول مذهب الجوهر الفرد من فائدة في الدفاع عن العقيدة. وهذا يؤدى إلى رفض رأى الفلاسفة القائلين بأن العالم مؤلف من هيَولىَ وصورة، وهو رأى يَسْلم إلى الرأى القائل بعدم العالم وإنكَار الحشر. والواقع أن الهيولى يجب أن تكون قديمة؛ لأن كل مخلوق في هذا المذهب هو كذلك من حيث هو في هيولى سابقة، ومن حيث أن قدم الهيولى يؤدى إلى قدم الأجسام. ثم إن الفلاسفة يقررون أن الحركة الدائرية، وهي حركة الأفلاك السماوية، قديمة في المحل الذي لاتستطيع فيه الحركة المستقيمة أن تكون كذلك. أما إذا تقرر أن كل الأجسام، ومن بينها الأفلاك السماوية، مؤلفة من جواهر فردية، فعندئذ تكون الحركات الدائرية مؤلفة من نقلات مستقيمة الجواهر الفردية التي ليست قديمة.
ولا يطلق علم التوحيد الإسلامي اسم "الجوهر" على الله، ولا فَعَل ذلك المتكلمون من القائلين بمذهب الجوهر الفرد، إذ أن هذه اللفظة تدل عندهم على الجوهر الفرد بصفة خاصة، وهو