المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

منهم إلا دوزى وتبعه فى ذلك ميلر فاجتهدا أن يحكما - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ١١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌جن

- ‌الجنة

- ‌الجهاد

- ‌جهنم

- ‌جهور

- ‌جهينة

- ‌الجواليقى

- ‌الجوبرى

- ‌جودت عبد الله

- ‌الجودى

- ‌جوف

- ‌الجوف

- ‌جوف السرحان

- ‌جوف كفرة

- ‌الجوهر

- ‌جوهر الصقلى

- ‌الجوهرى

- ‌جيزان

- ‌جيش

- ‌حالة الجيش الراهنة:

- ‌توزيع الجيش، أسلحته، ولباسه:

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌توزيع الجيش وسلاحه وزيه:

- ‌المصادر:

- ‌العصر الحديث

- ‌المصادر:

- ‌ح

- ‌حاتم

- ‌المصادر:

- ‌حاجب

- ‌1 - الخلافة

- ‌2 - الأندلس

- ‌المصادر:

- ‌3 - دول المشرق

- ‌المصادر:

- ‌4 - مصر والشام

- ‌ المصادر

- ‌5 - إفريقية الشمالية

- ‌حاجى خليفة

- ‌المصادر:

- ‌الحارث بن جبلة

- ‌المصادر:

- ‌الحارث بن كعب

- ‌تاريخها:

- ‌المصادر:

- ‌حازم بن محمد

- ‌المصادر:

- ‌الحافظ

- ‌المصادر:

- ‌حافظ إبرهيم

- ‌المصادر:

- ‌الحاكم بأمر الله

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌الحاكم النيسابورى

- ‌المصادر:

- ‌حام

- ‌المصادر:

- ‌الحامدى

- ‌المصادر:

- ‌حايل

- ‌المصادر:

- ‌حبة

- ‌المصادر:

- ‌حبيب بن مسلمة

- ‌المصادر:

- ‌حبيب النجار

- ‌المصادر:

- ‌الحجاب

- ‌المصادر

- ‌المصادر:

- ‌الحجاز

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌الحج

- ‌1 - الحج فى الإِسلام

- ‌2 - أصل الحج فى الإِسلام:

- ‌3 - الحج فى الجاهلية:

- ‌المصادر:

- ‌تعليقات على مادة "الحج

- ‌حجة

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌حجر

- ‌المصادر:

- ‌حد

- ‌الحديبية

- ‌المصادر:

- ‌تعليقات على مادة "الحديبية

- ‌الحديث

- ‌1 - موضوع الحديث وصفته

- ‌2 - نقد المسلمين للحديث

- ‌3 - تصنيف الحديث

- ‌4 - مجموعات الحديث

- ‌5 - رواية الحديث

- ‌المصادر:

- ‌تعليقات على مادة "الحديث

- ‌الحديث القدسى

- ‌المصادر:

- ‌حرب

- ‌(1) النظرة الشرعية

- ‌المصادر:

- ‌(2) الخلافة

- ‌المصادر:

- ‌(3) سلطنة المماليك:

- ‌مكان تجمع الجيش:

- ‌نظام المعركة فى الميدان:

الفصل: منهم إلا دوزى وتبعه فى ذلك ميلر فاجتهدا أن يحكما

منهم إلا دوزى وتبعه فى ذلك ميلر فاجتهدا أن يحكما على شخصية الحاكم حكمًا منزها عن الهوى.

وفى رأيهما أن شخصية الحاكم قد جمعت بين المغيرة على الدين إلى حد التعصب وبين النزوع المأثور عن المشارقة إلى الاستبداد. ولكنها لا تخلو من خلة تهدف إلى المثل الأعلى. فمن البيّن أن كثيرًا من النظم التى سنّها واشتد الناس فى ذمها قد رمى بها إلى كبح جماح الفساد الذى تردى فيه شعبه؛ وقد ضرب لهم مثلا رائعًا بسلوكه الذى لا تشوبه شائبة واحتقاره لكل مظاهر الأبهة والفخفخة.

وكثيرًا ما نجد مراسيم حتى فى الطور الثانى من حكمه يحرم فيها ذكر اسمه فى الصلاة إلا فى بساطة متناهية، وقد نهى عن أن يظهر له أحد فروض الاحترام والإجلال المألوفة.

وليس من ينكر على الحاكم سماحته وجوده، وما زال التاريخ يروى مثلا مشاهد السنين التى شح فيها ماء النيل وكيف كان الحاكم يقف وسط شعبه مستجيبًا لكل رجاء دائب السعى لدفع ويلات المجاعة. ومهما يكن من أمر فإن حكم الحاكم، وخاصة فى السنين الأخيرة من عهده، إنما كان قائمًا على رأيه الذى لا ينظر إلى الأمور إلا من ناحية واحدة معرضًا لتقلبات هواه، ومن ثمَّ لا ننكر أن هذا الحكم كان على الجملة وخيم العاقبة على البلاد.

أما عن الأحداث السياسية التى وقعت خارج مصر فى عهد الحاكم، فهذه ليست لها علاقة وثيقة بما نحن بصدده من تحليل شخصيته.

‌المصادر:

أفضل المصادر هى:

(1)

ابن خلكان، ترجمة ده سلان de Slane، جـ 3، ص 449 وما بعدها.

(2)

ابن العبرى Chronicon طبعة Braus، ص 211 وما بعدها.

(3)

المقريزى: الخطط؛ جـ 2، ص 277، 282 وما بعدها؛ 341 وما بعدها.

(4)

وقد أجمل له ساسى de Sacy البحث فى الأدب المشرقى فى مصنفه الجوهرى Expose sur la religion des Druzes، ص 278 وما بعدها.

ص: 3393

(5)

القيروانى: تاريخ إفريقية، ترجمة Pellissier et Remusat، ص 116 وما بعدها.

(6)

الكندى: ولاة مصر وقضاتها The Governors and Judges of Egypt.

(7)

Chalifen: Weil der Geschichte جـ 3، ص 66؛ جـ 4، ص 269.

(8)

Geschichte der: Wuestenfeld Fatimiden Chalifen، ص 164 وما بعدها.

(9)

Essai sur l'histoire de: Dozy l'Islamisme، ترجمة، Chauvin، ص 283 وما بعدها.

(10)

Polemische: Steinschneider und Apologetische Litteratur، ص 184، 195 وما بعدها.

(11)

Geschichte des Is -: A. Mueller lam im Morgen und Abendland، جـ 1، ص 629 وما بعدها.

(12)

Beitraege zur: D. Kaufmann Geschichte Aus Juedischen Quellen فى Zeitschr. der Deutsch. Morgenl. Gesells، جـ 15، ص 442 وما بعدها.

(13)

Stanley Lane Poole of Egypt in the Middle Ages: A. History ص 123 وما بعدها

[كرايفه E. Graefe]

+ الحاكم بأمر الله: سادس الخلفاء الفاطميين واسمه أبو على المنصور، وهو من أشهر الخلفاء لسرفه وشططه وقسوته وما أنزله بالناس من اضطهاد وخاصة المسيحيين، والصفة الإلهية التى نسبها إليه بعض أنصاره وأصبحت من أركان عقيدة الدروز، ونهايته الغامضة. ومن العسير أن نكون فكرة دقيقة عن شخصيته، ذلك أن كثيرًا مما اتخذه من فعال كان غريبًا غاية الغرابة بل إننا لا نجد له تفسيرًا، كما كان سلوكه حافلا بالمتناقضات. وكان خلقه فى جوهره خلق الطاغية والحاكم المفرد القاسى ويتخلل ذلك نوبات من السماحة والتواضع.

ولد الحاكم سنة 375 هـ (985 م) وكان فى الحادية عشرة وستة أشهر فحسب حين توفى أبوه العزيز فى بلبيس فى الثامن والعشرين من

ص: 3394

رمضان سنة 386 هـ (14 أكتوبر سنة 996) ، ونودى به "ولى العهد" سنة 383 (993 م). وكان الخليفة العزيز، وهو على فراش الموت، قد أوصى قاضيه الأكبر محمَّد بن النعمان وزعيم كُتامة الحسن بن عَمَّار بأن يناديا بابنه خليفة. ودخل الحاكم القاهرة فى اليوم الثانى لوفاة أبيه مرتديًا درّاعة من لون واحد وعمامة مزينة بأحجار كريمة وقد أمسك فى يده رمحًا وتمنطق بسيف وتقدم جثمان أبيه. وفى اليوم التالى ظهر يحف به الجلال أمام وجوه القوم فى إيوان القصر، وقد جلس على عرش من الذهب وحياه الحاضرون بلقب الإمام والحاكم بأمر الله.

وفى البداية الأولى لعهده أصرّ بربر كتامة الذين كانوا قوام أسرته، بأن يوكل أمر رئاسة الحكومة لزعيمهم الحسن بن عمار الذى اشتهر بانتصاراته على الروم (البوزنطيين) فى صقلية. وكان قد عين "واسطة" ولقب بلقب "أمين الدولة". وقد أظهر الحسن تحيزه للبربر فى الجيش على حساب العناصر الأخرى، وهى الترك والديلم والزنوج، وقتل وزير العزيز عيسى بن نَسْطورُس وتشاحن مع أتابك الخليفة الشاب المملوك الخصى بَرْجوان. وما كان من برجوان، وقد أثارت اهتمامه الخطة التى رسمها أنصار ابن عمَّار بوضع الخليفة فى قبضتهم، إلا أنَّه تحالف مع والى دمشق منكوتكين التركى. ولكن منكوتكين كان قد سار إلى مصر يصحبه حليفه البدوى مفَرِّج بن دَغْفَل بن الجرّاح وتخلى عنه برجوان وهزم قرب عسقلان على يد جنود ابن عمار بقيادة سليمان بن جعفر بن فلاح. على أن حكم ابن عمار لم يدم طويلًا، ذلك أن رجلا من أقوى البربر هو جيش بن صمصامة الذى كان قد طرد من ولايته على طرابلس، انضم إلى برجوان. وقامت ثورة على ابن عمار وهزم ففر مختفيًا، واستولى برجوان على مقاليد السلطة، وشغل منصب "الواسطة" فى آخر رمضان سنة 387 (أول أكتوبر سنة 997) وحمل الناس على البيعة للخليفة الشاب من جديد. وصدر العفو عن ابن عمار أول الأمر، ثمَّ اغتيل من بعد.

ص: 3395

وقدّر لحكم برجوان الذى كان يعاونه كاتبه فهد بن إبراهيم أن يواجه صعابًا جمة هى هجوم الروم (البوزنطيين) فى شمالى الشام، ونشوب فتنة فى صور على يد المغامر عَلّاقَة بمعاونة البوزنطيين، وقيام الاضطرابات فى دمشق وفى برقة من أعمال طرابلس. وقد انتهت الأمور فى الشام نهاية سعيدة بانهزام أسطول البوزنطيين أمام صور. وقد هزم جيش بن صمصامة أول الأمر خارج أفامية إلا أنَّه دأب على القتال وغزا البوزنطيين الذين كان حبلهم قد اضطرب بوفاة قائدهم دميان دلاسينوس (انظر ترجمة M. Canard لأخبار ابن القلانسى فى Revue des Etudes Byzantines، باريس، جـ 19، سنة 1961، ص 297 وما بعدها). وقبيل هذه الحملة على البوزنطيين مباشرة، أراد مفرّج أن يسود على الرملة فاضطر إلى الخضوع لجيش بن صمصامة؛ وأعيد النظام إلى نصابه فى دمشق، وأعيد أيضًا إلى برقة، ولكن فشلت المحاولة التى بذلت لانتزاع طرابلس من الحاكم الزيرى لإفريقية. أما المفاوضات مع البوزنطيين التى بدأت بعد حادث أفامية وبدأها الإمبراطور بازيل. أوبرجوان. فلم تنته إلى شئ، وشرع بازيل فى شن حملة جديدة فى شمال الشام وصادفه النجاح هذه المرة. وإنما تم بعد ذلك وبعد وفاة برجوان أيضا، أن عقد هدنة مدتها عشر سنوات مع البوزنطيين سنة 391 هـ (1101 م). على أن العلاقات السلمية بين بوزنطة والحاكم قدر لها أن تضطرب بتدمير كنيسة القبر المقدس سنة 400 هـ (1009 م)، بل إن بازيل قد عمد سنة 406 هـ - 1015 - 1016 م) إلى منع العلاقات التجارية مع مصر والشام.

ولم يكن برجوان مستوليا على مقاليد السلطة منذ ربيع الثانى سنة 390 (أبريل سنة 1000)، ذلك أن الحاكم الذى كانت شخصيته قد بدأت تستقر وتثبت كان قد ضاق بوصاية برجوان الذى كَفّه فى قصره. ولذلك نجده قد عمل على اغتياله بمالأة المملوك ريدان، وهو يتمشى معه. وأعقب ذلك قيام الاضطرابات، فقد خشى الترك أن يكون ما حدث انقلابًا قام به الحزب البربرى. واضطر الخليفة الشاب إلى

ص: 3396

الظهور على باب قصره ليشرح الأسباب التى أدت به إلى العمل على قتل برجوان ومطالبة رعاياه جميعا بالطاعة وبذل العون له. وقد أظهر هذا القتل وإبرامه الذى شابه تصميم لا يعرف العاطفة من قبل صبى فى الخامسة عشرة تلك الميول المتعطشة إلى الدم التى وقع فريسة لها معظم وزرائه وأكابر الأعيان من رعاياه.

ومن يومها راح الحاكم يحكم البلاد حكم الطاغية المستبد، لا يطيع إلا أهواءه ومزاجه فى الساعة التى هو فيها، سواء كان ذلك خيرا أو شرا، فيأمر باتخاذ أعجب القرارات وأشدها إسخاطا للشعب ثمَّ ينكرها أو يلغيها، ثمَّ يعود فيؤكدها، متراوحا بين الغلظة والسماحة لينتهى به الأمر إلى الجنون الذى أصابه فى السنوات الأخيرة من حكمه.

وكانت أهم السمات التى تميز حكم الحاكم هى:

(1)

سلسلة من الإجراءات تنبع من قلب مسلم، شيعى بخاصة؛ والتعصب الدينى:(أ) قوانين ضد المسيحيين واليهود. (ب) إجراءات ضد المذهب السنى. (جـ) مراسيم لها الصفة الخلقية الاجتماعية (جميع الإجراءات التى ألغيت أكثر من مرة، مع أننا لا نستطيع أن نتبين منها أية أسباب واضحة تدعو إليها).

(2)

عدد كبير من الاضطهادات وآيات القسوة.

(3)

عصيان بين الشعب ومظاهرات السخط التى قام بها.

(4)

شطط الحاكم المتعدد الوجوه الذى يوشك أن يكون جنونا، ودعاواه بالألوهية.

على أن ثمة مناسبات أخرى أظهر فيها الحاكم بساطة عجيبة، وتواضعًا، وزهدًا، وسماحة، وإحساسًا بالعدل، حتى أن الحكم عليه لا يكون فى جميع الأحوال سيئًا.

وكانت الإجراءات التى اتخذت ضد المسيحيين واليهود من أبرز سمات حكمه، ولكن يجب أن نسلم بأنه كان ثمة مراسيم من هذا النوع سبق أن أصدرها الخلفاء العباسيون. ونحن

ص: 3397

نسجل الإجراءات التى اتخذها الحاكم باختصار فيما يلى:

سنة 393 هـ (1003 م). تدمير كنيسة كان قد أعيد بناؤها، وإقامة مسجد "راشدة" فى مكانها (انظر فى هذا الشأن المقريزى: الخطط، جـ 2، ص 282). تحويل كنيستين أخريين إلى مسجدين؛ نقل المسيحيين الملكانيين من حيهم إلى الحمراء (انظر فى ذلك المقريزى: الخطط، جـ 1، ص 298). تحريم الخمر، حتى على النصارى، والأوامر التى أصدرها بتدمير جرار الخمر وإفراغ الخمر على الأرض.

سنة 395 هـ (1004 م): إلزام المسيحيين واليهود بارتداء زنانير وعمائم سودًا.

سنة 396 هـ (1005 - 1006 م): تحريم جديد للخمر.

سنة 397 هـ (1007 م): تحريم الاحتفال بأحد السعف فى بيت المقدس وغيرها.

سنة 398 هـ (1008 م): مصادرة أملاك الكنائس والأديرة فى مصر.

سنة 399 هـ (1009 م): إجبار النصارى واليهود وهم فى الحمامات بتعليق شارة مميزة حول أعناقهم - صليب للنصارى، وجلاجل صغيرة لليهود؛ تدمير كنيستين فى القاهرة وكنيسة فى دمشق، وتدنيس مقابرها. إنزال التعذيب بعدد من الموظفين النصارى.

سنة 400 هـ (1009 - 1010 م): تدمير كنيسة القبر المقدس ببيت المقدس. ويقول ابن القلانسى أن سبب ذلك هو أن الخليفة غضب من قيام القساوسة بخدعة فى معجزة نزول النار المقدسة إلى المذبح (انظر عن هذه المعجزة: The Holy Fire: Krachkovskiy according to the accounts of al Birunie -and other Muslim Writers of the 13 th centuries فى Kristiansky Vostok 10 th بالروسية فى جـ 3/ 3، سنة 1915، ص 226 - 242).

وحدث فى السنة نفسها: تحريم إقامة عيد الغطاس فى القاهرة، وقد منعت السلطات الإِسلامية من حضور هذا العيد كما كانت تفعل من قبل؛

ص: 3398

وتدمير الدير الملكانى القصير فوق تلال المقطم وتدنيس المقبرة؛ وتدمير كنيسة فى دمياط.

سنة 401 هـ (1010 م) تكرار الأمر الصادر للنصارى واليهود بارتداء زنانير سود؛ وتحريم جديد للخمر واستعمالها فى القداس.

سنة 402 هـ (1011 - 1012 م): تحريم إظهار الصلبان وصوت الناقوس.

سنة 403 هـ (1012 - 1013 م) وفى المقريزى سنة 404 خـ: أمر للنصارى واليهود بارتداء عمائم وطيلسانات سوداء، وأن يضع النصارى صليبا من الخشب حول أعناقهم؛ أمر بمنع النصارى من ركوب الخيل؛ استبدال المسلمين بالموظفين النصارى؛ وقد اشتد فى هذه الإجراءات بعد أن رفعت إليه مظلمة من النصارى، وقد اضطر عدد كبير من النصارى إلى الدخول فى الإِسلام. وكانت هذه السنة سنة الكوارث بالنسبة للنصارى، فقد دمرت كل صوامعهم وكنائسهم وصودرت كنوزهم، ولم ينج من ذلك إلا دير سيناء نتيجة لخدعة دبرها رئيسه، على أنَّه لم ينج من المصادرات ذلك أن رئيسه شكا من ذلك إلى الخليفة سنة 411 هـ (1021 م).

ونالت هذه السياسة موافقة المسلمين بصفة عامة، ذلك أنهم كرهوا النصارى لما وقع فيه الموظفون الماليون النصارى من اختلاسات وما جنحوا إليه من محسوبيات، وأدى ذلك على سبيل المثال إلى إعدام الكاتب فهد بن إبراهيم سنة 393 هـ (1003 م) الذى كان رئيسا لهذه الشئون المالية أكثر من خمس سنوات وحبس عدة كتاب يتولون مناصب شتى حبسا مؤقتا. ويجب أن نذكر أن هذه الإجراءات ربما لم تكن تنفذ بصرامة فى جميع الأحيان وإلا لما كان ثمة داع إلى تكرارها.

على أن الحاكم سنة 404 هـ (1013 م) سمح للنصارى واليهود، بل سمح لأولئك الذين أسلموا منهم، بأن يعودوا إلى ملتهم والهجرة إلى أرض الروم. وحين علم سنة 411 هـ (1021 م) بأن بعض النصارى الذين أسلموا كانوا يحضرون القداس فى

ص: 3399

بعض البيوت، فإنَّه لم يتخذ ضدهم أى إجراء كما اتخذ فى العام نفسه سلسلة من الإجراءات فى صالح النصارى هى: إباحة بناء دير القصير من جديد ورد ممتلكاته إليه، ومنح الحماية لجميع الكنائس وإعادة أملاكها إلى جميع الكنائس.

وإن المرء ليعجب: ترى هل كان الحاكم يستلهم فى بعض الأحيان ذكر أمه النصرانية؟

وقد صادفت الإجراءات الشيعية والمناهضة لمذهب السنة بخاصة معارضة شديدة من أهل مصر الذين كان قوامهم من أهل السنة حتى أن هذه الإجراءات قد ألغيت لذلك أو بسبب ما كان ينتاب الخليفة من إسراف فى السماحة. وقد حدث سنة 393 هـ (1002 - 1003 م) أن اعتقل ثلاثة عشر شخصا وشهّر بهم وحبسوا ثلاثة أيام لأنهم أدوا صلاة "الضحى" التى كانت محرمة منذ سنة 370 هـ، ثمَّ أبيحت مرة أخرى سنة 399 هـ (1009 م)، كما جاء فى رواية يحيى بن سعيد الأنطاكى. وكذلك كان مباحا "القنوت" فى صلاة الجمع (وهو يعد شعيرة أدخلت فى العصر العباسى؛ انظر النعمان: دعائم، جـ 1، ص 121) وصلاة التراويح فى رمضان. وقد أبيح فى الأذان لصلاة الفجر أن يذكر التثويب مرتين وفقا لما جرى عليه أهل السنة:"الصلاة خير من النوم" ولم يعد فرضا أن يقال فى الأذان "حى على خير العمل" وهى صيغة شيعية بخاصة (المقريزى، جـ 2، ص 287 و 342 حيث لا تتفق التواريخ). على أنَّه جاء فى المقريزى (جـ 2، ص 342 سنة 403 الموافقة 1012 م) أنَّه أمر بالعودة إلى صيغة "حى على خير العمل"، وأبطل التثويب ومنع مرة أخرى صلاة الضحى وصلاة التراويح ولعل من الأرجح أن نقول منع النسوة من العويل والنحيب فى الجنازات يعود إلى ردّة على العادة الجارية التى حرمها النبى [صلى الله عليه وسلم] ولم يحرمها أهل السنة فيها يظهر بشدة وصرامة.

ومن الإجراءات التى كثيرا ما أثارت الاضطرابات سنة 395 هـ (1005 م) الاساءة إلى الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وقد صدرت الأوامر

ص: 3400

بنقش هذه الصيغ اللعنَّية على جدران العمائر وكذلك على حوانيت الأسواق، وقد أثار ذلك شغبا وقت العودة من الحج. ومن ثمَّ نسخ هذا الأمر بعد ذلك بسنتين، وصدر أمر بإزالة صيغ اللعن ومعاقبة أى فرد يسئ إلى صحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وجدد هذا الأمر سنة 403 هـ (1013 م). وينتمى أيضا إلى هذا التغيير فى السياسة والعودة إلى الشعائر السنية إباحة الاحتفال بشهر الصوم. وبعيد الفطر كما كان يفعل أهل السنة حين يراعى شهود القمر الجديد، فى حين أن القانون الفاطمى قد حدد بداية الشهر طبقًا للأرصاد الفلكية؛ ونذكر أيضا إبطال الاحتفال بعيد غدير خم (المقريزى، جـ 1، ص 389، 10).

والإجراءات الصارمة التى اتخذت حيال أهل السنة أثارت حماسة شديدة لمذهب الشيعة واحتشد الناس فى المحاضرات التى كان يلقيها فى المسجد قاضى القضاة عبد العزيز بن محمَّد بن النعمان حتى توفى بعضهم من الاختناق.

وكان إنشاء "دار العلم" أو "دار الحكمة" سنة 395 هـ (1005 م) من الأعمال الأخرى التى قصد بها محاربة السنية ونشر الدعوة الإسماعيلية.

وكانت المراسيم ذات الصفة الأخلاقية الاجتماعية من أغرب القرارات التى أصدرها الخليفة، وهى حين تكون بريئة من الهوى والنزوات الخالصة، فإنَّه من المستطاع أن ننسبها إلى حرص على نشر الأخلاق الفاضلة ومحاربة الخلاعة.

وقد أثر تحريم الخمر الذى أسلفنا بيانه على المسلمين والمسيحيين ولم يراع هذا التحريم فى ثورة أبى رَكْوَة. وقد نسخ هذا التحريم سنة 396 هـ (1006 م) حين بيّن طبيب الحاكم له أن الخمر قد تفيد الصحة. على أن هذا الأمر أعيد عدة مرات وكان الغرض من ذلك بلا ريب مراعاة الأخلاق. ومن هذا القبيل غلق البيوت المشبوهة ومنع الناس من الظهور فى الحمامات من غير ما يستر الحقوين، وتحريم بيع القيان المغنيات، وتحريم الجعة (الفُقاع) وبيع الشهد والزبيب (الذين يمكن

ص: 3401

استخدامهما لصنع المشروبات الروحية) وتحريم الآلات الموسيقية ومنع الحفلات التى يقيمها المغنون والموسيقيون. ولهذا السبب منع النسوة من التزين وإظهار المجوهرات والذهاب إلى الحمامات والجبانات، بل منعهن مرة من الخروج بإطلاق، ومنع الحذائين سنة 405 من صنع أحذية لهن حتى أجبرهن على الاعتكاف فى دورهن. وكان بعض النسوة اللائى يذهبن إلى الحمامات رغم هذا المنع يحبسن فيها.

وكذلك حرم الحاكم جماعات اللهو على ضفاف النيل والتريض بالقوارب فى الخليج، وأمر بأن تغلق جميع الأبواب والنوافذ المطلة على الخليج، بل لقد منع الناس من التمشى ليلا أو إبقاء حوانيتهم مفتوحة بعد الغروب، ولو أنَّه كان فى بعض الأحيان يجد متعة فى التمشى فى الطرقات المنارة.

وكانت جميع هذه الإجراءات موضع سخط الناس الشديد. ولا شك أن الحاكم كان حريصا على أن يعامل بشدة فجور بعض الطبقات وفسقها، ولم يتردد فى أن يعاقب أشد العقاب كل من يخرج عن هذه النواهى.

ويمكن أن نسلم بأن الدوافع التى حدت بالخليفة إلى إصدار بعض هذه النواهى كانت جادة، إلا أن ذلك لا يمكن أن يصدق على عدد من الإجراءات الأخرى التى اتخذها. ومن ذلك سلسلة من النواهى عن الغذاء، وكانت هذه النواهى تعوق التجارة وتضايق المستهلكين. فقد حرم "الملوخيّة" وهى نوع من الخضر الغروية المحبوبة جدًا، بحجة أن أبا بكر وعائشة ومعاوية كانوا يحبونها، وكذلك تحريمه الكامخ المعروف بالموَكَّلِيّة، والترمس وبعض المحار، والسمك الذى لا تغطيه قشور (وهذا يذكرنا بالتحريم الذى جاء به سفر التثنية، الإصحاح 14، الفقرة 3 وما بعدها). وربما نشأ تحريمه لذبح الماشية إلا فى عيد الأضحى قد نشأ من الحاجة التى تقتضى حفظ الماشية للزراعة (قارن هذه السياسة بسياسة الحجاج).

ولكن ما قولنا فى الأمر الذى أصدره مرتين بقتل الكلاب لأن نباحها

ص: 3402

يزعج الخليفة وتحريمه لعبة الشطرنج؟ وبماذا نستطيع أن نفسر مصادرة الحاكم سنة 399 هـ أملاك أمه وأخته وزوجاته؟

وكان الحاكم يعاقب على مخالفة هذه الأوامر بالإعدام، ذلك أن الحاكم كان يلجأ للإعدام لجميع الأسباب المختلفة، من ذلك أنَّه كان يقصد إشاعة الرعب على اعتبار أنَّه أسلوب فى الحكم. وقد كان عدد من قتل كبيرا يشمل عددا من الوزراء وكبار العمال والأفراد العاديين، وحسبنا أن نذكر من ذلك حالات قليلة هى: اغتيال برجوان، وإعدام فهد بن إبراهيم (انظر ما أسلفنا بيانه) وإعدامه سنة 395 هـ (1004 - 1005 م) كل نزلاء السجون؛ والعذاب الذى أنزله سنة 399 هـ (1009 م) بعدد من الموظفين النصارى (علقوا من أيديهم وبعضهم توفى)؛ وفى سنة 400 هـ (1010 م) أعدم الوزير على بن الحسين المغربى والوزير السابق صالح بن على، وإعدام خلفه منصور ابن عابدين النصرانى سنة 401 هـ (1010 م) وحسين بن جوهر وعبد العزيز بن محمَّد بن النعمان الذى كان قد فر إلى بنى قرّة ثم عاد بعد تأمينه. وفى سنة 404 هـ (1013 م) قطع أوصال أبى القاسم الجرجرائى والخصى الأسود غَيْن وهو من رجال القصر، كما قتل فى السنة نفسها غرقًا عدة من حظاياه. وفى سنة 405 هـ (1014 م) أعدم الوزير الحسين بن ظاهر الوزّان ووزيرين آخرين أحدهما هو الفضل بن جعفر بن الفرات. بل هو قد قتل سرًا سنة 400 هـ (1010 م) خاله أرسينوس بطرك الإسكندرية الملكانى الذى كان قد انتخبه هو نفسه قبل ذلك بعشر سنوات، وقد بلغ أنَّه كان يغرق بالهدايا أناسًا لا يلبث أن يقتلهم.

وليس بعجيب إذن أن يصاب الشعب جميعا بالرعب خوفا من الحاكم.

ومن أقسى ما أتى من فعال كان الموحى به مجرد الرغبة فى الانتقام أمره فى نهاية عام 410 هـ (مارس سنة 1020 م) بحرق الفسطاط نتيجة شيوع أقوال قيلت فى هجائه ورميه بأنه ترك الإسلام كلية وقوض أركانه

ص: 3403

(مثل الصوم والحج) بعد الدعوة التى قام بها الدرَزَى وحمزة وبسبب أعمال الشغب التى قامت بعد إعلان داعية من الدعاة ألوهية الحاكم فى مسجد عمرو. وقد أصدر الحاكم أوامره لجنوده السود بنهب الفسطاط وحرقه، وقد ارتكب هؤلاء الجنود فظائع ضد السكان. وأنفذ الحاكم الخصى المملوك عدى إلى الفسطاط ليعيد النظام إلى نصابه فوصف له الحالة وصفًا كريهًا فأمر به الحاكم فقتل على الفور. ولكنه اضطر إلى التدخل بنفسه لوقف القتال، ذلك أن الأتراك والبربر قد انحازوا إلى سكان الفسطاط وقاتلوا الجنود السود. وتقول بعض الروايات إن الخليفة كان منافقًا وكلبيًا إذ سأل: من أصدر الأوامر بذلك؟ وأنه راح يسلى نفسه بمراقبة حريق الفسطاط من فوق قمة تلال المقطم. ودامت الاضطرابات أسبوعًا كاملا وترك الكثير من الفسطاط أطلالا.

زد على ذلك أن عهد الحاكم قد شابه عدد من الفتن، فقد قامت أولا فتنة القبيلة العربية بنى قرة فى الإقليم القائم شرقى الإسكندرية وهو البحيرة، ولكن أخطر هذه الفتن كانت فتنة أبى ركوة وليد بن هشام، وهو أمير أموى طرد من الأندلس. وقام هذا الأمير بعدة مغامرات فى أقاليم مختلفة، شملت الشام نفسها، ثمَّ ظهر فى إقليم برقة وظفر بعون بربر زناتة. وكان قد انحاز إليه بالفعل بنو قرة الذين افتتنوا من قبل. وقد نادى بنفسه خليفة وهزم أول الأمر جيشا فى آخر سنة 395 هـ (1005 م) ثمَّ هزم جيش التركى إنال (فى رواية يحيى: قابل الأرمنى) الذى أنفذه إليه الحاكم. وهنالك ازداد هم الحاكم واستفحل كربه، ذلك لأن مصر والجنود قد ضاقوا بالتقتيل وأعمال القسوة التى أنزلها الخليفة ببنى قرة وكتامة الجيش الشآمى، فأظهروا فرحهم بما أصابه من نكبات وتمنوا أن يتخلصوا من هذا الطاغية. بل لقد بلغ الأمر فيما يظهر بالوزير حسين بن جوهر أن اتصل بأبى ركوة. وعندئذ استدعى الحاكم الغلمان الحمدانيين الذين كانوا فى الشام والبدو الطيئيين لمفرج بن دغفل وأمر عليهم الفضل بن صالح ونشبت معركة بين فصائل من

ص: 3404

الجيشين فى ضواحى الإسكندرية. ثمَّ تغلغل أبو ركوة حتى الفيوم وأنفذ بعض فصائله نحو الجيزة حيث كان الخليفة قد بعث بمدد بقيادة على بن فلّاح فهزم هذا المدد. ولكن حدث فى ذى الحجة سنة 396 هـ (أغسطس سنة 1006 م) أن أحرز نصرا حاسمًا على أبى ركوة فى الفيوم، وأسر أبو ركوة وهو يسرع نحو النوبة وسلمه أمير البطائح النوبية وأعدم فى القاهرة فى جمادى الآخرة سنة 397 هـ (مارس سنة 1007). وكان الرعب عظيما، فقد اضطر الخليفة إلى إذلال نفسه ليستعيد عطف جنوده واعتذر عن أعمال القتل التى أمضاها. بل لقد بدا فى بعض المناسبات أنَّه كان يفكر فى الهروب إلى الشام، ذلك أنَّه كان من المنتظر أن يدخل المتمرد القاهرة. وقد أدى قلق السكان إلى ارتفاع خطير فى الأسعار. وقد حدث فى سنتى هذا العصيان أن نزل الحاكم عن النواهى الخاصة بالطعام وكان هذا أيضا هو الوقت الذى أبطل فيه الإجراءات التى اتخذها حيال أهل السنة.

وقد أصاب الحاكم رعبًا آخر من جراء الفتنة التى أثارها سنة 402 هـ (1011 - 1012 م) مفرج الجراحى فى فلسطين يشجعه الحسين بن على المغربى (الوزير المغربى) الذى كان قد التجأ إلى ابنه حسن بن المفرج بعد إعدام أبيه على المغربى سنة 400 هـ (انظر مادة "الجرّاح، بنو" إذا شئت تفصيلا عن كيف نجحوا فى جهودهم الرامية إلى إقامة مطالب بالخلافة بفلسطين فى شخص شريف مكة سنة 403 الموافقة 1012 - 1013 م وكيف رشا الحاكم حسّانَ بخيانة الشريف الذى عاد إلى مكة وسلم نفسه للحاكم فعفا عنه).

واشتهرت الانحرافات التى انغمس فيها الحاكم حين تجرد من وصاية برجوان. فقد بدأ يتجول فى طرقات الفسطاط ودروبه ليلا بصحبة عدد قليل من صحابته. وكان إذا فعل ذلك أنار التجار حوانيتهم وبيوتهم والطرقات فتبدو كأنها فى النهار، وكان يحب أن يرى مشاهد المصارعة بين العيارين وأعمال الشغب التى تنزلق أحيانًا فتنقلب معارك دموية بين

ص: 3405

الجماعات المتنافسة. ويروى يحيى بن سعيد مشهد فتنة حدثت سنة 407 هـ (1016 - 1017 م) حين حمل الحاكم بالفعل وهو فى الطريق رجلا من حاشيته السود بأن يجعل فاسقًا عجوزًا يتعرض إلى عراك مهين وراح يضحك وهو يشاهد هذا المشهد. وكان الحاكم يصاب فى بعض الأحيان وهو فى جولاته التى من هذا القبيل بنوبة من الجنون المطلق. وقد حدث فى يوم من الأيام وهو يمر بحانوت قصاب أن أمسك بساطور الجزار وضرب به أحد رجال حاشيته فقتله، ومضى فى سبيله دون أن يلقى بالا لجثة الرجل. ولم يجسر الناس المزدحمون أن يفعلوا شيئًا للجثة فظلت على حالها حتى أرسل الحاكم كفنًا يوارى به الجثة التراب.

وفى سنة 405 هـ (1014 - 1015 م) زادت هذه الانطلاقات، فقد شوهد الحاكم فى الطرقات عدة مرات فى يوم واحد، ولم يتخل عن الخروج إلى الطرقات حتى وهو مريض، بل كان يحمل فى هذه الحالة على محفة.

ويمكن أن نعد من انحرافاته نوبات التواضع والتقشف التى كانت تنتابه فجأة، اللهم إلا إذا ظن أنَّه كانت تنتابه دائما نزعة إلى الصوفية. ونحن نراه سنة 403 هـ (1012 - 1013 م) يمنع رعاياه من السجود أمامه. وقرع الطبول أو النفخ فى الأبواق فى جوار القصر. واهتم اهتماما كبيرا بالاحتفال بالأعياد الإِسلامية الكبرى دون أبهة ولا زينة، وقد أظهر الزهد فى كامل ما يفعل: فى الطعام وفى ملذات الجسد - وجعل شعره ينمو طويلا وراح يلبس ملابس خشنة من الصوف الأسود، ولا يركب إلا حمارا ويوزع الصدقات فى إسراف، وفى سنة 404 هـ (1013 م)، أى بعد أن نودى بابن عمه عبد الرحمن بن إلياس وليا للعهد، وكل إليه كل شئون الدولة. . وكان ولى العهد هذا هو الذى يمتطى صهوة الجياد فى المواكب الرسمية واضعا شارة الخلافة، على حين ظل الحاكم يركب حمارًا. وحوالى نهاية عهده زاد تواضعه هذا وزهده حتى أصبح لا يغير ملابسه ويرتديها قذرة تفوح منها رائحة العرق والتراب وتلصق بجسمه. فكان يتجول فى

ص: 3406

الريف ويرقى تلال المقطم ويخرج وحيدا يتمشى بغير صحبة طويلا فى حين يأمر اتباعه أن ينتظروه على مسافة ويتخيل أنَّه يخاطب الله.

وأدى به جنونه (اللهم إلا إذا كان هذا الجنون حقا عن عقيدة دينية مطلقة، أى عن اعتقاد فى الإسماعيلية بلغ مداه) إلى قبول نظريات غلاة الإسماعيلية والتشجيع عليها، وهى القائلة بأن الله قد حل فيه. وقد ساق المؤرخون بيانات أقرب إلى الاضطراب عن الأدوار الخاصة التى لعبها دعاة الإسماعيلية في هذا الشأن، وهم حسن بن حَيْدَرَة الفرغانى الأخرم، وحمزة بن على بن أحمد الزوزانى ومحمد بن إسماعيل أنُشْتكين الدَرَزى، ومن المحقق أن عدة مراحل فى هذه الرواية قد التبس بعضها فى بعض. على أن الظاهر أن هذا الموضوع بدأت الدعوة إليه سنة 408 هـ (1017 - 1018 م) بموافقة الخليفة. ويكاد يكون من المحقق أن حمزة دعا إليه أولًا وأن الدرزى كان تلميذه، ولو أن يحيى يجعل حمزة يظهر بعد الدرزى. زد على ذلك أنَّه كان ثمة تنافس بين الاثنين. ويقول راوية أن الدرزى قتل على يد الأتراك الذين أثارت نظرياته غضبهم، وجاء فى رواية أخرى أن الخليفة خشى على حياة الدرزى فأرسله سرًا إلى حوران. ويقال أيضًا إن الأخرم كان تابعا من أتباع حمزة، ويقال إنه قدم للقاضى وهو يحكم بين الناس فى مسجد عمرو صحيفة بدأت بعبارة "بسم الحاكم الرحمن الرحيم"، وقد أثار ذلك شغبا ذبح فيه أصحابه على حين استطاع هو الهرب. وتقول بعض الروايات إنه قتل على يد تركى من الأتراك. وجاء فى رواية أن حمزة الذى كان صاحب حظوة كبيرة لدى الحاكم وكان على صلة خاصة به، قد اضطر إلى المضى إلى حوران والاختفاء فيها. ولا نعلم ماذا انتهى إليه أمره بعد اختفاء الحاكم، ولكن المعلوم أنَّه كان مؤسس المنهج الكلامى عند الدروز.

وليس من الواضح هل كان اختفاء الحاكم نتيجة مباشرة لهذا كله وإلى أى حد تسببت هذه الدعوة فى زيادة جنون الخليفة؟

ص: 3407

وقد كانت نهاية الحاكم عجيبة على نحو ما كانت حياته، ولعل من المستحيل أن نعرف كيف كانت هذه النهاية. ففى 27 شوال سنة 411 هـ (13 فبراير سنة 1021 م) اختفى وهو يتمشى ليلا فوق تلال المقطم وعلى الهضبة التى تؤدى إلى حُلوان، ذلك أنَّه ابتعد فى تمشيه عن تابعيه اللذين كانا يصحبانه وكان قد أمرهما بانتظاره. ولم يرياه بعد وعادا إلى القصر فى صبيحة اليوم التالى. وأجرى البحث فى ذلك ووجدت ملابسه بعد خمسة أيام وقد نفذت فيها طعنات خنجر - وثمة رواية ممدوحة تقول إنه اغتيل بتحريض أخته ست الملك التى كانت قد دبت بينه وبينها وحشة: ذلك أن ست الملك كانت قد أنبّته على شططه فى خلقه وقالت إن هذا الشطط كان يهدد بقاء الأسرة، فى حين أنب هو أخته على أسلوبها الفاسد فى الحياة. وخشيت ست الملك أن يأمر الحاكم بقتلها، فسبقته ودبرت مع شيخ كُتامة سيف الدولة بن دَوّاس أمر وجوب اختفاء الحاكم. وقد راجت عدة روايات فى هذا الشأن، ليس فيها ما يصح الاعتماد عليه، فقد قيل إنه اغتيل على يد مغتال غير معروف، ويقال إنه إلتجأ إلى دير ينهى فيه حياته، ويقال ويقال. . . إلخ. ويعتقد الدروز بالغيبة (وهو قول شيعى مشهور) التى تستمر حتى رجعته. أما النظرية التى تقول بأن الحاكم توارى لأنه رأى استحالة تحقيق أفكاره فى مصر (A. Mueller) فإنها مجرد فرض من الفروض.

والصورة التى صورناها لعهد الحاكم لا تظهره بصفة عامة فى ضوء مرضى. على أنَّه لا يمكن القول بأن عهده كان عهدًا سيئًا بصفة خاصة بالنسبة لمصر. ذلك أن لهذا العهد وجوهًا أقل كآبة من المعروف.

ففى عهده لم تفقد الأملاك الفاطمية المترامية الأطراف أى أرض، بل إن الحاكم قد اعترف به فى الموصل قرواش العقيلى صاحب الموصل مدة من الزمن سنة 401 هـ (1010 - 1011 م). وفى عهده أيضًا حدث سنة 406 هـ (1015 - 1016 م) أن خضع منصور بن لؤلؤ صاحب حلب للخلافة الفاطمية، وكان على حلب عدة ولاة فاطميين بعد اختفاء الحاكم. صحيح أن

ص: 3408

الموقف فى دمشق فى آخر عهده كان مضطربا، ففى سنة 410 هـ (1019 - 1020 م) أقام الحاكم ولى العهد واليًا فاستحدث فيها عدة إجراءات متحررة مثل إباحة شرب الخمر، وكانت هذه الإجراءات لا تتفق وآراء الحاكم؛ وقد نصرته بعض طبقات الأهلين، وهم "الأحداث" فى حين أنكرته طبقات أخرى. وزاد ولى العهد على ذلك بأن دخل فى علاقات مع الجراحى فاستدعاه الحاكم، وصدع ولى العهد بهذا الأمر مباشرة، فرضى عنه الحاكم وبعثه ثانية إلى دمشق، ولكن قامت فيها فتنة عليه، وعملت ست الملك بعد وفاة الحاكم على اعتقاله وحمل إلى القاهرة.

وتدين القاهرة إلى الحاكم بإنشاء مسجد الراشدة (انظر ما سبق) ومسجد المقس وإتمام المسجد المعروف بالحاكم الذى كان قد بدأه العزيز. والحاكم هو الذى شيد أيضًا أول جامعة إسلامية هى "دار الحكمة" التى أسلفنا ذكرها بما فى ذلك مكتبتها الكبيرة. وقد رعى نشر العلوم والآداب وكان المؤرخ المُسَبِّحى من أقرب أصدقائه إليه، وقد كتب له الفلكى على بن عبد الرحمن كتابه "الزيح الكبير"، وكان على علاقات طيبة بالطبيب ابن مُقَشِّر، وقد استمع الحاكم لنصحه فعاد إلى شرب الخمر. ومع ذلك فصحيح أنَّه كان له طبيب آخر قتله.

وكانت نية الحاكم قد صحت فى أوائل عهده على أن يحكم بالتشاور المنتظم مع وجوه القوم فى القاهرة، ولكنه سرعان ما برم بذلك. ولا شك أن هذا كان نوبة من نوبات التواضع التى كانت كغيرها من النوبات فيها من الافتعال أكثر مما فيها من الصدق. على أن جميع المؤرخين يتفقون على أنه كان كريما وأنه بذلك أقصى ما فى وسعه لمحاربة المجاعة ببذل الهدايا ومحاولة تثبيت ثمن الطعام، وأن اهتمامه بالعدالة بلغ مبلغا جعله يحضر "الحسبة" وأنه قد أقام علاوة على رئيس الشرطة شاهدى "عدل" لا يصدر حكم إلا بموافقتهما. ويروى يحيى بأنه لم يسمح لنفسه قط بالاستيلاء على ملك أحد وأنه أبطل "المكوس" وغيرها من

ص: 3409

الرسوم المجانبة للعدل وأنه رد إلى أصحاب البضائع ما أخذ منهم ظلمًا. وقد صوره هذا الكاتب بين شعبه يجيب كل ما يلتمسون ويحاول أن يرضيهم. وقد أبطل "الخمس"(لا شك أن الخمس كان نظرية شرعية فاطمية فرضت ويجب أداؤها للخليفة عن كل ربح) و"النجوى" وهى الضريبة التى كانت مفروضة على أولئك الذين يحضرون "مجالس الحكمة" وهى مجالس العلم التى كانت تعقد فى القصر.

ونجد مدحا للحاكم بقلم كاتب يهودى فى قطعة من خبر نشره نيوباور (Neubauer فى JQR جـ 9، ص 25)، ويظهر الحاكم فى هذا الخبر محسنا إلى البلاد ويطرى الكاتب احساسه بالعدل (انظر D. Kaufmann: Beitraege zur Geschichte Aegyptens aus .juedischen Quellen Zeitschr. der Deutsch . Morgenl Gesells. .، جـ 51، سنة 1897، ص 442 - 443؛ ولكن انظر أيضًا M. Schreiner فى REJ، جـ 31، ص 217 فى شأن إحراق الحاكم حيا من أحياء اليهود).

ومن أخبار سماحته أيضًا ما حفظته لنا بعض قصص ألف ليلة وليلة مثل حكاية التاجر القاهرى الذى بالغ فى إكرام الخليفة حين وقف أمام حديقته فى موكب رسمى يطالب أن يشرب، فتلقى من الحاكم مكافأة له جميع النقود التى ضربت فى دار السكة فى ذلك العام (The Arabian Nights: Lane سنة 1914، جـ 3، ص 56). وكذلك ما ورد فى حكايته وردان الجزار مع المرأة والدب (ألف ليلة وليلة طبعة القاهرة، الليالى 353 - 355): وخلاصتها أن دبا كان يحرس كنزا فاكتشفه الجزار الذى نحن بصدده (انظر هذه الحكاية المتشابكة). وقد اعطى هذا الجزار الكنز للحاكم الذى وفد على حماره ليرى الكنز الذى حدثه الجزار عنه. وقد احتفظ الحاكم ببعضه واعطى الباقى للجزار فاستطاع بذلك أن يبنى جميع الحوانيت فى السوق الذى نسبت إليه فقيل "سوق وردان". وقد روى هذه الحكاية ابن الدوادارى الذى زعم أنَّه قد بناها على "حل رموز فى علم الكنوز" وهو كتاب ألفه رجل يدعى محمَّد بن عبد الرزاق بن عبد الأعلى القيروانى.

ص: 3410